3- الكتابة في نجد بين التقليد والفن والعلم :
يمهد د / ابن حسين لهذه القضية بإثارة الفجوة الهائلة الممتدة التي تراكمت خلالها عوامل النسيان على منطقة نجد ... ويرى أنه بعد ما مضى عهد الفتوح .. كان عهد نسيان التاريخ قد بدأ ، ثم يقرر أنه من التكلف أن نحاول البحث عن أي نوع يستحق الذكر من الكتابة في ماضي نجد المنتهي بقيام الإمام المجدّد محمد بن عبد الوهاب .
واتباعا لمنهج مؤرخي الأدب ونقاده – يقسم " ابن حسين " الكتابة إلى ثلاثة أقسام [ 1- الكتابة الديوانية 2- الكتابة العلمية 3- الكتابة الفنية ]
فأما الكتابة الديوانية :
فيرى الناقد أنها تسير في أسلوبها ولفظها على نهجين متباينين كل التباين ، فتارة تلمح فيها الأسلوب العلمي ، واللفظ الفصيح ، وفي كتابات أخرى نجدها تجنح إلى العامية في لفظها وأسلوبها .
وينبه الناقد " ابن حسين " إلى ظاهرة تجسد هذا التباين حيث تجتمع الظاهرتان في عمل واحد حيث يعمد بعض العلماء إلى ركوب العامية ، في محاولة إيصال الغرض المقصود إلى ذهن المخاطب العامِّي . (11)
وأما الكتابة العلمية :
فقد تعاطف معها الناقد وأنصف رجالها وهم من أئمة الدعوة المباركة ، ولكنه نبه إلى بعض سمات الضعف في كتابات العلماء ، وبعد تأمل كتاباتهم قال :" إن من يدرس مؤلفات أئمة الدعوة وأبناء عصرها لابد أن يخرج بالنتيجة الآتية :
أ?- أن أسلوب تلك المؤلفات يحدد بوضوح نوع ثقافة مؤلفيها ، وذلك باتباعهم في أساليبهم وأفكارهم لأمامين جليلين هما : شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم .
ب- استطاع بعض هؤلاء العلماء التخلص من ذلك العمق الموغل المفضي إلى التعقيد والإبهام الذي اتسم به غالبا أسلوب الإمام ابن تيمية .
جـ- تظهر في مؤلفات هؤلاء العلماء آثار من لغة مؤلفات عصر المماليك .
د?- بعض العلماء كان يميل إلى استخدام اللغات الضعيفة التي يزدريها النحاة مثل لغة " أكلوني البراغيث " على حد تعبير النحاة .
ويعترض د / ابن حسين على ازدراء النحاة للغة أكلوني البراغيث ، وذلك لأنها وردت على لسان أفصح العرب في بعض أحاديثه ، ويتساءل في دهشة واستنكار : فكيف يجور لنـا ازدراؤها ، وقد وردت على لسان أفصح العرب ؛ ويتمثل في قوله صلى الله عليه وسلم : " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل .. وملائكة بالنهار .." الحديث
وينبّه " ابن حسين " إلى قيمة الكتابة العلمية بعد ذلك حيث اتسعت الـمدارك ، وتنوعت الثقافات .. ويرى أن هذا الجيل الذي يمثله " حمد الجاسر " والمؤرخ عثمان بن بشر ، والشيخ سليمان بن سحمان ، والدكتور يوسف الحميدان ، هؤلاء الكتاب في كتاباتهم العلمية استطاعوا أن ينجوا بأساليبهم مما وقعت فيه الأساليب القديمة من أخطاء كتكلف السجع ، والإكثار من الحشو ، وكذا الضعف اللغوي .
وأما الكتابة الفنية في نجد :
فيرى الناقد " د / محمد بن حسين " بأنها لم يكن لها وجود في هذا الجزء العزيز من بلادنا " نجد " إلا بعد منتصف القرن الرابع عشر الهجري بعشرة أعوام ، ... وقد قسم الكتابة الفنية إلى رسائل ومقالات وقصص ، وهذا التقسيم مألوف ومعروف لدى النقاد والباحثين ، ولكن الناقد لم يجد من النتاج القصصي ما يكفي للحكم على هذا الفن وتواجده في هذه الحقبة المبكرة قبل منتصف القرن الرابع عشر الهجري .
وأمـا فن الرسائل .. فقـد حدد تاريخ نشأتها على يد فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن الملقب بالأزهري حيث قال : إن بذور الرسائل الإخوانية ، قد رميت قبل " 134 " عاما تقريبا .. وحدد ذلك التاريخ بعودة منشئها عام 1264هـ إلى نجد في عهد الإمام فيصل بن تركي ، ويسوق الناقد الشاهد والدليل على ذلك حين يقدم نموذجا لهذا اللون الفني متمثلا في رسالة بعث بها الشيخ عبد اللطيف الأزهري إلى الشيخ ابن عتيق . (12)
والناقد " د / ابن حسين " لا يتكلف في أحكامه ، ولا يبالغ في ادعاء وجود الكتابة الفنية في نجد في القرن الثالث عشر الهجري .. ولكنه يتأمل .. كم خلّفه الآباء من هذا الإرث الفني في هذا الميدان .. فلا يجد ثمرة نافعة يتباهى بها .. فيقرر في حياد وموضوعية .. وفي أسلوب بياني مشرق ممزوجا بالأسى ، حيث لم تستكمل المسيرة الفنية رحلتها ، ولم تجد البذرة مناخا صحيا للنمو واستمرار الحياة .. فيقول :
" غير أنه قد مضى على رمي تلك البذور قرن وثلث تقريبا ، فما الذي أضيف إلى عمل الشيخ عبد اللطيف ؟ ... لا شيء مطلقا .. فلقد بقيت نجد قفرا من الكتابة الفنية ، خلاء من فنونها وبدائعها ، حتى نهاية الستينات من هذا القرن حيث بدأت طلائعها تطل في شحوب وضمور ، شأن كل فن يبدأ من عدم مهين . (13)
وفي سياق تقويم الكتابة الفنية يرى " ابن حسين " أن ذلك التقدم الباهر الذي أحرزته الكتابة في نجد إنما كان داخل إطار المقالة وما أشبهها .
ويعلل هذا النضج الفني في كتابة المقالة إلى تأثر أقلام شباب الأدباء بما كان يكتبه الرافعي وطه حسين ، وأحمد أمين ، وعباس العقاد .. وأمثالهم من كبار الكاتبين .
ويلاحظ أن الناقد لم يُعْن برصد أنواع المقالة ، ولا الأساليب الفنية للمقالة ... ، وربما لم يجد النماذج المتنوعة التي تدلل على تنوع المقالة عند أدباء نجد وكتابها ومنها :
[ المقالة الدينية ، والمقالة الأدبية ، والمقالة النقدية ، والمقالة الاجتماعية ، والمقالة السياسية ] وبعض النقاد رصد أطوار فن المقالة وأنواعه .. والأساليب الفنية لهذا الفن ليس في منطقة نجد وحدها ولكن في المملكة العربية السعودية كلها .. وفي جميع مناطقها . (14)
ومما يؤكد إقرار الأدباء بتأثرهم بنهضة الكتابة وأعلام الكتاب والأدباء في العالم العربي قول الكاتب والشاعر محمد حسن عواد في كتابه " خواطر مصرحة " : حيث يقول مؤكدا نزعته التجديدية " إعجابي بالكتبة العصريين أو الكرام الكاتبين ، يكاد يكون مختصرا في أمثال ولي الدين يكن ، والمنفلوطي ، وأمين الريحاني ، والعقاد ، ومي زيادة ، وسلامة موسى ، وهيكل ، والمازني ، من الكتبة الأحرار ، وهؤلاء مع أعضاء الرابطة القلمية جبران ، ونعيمة ، وعريضة ، وأبي ماضي " .
ويتلمس " ابن حسين " مواطن الضعف ومكمن الداء في هبوط مستوى بعض الكتابات الفنية .. ويرى أن العلة تكمن في انصراف الناشئة عن الأدب الرفيع ، وكل ما من شأنه رفع المستوى الفكري عامة ، والأدبي خاصة .. في أمة مازالت في بداية الطريق لتكوين شخصيتها الأدبية ، وإيجاد مجتمع يتمتع بمستوى فكري تام " [ الأدب الحديث في نجد ص 214 ]
4 - فن الخطابة : ملكة وموهبة .. وليس مقالات تلقى من فوق المنابر .
يرى د / محمد بن حسين أن الخطابة من فنون الأدب .. والخطيب مثل الشاعر والقاص ، وكاتب المقال .. ، ولابد للخطيب من أن تكون ملكته ثابتة متأصلة عنده ... ، شأنه في ذلك شأن أي صاحب موهبة إبداعية في كتابة الشعر والقصة .. والرواية والمقال .
والنقاد في العصر الحديث أغفلوا فن الخطابة .. ، ولم يرصدوا ملامح تطوره وتجدده ، ولم يعنوا بهذا الفن عنايتهم بفنون الأدب الأخرى ..، وهذا قصور وإهمال متعمد لأن الخطابة فن أدبي يقصد به إلى التأثير في نفوس المتلقين عن طريق مخاطبة قلوبهم ، وعقولهم ، وللخطيب أدوات تأثيرية في مقدمتها التفنن في جذب انتباه السامعين ، وإيقاظ ضمائرهم ، وإثارة مشاعرهم ، بما يلقيه الخطيب من عبارات لها إيقاعها المؤثر ، وفي صياغتها ، وفي نسيج كلماتها وحروفهـا ، وفي إلقائها ، وفي تلوين الصوت جهرا وهمسا ، وعلوا وانخفاضا، وغير ذلك من وسائل تأثيرية متعددة . (15)
وانطلاقا من الخصائص الفنية للخطبة الناجحة يتوجه د / ابن حسين بهذا النقد الساخر إلى الخطباء الذي لا يتقنون فن الخطابة أداءً وتأثيرا وإقناعا ومراعاة لمقتضى الحال ، حيث يرى أن " الكل يكتب مقالا ثم يأتي فيلقيه من على المنبر كخطبة !!! "
ثم يقول رافضا هذا الأسلوب في تقديم الخطبة [ ولو جاز لنا أن نقول .. عن أمثال هؤلاء : إنهم خطباء .. لوجب علينا أن نقول عن المحاضر ، والمدرس، وكتـاب الإذاعات ، والصحف والمجلات : إنهم خطباء ...!! ولم يقل بذلك أحد .
ويقدم الناقد السمات الفنية التي تضمن للخطبة التميز والتأثير ، وللخطيب المهارة والتفوق ؛ ومن هذه السمات والخصائص التي يجب أن تعلن عن موهبة الخطيب وملكته البيانية [ فصاحة اللسان ، وجهارة الصوت ، وسرعة الاستحضار لمخزون الذاكرة ، وسرعة الخاطر ، وحضور البديهة ، والتحكم في الانفعالات النفسية وتكييفها حسب ما يقتضيه الموقف والمقام ، والثروة اللغوية المُمِدة بكثير من الضروريات في مثل هذا المجال ، ويرى الناقد أن في قصر الخطبة مصلحة متعددة الجوانب للجمهور المخطوب فيهم . (16)
وينْعى د / ابن حسين على الخطباء تماديهم في إطالة الخطبة ، وهم يتسابقون في ذلك ويقول موجها " النقد الساخر " لهذه الظاهرة ، ويفرق بين رأي الفقهاء ورؤية علماء اللغة والأدب ، يقول " ولقد تكاثر المتسابقون في حلبة التجديد ، تجري بهم أقلامهم وألسنتهم ، حتى بلغ بهم التمادي في الإطالة إلى أن يقف الواحد منهم يوم الجمعة على المنبر ثلث أو نصف ساعة أو يزيد ، ليتلو على المصلين ذلك المقال الذي قام بإعداده ، ثم تدوينه في البيت ، وربما حفظه عن ظهر قلب ، وعلى المصلين أن يمكثوا هذه المدة سواء منهم من استعد لذلك ، ومن هو في وهج الشمس أو مس البرد ، ومن هو صحيح أو عليـل ، والخالي وذو الحاجة ، فهل يجوز لنا أن نقول عن هذا القول : إنه خطابة ؟
في الاصطلاح الفقهي : نعم ، أما في مفهوم اللغة والأدب .. فلا ... ، "
وهذا التصور الذي قدمه الناقد جاء في سياق تقويمه للخطابة الدينية ، وما يعتريها من الضعف في بعض الأزمنة ؛ ولكن هذا الحكم ليس عاما وليس مطرداً . لأن النص المكتوب إذا كان من إبداع كاتبه الخطيب ، واتسم بأسلوب عربي صحيح ، وصياغة أدبية مقنعة تجمع بين الشاهد العلمي المقنع .. والعبارة الجمالية المؤثرة ، ولا تكتمل مقومات الخطبة الصحيحة إلا إذا توجها الخطيب بإلقاء فني صحيح يجمع بين التأثيرات الصوتية ، ومراعاة أحوال المستمعين ، وإيراد الأدلة النقلية والعقلية التي تجمع بين الإمتاع والإقناع ، وخطب العـرب في جميـع العصور مدونة .. وقد أشاد الجاحظ في كتابه " البيان والتبيين " بخطابة العرب ، وأكد أن العرب تفوقوا على الفرس واليونان في هذا المضمار .
وأرسطو ترك تراثا وافيا لهذا الفن في كتابه " الخطابة " وكتاب " جمهرة خطب العرب " الذي جمعه " أحمد زكي صفوت " مصدر نفيس لهذا اللون العـربي الأصيل ، الذي دونت متونه مثلما دونت الأشعار ، والوصايا والأمثال .
فكتابة الخطبة وتدوينها ليست سمة الضعف ، وإنما الضعف ينشأ من ضعف عدة الخطيب المعرفية .. واللغوية ، وكذلك ضعف الإلقاء ، وضعف التأثير في المستمعين ، وبناء الخطبة وأسلوبها غير بناء المقال ، فإذا صاغ الخطيب الخطبة في صورة مقال .. ولا هـم له إلا أن يقوم بقراءة ذلك المقال ، فخطبته غير ناجحة ، وليس لها ثمرة فنية في عرف دارسي الأدب ونقاده – كما قال الناقد د / ابن حسين - .
ولذلك نجده يشيد بالخطب التي يتجلى فيها قرب تناول اللفظ ، وسهولة مأخذه ، والبعد عن الغريب النافر عنه ، والنزوع بالتركيب عن أسباب الغموض والخفاء .