- 10 -

طارت بى الدنيا ـ رغم تأثرى ـ لأنها باحت لى بالسر الذى تحتفظ به لنفسها . بما حرصت ألا ترويه لأحد ..
لماذا اختارتنى من بين كل الذين تعرفهم لتحكى لى أسرارها ؟
أثق أنها تعرف كثيرين . تتناثر فى كلماتها أسماء كثيرة ، وأحداث شارك فى صنعها من لا أذكرهم ، لكنهم ـ بالتأكيد ـ يملأون ذاكرتها ..
هل هى صادقة فى تحذيرها لى ؟ . قالت : إنى إذا أعدت رواية الأسرار التى ائتمنتنى عليها ، فستكون الأسرار قد جاوزت اثنين ، فعرفها ثالث ؟ .. وانغماسها فى الأحاديث الهامسة مع العجوز ، ألا يسرق ما تتصور أنها كتمت صدرها عليه ؟
أيقنت ـ فى لحظة لا أذكرها ـ أنى لم أعد أعرف أحداً ، ولا شيئاً ، فى الدنيا سواها . ألتقى بالآخرين ، أحادثهم ، أسير فى الشوارع ، أقف على شاطئ البحر ، أتلقى الرسائل من القرية ، أحيا كما يحيا الناس . لكن صورتها وحدها هى التى تشغلنى .
ما نتبادله فى أحاديثنا يشى بالصداقة ، لكنه لا يتطلع إلى تسمية ، أو تسميات ، أخرى ..
الحب !..
شعرت أنى أحبها . لا يشغلنى فى هذا العالم سوى أن تكون لى . لا تشغلنى القراءة ولا الكتابة ولا الآراء المؤيدة أو المعارضة ، ولا فرص النشر ، ولا عملى عند فيصل مصيلحى ، ولا أى شئ . أن أكون محباً لها ، محبوباً منها ، هو ما يهمنى . تهاوى جدار السر بينى وبينها ، أعطى كل منا نفسه للآخر بالفضفضة ، ورواية ما كان يعتبره شأنه الشخصى .
أنا أحبها .
أتصور أنى أرى الحب فى عينيها . أثق أنها تبادلنى الحب ، وإن لم تهبنى ما أحيا على توقعه : كلمة ، أو إيماءة ، أو نظرة ذات معنى ..
هل أحبتنى ؟!..
لم يغب شعورى ، ولا شحب ، ولا تخاذل ، بأنها تضمر لى ما أسميه الحب ، ما أضعه فى إطاره ..
خلت دنياى إلا منها : شعرها الأصفر ، المتموج ، على رأسها وكتفيها ، وعيناها الصافيتا الزرقة ، وأنفها الصغير ، وشفتاها الرقيقتان كورقتى وردة ، وقوامها الذى يستدعى معنى العافية . أصحو ، وأنام ، وأقرأ ، وأكتب ، وأسير ، وأجلس ، وأسأل ، وأجيب ، وأناقش ، وأشاهد . لا تبرح ذهنى . ربما ناقشتها ـ بينى وبين نفسى ـ فيما أكتمه فى داخلى ، لا أقدر أن أواجهها به .
كانت تدير الفونوغراف فى حجرتها على أسطوانات لباخ أو موزار أو بيتهوفن . ترنو ناحيتى . تتأمل انعكاس الموسيقا فى ملامحى . أحببت الموسيقا الكلاسيكية لأنى أحب نورا . تنقلنى إلى أجواء تختلط فيها عيناها ، وابتسامتها ، وخصلة الشعر الملتفة حول إصبعها ، والهارمونى المنساب فى عالم بلا زمان ولا مكان ..
فاجأتنى بالقول ـ ذات مساء ـ ونحن نفترق فى محطة الرمل ـ :
ـ لا إله إلا الله .
قلت بعفوية :
ـ محمد رسول الله .
تنبهت ـ فى اللحظة التالية ـ إلى ما قالت ..
اعتدت ـ فيما بعد ـ قولها : بسم الله الرحمن الرحيم .. اسم الله عليك .. ودين النبى .. وحياة أبو العباس ..
تمنيت أن نتبادل ـ ذات يوم ـ كلام المحبين . يصعب أن أحدسه معها . ماذا أقول ؟ ماذا تقول ؟. لكنه لابد أن يختلف عن كلام المظاهرات ، وذكريات الدكتور جارو ، وقضايا السياسة ، ومراجع رسالة الماجستير ..
عدنا إلى السير فى ميدان المنشية ..
بدا الميدان صامتاً ، ساكناً ، يختلف عن الصورة التى كان عليها يوم الصدام بين المتظاهرين وقوات البوليس . لم يعد إلا قطع حجارة متناثرة ، وفروع أشجار ، وبقع دماء داكنة ..
صحبتنى إلى مكتب البريد الرئيسى بالمنشية . وضعت حوالة الجنيهات الخمسة فى داخل المظروف . كتبت عليه " السيدة الفاضلة والدة صلاح بكر ـ الصوامعة ـ طهطا . أرفقت بالحوالة كلمات ، لمّحت فيها إلى أن العمل قد يأخذ وقتى فى الفترة القادمة .
كيف تستقبل أمى زواجى من نورا ، لو أن أميرتى وافقت ؟
حياتها تختلف عن حياتنا . إنها جميلة بارك الله لك فيها . هى ليست من دينك . هل تعرف أهلها ؟ هل تقبل العيش بعيداً عن الإسكندرية ؟.
حتى لو عارضت أمى ، فإنها ـ هذا هو ما اعتدته ـ ستوافق ، وتبارك ، وتحب نورا مثلما أحببتها ..