زيــــــــــــــــــارة
...................

القرية تمجني وكل من فيها لا يريد رؤيتي.
فكيف أذهب إلى القرية؟
كيف أذهب إلى القرية وأبي وأمي قد ماتا معاً في حادث مروري منذ سنوات طوال (لم أزر القرية من يومها)، وشقيقي الوحيد «بهاء» ترك القرية ليعيش في إيطاليا مع المرأة الإيطالية التي أحبها وتزوجها، وترك بلاده من أجلها؟
فلأذهب إلى الطبيب النفسي «صفوت عيسى» الذي عرفته زميلاً لي في معهد حلوان الاشتراكي في «سنوات النضال»، قبل هزيمة يونيو 1967م، وأتحدّث معه بعض الوقت.
كان أيامها ما يزال نائباً في مستشفى القصر العيني.
وهو الآن أستاذ كبير في طب القصر العيني؛ تستضيفه الفضائيّات، والمجلات الطبية، ويُدلي برأيه الطبي في الكثير من الصحف التي تطلع عليها، وأحيانا ما يتحدّث في بعض قضايا المجتمع؛ كالإصلاح، والفقر، وقضايا التعليم.
مازالت أتمنّى أن يسمعني!
...
ابتسم ابتسامة مشجعة، قبل أن أتكلم!
الاسم: سُها، غيّرته من سناء علي خليل إلى سها، أليس ذلك أفضل يا دكتور؟!.
العمر: ألف عام في التيه، وممارسة الخطيئة، بلا لذة. وكأني أعذب نفسي!
الهواية: قراءة الشعر، والاطلاع على بعض ما تنشره الصحف النسائية التي تهتم بقضايا المرأة من قضايا الجريمة، والاستماع إلى الفضائيات ومشاهدة ما تقدمه من أفلام قديمة .. أبيض وأسود .. لا أحب الأحاديث الطويلة .. كم أتمنى ألا يزيد البرنامج ـ أي برنامج عن نصف ساعة.
الملل؟ .. هو ما يقتلني، بل هو الذي دفعني لأجيء وأتحدث معك!
هل تذكر أنك عرضت عليَّ ذات يومٍ الزواج، فقلت لك: إني تزوّجتُ القضية! قضايا مصر وأفريقيا ودول العالم الثالث؟
أية لوثة أصابتْ عقلي يا صفوتْ؟
هل ساءتك أحوالي؟
هل تريد أن تسألني عن صحتي؟
القوام: القوام؟!
.. هل أبقت فيَّ الأيام قواماً؟
هاأنت تراني طويلة، وبيضاء، وملفوفة، وكأني ابنة باشا، مع أني ابنة لفلاح متواضع كان يملك أربعةً وعشرين قيراطاً (أي فداناً لا غير) في إحدى القرى المنسية من شمال محافظة الشرقية، ها هو تركها ومات من ثلاثة أعوام في حادث مروري، وبموته ودَّعتُ القرية، ولم أعد أطيق السير في الطريق الموصلة لها!
بيتنا؟ .. لم يعد لي بيت في القرية، فقد تركه أخي هو والأرض لأبناء عمي، وتزوّج من امرأة عرفها في فندق كان يعمل فيه في شرم الشيخ. سحرته، فترك وظيفته، وسحبته وراءها إلى إيطاليا.
لا .. لم آخذ ميراثي في الأرض .. الأرض لله.
كأنك تقول أين صدر سناء الذي اشتهرت بجماله؟
صدري كان مكتنزاً .. وهاهو قد بدأ يترهّل تحت وقع سنابك خيل الزمن، وكأنها خيول المغول التي لا ترحم!

سألني صفوت الآخر «صفوت نعمان» ذات صباح أسود جنائزي (ورحلاتي تتوقّف في شقته مرتين أسبوعيا، حتى بعد أن مرّت «سنوات النضال» ـ بحلوها ومرها ـ وصار رئيساً لمجلس إدارة مصنع رأسمالي (لا أعرف أسماء أصحابه، ولا جنسياتهم، فهو من المصانع عابرة القارات!!)
تسألني وأنت خائف من ردي:
ـ لماذا لم تتزوّجي يا سُها؟
وضعتُ ابتسامة شبه ميتة ألِفتُ رسمها على وجهي كلما قابلتُ صفوت الآخر:
ـ هل تنوي أن تتزوّجني يا باشا؟
.. وكأنما لدغته عقرب:
ـ وهل من الممكن أن أتزوّج في هذه السن؟!
... وكأن عينيه تقولان:
«وهل أتزوّج داعرة مثلك؟!!»
فهل ينسى هو ورفاقه أنهم هم الذين صنعوا مني هذه الدّاعرة؟! وهم الذين لوّثوا هذه القروية الغريرة .. التي كانت ذات يومٍ جميلة؟!!
ـ لم تدع لي الأيام فرصة أن أتخذ قراراً مثل هذا!

سألني الطبيب النفسي «صفوت عيسى» ـ دون أن ينطق ـ كيف كانت الرحلة من القرية إلى المدينة .. إلى ذلك الحي الراقي من المدينة وكأنها رحلة ألف عام من المعاناة الدائمة والألم؟
نظر إليَّ كأنما يكتشف للمرة الألف مناطق اللذة الرخاميّة، التي يستعذبها الساقطون من أمثال صفوت نعمان بعد أن أطال من قبل التأمل في أجزاء نساء أخريات لا تُضاهيها حلاوةً وتمرداً ..
ـ من أنتِ منهما: سناء علي خليل أم سُها؟
ـ سُها!
وكأن الطبيب قد بوغت بإجابة لا يبحث عنها، ولا ينتظرها:
ـ لا أسألك عن الاسم .. ولكنَّ ما أقصده ..
ـ ماذا؟
... غيَّر اتجاه الكلام بعد أن أحس سفالة السؤال:
ـ كيف تركك صفوت ـ معذرةً ـ ولم يتزوّجك؟
وهو يُنزل عينيه إلى أسفل:
ـ حينما رفضتِ عرضي للزواج .. عرفتُ من البعض أنك على علاقة به!
رفع عينيه، وأضاف ضاحكاً:
ـ كيف ترك كلَّ هذا الجمال؟
إن عيني الطبيب تقولان: كيف يتركك وهو الذوّاقةُ الخبير بأجساد النساء؟!
لاحظتُ أن شعره يميل إلى البياض، قلتُ كأني تمزح:
ـ أظن أنني رأيتُك منذ عشرة أعوام، يا دكتور صفوت .. كان شعرك فاحماً.
قال ضاحكاً، وقد استهوته المزحة:
ـ لم أرك يا سناء ـ آسف يا سُها ـ .. منذ ثلاثين عاماً .. هل مازلتِ تذكرين اللقاءَ الأول؟ في معهد الشباب الاشتراكي بحلوان في أواخر الستينيّات، في تلك الفترة السوداء التي أعقبت هزيمة يونيو 1967م.
صححتُ له:
ـ بل رأيتُك قبل الهزيمة بفترة بسيطة ..
أغمض عينيه:
ـ كنتُ حديثَ التخرج من كلية الطب، فقد تخرجت في عام 1965م وكانت لي أحلام في السفر إلى أمريكا، أجهضتها ظروف تلك الأيام. ووجدتني أقرب إلى البعثة للاتحاد السوفيتي من أمريكا. لماذا أذهب إلى أمريكا وهي التي تدعم إسرائيل على اغتصاب فلسطين، وهي التي ضربت بلدي؟ بل كانت هزيمتنا بسبب دعمها لإسرائيل. هكذا قالوا لي في إدارة البعثات وقتها.
ويقطع روايتَه:
ـ هل تذكرين؟
ويزفر ضاحكاً:
ـ اتجهت إلى الاشتراكية، ثم تبيّن فيما بعد أنها كذبة كبرى!
غامت الرؤى في عينيه، وصمت، وهو يزفر بحسرة:
ـ سقطنا جميعا في الفخاخ التي كانت منصوبة لنا بلا رحمة! .. نحن والاتحاد السوفيتي!
أدار رأسهُ وهو يضحك:
ـ تستطيعين أن تقولي إنني الآن من التيار الإسلامي، وإن كنتُ لم أنضم إلى حزبٍ أو جماعة!
قال وهو يُغمض عينيه:
ـ الإسلام هو الحل .. فيه الحل لكل مشاكل البشر وليس المسلمين فحسب.
وجدني صامتة، فأضاف في نبرات واضحة:
ـ ما رأيك يا سُها؟
ـ انتفضتْ:
ـ أنا زميلتك سناء علي خليل!، لكن الناس يعرفونني باسم: سُها! .. اسم من ضرورات المرحلة يا دكتور .. وأنت ناديتني باسم سناء من قليل!
ابتسم:
ـ لقد كبرنا .. يا سناء! أنا في الثامنة والخمسين الآن .. أنا من مواليد 1943م، وأظن أنك تصغرينني بعدة أعوام .. ثلاثة مثلاً؟
لم أُجب.
ضرب المكتب بيده وهو يخلي للبسمةِ مكاناً:
ـ رحلة طويلة .. من النشأة في قلاع الإقطاع بأنشاص .. بمحافظة الشرقية حيث أرض الملك .. وأبي وأعمامي أجراء في أرضه .. إلى الحلم بإنجازات الثورة .. التي وعدنا بها جمال عبد الناصر .. وغناها عبد الحليم حافظ وصلاح جاهين في «بستان الاشتراكية»، ثم التفوق .. ومنظمة الشباب ومعهد حلوان الاشتراكي .. وذهابي إلى روسيا لاستكمال دراساتي، والتحول هناك عن طب المجتمع إلى الطب النفسي .. لمحاولة التخفيف عن أوجاع الناس الذين قتلتهم هزيمة 67.
أغمض عينيه، كأنه يريد أن ينسى:
ـ رحلة صعبة!!.
زفر:
ـ يا الله حسن الختام .. أحاول أن أنسى تلك الفترة من حياتي!
رأيته وهو ينظر إلى الجهة الأخرى .. ويُخرج منديلاً ورقيا، ويبصق في قرف!
......
لأغير الموضوع .. سألتُه:
ـ كيف حال أسرتك .. أقصد زوجتك وأولادك؟
ابتسم:
ـ أمضيتُ حياتي وحيداً .. أبي ترك لي ستة أولاد وبنتين. أكملتُ بعده رحلتي معهم .. تزوّجوا جميعاً، وعملوا في وظائف حكومية، وسافر بعضهم للعمل في الخارج: في ليبيا والعراق والسعودية .. وبقيت أنا، أقضي خمسة أيام في القاهرة مع أصدقائي من المرضى .. ويومين في أنشاص .. أزور أقاربي، وأشارك أهل القرية في الأفراح والعزاء ..
استمرّ في الحديث ..
.. وكان عليَّ أن أستمعَ له، لأنسى وحدتي والكثير من جراحي، وأجعل سها المأزومة تنسى تلك الأيامَ التي تُطاردها .. وتنكأ جراحها، وأُساعدها على أن تقذف ذلك الماضي الحزين القاتل الذي يُطاردها في صحيفة الزبالة التي بجانبه!!
الرياض 24/2/2006م