النثر ـ فى تقدير همنجواى ـ ليس مجرد زخارف على الهامش ، لكنه بناء معمارى فنى شديد الحيوية ، العمل الفنى يتألف من عناصر فنية ، لكل منها وظيفته المحددة ، والمرتبطة عضوياً بوظائف العناصر الأخرى ، بما يحقق التفاعل بين كل العناصر ، تحقيقاً لعمل فنى يسعى إلى التفوق . ومن ناحيتى ، فقد كنت أريد أن أمتلك صوتاً خاصاً بى فلا أقلد أحداً ، أحاول ـ فى كل ما أكتب ـ أن أرتاد آفاقاً ربما تكون مجهولة لى فى الأقل ، إن لم تكن مجهولة للكثيرين ، وكما يقول فرانسوا مورياك ، فإن على كل روائى أن يخترع أسلوبه الخاص ، وتكنيكه الخاص ، وإن كل رواية هى مثل كوكب آخر ، له قوانينه مثلما أن له نباتاته وحيواناته الخاصة . كل رواية مثل كوكب آخر ، لكننى أتصور ـ فى الوقت نفسه ـ أن الفنان لا يخترع أسلوبه الخاص ، وتكنيكه الخاص . أرفض كلمة " يخترع " ، فبالإضافة إلى الموهبة ، فإن الأسلوب والتكنيك ينبعان من داخل العمل نفسه ، هو الذى يفرضهما ، والأسلوب ـ والتكنيك ـ الذى قد يكتب به الفنان رواية ما ، قد يبدو مجافياً لرواية أخرى . تعجبنى النصيحة التى وجهتها شاعرة أمريكية إلى همنجواى : دع الناس فى حياتهم ، لا تقل شيئاً عنهم ، بل دعهم هم وحدهم يتكلمون . ويقول همنجواى : " فى روايتى العجوز والبحر كنت على علم بأمرين أو ثلاثة من الموقف كله ، لكننى لم أكن أعرف القصة " . وكان مشهد فتاة صغيرة فوق شجرة دافعاً لأن يكتب فوكنر مئات الصفحات ، هى روايته الرائعة الصخب والعنف . وكنت حين بدأت كتابة روايتى الصهبة أعلم بأمر واحد فقط ، هو طقس الهبة نفسها ، عملية نزع النقاب . وفيما عدا ذلك ، فلم أكن أعرف شيئاً ، اخترت للرواية أن تكتب نفسها ، كلما أضفت صفحات توضحت شخصيات ، وظهرت شخصيات لم تكن موجودة ، وتخلقت أحداث ربما غابت عن تصورى ، بحيث اكتملت فى النهاية رواية لم أكن أعرف من شخوصها سوى الفتاة المنقبة فى الصهبة ، والشاب الذى نزع نقابها ، أما بقية الشخصيات والأحداث فقد تخلقت أثناء كتابة العمل نفسه ، لم تشغلنى الحبكة ، ولا العقدة ، ولا اختلاط الواقع والخيال ، ولا تداخل سيرتى الذاتية بالسير الذاتية للآخرين ، ولا الأحداث القديمة بالأحداث المعاصرة ، والتفكير بالسرد .. كل ما تريد الرواية أن تكتبه ، كتبته حالاً .
مع ذلك ، فإن " الحدوتة " هى النطفة التى يتخلق منها العمل الفنى . وعلى الرغم من اختلافى مع أرنولد بينيت بأن أساس الرواية الجيدة هو خلق الشخصيات ، ولا شيء سوى ذلك ، فلعلى أتفق تماماً أن خلق الشخصيات دعامة أساسية فى البناء الروائى ، الذى يستند ـ بالضرورة ـ إلى دعامات أخرى ، أولاها ـ أو هذا هو المفروض ـ الحدوتة ، وإن تصور بعض الروائيين والنقاد أن الرواية ليست فى حاجة إليها ، وأن ما يستعين به الفنان من أدوات يضع الحدوتة فى مرتبة تالية ، أو أنه يمكن الاستغناء عنها . وكانت الحدوتة ، الحكاية ، الفكرة ، إلى غير ذلك من المسميات ، هى الباعث الحقيقى لأن تتحول روايتى الأسوار فى ذهنى ـ قبل كتابتها بأعوام ـ إلى أحداث وشخصيات ، ثم تخلقت فى أشكال هلامية عدة ، قبل أن تأخذ ـ أثناء عملية الكتابة ـ سماتها النهائية . الحدوتة هى الدعامة الأولى فى بناء أى عمل روائى ، ثم تأتى بقية الدعامات ، وتشمل عندى الإفادة من العناصر والمقومات فى الفنون الأخرى . أتصور أن ذلك يتبدى ـ بدرجة وبأخرى ـ فى كل رواياتى بدءاً بالأسوار ، وانتهاء بأهل البحر . إن على الفنان أن يثرى إبداعه السردى بإسهامات الفنون الأخرى ، بما تملكه تلك الفنون من خصائص جمالية وتقنية ، فيتحقق للنص الأدبى أبعاد جديدة ، وتتحقق كذلك أبعاد جديدة للفنون الأخرى . ثمة التحقيق المطول [ إمام آخر الزمان ] والتقارير البوليسية [ قاضى البهار ينزل البحر ] والرواية التاريخية التى تدعى الاجتهاد [ قلعة الجبل ] وتقنية القص واللصق [ الأسوار ] ومخاطبة الآخر [ النظر إلى أسفل ] واليوميات [ من أوراق أبى الطيب المتنبى ] وتداخل الزمان والمكان [ الخليج ] واختلاط الواقع بالحلم [ الصهبة ] والتبقيعات النثرية [ مد الموج ] والاعترافات [ اعترافات سيد القرية ] والواقعية التسجيلية [ الحياة ثانية ] وتعدد الرواة [ بوح الأسرار ] والحكى السردى [ صيد العصارى ] وتوظيف التاريخ [ الجودرية ، ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ] وتوظيف التراث الشعبى [ زهرة الصباح ] واللوحات المنفصلة ، المتصلة [ رباعية بحرى ] وتقنية الموسوعة [ أهل البحر ] .
وأحياناً ، فإن ضمير المتكلم ـ كما تقول ناتالى ساروت ـ أفضل وسيلة لإرضاء الكاتب والقارئ سواء بسواء ، إنه يهب إحساساً ـ ولو ظاهرياً ـ بالتجربة الحية والأصالة ، مما يقلل من شك القارئ ، ولكى يجذب الكاتب قارئه إليه ، فقد " جعل البطل يتحدث بضمير المتكلم ، واتضح بالفعل أن هذه الوسيلة أفضل الوسائل وأكثرها فاعلية فى هذا الصدد ـ لذا لجأ إليها الكثيرون ، ولازالوا يلجأون ( عالم الفكر ـ المجلد السابع ـ العدد الأول ص 235 ) . سبقنى إلى فنية تعدد الرواة ، أو تعدد الأصوات [ قصتى متتابعات لا تعرف الانسجام ، حولتها ـ فيما بعد ـ إلى رواية باسم بوح الأسرار ] أدباء كثر : فوكنر فى الصخب والعنف ، فتحى غانم فى الرجل الذى فقد ظله ، نجيب محفوظ فى ميرامار ، جبرا إبراهيم جبرا فى السفينة ، لورنس داريل فى رباعية الإسكندرية ، وغيرهم .. لكن حاجتى لتعدد الأصوات فى بوح الأسرار لم تكن لمجرد رواية ما حدث ، أو التعليق عليه ، الاتفاق أو الاختلاف ، وإنما لإعادة اكتشاف الحدث ، إعادة تفسيره ، تعميقه بالأضواء والظلال ، بما يهب القارئ فرصة حقيقية للتعرف إلى سيرة بطل الرواية محمد أبو عبده .
***
الفن ـ مهما يخلص فى تصوير الواقع ـ فإنه يظل أقل واقعية من الواقع نفسه . الواقعية التامة مستحيلة فى الفن ، فالفن انتقاء يخضع لموهبة الفنان ورؤيته . يشير ديهاميل إلى أن بلزاك قد خلق نماذجه بنفسه ، فهو لا يصور الأشخاص الواقعيين ، إنما يعيد خلق هؤلاء الأشخاص . العناية بتفصيلات الزمان والمكان ، وإجادة رسم الجو والشخصيات .. ذلك كله يشكل ما يسمى الإيهام بالواقع ، شريطة أن يحتاجه العمل الفنى فعلاً ، فلا يأتى مجرد تزيدات ، أو نتوءات ، أو حواشى قد لا يحتاج العمل إليها . ومع ملاحظة أن نتاج الفن ـ كما يقول جوتة ـ يختلف عن نتاج الطبيعة ، فهو لا يكررها صورة طبق الأصل " النتاج الفنى هو طبيعة ثانية " . المتلقى حين يعلن ـ بينه وبين نفسه ـ : هذه الشخصية الروائية تشبه شخصية فلان الذى أعرفه ، يؤكد ـ ضمناً ـ أن الشخصية الروائية ليست من الخيال تماماً ، حتى لو تصور الفنان نفسه ذلك .
***
اللغة ـ فى تعريف نقدى ـ هى أداة التعبير فى فن الأدب ، فهو إذن فن لغوى . الكلمات أهم أدوات الكاتب ، ومن هنا تأتى عنايته باللغة ، أو هذا المفروض . يقول العماد الأصفهانى : " لا يكتب إنسان كتاباً فى يومه إلا قال فى غده : لو غير هذا لكان أحسن ، ولو زيد لكان يستحسن ، ولو قدم هذا لكان أفضل ، ولو ترك هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العبر ، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر " . لقد حاولت أن أعمل بالنصيحة نفسها التى تلقاها همنجواى من أحد نقاده ، فأتخلص من كل الألفاظ " القنبلية " ، وأصف الأشياء ببساطة أشد ، وأضع الكلمة المناسبة فى الموضع المناسب .
معانى الكلمات مهمة جداً ، لكن إيقاعاتها وإمكاناتها الصوتية مهمة أيضاً ، وربما أرجأت نقل قصة لى على الآلة الكاتبة / الكومبيوتر ، لأن إحدى كلماتها تبدو نشازاً ، أو غير متسقة ، مع بقية الكلمات . وكما يقول فلوبير فإن " جملة نثر جيدة حقاً ، تساوى فى جودتها بيتاً من الشعر ، وبالدرجة نفسها من الإيقاع والجزالة " .
أذكر أنى بدأت حياتى الأدبية شاعراً ، مثلما بدأ الكثير من الأدباء . الأدق أنى أحببت الشعر ، وحاولت أن أسبح فى بحوره ، وكتبت بالفعل بضع قصائد تحاكى محاولات شعراء قدامى ومعاصرين ، لكنها لم تكن تعبيراً بأية حال عن موهبتى الخاصة . فلما أدركت أنه من الصعب أن تكون لى موهبة حقيقية فى مجال الشعر ، عنيت بالكتابة القصصية والروائية ، وإن ظل حبى للشعر ، أحاول الإفادة من خصائصه اللغوية تحديداً فى كتاباتى النثرية . ولعلى أستعير قول لورنس ديرل بأنى شاعر تعثر فكتب نثراً ، أو أنى روائى شاعر ، يشغلنى التوتر فى الجملة ، الصورة ، التداعيات الداخلية ، إلخ .
والحوار مهم أيضاً فى الرواية . إن حواراً قصيراً ، مكثفاً ، بين شخصيات الرواية قد يغنى عن سرد مطول يفتقد المعنى . وفى العديد من رواياتى إفادة مؤكدة من درامية الحوار ، فهو جزء من البنية الدرامية للرواية ، لا تستقيم بدونه ، جسر يستحيل إلا أن تمضى عليه بين فقرات السرد . لقد طالما حذر موباسان روائيى عصره أن يحكوا كل شيء " فذلك أمر غير ممكن ، لأنه يلزمك مجلد كامل كى تروى ما حدث لشخص واحد ، فى يوم واحد " . وكان رأى شوبنهاور أن على الكاتب أن يكتب ما يستحق ذلك بالفعل ، ويتحاشى التفصيل الممل عن أشياء يستطيع كل امرئ أن يعرفها ، أن يفرق بين ما هو لازم ، وما هو من قبيل التزيد الذى لا لزوم له . ويقول تشيخوف " الإيجاز توءم الموهبة " ، ويكتب فى إحدى رسائله : " قد يبدو غريباً أننى أحب ـ لدرجة الجنون ـ كل ما أتى مختصراً ، بل إنى لم أقرأ بعد ـ فيما كتبته ، أو ما كتبه غيرى ـ ما أطلبه من الإيجاز . وبالطبع ، فإن الإيجاز لا يتصل بطول العمل . ثمة فرق بين الإيجاز والتركيز . من المستحيل ـ على سبيل المثال ـ أن نتصور ثلاثية نجيب محفوظ فى غير الحجم الذى صدرت به ، مثلما أنه من المستحيل تصور الحرب والسلام ، والأبله ، والجريمة والعقاب ، فى صفحات أقل مما صدرت فيها . باختصار ، فإنه إذا كان التكثيف مطلوباً ، فإن الاختصار المخل غير مطلوب . وعلى حد تعبير بيرسى لبوك فإنه مما يدمر القصة هو الإفراط فى معالجتها ، أو التقصير فى هذه المعالجة " .
وإذا كنت أشدد على أهمية اللغة ، فإنى أشدد كذلك على أهمية الجوانب الأخرى للعمل ، أن يكون العمل فناً له وهج الفن ، وخصائصه ، وقيمته ، وجدواه . " الموهبة اللغوية وحدها لا تكفى ، وكما يقول أرسكين كالدويل " هناك العديد من الكتاب الذين يملكون سيطرة كاملة على الشكل والتكنيك ، لكن ينقص قصصهم الإحساس ، أعتقد أن ذلك مهم " ( كيف أصبحت روائيا ص 85 ) .
***
إذا كان تولستوى يذهب إلى ضرورة أن يتقمص الأديب شخصان ، هما الكاتب ذاته والناقد ، فإنى أفضل أن يبدأ دور الناقد بعد انتهاء الكتابة الإبداعية . القول بأن الناقد أديب فاشل دعابة سخيفة ، فالنقد الحقيقى ، المطلوب ، هو ما يمارسه الأديب على فنه ، وما يرتفع بمستوى أديب عن سواه ـ بالإضافة إلى الموهبة ـ هو ارتفاع حسه النقدى . المبدع الذى يفتقر إلى ملكة النقد ـ والرأى للروائية الإنجليزية إليزابيث بوين ـ لا وجود له ، بل إن مهنته كروائى لا تتحمل مثل هذا النقص . طبيعى أن الفنان لا يرضى تماماً عن نفسه ، ولا عن عالمه ، لأن الحدود بين الواقع والمثال هو المسافة التى تنطلق فيها جياد إبداعاته .
مع ذلك ، فأن يكون الفنان صاحب عمل ما ، فذلك لا يعنى أنه هو أجدر الناس بفهم عمله . ربما كان الناقد أكثر فهماً للعمل من الفنان نفسه ، أكثر استنباطاً لمعانيه ودلالاته . استمعت فى البرنامج الثقافى الإذاعى إلى حوار بين نعمان عاشور ومحمد مندور . بدأ نعمان فى تلخيص مسرحيته عيلة الدوغرى . قاطعه مندور ـ بعد لحظات ـ فى بساطة : أخشى أنك لن تحسن تلخيص عملك ، أنت لم تفهم العمل بالصورة الممتازة التى فهمتها . ولخص مندور المسرحية ، وأذكر أنه كان أكثر قدرة على تسليط الضوء على مسرحية نعمان عاشور بأكثر مما حاول الفنان . وكان أبو الطيب المتنبى يحيل السائلين عن شعره إلى شارح ديوانه وناقد شعره ، أبى الفتح عثمان بن جنى ، ويقول : عليك بابن جنى فإنه أعرف بشعرى منى .
***
تقول بيرل باك : " لكى تكون كاتباً جيداً ، فعليك أن تكد ، بمعنى أن تنهض فى الصباح ، وتبدأ فى الكتابة مبكراً ، والذهن صاف ورائق ، فضلاً عن أن تبدأ الكتابة حتى لو لم يكن الذهن رائقاً وصافياً . عادات العمل ضرورية للكاتب مثلما هى ضرورية للعامل ، وربما أكثر ، لأنه ليس ثمة من يجبر الكاتب على العمل ، وليس هناك من يساعده فى أداء عمله ، إنه رئيس نفسه ، وهذا الرئيس هو عامل فى الوقت نفسه . وتقديرى أنه على الفنان ألا يرجئ عمل اليوم إلى الغد ، بحجة أنه مشغول ، فالوقت لن يكون فى حوزته ـ ذات يوم ـ بصورة مطلقة . وعلى الرغم من حرصى على عادة الكتابة اليومية ، فإنى أتذكر ـ دوماً ـ قول روبرت هنرى " إن كل شخص يحترم الرسم يشعر بالخوف كلما بدأ لوحة " ، وأثق أن هذا الشعور يحياه كل مبدع بصرف النظر عن طبيعة إبداعه . ولعلى أتذكر كذلك قول أوراثيو كيروجا : " لا تكتب وأنت تحت تأثير الانفعال . اتركه يزول . استدعه مرة أخرى " .
على الفنان ـ إن اعتبر الإبداع قضية حياة ـ أن يحاول الإفادة من كل ما يسمح به الوقت ، حتى لو كان مجرد دقائق قليلة ، أنا أطمئن إلى ما كتبته فى تلك الأوقات العابرة ـ إن جاز التعبير ـ ، أوقات ما بين عملين ، أوقات الانشغال فى عمل لا يتصل بالإبداع ، وأوقات الفراغ والضيق واللاجدوى . أجرى بالقلم على الأوراق لمجرد الاقتراب من الفن ، وربما وضعت نقطة الختام لعمل كنت قد أهملت إلحاحه منذ فترة طويلة . كانت روايتى مد الموج إبداع ما بين أوقات العمل الإدارى نائباً لرئيس اتحاد الكتاب لمدة عامين . وكانت قصتى القصيرة نبوءة عراف مجنون محصلة ضيق نفسى فى أيام الغربة ، حاولت رفضه فى استقالة ، فعبرت عنه فى قصة قصيرة . وكانت قصة أحاديث النفس المتداعية امتداد يوم صحفى كامل ، بدأ فى السابعة صباحاً ، إلى الثانية من صباح اليوم التالى . انصرف الجميع ، وخلوت إلى نفسى . أغرانى الورق الأبيض بأن أخط عليه كلمات ، كتبت جملة وشطبتها ، كتبت جملة ثانية ، استدعيت بقية الجمل ،حتى فرغت من كتابة القصة فى الصباح نفسه .
حاولت ـ منذ تعرفت إلى الكتابة الأدبية ـ أن أكتسب عادة الكتابة اليومية ، بصرف النظر عن كل شيء ، حتى الأيام التى كان الإجهاد يلفنى فيها تماماً ، بعد تواصل عمل شاق ، كنت أحرص أن أكتب ، ولو بضعة أسطر . أتذكر قول جوجول : " لابد للكاتب أن يسيطر على قلمه ، كما يسيطر الرسام على فرشاته ، يجب أن يكتب شيئاً كل يوم ، فاليد ينبغى أن تألف الطاعة العمياء للأفكار . وكان استندال يرغم نفسه على العمل كل يوم ، وحاول كازنتزاكس ـ لما اشتد عليه المرض ـ أن يملى إبداعاته ، لكنه أخفق : مستحيل !.. لا أجيد الإملاء !.. عندما أمسك بالقلم فقط تأتينى الأفكار . والواقع أن الإملاء ـ بالنسبة للكاتب الذى تعود الكتابة ـ مسألة مستحيلة ، ذلك الاتصال العجيب بين الأفكار فى الذهن ، والقلم الذى يجرى على الورق . عملية الكتابة باليد ـ بالنسبة لى ـ مهمة للغاية . قد أملى موضوعاً صحفياً ، لكن العمل الإبداعى لابد أن ينطلق من الذهن إلى الورق ، عبر الوجه، والرقبة ، والكتف ، والذراع ، والأصابع . وكان الشعور الأقوى عند همنجواى أن أصابعه تقوم بالجزء الأكبر من تفكيره .
أعترف أنى حاولت أن تكون لى عاداتى المصاحبة للكتابة ، مثل شرب القهوة والسجائر ، وسماع الموسيقا ، والتحكم فى مساحات الضوء ، فلم أوفق . تكفينى المعادلة السهلة : فكرة + مكان للكتابة + أوراق + قلم ، لا يشغلنى ـ بعد ذلك ـ أى شيء ، حتى الشاى تعرفت إليه متأخراً . كنت قد حاولت ـ قبلاً ـ أن تكون لى ـ مثل بقية الناس ـ هوايات أمارسها ، لكن الفشل كان هو الجدار الذى اصطدمت به كل محاولاتى . أوافق جون برين على أن إرادة الكتابة تخلق لك جو العزلة الذى تريده ، ليس بوسعك الانتظار حتى تتوافر لك الظروف المناسبة للكتابة : الجو الهادئ ، والضوء المناسب ، والموسيقا الخافتة التى تساعد على الكتابة ، والتخفف ـ ما أمكن ـ من الهموم الحياتية الخاصة . لن أنسى قعدة بيرم التونسى فى قهوة شعبية بشارع السد ، منشغلاً بإبداعاته عن الزحام الصاخب حوله ، كأنه يحيا فى جزيرة منفصلة عن الأمواج المتلاطمة من النداءات والدعوات والابتهالات والشتائم والصرخات . الكاتب يجب أن يعمل فى كل الأجواء ، بصرف النظر إن كانت حسنة أم رديئة ، وكما يقول نيكولاى استروفسكى ، فإن " الإلهام يأتى فى أثناء العمل " . كان مكتبى فى الجريدة ضمن ثلاثة عشر مكتباً ، فى مساحة حجرة متوسطة الحجم ، ومخزن لأوراق رئيس التحرير ، وبضعة دواليب للصحف ، وما يبيعه السعاة من سجاير وبسكويت وأقلام إلخ [ تغيرت الظروف ـ بعد عناء سنوات طويلة ـ إلى الأفضل ] مقولة . وكنت أتذكر فى ذلك اللغط مقولة همنجواى : إن المرء يستطيع أن يكتب فى أى وقت يتركه الناس وشأنه ، ولا يشوشون عليه ويقاطعونه . كانت الشوشرة فضل الزملاء المقيمين فى الحجرة ، والمترددين عليها لتناول فطورهم ، بعيداً عن الأعين فى الصالة الواسعة ، فضلاً عن السعاة الذين تتعالى أصواتهم ـ بلا انقطاع ـ فى طلب احتياجات الزملاء فى الصالة.
الإخلاص للفن قد يدفع الفنان " إلى التضحية بنفسه ـ القول لبوريس بوريسوف ـ والابتعاد عن أى شيء يعرقل عملية الإبداع لديه ، بل إن الظروف قد تضطره لأن يتجاهل مصالح المقربين له ، والتصرف معهم بقسوة " . الفن يحتاج إلى ضحايا ، تلك مقولة شهيرة ، لكنها لا تتجه إلى الفنان وحده ، وإنما تشمل القريبين منه أيضاً . وإذا كنت ـ فى أحيان كثيرة ـ قد أهملت البعد الاجتماعى ، من حيث المشاركة فى الحياة العامة ، والخروج إلى المجتمعات ، فإن ذلك قد انسحب بالضرورة على القريبين منى ، زوجتى وابنىّ ، وأصدقائى الذين أحبهم ، لكننى لا أستطيع أن أبذل لهم وقتى على النحو الذى يريدونه ، وأريده أنا أيضاً .
.............................
نشرت فى "فصول" بعنوان " كتبت ما تريده الرواية " ـ العدد الأول صيف 1998