(20)

لم أبق فى سجن الانفرادي كثيراً ,فقد قرر المسئولون خروجى من المعتقل , لأواجه الحياة بنظرة جديدة غير تلك التى كنت أنظر بها إليها , كما أنها غير تلك النظرة التى كنت أنظر بها للدنيا قبل أن أدخل المعتقل أول مرة . خرجت محملاً بأفكار تمثلت فى شخوص حية رأيتهم . أفكار وقيم لم تغير الصعاب والشدائد منها شيئاً . وإنما زادتها ثباتاً فى تلك النفوس الشامخة ، بينما رحت أترنح ,وأيقنت بضيق الساحة التى كنت أتحرك فيها من قبل . لاحظت زوجتى هذا التغير وقالت :
- لشد ما تغيرت !
- لا شئ ثابت فى هذه الدنيا .
وقالت بامتعاض :
- مصيبة المصائب أنك لم تعد تصلى ..
- أنا !
- لم تكن تترك فرضاً !
- لكنى لم أكن أصلى ..
- ماذا تقول !
- إنها الحقيقة .
- وذهابك إلى المسجد ..
- محض هراء ..
- أنت ترعـ...
قاطعتها بعصبية قائلاً :
- من يكون الشيخ عبد السلام النمل ؟
- إنه ..
- من ؟
- زوجى السابق ..
- أعرف أنه زوجك السابق , وأن اسمه عبد السلام , وولد فى محلة مرحوم , وله أبناء ليسو منك , وأشقاء وقد تزوجك بعد وفاة زوجته .. كل هذا لا يمثل عندى أى شىء.. أريد أن أعرفه هو .. ولماذا تزوجك ؟ .. ولِم قبلت الاقتران بى أنا وأنت شابة جميلة والكل هنا يحب الشيخ ؟!
ردت وقد تملكها العجب :
- ماذا بك !!
- من يكون ذلك الشيخ ؟
- قلت لك أنه زوجى السابق ..
- لِم تزوجك ؟
- كان أبى من أتباعه , وعندما ماتت زوجه عرض عليه أبى أن يتزوج منى ..
- هل كان يحبك ؟
- كان يحترمنى ..
- وأنتِ ؟
- لِم كل هذه الأسئلة ؟؟
- أريد أن أعرف كل شئ ..
- لِمه !
- ولِم لا أعرف ؟
- لا أرى مبرراً لـ....
قاطعتها :
- لكنه هام بالنسبة لى ..نعم .. ذلك أمر هام بالنسبة لى .. لا بد أن أعرف كل شىء .. كل شىء مهما كان تافهاً ..
- لشد ما تغيرت !
- دعينا من الجمل المحفوظة ..
- لم تكن تهتم بأى شئ !
- هذا حق ..
- والآن ؟!
قلت شارداً :
- لقد وجدتهم هناك فى الزنزانة يضجون حياة , وأنا هنا جيفة نتنة ..
- من تقصد ؟
- السجناء ..
- لا أفهم شيئاً !
- ولا أنا ..
وحل صمت كريه ثقيل . شعرت بسخافة ما كنت أقوله لها .. أتكون اللوثة أصابتنى أنا الآخر كما أصابت زوج لطيفة إبراهيم ؟ .. لكنه دائر فى الطرقات يدعو , وأنا لم أعد أذهب إلى المسجد كما كنت أذهب من قبل .. وقلت :
- أين الكتب ؟
- أى كتب ..
- كتب الشيخ عبد السلام ..
- تحت السرير .
- ألم يأخذوها ؟
- فتشوا فيها وتركوها ..
- ألم يؤلف كتبا هو الآخر ؟
- لا أدرى ..
- كان زوجك !
- فترة قصيرة قضيناها معا وكان دائم التـ...
وقاطعتها :
- وفى هذه الفترة القصيرة ألم يقص عليكِ شيئاً ؟
- إنه فى شغل عن كل ما يدور فى رأسك ..
- وما يدور فى رأسى ؟
- لا أدرى ...
حتى أنا لا أدرى ما يدور فى رأسى ! . وقلت فى نفسى : " كل الناس تعرف كل شئ عن الشيخ عبد السلام النمل إلا أنا ! .. أنا العائش فى بيته, والراقد على سريره , والمتزوج من أرملته ! ." .. وقلتُ :
- الناس هنا تعشق الشيخ .
- نعم ..
- وأنتِ ؟
- وأنا ...
- تعشقينه ؟
- أحترمه وأجله .
وكأنما ضاقت بسخافتى , فلوت عنقها , وأردفت بامتعاض :
- يبدو أن السجن لوث عقلك ..
- ربما ..
- يجب أن تستريح , لتسترد صحتك .
- أنا فى قوة بغل .
وأجهشت فى بكاءٍ حار . وفى لحظة غبت عنها وعن كل شىء ورأيتنى هناك وسطهم , وقال عادل النمل : " بينما نجد مهمة المؤرخ نقل الواقع كما هو فإن مهمة الأديب أن يبرز ما يجب أن يكون وليس ما هو كائن وكفى .. إنه بمثابة كتيبة الاستطلاع تلك التى تمهد للجيش الطريق .. وهكذا الأديب فإنه يمهد للحياة التى يريدنا أن نحياها فى المستقبل ويجعلها قريبة للنفوس " .. وقال مدحت : " هذا حق .. غير أنك لا تجد بين أدبائنا من يحمل هما حقيقيا . إننا كبلد متخلف يجب ألا يشغلنا غير هم واحد إنه التقدم والنهوض كى نلحق بركب دول العالم الأول ." .. أما محمود سعيد فابتسم وقال معلقاً على ما سمعه : " يجب أن نضع فى تفكيرنا ما نتميز به حضاريا إننا لن نعطى الدنيا علما . العلم فى الغرب قطع أشواطاً بعيدة , ونحن نلهث للحاق به .. وهذا لا يعنى بحال أن نترك العلم وإلا أصبحنا جثة هامدة . المسألة أننا لن نعطى الآخر ما نتميز به وما ينقصه إلا إذا كنا محل تقدير واحترام .. ولن يكون هذا بغير العلم . ساعتها سيسمع لنا ويفكر ويقبل على ما عندنا نحن .. يقبل على رسالة السماء الخالدة : .. وأمسكت برأسى . أردت أن أضربه فى الحائط , ونظرت إلى زوجتى . كانت تمسح عن خديها دمعات فرت من مقلتيها , ونظرت إلىّ نظرة تحمل من الشفقة والحزن ما كدت أصرخ منه .. وقالت :
- هل عذبوك إلى هذه الدرجة ؟
- من ؟!
- هناك فى المعتقل ..
- لقد عذبت بالحقيقة .
- أى حقيقة !
- كنت أعمى ..
- يا لك من لغز !
- ما أنا إلا أحمق كبير .