( 8 )

عرف من ارتجاف رموشه وشفتيه ، وتقلص ملامحه ـ أنه يريد أن يقول شيئاً ، نطقت عيناه بما يحاول مداراته . كانت العصافير فى أشجار الحديقة قد زادت من صياحها ، يشى أن الليل اقترب .
قال جان :
ـ صحيح أن أمنا تبرعت بجزء من أموالها للكنيسة ؟
قال أنطوان :
ـ هل كانت أمنا تملك شيئاً لتتبرع بجزء منه ؟
ـ أعرف أنها تملك سندات فى البنك ..
اكتفى ـ دلالة الموافقة ـ بإيماءة خفيفة من رأسه :
ـ أنفق منها أبى على علاجها ..
ـ تعنى أن أبى حصل على رصيد السندات ..
وهو يومئ ناحية حجرة الأبوين:
ـ اسأله إن كنت لا تصدق ..
ـ هل الرجل هنا ؟!.. إنه حى كالميت ..
ـ لا تخطئ فى أبينا ..
ـ أنا لا أخطئ فى أحد .. إنما أتهمك أنت .
ـ حتى الفيلا سأشتريها من أبى بعقد مسجل ..
بحلق فى دهشة :
ـ كأنه لا يوجد فى حياتك شيء لم تعمل حسابه .
وعلا صوته فبدا كالصراخ :
ـ سيكون عقداً باطلاً ..
دون أن يجاوز هدوءه :
ـ من حقك أن تثبت العكس ..
ـ سافل !
هز سبابته فى وجهه :
ـ لا تنس أنى أخوك الأكبر !
كان المسيو ميكيل ينادى على الأم . يدركون أنه نسى وفاتها . نسى أنها ماتت . يتصور أنها داخل إحدى الغرف .
لوجهه ملامح مسترخية ، وعينان زرقاوان ساجيتان ، وخدان متهدلان مشربان بحمرة ، ونمش يمتد إلى العنق والكتفين . ينزع ـ بين فترة وأخرى ـ شعرة من شاربه . يتأملها بعفوية ، ثم ينترها بإصبعيه . خمن من اتساع بيجامته ، أن جسده كان ممتلئاً .
بدا سريع التأثر ، والتشويح بيده دلالة الاستياء ، أو الغضب .
فسرت دومينيك شرود نظراته بتذكره لمواقف من حياة أمها داخل البيت ، صداها الغرف والجدران وقطع الأثاث واستعادة اللحظات .
قلت أغنياته ، وخفت صوته ، ربما قطع اللحن ، وعاد إلى الصمت والشرود . يشك ماهر أنه يلحظ وجوده .
فى لحظات تنبه وعيه يتحدث إلى ماهر . يستعيد ماضى الزيتون عندما كانت ضاحية تقتصر بناياتها على الفيلات والبيوت التى لا تعلو عن طابقين ..
سأله ماهر :
ـ هل رأيت سراى البرنسيسة ؟
حرك رأسه بالنفى ..
قالت سيلفى :
ـ تحولت إلى مدرسة للبريد ..
قال المسيو ميكيل :
ـ كان أهلها من الطبقة العليا .. سوبر ستارز .. خصصت البرنسيسة لخيلهم سبيلاً فى سور قصرها ..
عرف أن المسيو ميكيل ـ منذ خرج إلى المعاش ـ لم يعد يترك البيت إلا لتسلم المعاش الشهرى . يصحبه أنطوان فى تاكسى إلى الموسكى . ينتظر تقاضيه مبلغ المعاش ، ويعيده إلى البيت ، لا حياة اجتماعية على أى نحو . معظم وقته يمضيه فى الشرفة ، يعبر من حوله بنظراته ، كأنه لا يرى أحداً ، أو أنه مشدود إلى ما لا يراه أحد . يرتفع صوته بالأغنيات الأوبرالية . قد يتجه ـ بخطوات متباطئة ـ إلى المطبخ ، يشرب ، أو يأكل مما يجده فى الثلاجة .
تصور ـ أيام معرفته الأولى بالأسرة ـ أن أمور البيت كانت فى يد الأم ، هى التى تفصل ، وتقرر ، وتسيطر ، وتفرض روحاً استبدادية .
لم يكن المسيو ميكيل ضعيف الشخصية أمام آراء السيدة كاترين وتصرفاتها . كان أميل إلى التسامح ، وإلى ملاحظة الحياة أكثر من أن يعنى بالمشاركة فيها . جزيرته الخاصة يحيطها ، ويملأها ، بالأغنيات الأوبرالية . يراجع واجبات سيلفى المدرسية . يناقشها فى أجوبتها . ويعيب عليها رداءة خطها بالفرنسية . يجلس إلى مائدة الطعام فى المواعيد التى تحددها الأم ، لا يشارك فى المناقشات ، يكتفى بإيماءة ، أو بكلمات مقتضبة ، فى الرد على الأسئلة . أحيل إلى المعاش ، فهو يعيش رحلة ما قبل النهاية ، مرحلة انتظار ما يغيب بحياته .
أصر على رفض اعتزام الأم وضع سلك شائك حول سور الفيلا : هل قفز الجيران على بيتنا من قبل ؟ لماذا يقفزون الآن ؟
قال ماهر لسيلفى :
ـ أنطوان وجان هما سليم الأول وطومانباى فى التاريخ . شنق الأول الثانى ، لأنه رفض التنازل !
ثم وهو يظهر الحيرة :
ـ أخشى أن ذلك ما سيحدث بين الأخوين .
تأملته عيناها بارتياب :
ـ ماذا تقول ؟.. أنطوان يقتل جان ؟!
رسم ابتسامة مهونة :
ـ لا أقصد القتل بهذا المعنى . أقصد أنه ربما أخذ منه كل شئ ..
لم يشعر تجاه أنطوان ـ منذ زيارته الأولى إلى البيت ـ بمشاعر طيبة .
تسرب إلى صوتها نبرة حزن :
ـ أنطوان أخذ كل شئ بالفعل .. الفيلا ومجوهرات أمى وودائع أبى فى البنك .. كل شيئ !
ـ هل تكتفون بالفرجة ؟
قالت فى حزنها :
ـ أمى ماتت .. وأبى فى دنياه يغنى .
وجد فى تصرفات أنطوان ما يفسر إصرار سيلفى على التمرد ، ما يرد على إلحاح السؤال : لماذا ترفض ؟!
تعددت زياراته إلى البيت .
يهبط من الأوتوبيس على ناصية شارع السلطان سليم الأول . يميل من جانب سراى الطاهرة إلى الشارع . يخلّف وراءه المسلة الفرعونية وسط الحديقة الواسعة . يسير فى الشارع إلى تقاطعه مع شارع نصوح الهندى . يرفع رأسه ـ بعفوية ـ إلى برج الكنيسة الذى يمتد ظله ، وظل الأشجار الكثيفة داخل الحديقة ، على الطريق ، ويتقلص ، بارتفاع أوقات النهار . يميل فى شارع نصوح الهندى ، حتى الفيلا ـ فى نهاية الشارع ـ محاطة بالسور الحديدى والأغصان والأشجار العالية .
يخوض ـ مع المسيو ميكيل ـ حوارات لا تنتهى عن معنى الحياة والموت : إذا كان قدرنا أن نموت ، فلابد أن نموت .. الموت يعنى أننا لم نعد أحياء ، هذا كل ما فى الأمر .. إذا جاء الموت فإن كلمة كان تجعل كل الأسماء والأحداث ذكرى ، تصبح ماضياً .. نحن نعيش تحت الضوء أعواماً محدودة ، ونعيش فى الظلام إلى الأبد ..
يهمل نظرة يثبتها الأب فى عينيه ، يظل يتابعه بها .
اختفى عمره الحقيقى خلف ملامحه الهادئة ، وعينيه الصافيتين ، وغزارة شعر رأسه ، وذقنه التى يحرص ـ كل صباح ـ على حلاقتها . قالت سيلفى إنه فى المعاش منذ سنتين ، وكان قد جاوز الخامسة والسبعين .
لم يسأله المسيو ميكيل : من أنت ؟ ولا لماذا أنت هنا ؟ وما صلتك بسيلفى ؟
يتحدث إليه كأنهما متجاوران فى القطار ، أو فى المقهى ، العلاقة العابرة التى لا صلة لها بما قبل ، ولا بعد ، تستغرق اللحظات فى ذاتها ، وتنتهى .
لاحظ فى نفسه ميلاً للحديث عن لقاءاته بكبار المؤلفين ، راتبه المرتفع ، ظروفه الأسرية الطيبة . أرجع إلحاحه على الحكى إلى شخصية أنطوان المتعالية ، لا يشغله أن الفجوة تتسع بينه وبين الباقين .
حين سأل أنطوان سيلفى عن تعرفها إلى ماهر : أين بدأ ؟ وكيف ؟ ظلت ساهمة .
قال أنطوان فى لهجة ساخرة :
ـ قد أكون رأيته يبيع الكتب القديمة على رصيف جامع العزيز بالله !
واجهته سيلفى بملامح غاضبة :
ـ ماهر يحمل شهادة جامعية لم يحصل عليها أحد فى بيتنا !
اطمأن إلى إحساسه بأن أهل الفيلا ـ حتى عياد ـ لن يكونوا أصدقاءه ، لن يجلس إليهم ، ولا يناقشهم فى أمر ما . بدوا منشغلين عنه بما لا يتبينه . حتى علاقاتهم الشخصية تحوطها الظلال بغلبة العزلة والصمت . كل منهم مشغول عن الباقين .
قال المسيو ميكيل لدومينيك وهى تتهيأ للذهاب إلى الكنيسة :
ـ الله يريد منا أن نتذكره كل الأيام ، وليس يوم الأحد وحده !
قال ماهر :
ـ تتكلم عن الحياة الآخرة ، ولا تتحدث عن الدين ؟
قال المسيو ميكيل :
ـ ينبغى أن يكون تدينى عن إرادتى الحرة !
وشاعت فى صوته نبرة تسليم :
ـ أنا لا أحب الدين ولا أكرهه . إنه حالة علينا أن نتقبلها كما هى .
ثم رفع رأسه كأنه توصل إلى قرار :
ـ أحب الله ، وأومن به ، دون طقوس لا معنى لها ..
وعلا صوته ـ فى اللحظة التالية ـ بغنائه الأوبرالى . لا تشغله النظرات الملتفتة ، أو المتسائلة ، أو الرافضة .
أدرك أنطوان أن الأب لم يعد من هذا العالم ، يحيا فى عالم خاص صنعه لنفسه .
لما اشتد المرض على السيدة كاترين ، تداخلت أوقات صحوها بأوقات الغيبوبة ، الألم والأنين والهذيان والهمسات المتحشرجة .
تكلم المسيو ميكيل بلغة غير مفهومة ، حدس أنطوان أنها الألمانية ، هى لغة الأب التى طالما خاطبه بها فى طفولته ، بقى منها حروف وكلمات وأصداء . رفع الأب يديه فى هيئة المستغيث . تمتم باللغة نفسها . تكررت دعواته المستغيثة ، هى مؤمنة بك ، وأنا أيضاً ، أوقاتنا فى الكنيسة أطول من أوقاتنا فى البيت ، لماذا لا تنقذها ؟
زاد المرض من قسوته حتى الموت . تبدلت تصرفات المسيو ميكيل وتعبيراته . مال إلى العزلة ، لا يأذن لأحد باختراقها . لم يعد يردد الدعوات ، ولا يعنى باستقبال الأب يوحنا ، ولا يدخل فى حوارات مع ماهر فرغلى ، وإن ظل على ترديده للأغنيات الأوبرالية .
يقضى فى الشرفة معظم النهار ، ومساحة من الليل ، يعلو صوته بالغناء ، يتأمل ـ بنظرة غير محدقة ـ تكاثف الأشجار أمامه ، وحركة المرور القليلة فى الشارع الصغير الموصل بين نصوح الهندى وسنان ، وما بداخل النوافذ المفتوحة فى البيت المواجه .
دفع المسيو ميكيل أنطوان وجان للحصول على دبلوم التجارة الثانوية ، ثم ألحقهما بالبنك . أهمل احتجاج الأم وصراخها . إذا كانت الوظيفة هى الهدف ، فقد حصلا على وظيفة يفوق راتبها ما يحصل عليه أصحاب المؤهلات العليا . أهملت الأم حزنها على اكتفاء الأب بقصر تعليم الولدين على المرحلة الثانوية . تمنت أن يواصلا تعليمهما الجامعى .
أضاف إلى حزنها قعود دومينيك فى البيت ، بعد حصولها على الابتدائية . خافت السيدة كاترين من تأثيرات المرض . ماذا لو أن الغيبوبة أصابتها فى المدرسة ، أو فى الطريق ؟.
وضعت أملها فى سيلفى ، حرصت أن تستكمل دراستها فى " النوتر دام دى زابوتر " ، وتلتحق بالجامعة ، اسم الكلية لا يهم ، المهم أن تحصل سيلفى على الشهادة العليا . اكتفت بالقول : لن تترك سيلفى التعليم حتى النهاية . لم تحدد طبيعة النهاية ، ما إذا كانت ستكتفى بشهادة الثانوية العامة ، أم تدخل الجامعة ؟
أظهرت الانزعاج لما أخبرتها الراهبة فى " النوتر دام " عن الأجوبة التى كتبتها سيلفى على فخذها فى امتحان اللغة العربية :
ـ هل هذا ما تعلمته من جارنا المزور ؟ هل تريدين دخول السجن مثله ؟
حدثته سيلفى عن جار الطابق الأرضى فى البيت المقابل ، أخ غير شقيق لمطربة وممثلة معروفتين ، خطاط ، يجيد تقليد اللوحات الأصلية ، وإن دخل السجن مرة .
همس ماهر بالسؤال الذى شغله :
ـ لما دعوتنى إلى زيارتكم ، هل كنت تعرفين أنى سألتقى بأبيك ؟
ـ طبعاً .
ـ ماذا عن قتله بأيدى المصريين ؟!
شوحت بيدها :
ـ انس !
عرف أن الكثير مما روته له سيلفى ـ قبل أن تدعوه لزيارة البيت ـ لم يكن حقيقياً ، وأنها ـ دون أن يدرك السبب ـ كذبت عليه .
هل أرادت أن تحسن تقديم أسرتها ؟ هل خشيت من فقده ؟ هل كذبت لأن هذه هى شخصيتها ؟ . ليست دميمة فتحاول التعويض بالاختلاق ، واختراع ما ليس صحيحاً .
لماذا تكذب إذن ؟!