(10)

الوقت أصيل. الشمس علت الجدران، فاكتست المرئيات بالشحوب.
الشارع الطويل المترب، الفاصل بين مبني الكنيسة والبيوت المقابلة، يشغي بتلاغط الأصوات والصيحات من الأبواب والنوافذ المفتوحة، ومن الدكاكين، ونداءات المقهي ـ أول الشارع ـ وعربات اليد، والباعة، والأطفال المشغولين باللعب، والكلاب، والقطط.
ينتهي إلي باب الكنيسة الخشبي الضخم، علي ضلفتيه، تكوينات سوداء من الحديد في هيئة صلبان.
غالب التردد قبل أن يضغط الجرس جانب الباب. داخلته رهبة من البناية ذات الأسوار العالية. حاول أن يتصور ما بالداخل..
فتح له شاب يرتدي جلباباً بنياً، خمن أنه من الرتب الأقل في داخل الدير..
طالعه مبني الكنيسة المبني بالحجارة البيضاء، في المسافة بين السور العالي، الخارجي، والممر الأسفلتي الذي يحيط بالمبني.
دخل الراهب تسبقه ابتسامته، ويداه المرحبتان.
ـ أنا أبوكم لوقا..
التفت ماهر ـ بتلقائية ـ ناحية سيلفي.
شجعته بإيماءة من رأسها..
طمأنه عرضها بأن تظل معه إن أصر أنطوان علي رفض السماح لهما بالزواج.
أدرك أن عليه ـ عليهما ـ تحدي كل الظروف والتوقعات، حتي يتزوج سيلفي. تصور أن خطبته لها ـ في توالي زياراته ـ أقرب إلي البديهية التي جاوزت الأسئلة والأجوبة والمناقشات.
فاجأه أنطوان ـ ذات مساء ـ برفضه له، ولفكرة الزواج (أبوها مشغول بالغناء!). رفض مجرد المناقشة، لا مناقشة!
ـ إذا أردت أن تتزوجي هذا المسلم فلا تنتظري منا مليماً.
أضاف في لهجة متحدية:
ـ كل ما ستأخذينه حقيبة ثيابك.
وربت صدره بأصابع مرتعشة:
ـ أبونا مريض.. أنا الآن مكانه..
ملأ الغضب صوتها:
ـ مادام أبي حياً، فلا شأن لك بي!
قال الأب لوقا:
ـ الزواج الوحيد الذي توافق عليه الكنيسة هو ما يقوم علي العقيدة الكاثوليكية..
عرف ما لم يكن يعرفه، ولا تصور أنه يشغله: الطوائف الكاثوليكية في مصر سبع: الأقباط، الروم، الموارنة، اللاتين، الأرمن، السريان، الكلدان. تتفق جميعها في الاعتراف بالرئاسة العليا للبابا في روما. وحدة الاعتقاد الديني في جميع العقائد. وحدة قانون الزواج والإجراءات. وحدة نظام المحاكم الكنسية التي تبت في مواد الزواج. عدم إجازة الطلاق والاستعاضة عنه بالتفريق الجسماني.
قال الأب لوقا:
ـ ثقا من تعاطفي، لكنني لا أعد بمساعدة، لا أستطيع أن أفعل ما يوفق مسعاكم.
لم تشده إليه ملامح مميزة، وإن ذكره بالأب يوحنا، يصغره بأعوام كثيرة، لكن الرداء المتداخل اللونين، والجو الكنسي، والكلمات المتضمنة عبارات دينية، تستعيد صورة الراهب الذي ميزه في زياراته إلي بيت المسيو ميكيل، وإن لم يتبادلا الحوار. حركته دائبة بين مكتبه المطل علي الباحة الداخلية للكنيسة، والمكتبة المتعددة الضلف الزجاجية. ربما فضل الجلوس علي مقعد منفرد بالقرب من المكتب والكرسيين المتقابلين أمامه.
واتجه إليهما بابتسامة تطلب تصديقهما:
ـ ذلك يعتمد علي المطران.
لاحظ تبادلهما نظرات الحيرة. قال:
ـ مقره في كنيسة البازيليك بمصر الجديدة، قد يجد حلاً لمشكلتكما.
عرفت أن أنطوان كان يقف في الرصيف المواجه للكنيسة، هو أنطوان بقامته الطويلة، النحيلة، وشعره المنسحب إلي منتصف رأسه، وصدغيه الغائرين، وأسنانه المفلوجة، وعينيه الدائمتي التلفت.
هل يراقبها؟
أدارت وجهها إلي الناحية المقابلة. تهبه التصور بأنها لم تره، أو أنها تتجاهله. لم تشغلها اللحظة التالية، وما إذا كان سيختار المواجهة، أم يدفعه فهمه إلي تناسي المشكلة.
كان دائم الانتقاد لمظهرها، وغيابها ـ معظم الأوقات ـ عن البيت، وتحريض أبيه، فلا تحصل إلا علي مصروف محدد.
ضاقت بأن تكون طريقها الوحيدة هي المؤدية إلي المدرسة، أو إلي حيث يحدد أبوها وسيلة المواصلات إلي مبني البنك، تصحبه في مشاويره وسط البلد.
تملكتها الرغبة في المغامرة، لا تدري إلي أين تذهب، تمضي من نصوح، تخلف طومانباي وسليم وكنيسة اللاتين، تركب القطار من محطة الزيتون، تهبط في محطته النهائية بكوبري الليمون، تخترق تقاطعات ميدان رمسيس، تسير في الشوارع التي لم تشاهدها من قبل، تتعرف علي الزحام والبنايات العالية والحدائق ودور السينما والمسارح والمطاعم والكافيتريات والمحال والبوتيكات وباعة الصحف، وما تقرأ عنه في » البروجريه «.
قاموسه لا تنفد مفرداته من المحاذير والممنوعات. تملأ سمعها، فتسقطها. تهمل الالتفات إليها، تصم أذنيها عن السماع، وتبين ما يفيدها، وما ترفضه. يثيرها السؤال: أين تذهبين؟ أو: أين كنت؟
واجهته بعينين غاضبتين:
ـ هل أسألك؟!
ـ من حقي أن أعرف.
ـ لماذا ليس من حقي؟
ـ ماذا تريدين؟
وهي تدفع خصلة شعر متهدلة علي جبهتها:
ـ ماذا تريد أنت؟
أزمعت ـ لتسكته ـ أن تعيد إليه ما يوجهه من أسئلة. تضع أمامه حائطاً مسدوداً يصعب عليه اختراقه.
لا تخشاه، ليس ثمة ما تخشاه. كان يهددها بأبيها، لا أحد يهددها به، منذ رحل أبوها.
***
قالت أمه وهي تضع أطباق الطعام علي المائدة:
ـ لا نراك إلا عند مجيئك للنوم.
وعلا صوتها بالاستنكار:
ـ هل ضاقت بك الدنيا فلم تجد بنتاً من دينك؟!
أعادت ملاحظتها بإقدامه علي الفعل، دون أن يتدبر رد الفعل في التصرفات المقابلة.
قال أبوه:
ـ لو أن الحب يجمعكما بالفعل.. اقنعها بدخول الإسلام.
وعلا صوته بنبرة مشفقة:
ـ لا توجد قيود تحول دون تبديل غير المسلمين لدينهم..
ونظر إليه بمعني أنه يقرأ مخاوفه:
ـ المسلمون وحدهم يواجهون حكم الردة!
انتزعت أمه بسمة فاترة:
ـ أنت تضيع عمرك علي زواج، لن يحدث!