*قلوب بيضاء*
................

- والله سبقت يا أبو عطوة وجيت من البدرية.
- ارم السلام الأول يا أخي .. اصطبحنا يا فتاح يا عليم .. تعالى يا عوض أقول لك.
- ولا تقول ولا تعيد
- والنبي تيجي .. ورحمة أمك تيجي ..
لكن عوض الله مضى في سبيله دون أن يرد عليه بكلمة واحدة .. وهو يعض على أنيابه كيف يسبقه ذلك الوغد إلى الصيدة التي بيت النية عليها منذ أسبوع، لقد بات الليلة الماضية يعد العدة واتفق مع أبناء عمه شحاتة ومنصور، وجهزوا كل شيء لصيد السمك من تحت القنطرة التي تقوم على الترعة على رأس غيط العيلة .. لعن الله تلك الزوجة التي أصرت على أن يأكل لقمة ويشرب الشاي قبل أن يسرح للصيد. فلولا ذلك ما سبقه سيد أبو عطوة وإخوته إلى القنطرة من الصباح الباكر، وأقاموا سدا كبيرا من الطين والقش أمام القنطرة،وخلفها، ونصبوا الطنبور، وراحوا ينزحون منها الماء بنشاط .. تمهيدا لصيد السمك.
وتوقف عوض الله عن السير ورفع قدمه اليمنى لينفض حصاةً دخلت إلى البلغه ثم واصل سيره إلى الدار.
وتخيل منظر السمك، فقد نضب من حوله الماء، فراح يضرب الطين بذيله في عصبية ويأس .. الصبر طيب يا أبو عطوة. لقد كانت كمية السمك التي اصطادها مع أبناء عمه من تحت القنطرة في العام الماضي ثلاث صفائح كبيرة، كان نصيبه منها صفيحة كاملة .. خمسة كيلو سمك على الأقل .. لقد كان امهر الرجال في القبض على القراميط الماكرة التي تندس في الطين كلما جف من حولها الماء .. هيه .. صيد السمك ألذ من أكله يا أولاد .. ويذكر عوض الله كيف كان يُلقي من وقت لآخر بسمكة كبيرة لابنه الوحيد الحبيب صابر الذي يهب لالتقاطها سريعا قبل أن تصل في حركاتها السريعة مرة أخرى إلى الترعة!
وانفجرت في هذه اللحظة بعض التجاعيد التي كانت مرسومة على جبهته .. الصبر طيب يا أبو عطوة .. وتنهد تنهيدة عميقة وواصل سيره في بطء نحو الدار .. آه .. كيف يبيت الليلة هو وزوجته وابنه الحبيب صابر يشمون رائحة الشواء والقلي التي تتسرب إليهم حتما من فوق الجدار الذي يفصل من بين الدارين؟!
وتخيل عوض الله منظر القراميط التي يلقيها سيد أبو عطوة إلى ابنته سعاد التي تجلس على البر لتضعها في صفيحه كبيرة أو تجري بها إلى أمها في سرور، وأحس في هذه اللحظة أنه يريد أن يطبق أصابعه على رقبة سيد أبو عطوة لينزع روحه وكأنه سمكة ماكرة.
ـ الله مالك يا راجل راجع كده بسرعة وشك زي قفاك؟
ـ شورتك السودة .. والنبي تأكل لقمة .. استنى اشرب الشاي آهى راحت لأصحاب النصيب.
وصعد إلى السطح، وألقى نظرةً على الغيط من بعيد، واطمأن على الجاموسةِ والحمارة اللتين، ربطهما ابنه صابر وألقى أمامهما كميةً من البرسيم، ونام بالقرب منهما على بعض أعواد حطب ناحية القنطرة فلم ير شيئا، ولكنه لمح سعاد ابنة سيد أبو عطوة وهي تجرى ناحية الدار، وبيدها صرة كبيرة .. لابد أنها مليئة بالسمك .. الذي سرقه قبل أن يقسم على المشاركين في الصيد، وبصق بعنف، وألقى نفسه على السطح ونام وغطى وجهه، وبعد لحظات راح يغط فى نوم عميق.
الله أكبر الله أكبر .. وأزاح الحِرام وقام يفرك عينيه في كسل .. فليتحرك لصلاة الظهر في الجامع القريب، ثم يمضى إلى الغيط ، ليبعث الولد إلى شداد ليتناول طعام الغداء.
وأحس عوض الله بشوق إلى ولده، وأنه يود لو ضمه إلى صدره يواسيه ويعد بصيدة أحسن من تلك التي ضيعها عليه ابن أبو عطوة، وألقى نظرةً تجاه الغيط.
الله الله. والله عال يا ابن أبو عطوة، قالها وهب واقفاً، وهبط السلم سريعا وبدلاً من أن يتجه إلى الجامع لصلاة الظهر أوسع الخطى إلى الغيط فقد سنحت الفرصة للانتقام. ها هي نعجة سيد أبو عطوة سايبة ترعى البرسيم في حقله وبجوار الجاموسة المربوطة، والولد ليس هناك بالتأكيد، ربما كان نائما في الناحية الأخرى من العشة.
فهو لا يحس بالنعجة وإلا طردها .. سيضربها هو لان نعجته ستكون فقد أسقطت جنيها ميتا قبل العشاء.
وابتسم في خبث، وطوح عصاه في الهواء. وقطب ما بين حاجبيه، أن سيد لم يزل مشغولا بالصيد ولن يراه وهو يضرب النعجة، وحتى إذا رآه ماذا يستطيع أن يعمل؟! .. أنها في برسيمه وله الحق في طردها، وإذا احتج عليه كانت فرصة ليلقنه درسا في الأصول هو وأخوته الذين سبقوه إلى صيده الثمين، وحرموه من أكلة السمك التي كان يمنى نفسه بها منذ أسبوع.
واقترب من النعجة ، ورفع عصاه ليهوي بها فوقها في غضب ولكن الملعونة جرت ناحية العشه التي يرقد في ظلها ابنه صابر، وجرى وراءها والشر يحتدم في تلك العقدة التي كانت بين حاجبيه، وأنزل عصاه ببطء حتى لامس طرفها الأرض، وترك النعجة تعود لرعى البرسيم.
إيه ده يا ولد؟ وهب صابر واقفا دي سعاد بنت عمى سيد أبو عطوة، جابت لي قرموطين سمك مشويين، وحلفت على إن ما كنت أكلهم ما هي دايقه السمك في نهارها.
وخفضت سعاد رأسها في حياء ولم تتكلم.
كتر خيرك يا بنتي .. واتجه عوض إلى الترعة مره أخرى ورمى السلام على سيد أبو عطوة وإخوته، وطوح عصاه في الهواء.
- كده يا عم سيد؟ أنتم سبقتونا في الصيد وإحنا سبقناكم في الأكل، وضحك سيد دون أن يفهم شيئا وهم عوض الله بالانصراف .. ولكن سيد خرج من الماء هذه المرة وأمسك جلباب عوض الله بيده اليسرى وبيده اليمنى قبض على صرةٍ بها عدة أسماك كبيرة وهو يقول ( دول لصابر .. مترجعش .. ورحمة أمك ما أنت مرجعهم).
وفى المساء ،، بعد عشاء لذيذ ضحك عوض الله من قلبه وهو يهمس في إذن زوجته عن السر الذي بين سعاد بنت سيد أبو عطوة وبين ولده الحبيب الوحيد صابر.



(انتهت المجموعة)