تابع / الفصل الثالث من كتاب "روائي من بحري" لحسني سيد لبيب
.................................................. ..........................
لاحقت الأحداث السياسية وعلقت عليها في مذكراتها ، وبدت حيفا أملا يقترب ويبتعد حسب ما يمليه المناخ السياسي بمدّه وجزره .. ثمة خطان متوازيان حرص الكاتب عليهما : خط اجتماعي هو موضوع الرواية، وخط سياسي عن الأحداث السياسية التي غيرت أوضاع المنطقة العربية في عهد الزعيم جمال عبد الناصر .
ولم أجد مبررا فنيا لحرص الكاتب السوري على سرد الأحداث السياسية، ولو شطبت عشرات السطور من كل فصل لبقي النص الروائي معمارا فنيا متكاملا . ذلك أن سرد الحدث السياسي ، يشبه المذكرة التفسيرية التي لا تهم النص الأدبي . كما أن السرد الإنشائي يجور على البناء الفني ويجترح جزءا لا يستهان به . ولعل المبرر الوحيد لهذا المسرد، هو أن يُسرى تتتبّع بلهفة الحدث السياسي أملا في العودة إلى حيفا . وما دامت يسرى هي الرمز الموحي للوطن السليب، لذا كان تسليط الأضواء على الواقع السياسي، يسرده، خطا موازيا للحدث الروائي . كما أن يسرى مغرمة بمتابعة هذا الواقع، ومطابقة ما يقع لها بما هو واقع في خضم السياسة . وقد كتب ناصيف المسرد السياسي ـ على لسان بطلته ـ وقائع تسجيلية، من صلب عمله الروائي، تتوطد أركانه بحال يسرى . وعمد إلى الإطناب، وأخاله بذلك يرسم جوا يؤهله أن يكون ( كاتب الرواية السياسية ) .. لكنه لم يشأ أن يكون كاتبا سياسيا ( 16 ) .. وكان مبتغاه تتبّع حياة يُسرى وكان يكفيه ذلك، ويغفل المسرد السياسي، ويدع بطلته تروي حياتها هي . ويكون الرمز الموحي أفضل من السرد الإنشائي . و ( يُسرى ) إحدى بنات جيل النكبة، انفعلت بأحداثها، وتحمست لما تسمع وتقرأ، وبنت آمالها على مخطط قومي رسمه الزعيم جمال عبد الناصر، فتجددت هويتها بأنها ناصرية، تجد خلاص أمتها وحنينها إلى حيفا في التوحد العربي ضد المخطط الإمبريالي . يُسرى شخصية شدها الواقع السياسي ، فتابعته بعيون مفتوحة وحس مرهف، حتى أن مذكراتها لم تترك نأمة إلا ذكرتها ، من الخضم السياسي، أملا في الخلاص من واقع مهين . وإذا كان السرد السياسي يمكن حذفه، إلا أنه لا يصح أن نضع قيدا على قلم الروائي. فالسرد السياسي مقصود لذاته ، استكمالا لرسم شخصية ( يُسرى )، وعملا بمقولة مارت روبير : " الرواية الحديثة لا قواعد لها ولا وازع، مفتوحة على كل الممكنات، وغير محدودة من جميع الجوانب إذا صح القول " ( 17 ) .
أما رواية محمد جبريل ( الشاطئ الآخر ) فقد ورد ذكر الأحداث السياسية متضافرة ومتساوقة مع أحداث الرواية، فأكسبتها مصداقية وعمقا . وإذا عقدنا مقارنة بين ( يُسرى رمضان ) و ( حاتم رضوان ) نجد يُسرى ذات حس قومي عال، وتتابع أحداث المنطقة العربية عن كثب ، بل وتسجل وقائعها تفصيلا في مذكراتها . أما حاتم فبعيد كل البعد عن أحداث بلده، بل ويؤثر عدم الخوض في المواضيع السياسية، وإن كانت الأحداث تهم الشخصيات اليونانية التي تعامل معها ! وهو نوع من التناقض قصده الكاتب لبيان انغلاق الشخصية . يتحدث ديمتري والسيدة اليونانية وابنتها فرجينيا وزوجها بيروس في تطورات الأزمة بعد تأميم شركة قناة السويس . وتتشابه ياسمين ، المنتمية إلى فرع الأب المصري ، مع حاتم في بعدها عن السياسة .
ويغرم الكاتب بتحديد بيت أسرة حاتم، الذي تطل شرفته على شارع الميدان، وتطل إحدى حجراته على سيدي الشوربجي، ويذكر المقهى المتواجدة أسفل البيت . كما يذكر مكان عمل حاتم في ( كازينو ) يطل على شاطئ ستانلي . وأفاض في وصف البيت الذي تسكن فيه أسرة ديمتري .. فالبيت من ثلاثة طوابق، ويقع في شارع الكنيسة الأمريكانية، ملاصق للكنيسة الإنجيلية .. وبالقرب من نقطة شريف .. يطل في الجانبين على شارعي سيدي المتولي وتوفيق . وللشقة بلكونة خلفية ينشرون فيها الغسيل، تطل على حارة الدردير .. وهذا الوصف الدقيق حفل به الكاتب لأن حاتم يهتم كثيرا بأسرة ديمتري اليونانية . وإن أسهب في الوصف أكثر من وصف بيت حاتم نفسه، وابتعد عن سياق الرواية . وأما الشقة التي أقام فيها مع أسرة يونانية ، فقد نالت هي أيضا عناية الكاتب . فقد توجه حاتم مع السمسار إلى بيت ملاصق لجامع العطارين، مكون من ثلاثة طوابق، عمارته أوربية، وواجهته تطل على شارع سيزوستريس . الشقة في الطابق الثالث، حيث تقيم الأسرة اليونانية التي سيقيم معها . ولاحظ هنا غرامه بالعدد (3) ـ البيت من ثلاثة طوابق ، وشقة الأسرة اليونانية في الطابق الثالث ـ على النحو الذي لاحظته منار فتح الباب فقالت في هذا : " ولأن الخطوات الأساسية في الحياة في لحظات التحول تقع في مراوحة بين الحياة والبعث ( حياة ـ موت مؤقت انتقالي ـ بعث ) عبر حركة ثلاثية ، فإن تكرار العدد (3) ـ ذلك العدد السامي المقدس القديم ـ وتردد الأفعال ثلاث مرات سمة أسلوبية بارزة للغاية في بنية اللغة التي تمرس محمد جبريل في توظيفها جيدا.."( 18 ) . ولعل الكاتب لم يقصد هذا التفسير ، فجاء مقصد ناقد ، أو هي رمية من غير رام، فما أعرفه أن الكاتب شاء أن يرسم بقلمه الواقع المعيش في حي ( بحري ) . وقد أومأت الكاتبة بعقيدة التقديس المسيحية في سياق كلامها عن أن العدد (3) مقدس . ويعكف الكاتب ـ كما حدثني في أحد لقاءاته ( 19) ـ على كتابة ( في القلب منازل ) ، ويدور الموضوع حول المنازل التي عاش فيها الكاتب والأثر الذي تركه كل منزل . وهذا يدلنا على ولعه بالسكن مكانا يستقر فيه ويتكيف معه . كما أن الإسكندرية مكانا وموطنا استأثر بحبه وهواه فكتب عديدا من الروايات عن الإسكندرية ، وتحديدا في منطقة بحري التي عاش فيها الكاتب . علاوة على الروايات التي نشرها عن الإسكندرية : الصهبة ، و قاضي البهار ينزل البحر، و الشاطئ الآخر ، ورباعية بحري ، فثمة روايات أخرى تتخذ الإسكندرية مسرحا لأحداثها وفي طريقها إلى النشر ( 20) ، هي : ( المينا الشرقية ) و ( مد الموج ) و ( نجم واحد في الأفق ) .. علاوة على ما كتبه من قصص قصيرة وفي كتابه ( حكايات من جزيرة فاروس ) .. وهذه الكثرة من الأعمال عن الثغر العريق ، يضع صاحبها في مقدمة الكتّاب السكندريين الذين تركز عطاؤهم في البيئة التي نشأوا وتربوا فيها ، وقد سبقه نجيب محفوظ وفعل الشيء نفسه وأعطى الاهتمام لحي الجمالية العريق وما حوله من أحياء . وهذا الاهتمام يعطي للعمل مصداقية أكثر مما لو لجأ الكاتب إلى الكتابة عن بيئة غير تلك التي عاش فيها . لهذا كانت الإسكندرية هي المكان الأثير لمحمد جبريل . هي مسقط رأسه . لا ينساها أبدا ، رغم سكنه في القاهرة ، إلا أنه دائم السفر إلى الثغر ، وما من مرة أسال عنه إلا أجده عائدا من هناك، أو على أهبة السفر! فالإسكندرية تشكلت في وجدانه وباتت حبه وهواه .
ورواية ( الشاطئ الآخر ) تدور أحداثها في الإسكندرية، حيث تعيش الجالية اليونانية بنسبة عددية كبيرة .. وثمة جاليات أخرى تعيش هناك ، لكن اليونانيين يشكلون الغالبية . يرحل اليوناني إلى الثغر المصري ـ أو الشاطئ الآخر ـ لقربها من بلده، وتاريخها العريق، منذ أيام الإسكندر المقدوني . وتتزاحم في هذا المكان أثار العهود الماضية ، يبلور الصورة في نهاية الرواية على لسان حاتم : " مسحتُ الميدان بعينين قلقتين : مبنى الاتحاد القومي، وتمثال محمد علي ، والكنيسة الإنجيلية، وبقايا عصر إسماعيل في البنايات ذات الطراز الأوروبي، والنخل السلطاني ، والحديقة المستطيلة، وزحام الترام والأوتوبيسات والسيارات والحانطور والكارو والمارة، وسراي الحقانية، والقهاوي، ومكتبة دار المعارف، ودكاكين الطعام والأقمشة والأدوات المنزلية .. " ( 21). وتبين الفقرة زحام الميدان بالمركبات والأبنية والمارة والدكاكين .. وتبين الأعصر التي توالت عليه وتركت بصماتها .. عصور قديمة وحديثة، وحكام تركوا آثارًا تدل عليهم في تلك البقعة الصغيرة .. ميدان المنشية ، ذلك المكان الذي شهد إطلاق الرصاص على جمال عبد الناصر ، وشهد أيضا إعلان تأميم شركة قناة السويس .
والرواية في إطارها العام هي، كما وصفها الناقد الدكتور علي الراعي : " رواية تجمع في اقتدار بين الرومانسية والواقعية في اتزان جميل " ( 22 ) .
الهوامش:
1-محمد جبريل : الشاطئ الآخر ـ مكتبة مصر ـ القاهرة 1996 ـ 128 صفحة.
2- كتاب ( محمد جبريل .. موال سكندري ) : دراسات بأقلام الأدباء ـ دراسة منار فتح الباب : (الخطاب الروائي عند محمد جبريل ) ـ ص 7، 10.
3-محمد جبريل : هل ؟ ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ سلسلة ( مختارات فصول ) ـ عدد 42 ـ يوليو 1987 ـ ص 69 / 72.
4-مجلة ( الثقافة الجديدة ) ـ أكتوبر 1996 ـ مقال ( الهروب نحو الشاطئ الآخر ) ـ ص 12.
5-الشاطئ الآخر ـ ص 22.
6-مقال ( الشاطئ الآخر بين جبريل وكفافيس ) ـ جريدة ( الأهرام ) ـ عدد ؟ ـ ص ؟.
7-الشاطئ الآخر ـ ص 84.
8-المصدر السابق ـ ص 58.
9-المصدر السابق ـ ص 68.
10-المصدر السابق ـ ص 70.
11-المصدر السابق ـ ص 73.
12-المصدر السابق ـ ص 94، 95.
13-المصدر السابق ـ ص 95.
14-المصدر السابق ـ 97، 98.
15-عبد الكريم ناصيف : الحلقة المفرغة ـ ط 1 ـ دمشق 1984، ويرجع تاريخ كتابتها إلى عام 1972م.
16-للكاتب ثلاث روايات أخرى لم نتعرض لها : ( العشق والثورة ) عام 1989، و ( المخطوفون ) عام 1991، و ( في البدء كانت الحرية ) عام ؟.
17-مارت روبير : رواية الأصول وأصول الرواية ـ ترجمة : وجيه أسعد ـ اتحاد الكتّاب العرب بدمشق 1987 ـ ص 64.
18-محمد جبريل .. موال سكندري ـ ص 9.
19-لقاء سبتمبر 1999م.
20-نفسه.
21-الشاطئ الآخر ـ ص 126.
22-مقال ( محمد جبريل في " الشاطئ الآخر " : رواية الاتزان الفني الجميل.. ! ) ـ جريدة (الأهرام ) ـ عدد 1 ديسمبر 1996 ـ ص 22.