سيرة شاعر ابن عثيمين والشعر العامي
بقلم : أ. د. محمد بن سعد بن حسين

لما كان أقدم ما وجد من شعر ابن عثيمين بوجه عام هو قصيدة عامية لم يؤثر من عامّيةّ سواها، ولما لها من دلالات تاريخية على أمور ثلاثة أولها: نظمه الشعر، وثانيها: علاقته بأمراء آل ثاني، وثالثها: أنها لم ترد في ديوانه، لهذه الأسباب رأينا تذييل هذا الحديث بشيء من حديث عنها، قضاءً لحق الشاعر، والمناسبة التي قيلت فيها، ولذا نقول:
مرت بالمجتمع العربي فترة من الزمن سادت فيها العامية وانطوت الفصحى أو كادت، ولذا لم يكن عجيباً أن يكون السلطان في لسانهم للعامية خطاباً وأدباً.
وحين أخذت الفصحى تستعيد بعضاً من سلطانها شيئاً فشيئاً، بقيت آثار العامية في ألسن الشعراء كل بلهجة إقليمه ولذا لم يكن غربياً أن ينظم الشاعرُ الفصيحَ والعاميَّ معاً، بل إنك تكاد لا تجد شاعراً من شعراء هذا العصر إلا وله سهمه في هذا وذاك.
من هنا لم يكن بدعاً أن نجد شيئاً من ذلك للشاعر الكبير محمد بن عثيمين.
ويغلب على الظن أن ابن عثيمين كان مقبلاً على الشعر العامي في النصف الأول من حياته، فلماذا عَلِق بالفصيح وانصرف عن العامي وربما أتلف ما لديه منه؟ لا نملك الآن دليلاً على شيء من ذلك.
أما إجادته الشعر العامي فدليله هذه القصيدة التي سنقدمها لك، وأحسبها من أقوى الأدلة على إجادته العامية.
وأما إتلافه شعره العامي أو ضياعه فدليل ظني قد يستأنس به لكن لا يبنى عليه حكم.
على أنه قد استفاض في الناس أن محمد بن عثيمين من الذين يحسنون العامي والفصيح معاً وكانوا يستشهدون على ذلك بأبيات من هذه القصيدة لا يتجاوزون فيها ستة أبيات وكذلك قلت عندما كتبت عن الرجل في كتابي الأخير (محمد بن عبدالله بن عثيمين: شعره ونثره).
ولم أكن لأهمل هذه القصيدة لو كان نصها فيما بين يدي حين إعداد ذلك الكتاب، فلما أمدني بها الشيخ سعد بن رويشد(1) أثابه الله كان لابد لي من القيام بشيء من الواجب نحوها، وأيسره نشرها مع الاشارة إلى ما تدل عليه من منزلة الشاعر في هذا الفن ومكانته في أهله.
1 - ولا أريد العودة إلى الحديث عن سيرة الشاعر ومحله في نفوس أمراء عصره الذين كانوا يحسنون هذا الفن أو يتعشقونه فقد فرغنا من ذلك في أكثر من مقام، بل سأقف الحديث على نص القصيدة نفسها إلا ما كان من ذكر خبرها مختصراً كما رواه الشيخ سعد بن رويشد في رسالته إليّ حيث قال:
"هذه قصيدة نبطية نظمها الشاعر الشهيد محمد بن عبدالله بن عثيمين في صدر شبابه بمناسبة موقعة (خنّور) بالخليج العربي بالقرب من أبو ظبي في عام 1304ه وهذه الموقعة بقيادة الشيخ قاسم بن ثاني حاكم قطر لأخذ الثأر في مقتل ابنه عليّ الملقب جوعان، وكان هذا الشاعر شجاعاً مقداماً وبينه وبين هذا القتيل مودة قوية صادقة، لهذا حمل الراية في هذه الموقعة وانضم إليه جماعته أهل حوطة بني تميم وغيرهم الموجودون آنذاك في قطر، وصار النصر فيها حليفاً للشيخ قاسم بن ثاني".
2 - وأبيات هذه القصيدة واحد وأربعون بيتاً نظمها في سنة أربع وثلاثمائة وألف للهجرة، وهي السنة التي كانت فيها الموقعة المذكورة وذلك في دوله قطر.
وتنقسم القصيدة إلى تسعة مقاطع أولها المقدمه وهي ستة أبيات أعلن فيها فرحته وسروره بما تحقق لهم من نصر على الأعداء، حامداً المولى على أن منَّ عليهم بهذا النصر المؤزر الذي أخذوا فيه بثأر عليّ بن قاسم آل ثاني، ذاكراً أنه ورفاقه كانوا سنداً للشيخ قاسم في تلك الحرب الانتقامية:
النوم عاود للعيون السهارا
والحرّ عاود ما كره عقب ما طار
والنفس عقب مزاومتها المرارا
ترعى زهر نبت من العز نوّار
والكيف منا طاب والولم دارا
ودولة بني ياس عطتنا بالادبار
والحمد لك والشكر منا جهارا
ياواحدن عنده تصاريف الأقرار
سناد اللي بحما حماك استجارا
ومنجي اللي يرجيك لوصل ياخطار
عودتنا عادات عزت كبارا
على النقى نسقى العدا كاس الأمرار
3 - ثم ينزع إلى الفخر بنفسه وبالجيش الذى كان فيه وذلك في خمسة أبيات قال فيها:
ولا ناتي العيلات عمداً جهارا
تغضي ونرفا زلة الخل والجار
وإذا بلينا قام لنا حظن ونارا
ونادى لنا فوق السماوات جبّار
كم حاكم صرنا لحكمه دمارا
وكم دولة منا شكت غربة الدار
لي سلبد الهلباج تحت الدثارا
ودك يناشد حرمته سمج الأخبار
حنا على كور النجايب سهارا
نطرب إلى غَنّى المغني بالأشعار
4 - وللخيل شأنها في الحروب ولذا كانوا يفخرون بها ويرتاحون إلى الاطالة والتفصيل في وصفها وفي ذلك يقول ابن عثيمين:
تبرا لنا قبّ الجياد المهارا
قصار الظهور وساع الأيدى والانحار
طوال الهوادي شرفات الفقارا
تحاذي لقايدها وهو فوق الأكوار
ربايبن ما جمعوها التجارا
وطلايعن تسبق إلى طال مغوار
تضنهن ياطن على الخد نارا
بروس الحوافر أو على حد مسمار
وهذا ميدان لابن عثيمين فيه صولات وجولات.
5 - ولم يكن ليدع مدح قائد الجيش الشيخ قاسم دون أن يمدحه مفاخراً بفعاله، ولذا قال:
يقودها شغمومها لي توارا
عنها الشجاع وهابها كل جسّار
أبو فهد قنديل ليل الحيارا
مقعد صفا العايل إلى عال وجار
ملقح قلوص الحرب لوهي حوارا
حلاّل مفتولات الأرياء والأفكار
بحزم يعيد الليل مثل النهارا
وعزم كما حد اليماني بتّار
جاهم بها تشعل من الموت نارا
حرّ معودها الفراسة إلى طار
6 - وفي أبيات ثلاثة وصف ديار العدو وما فعله بها ذاكراً عدد من قتلوه من أهلها:
ديار عليها الرمل مثل الجدارا
أجعنك مارده عظيمات الأسوار
وقمنا بها خمس وعشر تبارا
إلين عادت كنّها عافي - الدار
منهم ثلاث اميه ذبحنا نزارا
مع نصفها ما فيه جدد ولا نكار
7 - ثم ذكر أن تلك الحرب إنما كانت ثأراً لجوعان وهو لقب علي بن الشيخ قاسم آل ثاني وذلك في بيتين مدحه فيهما بقوله:
نثاري بجوعان رفيع المنارا
حاوى خصال المجد والجود والكار
مروي حدود السيف عقب الهجارا
وعدّ الركاب اللي جفايا وظماّر
8 - وفي أربعه أبيات عاد إلى مدح الجيش الذى فيه وخص نفسه فيها ببيت لنا عليه تعليق سيأتي ان شاء الله، والأبيات هي:
في عصبة صبيان حرب سكارى
معاضيد في الهيجا يسومون الأعمار
في الحرب يشغونك إلى جا المثارا
نزالت الطارف إلى جات الأنذار
وهواجرن يدنون بعد المزارا
تواتست للحفّ وافين الأشبار
في وردهم تشبع سباع ظمارا
عاداتهم ذي في قديمات الأعمار
ربعى هل الطولات ذاك النهارا
اللي حضر في الحصن شاعت له أخبار
هي بالهمم لا بالجسوم النظارا
وما كل زندٍ تقدحه يوري النار
المقصود بالسكارى الأبطال الذين بلغ سرورهم مبلغاً جعلهم يتحركون كالسكارى من فرط شجاعتهم.
9 - واذا كان قد ختم ذلك المقطع بحكمة، أو سمّها ماشئت، فانه أتبع ذلك بجملة من الحكم قال فيها:
هي بالقسم ولعبد ما له خيارا
وما كان له في الكون تجريهظ الأقدار
والذلّ ما طوّل عمارٍ قصارا
والسيف به تسكن وتستامن الدار
والصلح راح وشب للحرب نارا
بحدك وزندك لو تسقى بالمرار
10 - ثم التفت في الأبيات الأخيرة إلى الشيخ قاسم مادحاً اياه هاجياً أعداءه والذين تخلفوا عن نصره وذلك في قوله:
واللي اتقى ياشيخ وسط الحضارا
هذاك عدّه مثل من راح بوّار
فلا بد ما ياتيك من كان بارا
يلفق ويحكى لك كثيرات الأعذار
فالبس لها ياشيخ جلد النمارا
وعاقب وعاتب من قعد عنك مختار
فلا زلت في عز من الله مجارا
ما غرد الحادي وناحنّ الأطيار
وازكى صلاة بالعشاء والبكارا
على نبين سيدّ الكون مختار
11 - واذا كنت على صلةٍ بشعر ابن عثيمين فإنك ستجد اختلافاً بين ما روي من قصيدته هذه وما يروى من أبيات هذا النص وذلك في قوله:
ماني من اللي تاجروا بالعمارا
ركضت يوم الموت يقصف بالأعمار
فقد روي:
ما نيب من اللي تاجروا بالعمار
قلطت يوم الالش في الجيش قد خار
وما أظن هذا ناشئاً إلا من شيء هو تصرف الشاعر نفسه، أو لأنه نسى ما هزج به وهو يحمل الراية متقدماً بها في المعركة، كما روي عنه في تلك الأبيات المفردة التي بنى على رويها هذه القصيدة التي تدل جل أبياتها على أنها نظمت بعد المعركة كوصفه فعلهم بديار أعدائهم وذكره عدد من قتلوا منهم، وكون تلك الحرب كانت انتقاما وثأراً لجوعان، ثم التعبير بالفعل الماضي في الحديث عن أفعال الجيش الذى كان الشاعر حاملاً الراية فيه.
وفي هذه القصيدة تصحبك روح ابن عثيمين التي عرفتها في شعره الفصيح وكذلك أسلوبه ولغته التي لا تجد فيها سمجاً ولا ساذجاً مبتدلاً، ومثل ذلك صوره إلا ما كان من فخره بنفسه الذى يقابله في الفصيح فخره بشعره.
على أنك تجد في هذه القصيدة بعضاً من الصور التى لم يُسبق عليها ابن عثيمين في الشعر العامي، من ذلك قوله:
والنفس عقب مزاومتها المرارا
ترعى زهر نبت من العز نوّار
فتصويره النفس ترعى زهراً أطلع النور في نبت من العز، صورة بيانية رائعة لم أسمع مثلها في الشعر العامي، على أنى فيه لست بحجة، ثم انظر هذا المطلع الرائع الذى أوجز كل مضمون القصيدة وهو راحة النفس وهدوؤها بعد الانتصار وأخذ الثأر.
النوم عاود للعيون السهارا
والحرّ عاود ما كره عقب ما طار
وكذلك تكون مطالع قصائد الفحول.
ثم انظر هاتين الصورتين اللتين يقابل فيهما بين الجبان المتخلف عن المعارك، والشجاع الذي يطوي الفيافي في الليالي على ظهور النجائب:
لي سلبد الهلباج تحت الدثارا
ولاّ يناشد حرمته سمع الأخبار
حنا على كور النجايب سهارا
نطرب إلى غنّى المغني بالأشعار
وإن شئت المزيد من هذه الصور الرائعة فخذ قوله من وصفه تلك الخيل التى أمّوا بها الأعداء:
تضنهن ياطن على الخد نارا
بروس الحوافر أو على حد مسمار
12 - هذه رائعة ابن عثيمين العامية، وأكاد أجزم بأنها ليست بالوحيدة، لما أسلفته في صدر هذا الحديث، إلا أنها هي كل ما حُفظ لنا من شعر الرجل في أكثر من النصف الأول من حياته، حيث أنه قد نظمها وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، وأقدم ما روى من شعره الفصيح والعامي كان وهو في سن الخمسين من العمر، أي في سنة ألف وثلاثمئة وعشرين، ولم يرو له من العامي سوى هذه التي هي كل ماروي له قبل ألف وثلاثمئة وعشرين كما أسلفنا، وكان قد ولد سنة ألف ومئتين وسبعين للهجرة،
وأحسبني قد وفيت هذا الموضوع وسواه مما يتصل بحياة ابن عثيمين وشعره حق البحث فيما كتبت عنه، إلا أن يعثر على ما تاه من شعره ويكون فيه ما يضيف أو يبدّل حكماً أو يعدّله أو نحو ذلك مما قد ينجلي عنه العثور على جديد مما فقد من شعر الرجل.
وعلى الرغم من كون ابن عثيمين محسناً في فنه، فإنه قد يقع حيناً في شيء من عدم التوفيق، ومن ذلك قوله:
حنا على كور النجائب سهارا
نطرب إلى غنّى المغني بالأشعار
قال هذا فاخراً بنفسه ورفاقه. والطرب لغناء المغني ليس بمصدر فخر، حتى وإن أراد أن الوسن لم يجد طريقه إلى أجفانهم لتحفزهم، وشدة عزيمتهم على تحقيق النصر على الأعداء، ولذا كان عليه أن يقول "نطرب إلى نودي على بيع آل عمار".
أخيراً أقول: إن ابن عثيمين لم يكن عادياً لا في شعره ولا في علمه، فأما شعره فقد سلفت عنه أحاديث أحسبها جلت لك عبقريته الشعرية والنثرية، وأما علمه فإن خير ما يدل عليه شعره ونثره، وذلك أنه لم يدع لنا مما يدل عليه إلا ما نجده في ما بين أيدينا من شعر ونثر على قلة هذا الشعر والنثر، ولكنه يحمل دلالات واضحة على أن الرجل كان على جانب من الاحاطة بعلوم الدين واللغة والأدب والنقد والتاريخ، وأكثر ما يظهر ذلك في نثره، على قلته كما أسلفنا.
وقد حدّثوا أنه كان فقيهاً محدّثاً، غير أن شهرته الشعرية هي التي سترت شهرته العلمية. ثم إنه ظهر في مجتمع يرتاح علماؤه إلى الأخذ بمثل قول الامام الشافعي:
ولولا الشعر بالعلماء يُزري
لكنت اليوم أشهر من لبيد
وهذا قول ما أرى الامام الشافعي قاله إلا فخراً بشعره وإلا لما قال شعراً أبداً.
ومنه أيضاً الخطأ في فهم المقصد من قول الباري سبحانه وتعالى:
والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون(2).
ثم إن كثيرين من العلماء في عصر ابن عثيمين ما كانوا حراصاً على ذيوع شهرتهم العلمية خيفة إلزامهم بالقضاء، وذلك شأن ابن عثيمين وصديقه العجيري، ولذلك أنسوا إلى شهرتهم الأدبية.
الهوامش:
1 - أوراق بخط يده.