*في المدى قنديل يضيء*
.....................................
(1)
ها نحن جميعاً قدْ خرجنا من سجون السلطة، وتبوّأنا المناصب، وكان الوقوفُ خلفَ الحكم الوطني وتأييده مدخلاً لنا .. في المشاركة في حكم ثوري حلمنا به منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية، بل منذ ثورة 1919.
صار أحدُنا رئيساً لقطاع السينما، وصار الثاني مشرفاً على هيئة المسرح، وثالث رئيساً لمجلس إدارة إحدى الصحف، وهاأنا قد صرتُ مديراً للرقابة على المسرح.
أنا واحد منهم ومعهم، فلماذا يتهمونني بالتحمس لنص «الأستاذ وتلميذه» .. الذي كتبه رفيقنا القديم حسام منير الذي أخذ بأيدينا جميعاً إلى دروب النضال، وعلمنا كيف نحلم بالتقدم، والغد؟! .. لكنه بعد قضاء عدة سنوات بالسجن، ترك القاهرة وعاد إلى طنطا، ليُدير مدرسة إعدادية، وهو على مشارف الخامسة والخمسين، يعيش وحيداً دون زوجة أو ولد، فقد ماتت زوجته وهو في السجن، ومات ابنهما الوحيد من عدة أعوام تحت عجلات سيارة طائشة!! .. موت أقرب إلى الاغتيال.
اختار أن يكون قنديلاً بعيداً يُضيء درباً ما من دروب الوطن الرحب، والمُترامي الأطراف.
يقول عنه أحباؤه وعارفوه إنه شمس ٌ تُضيء المدى، في تجرد وإخلاص نادرين.
(2)
قدّم حسام منير نصه المسرحي منذ ثلاثة شهور، ووضع له عنواناً صارخاً «لماذا انهزمنا؟»، فاقترحتُ عليه أن يعدِّله، فكتب فوقه بالقلم الجاف «الأستاذ وتلميذه».
قالت لي جميلة عودة:
ـ لماذا لا يريدون عرض هذا النص المسرحي الجميل، الذي قرأته في جلسة واحدة، فرأيته يضع يديه على الجرح الذي سالت منه دماء غزيرة؟
فصمتُّ!
أضافت:
ـ .. لعل السبب أنه مازال مُحافظاً على انتمائه الحزبي، لذلك الحزب السري، ولم ينضم معنا ـ أو مع قوافل المنضمين ـ للاتحاد الاشتراكي.
وخرجت إلى مكتبها لتُجري مهاتفة.
.. لم تعرف المسكينة أنه ترك الحزب الشيوعي، وفارقه للأبد!!
قال لنا الأستاذ حسام منير حينما سألناه بعد الخروج من السجن من ثلاثة أعوام:
ـ لماذا لا تجيء معنا إلى الاتحاد الاشتراكي؟
ـ أنا سأعود إلى طنطا لأربي أجيالاً مؤمنةً تصنع الغد، وأقرأ التاريخ الذي هو حبي ومهنتي.
ـ والعمل السري؟
ـ كفرتُ به بعد أن رأيت من تاجروا به يصلون إلى المناصب، ويتمسكون بها كأنها غاية المراد من أحلام العباد.
ـ وما رأيك في الانضمام إلى حزب عبد الناصر؟
ـ تقصدون الاتحاد الاشتراكي؟
ـ وهل هناك غيره؟!
يرجع برأسه إلى الوراء، ويضحك ضحكة مشروخة، ويضرب يده اليمنى باليسرى لتُحدث فرقعة صاخبة:
ـ إنه لا حزب ولا يحزنون.
ويُضيف مكتئباً:
ـ إنه شيء .. بلا لون ولا طعم ولا رائحة!
قلت مبتسماً، وأنا أضع فمي على أذنه:
ـ هل ستكوِّن خلايا شيوعية جديدة؟
انتفض كمن به مس:
ـ لم أعدْ شيوعيا يا أستاذ!
فاجأتني لهجته، فتلفتُّ حولي، وقلتُ له:
ـ اطمئن .. لم يسمعنا أحد!
قال مبتسماً:
ـ يا أستاذ أنا لم أعد شيوعيا!
قلتُ له:
ـ هل أثَّر فيك الإخوان في المعتقل؟
ـ لستُ منهم، لكنهم ـ كثَّر الله خيرهم ـ أوقدوا فيَّ شمعة الإيمان من جديد! .. وأعادوا لي الأمل في الحياة في ظلال العقيدة!
(3)
هانحن ـ في منتصف أبريل 68 ـ نجتمع لقراءة نصه الذي يبدو عند البعض مُلغزاً ومثيراً، بعد هزيمة يونيو القاتلة، و«بيان مارس» الذي أذاعه عبد الناصر، وخطط فيه بجرأة وطموح للمستقبل.
أقول: فلنبْدأ به .. بإبداء المُلاحظات على النص، أو تلقي آراء من طالعوه.
لكنهم يضحكون، ولا يريدون أن نقرأ شيئاً، ويقترحون الرفض، وبلا سبب!
الرفض بدون قراءة لنص أستاذهم الذي علمهم كيف ينظرون إلى الغد؟ .. لماذا؟
لأنه رفض أن ينضم إلى الجوقة؟!
أم لعودته إلى الدين؟
...
النص يدور حول ثوريين قديميْن، يتاجران بهموم الناس، ويلوكان كلمة «الاشتراكية» بإدمان غريب، ويبيعان الكلام في سوق أشبه ما تكون بسوق نخاسة عصريٍّ!
لماذا يخاف من النص الرفاق السابقون الذين يتربّعون على قمة هرم السلطة؟! ويتعاونون ـ أو هكذا يقولون ـ مع أركان نظامٍ يُحاولون ابتلاعه إذا وجدوا الفرصة الملائمة لذلك .. والنظام يستعصي على مُحاولاتهم!!!
ظل النظامُ قادراً على الانتماء لتراب هذه الأرض.. وحتى وهو يترنَّح بعد الهزيمة، لم ينس أن الرفاق انضموا إليه بصعوبة، وكانوا يؤثرون أن ينضموا إليه كمنظمات لا أفراد!
هل النصُّ يفضح هؤلاء حقيقة كما قالت لي أمس جميلة عودة رئيسة لجنة القراءة ومساعدتي (مساعدة مدير الرقابة)؟!
يضحك الناقد الجامعي البدين (الدكتور سعد زهران)، القارئُ المتعاون، الذي كان رفيقاً لنا من قبل. وهاهو في رجعيته المقيتة يدَّعي أنه يُحافظ على أخلاق الشعب من الانهيار الذي ستأتي به مسرحية، بطلها رجلان ينهبان الشعب ويتشدقان بالكلمات الكبيرة التي لا تُشبع جائعاً، ولا تُشارك في صدِّ هجوم الصهاينة الذين يستحمون الآن في قناة السويس!
.. متى كانت لك أخلاق يا وغْد؟!!
وهل ترفض نص الأستاذ حسام منير لأنه يفضح أمثالك من المتسلقين، الذين لا يُبصرون إلى مدى أكثر من رغباتهم الشخصية؟
يقول:
ـ كان من الأفضل أن يجعل في المسرحية بطلةً من الطبقة الكادحة .. تغسل في البيوت حتى تربي أولادها، ومخدومها (أو أستاذها) يريد الزواج منها، لأنه معجب بكفاحها!
أو يكتب عن عامل أو فلاح ابنه يُقاتل على الجبهة.
قلتُ في لومٍ لهم:
ـ اكتبوا أنتم هذا النص .. أو هذه النصوص لنقدمها على مسرح الدولة .. نحن تقرأ نصوصاً ولا نقترح موضوعات!
تخرج جميلة عودة .. وينفضُّ الرفاق مصرين على الرفض دون قراءة، ويبقى صبري جميل وسعد رمضان.
صبري يغني لرمضان أغنيته المفضلة:
ـ ماذا يشغلك الآن يا سعد؟!!
ـ لا شيء!
ـ كنتُ أريد أن أسألك ..
ـ تفضل ..
يسأل في صوت هادئ، كمن يُحدث نفسه:
ـ ماذا يريدُ أن يقول صراحةً هذا النصُّ الذي رفضناه؟
ينفعل سعد رمضان، ويندفع خارجاً من الباب:
ـ إنه يفضحنا يا صبري .. ولذا كان لا بد من رفضه.
.. وصبري يسألني غير مصدق:
ـ هل يقول ذلك حقيقة؟
أجبتُ، وأنا أحاول أن أخفي غضبي:
ـ لا أدري؟ ..
قال في ود حقيقي:
ـ عمّ يتكلم إذن؟
ـ إنه يرينا أستاذاً وتلميذه وهما يتكلمان ويتكلمان ويتكلمانِ .. دون أن يفعلا أي شيء .. أي شيء .. أو أي فعل حقيقي؟
قال صبري ضاحكاً:
ـ وما الضرر في كلامهما؟ .. لقد تكلمتُ أنا أيضاً مع الأستاذ حسام منير من يومين هاتفيا، وطلبت منه أن يعود إلى القاهرة، وطلبتُ منه أن يتزوّج شغّالة مسكينة تعمل عند جاري، بدلاً من أن يُضيع حياته في طنطا، يُعلِّم الأطفال! .. وضحكنا وتبادلْنا كثيراً من النكات!!
.. ويقلب صفحات النص ـ دون قراءة ـ ويقول في اشمئزاز ظاهر:
ـ مسكين!! .. سيضيع عمره في الكلام .. أضاع معظمه في الحديث والتبشير بالشيوعية .. وسيُضيع القليل الباقي في ذمِّها، وهو يُحاول أن يُخرجُ أفضل ما نسمعُ من كلماتٍ ثوريّةٍ؟!!
قام في تثاقل يستأذن:
ـ أنا أقسم لك أنني لم أره منذ إغلاق خليج العقبة قبل حرب الأيام الستة، منذ أحد عشر شهراً تقريباً، وهو ـ كما يبدو ـ مكتئب .. لماذا يكتب إذن إذا كانت كلماته تشبه الطعنة فينا أو تُشبه شهادة الزور ونحن تلاميذه؟!
قلتُ معترضاً:
ـ أولاً أنت لم تقرأ النص لتحكم عليه، وثانياً: ألم تقل من دقيقة واحدة إنه كان يتبادل النكات معك أمس؟
قال وكأنه بوغت:
ـ أنا الذي كنتُ أقول النكات في الهاتف، وكان يُشاركني الضحك أو التعليق.
قلتُ له وأنا أشعر بغثيان:
ـ لماذا تخافون من النص وصاحبه قد ترك القاهرة لكم، وذهب إلى موطنه في طنطا، وترك لكم الجمل بما حمل؟!
.. ولم يُجب!!
.. استأذنتُ منه، وأغلقتُ النص المسرحي، وغادرتُ قاعة الاجتماع التي كانت تفوح منها رائحةُ اغتيالٍ خبيثة!!
ديرب نجم 20/8/2000م