مفهوم الجوهر
لجوهر substance مصطلح فلسفي يوناني، ويعني الموجود القائم بذاته لا في موضوع، فلا يحتاج وجوده إلى شيء آخر خارج عنه وكأنه علة ذاته، والمبدأ الأول غير القابل للتحول الكامن في كل الأشياء الموجودة، والذي يظل دون مساس في كل التحولات، متميزاً من الأشياء والظواهر الحسية المتحولة، ويقابله العَرَض accident أي الموجود في موضوع، أو في محل مقوم لما حل فيه.
ولمفهوم الجوهر عند الفلاسفة معاني متباينة في سياق التطور التاريخي للفكر الفلسفي.فالجوهر في الفلسفة الطبيعية اليونانية ما قبل سقراط، هو «الأصل» أو «المبدأ» لكل الموجودات، وهو الحامل الثابت للكيفيات والصفات المتغيرة.ويُفهم الجوهر عند ديمقريطس ضمن تصوره لمفهوم الذرة بوصفها جوهر الوجود، والبنية الأساسية لكل الموجودات.والجوهر عند أفلاطون هو المثال ideal المفارق والشرط الضروري لوجود الصفات وتغيّر المتعينات، فالجوهر الأفلاطوني هو ما يوجد واقعياً والكلي الثابت، الذي يجمع بين الأشياء المختلفة، وهو موضوع التأمل العقلي، أزلي ولا متناهٍ، وذو طبيعة روحانية.والجوهر كما يعرفه أرسطو ذات أو حامل للصفات المتغيرة. ويعرّفه في كتاب «المقولات»: هو «ما لا يسند إلى موضوع ولا يوجد في موضوع». وهذا التعريف تعريف منطقي حيث يعرض للجوهر من خلال مشكلة الإسناد أو الحمل predication على عدِّ الجوهر أحد المقولات، والجوهر بهذا المعنى يصدق على عدة أنواع من الموجود وهي:
- الجوهر الأول (الفرد): وهو الموجود المركب من صورة ومادة (نفس وجسد).
كذلك يصدق الجوهر على المادة التي تتعاقب عليها الأضداد، وتكون موضوع الكون الفساد والحامل للأعراض التي تُلحق بالموجود (أجزاء أجسام الحيوان والنبات والعناصر الأربعة).وأخيراً يصدق الجوهر على صورة الشيء وماهيته essence، ويدخل في هذا المعنى الأجناس والأنواع والتي يدعوها أرسطو بـ«الجواهر الثواني».
ويقسم أرسطو الجواهر إلى ثلاثة أنواع
- أولاً- جواهر حسية فاسدة وهي الأجسام الطبيعية الواقعة في عالم الكون والفساد، والتي تخضع لأربعة أنواع من العلل (المادية ـ الصورية ـ الفاعلة ـ الغائية).
- ثانياً- جواهر حسية سرمدية متحركة في المكان، وهي الأجرام السماوية التي تتركب من عنصر بسيط هو الأثير.
- ثالثاً- الجوهر المفارق وهو الإله أو المُحرك الأول ومبدأ للوجود.
وقد تأثرت فلسفة العصور الوسطى بمفهوم أرسطو حول الجوهر المفارق وحددته بـ«الله» اللامتناهي، الخالق بفعل الإرادة الحرة والمتعال، أما فلاسفة الإسلام، ابن سينا مثلاً، فقد حدد الجوهر على أنه «كل ما وجود ذاته ليس في موضوع، أي في محل قريب قد قام بنفسه دونه لا بتقويمه». أما الجوهر عند المتكلمين، فهو الجوهر الفرد المتحيز الذي لا ينقسم، أما المنقسم فيسمونه جسماً لا جوهراً، ولهذا السبب يمتنعون عن إطلاق اسم الجوهر على المبدأ الأول. أما الفلسفة الحديثة فقد جمعت الصورة والمادة في الجوهر الواحد.فيحدد ديكارت الجوهر بما هو متقوم بذاته، ولا يحتاج إلى أي شيء لكي يوجد، وهو الأول في مرتبة الوجود، وهو الدائم الثابت هو الله.والجوهر في تصور سبينوزا: هو ما كان موجوداً ومتصوراً من خلال ذاته، أي ما كان مفهومه لا يفتقر إلى أي مفهوم آخر ينبغي أن يُستمد منه. فلا يمكن أن يوجد إلا شيء واحد فقط يصدق عليه هذا التعريف وهو الله والطبيعة ككل، وعلى هذا المفهوم يقوم مذهبه في «وحدة الوجود» pantheism.ويقول ليبنتز بعدد لا متناه من الجواهر الروحانية، ويسميها بـ «المونادات» monads، والموناد عنده هو جوهر بسيط فعّال وليس له علاقة عليّة بالعالم الخارجي، أو بالمونادات الأخرى، ما عدا الله، الموناد الأعظم أو «موناد المونادات» على حد تعبيره.أما الجوهر عند لوك locke فهو الشيء المتقوم بذاته والذي تتقوم فيه الأعراض، وهو الحامل للصفات، وله وجود يصعب على الإنسان إدراكه، وكل محاولة لمعرفة ماهية الجوهر أو طبيعته غير مجدية.وقد استهزأ باركلي من فكرة الجوهر، ومهد السبيل مع هيوم والفلاسفة الآخرين إلى إزالة مفهوم الجوهر وعدّه وهماً.أما بالنسبة إلى «كَنت»، فالجوهر هو أحد مقولات العقل القبلية التي نحكم بموجبها على (الظاهرات)، وهو يمثل الثابت والمتغير في (الظاهرات) ذاتها، ولا يتناول الشيء بذاته الكامن في أساس الظاهرات.وقد ظهر في الفلسفة الحديثة دعوات للاستغناء كلياً عن النظرة التقليدية للجوهر بوصفه حاملاً أساسياً للصفات، وللتركيز على أحداث الطبيعة وحالاتها المتغيرة. وهنا تبرز قوانين الطبيعة بوصفها الثابت الذي حل مكان الجوهر القديم مع الوضعية المنطقية.ومع أرنست كسيرار (في كتابه «تصور الجوهر وتصور الوظيفة») يتم الانتقال نهائياً من حقبة الجوهر القديم إلى حقبة الوظيفة الجديدة.