الرد العاشر :-
. وفي معرض الرد على القول بعدم جواز الاستدلال على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بقوله تعالى " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون " لأن كبار المفسرين لم يكن في تفسير واحد منهم أن المقصود بالرحمة في هذه الآية رسول الله ولأن الرحمة للناس لم تكن بولادة النبي وإنما كانت ببعثه وإرساله إليهم، وعلى هذا تدل النصوص من الكتاب والسنة نورد ما يلي:
أولاً: في إحدى محاضراته ساق الأستاذ البشير المحمودى الخطيب والواعظ بمدينة مراكش مجموعة من الأدلة على جواز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ذكر منها : (ما استنبطه الألوسي من تفسير قول الله تعالى "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا" فالرسول رحمة كما قال عز و جل "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" و كما جاء في الحديث: "إنما أنا رحمة مهداة " فوجب من هنا الاحتفال و الفرح بهذه الرحمة ) انتهى.
ثانياً: إن القول بأن كبار المفسرين لم يكن في تفسير واحد منهم أن المقصود بالرحمة في هذه الآية رسول الله ليس صحيحاً ففي كتاب الدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام جلال الدين السيوطي ذكر عدة أقوال للصحابة والتابعين في تفسير فضل الله ورحمته وذكر منها ما يلي: (أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله " قل بفضل الله وبرحمته " قال: بكتاب الله وبالإسلام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله " قل بفضل الله وبرحمته " قال: فضله الإسلام ورحمته القرآن.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما " قل بفضل الله " القرآن " وبرحمته " حين جعلهم من أهل القرآن وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال: فضل الله العلم، ورحمته محمد ، قال الله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء الآية 107) … ومنها أيضاً … وأخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما " قل بفضل الله " قال: النبي ، " وبرحمته " قال: علي بن أبي طالب رضي الله عنه ) انتهى بتصرف.
وقد ذكرنا استشهاد العلامة الألوسي عند تفسيره لهذه الآية في تفسيره روح المعاني على أن الرسول رحمة بقوله (إنما أنا رحمة مهداة) والحديث صححه السيوطي في الجامع الصغير.
فالقول بأنه ليس في تفسير أكابر المفسرين أن المقصود بالرحمة في الآية الرسول قول عار عن الصحة. كما أن من استدل بهذه الآية على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف أخذ عموم ما في الآية من معنى ندب الفرح بكل ما هو من فضل الله ورحمته – مما هو خير من متاع الدنيا الزائل - وأي رحمة إلهية أعظم من النبي كما يقول الشيخ هشام قباني كما أنه لا فرق بين ما ورد من أن المقصود من الفرح بالرحمة في الآية الفرح بالإسلام وبين ما ورد من أنها الفرح بالنبي فالفرح بمولده هو فرح بنعمة الإسلام وفرح بأن شرفنا الله تعالى فجعلنا من خير الأمم وجعلنا من أمة خير الأنام فمولده هو مولد لرسالة الإسلام ولذا قال العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه وأرضاه في معرض مدحه للنبي :
وأنـت لمّا وُلدتَ أشرقت ال ****
أر ضُ فـضاءت بنورِها الأفـقُ
فـنحن في ذلك الضياء وفي ****
النّورِ وسُـبْلِ الـرشادِ نَخْترِقُ
ثالثاً: يعزز من جواز الاستدلال بهذه الآية على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف إظهاراً للسرور والفرح والابتهاج بمولده وبكل ما هو مظهر من مظاهر فضل الله تعالى ورحمته الحديث المذكور في تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي: (حَدّثَنَا الْحُسَيْنُ بنُ حُرَيْثٍ حدثنا عَلِيّ بنُ الْحُسَيْنِ بنِ وَاقِدٍ حَدّثنِي أَبي قال حدّثنِي عَبْدُ اللّهِ بن بُرَيْدَةَ قالَ: سَمِعْتُ بُرَيْدَةَ يَقُولُ: "خَرَجَ رسُولُ اللّهِ في بَعْضِ مَغَازِيهِ فَلَمّا انْصَرَفَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي كُنْتُ نَذْرتُ إِنْ رَدّكَ اللّهُ صَالِحاً أنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بالدّفّ وَأَتغَنّى. فَقَالَ لها: رَسُولُ اللّهِ إنْ كُنْتِ نَذَرْت فَاضْرِبي وإلاّ فَلاَ، فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ فَدَخَلَ أبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمّ دَخَلَ عَلِيّ وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمّ دَخَلَ عُثْمانُ وَهِي تَضْرِبُ ثُمّ دَخَلَ عُمَرُ فَأَلْقَتِ الدّفّ تَحْتَ اسْتِهَا ثُمّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : إنّ الشّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ إِنّي كُنْتُ جَالِساً وَهِيَ تَضْرِبُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمّ دَخَلَ عَلِيّ وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ فَلَمّا دَخَلْتَ أَنْتَ يَا عُمَرُ ألْقَتْ الدّفّ".
قال أبو عيسى: هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ. وفي البابِ عَن عُمَرَ وسعد بن أبي وقاص وَعَائِشَةَ ) انتهى. والحديث رواه أحمد وفي نصب الراية للزيلعي عقب على الحديث بقوله: (كما رواه ابن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب عن حسين بن واقد به، وزاد: فضربت، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عمر، وهي تضرب، فألقت الدف، وجلست عليه، فقال عليه السلام: إني لأحسب الشيطان يفرق منك يا عمر، قال: وهذا حديث صحيح، انتهى كلامه) انتهى.
فهذه الجارية قد فرحت بعودته سالماً من إحدى غزواته وعبرت عن فرحها على الصورة الواردة في الحديث ولم ينكر عليها رسول الله بل أجاز لها ذلك. فكيف يعاب وينكر علينا إظهار الفرح بمولده في ذكرى مولده الشريف وإن كان ذلك بضرب الدفوف كما فعلت الجارية بين يديه .
وفي البداية والنهاية للإمام ابن كثير: (وقال البيهقي أخبرنا أبو نصر بن قتادة أخبرنا أبو عمرو بن مطر سمعت أبا خليفة يقول سمعت ابن عائشة يقول لما قدم رسول الله المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا ***** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا **** ما دعا لله داع
قال البيهقي وهذا يذكره علماؤنا عند مقدمه المدينة من مكة لا أنه لما قدم المدينة من ثنيات الوداع عند مقدمه من تبوك والله اعلم ) انتهى. فها هم الصحابة قد فرحوا بمقدمه عليهم فاستقبلوه بالفرح والسرور والإنشاد ولم ينكر عليهم رسول الله ذلك. فكيف يعاب وينكر علينا إظهار الفرح بمولده في ذكرى اليوم الذي شهد مقدمه إلى الوجود بإلقاء المدائح والأشعار كما فعل صحابته ذلك عند مقدمه المدينة .
وفي البداية والنهاية أيضاً في ذكر توبة كعب بن مالك بعد تخلفه عن غزوة تبوك: (فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته يا كعب ابشر فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج وآذن رسول الله للناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يباشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلي فرسا وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة يقولون ليهنك توبة الله عليك قال كعب حتى دخلت المسجد فإذا برسول الله جالس حوله الناس فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة قال كعب فلما سلمت على رسول الله قال رسول الله وهو يبرق وجهه من السرور أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قال قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله قال لا بل من عند الله وكان رسول الله إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه فلما جلسنا بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله قال رسول الله أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق وإن من توبتي ألا أتحدث إلا صدقا ما بقيت ) انتهى.
فهذا الصحابي كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه وأرضاه قد فرح بتوبة الله تعالى عليه حتى كان من فرحه أن خلع ثوبه وكسا به من جاءه مبشراً وها هم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وكذلك النبي يصافحون كعباً ويهنئونه على توبة الله تعالى عليه. فكيف يعاب وينكر علينا إظهار الفرح بمولده في ذكرى مولده الشريف سواء كان ذلك بالصدقة كما فعل كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه وأرضاه أو بتبادل التهاني في هذا اليوم كما فعل النبي والصحابة ذلك مع كعب بن مالك رضي الله تعالى عنهم أجمعين في يوم توبته.
رابعاً: إن قول القائل الرحمة للناس لم تكن بولادة النبي وإنما كانت ببعثته وإرساله إليهم تؤكد من مشروعية الاحتفال بمولده لأن الاحتفال بيوم مولده أو بيوم بعثته هما وجهان لعملة واحدة وفي هذا المعنى يقول الشيخ الدكتور محمد علوي المالكي: (أن تعظيمه مشروع ، والفرح بيوم ميلاده الشريف بإظهار السرور وصنع الولائم والاجتماع للذكر وإكرام الفقراء من أظهر مظاهر التعظيم والابتهاج والفرح والشكر لله بما هدانا لدينه القويم وما منّ به علينا من بعثه عليه أفضل الصلاة والتسليم ) انتهى.
ويتضح المعنى أكثر من كلام الأستاذ البشير المحمودي: (إن الاحتفال بذكرى مولد الرسول ليس لذاته الجسمية وإنما هو لروحه الملكوتية العلوية فنحن لا نحب النبي لذاته وإنما نحبه لربه. و قد بين كيفية وأسباب حبنا لله وحبنا لرسوله فعن ابن عباس قال: قال رسول الله : أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي. أخرجه الترمذي وحسنه والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب فنحن لا نحبه لأنه محمد بن عبد الله ولكننا نحبه لأنه رسول الله ونحبه لأنه مبلغ عن الله تعالى، وأنه حبيب الله عز وجل، و نحبه لأن محبته طاعة لله سبحانه و تعالى.
إن الاحتفال بمولد الرسول هو احتفال و تذكر لنعم الله كما أمر الله أن نتذكرها و نشكرها. و لذا ينبغي أن يكون هذا الاحتفال مصحوبا بالدروس و العظات و المحاضرات و الندوات و العلم و الذكر و القرآن و البر و الإنفاق و الإحسان و التصافح و التسامح بين الإخوان ) انتهى.
خامساً: يقول الشيخ الحبيب علي الجفري: ( إن قول سيدنا العباس رضي الله عنه:
وأنت لمّا وُلدتَ أشرقت ا **** لأرضُ فضاءت بنورِها الأفقُ
فنحن في ذلك الضياء وفي ***** النّورِ وسُبْلِ الرشادِ نَخْترِقُ
يدل على أن اعتقاد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بأن أنوار الهداية والرشاد بدأت بولادة الحبيب.
وسيدنا العباس رضي الله تعالى عنه في البيت الأخير ذكر بأنهم (أي الصحابة رضي الله عنهم) في ذلك الضياء وكانت هذه القصيدة بعد غزوة تبوك في أواخر حياة المصطفى وهذا اعتقاد من عاصر النبي وعاشره وشرب من كؤوس قربه وليس كما يدّعي البعض هداهم الله بأن ذلك كان بالبعثة وليس بالولادة. وذكر أيضاً بأن سيدنا العباس رضي الله عنه وأرضاه بعد قول النبي له ((قل لا يفضض الله فاك )) ما سقطت له سِنّة حتى توفي رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعمره اثنان وثمانون عاماً ) انتهى.
سادساً: يقول الإمام عز الدين ماضي أبو العزائم: ( قال سبحانه " قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين " فالمسيح عليه السلام اتخذ نزول المائدة السماوية والبركة الإلهية عيداً لأنه سبحانه أكرمه وأكرم تلاميذه بهذه المائدة فإذا كانت المائدة السماوية سبباً لاتخاذ يوم نزولها عيداً فلماذا لا يجوز أن نتخذ يوم البعثة النبوية أو المولد النبوي الذي هو يوم البركة ويوم نزول المائدة المعنوية عيداً؟! هل يستطيع أن يدعي أحد أن وجود رسول الله وما جاء به من شريعة عظيمة خالدة أقل بركة من المائدة المادية التي نزلت على المسيح عليه السلام وتلاميذه؟! ) انتهى.
_____________________