تميل اللغة العربية إلى التخلص من توالي المقاطع المتماثلة ، فتحذف واحداً منها ؛ وذلك ما يسميه الألمان
(( Haplologische Silbenellipse )) ويسميه اللغويون العرب بكراهة توالي الأمثال ..
ونقصد بالمقاطع المتماثلة هنا ، ما يشمل المقاطع ذات الأصوات الصامتة المتماثلة أو المتقاربة في المخارج .
ويحدث ذلك في أول الكلمة أو في وسطها أو في آخرها ، كما أن العربية تميل أحياناً إلى التخلص من توالي الأصوات المتماثلة سواء كانت حركات أم أصواتاً صامتة ، وإن لم تكن المقاطع متماثلة .
والسبب في هذا صعوبة تتابع المقاطع والأصوات المتماثلة في النطق .
ويقول (( بروكلمان )) : " إذا توالى مقطعان ، أصواتهما الصامتة متماثلة أو متشابهة جداً ، الواحد بعد الآخر في أول الكلمة ، فإنه يكتفى بواحد منهما بسبب الارتباط الذهني بينهما " .
ويعد (( برجشتراسر )) هذه الظاهرة من الترخيم ؛ فيقول : " ومن الترخيم ما هو جنس من التخالف ، وهو حذف أحد مقطعين متتاليين ، أولهما حرفان مثلان أو شبهان " .
وفيما يلي شرح لهذه الظاهرة في العربية :
1. صيغ تَفَعَّلَ وتَفَاعَلَ وتَفَعْلَلَ مع تاء المضارعة :
يتكرر فيها المقطع (ta) في بدايتها مثل : (( تتقدم )) و (( تتقاتل )) ...
وحذف أحد هذين المقطعين كثير الورود في العربية وقول ابن مالك في ألفيته :
وما بتاءين ابتدى قد يقتصر ..... فيه على تا كتبيَّنُ العبر
( قد ) فيه للتحقيق ، أو للتقليل النسبي ، وقد ذكر الأشموني في شرح البيت أن " هذا الحذف كثير جداً " .
وهذه الظاهرة شائعة في القرآن الكريم ؛ فقد وردت كلمة (( تَذَكَّرُون )) 17 مرة بالحذف في مقابل (( تَتَذَكّرُون )) 3 مرات بدون حذف .
قال تعالى : (( أفلا تذكَّّرُون )) في سورة يونس في مقابل قوله تعالى : ((أفلا تتذكَّرُون)) في سورة الأنعام .
وفيه المضارع (( تَوَلَّوْا )) خمس مرات ‘ في مقابل (( تَتَوَلَّوا )) أربع مرات .
أمثلة :
من القرآن الكريم :
قوله تعالى : (( وإن تَوَلَّوْا )) في سورة هود ، وقوله تعالى : (( وإن تَتَوَلَّوا )) في سورة محمد .
وفيه إلى جانب ذلك كثير من الأفعال ، التي ذكر كل واحد منها مرة واحدة بالحذف مثل قوله تعالى : (( فَظَلْتُم تَفَكَّهُون )) في سورة الواقعة والأمثلة كثيرة جداً في القرآن الكريم ...
من النثر :
قول ابن هشام في سيرة النبي : " فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تَصَوَّبُ من العَقَنْقَل " .
وهذا الحذف ضروري عندما تتوالى ثلاثة مقاطع فيها التاء .
من الشعر :
قول كعب بن زهير :
فما تدوم على حـــالٍ تكـــون بها ..... كما تَلَوَّنُ في أثوابها الغـولُ
وما تمَسَّكُ بالوصل الذي زعَمَتْ ..... إلا كما يمسك الماء الغرابيلُ
2. نون الأفعال الخمسة (( يفعلون وتفعلون ويفعلان وتفعلان وتفعلين )) مع نون الوقاية قبل ياء المتكلم ، أو مع ضمير المتكلمين المنصوب .
وكذلك الفعل المسند إلى نون النسوة قبل هاتين الحالتين ، وهذه الظاهرة كثيرة الورود في الشعر .
أمثلة :
من الشعر :
قول الأعشى :
أبالموتِ الذي لابدَّ أنِّي ..... مُلاقٍ لا أباكِ تُخَوِّفِيني
أي تخوفينني .
من النثر :
قول ابن هشام :
" ما الذي تهنئونا به ؟ " وقوله كذلك : " فقال لهم : أفلا تعطوني ؟ " .
وفي حديث رواه البخاري في الباب الخامس عشر من كتاب الشهادات في صحيحه ، على لسان عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك أنها قالت : " ولئن قلت لكم إني لبريئة ، والله يعلم أني لبريئة ، لا تصدقوني بذلك " .
3. إنَّ وأنَّ ولكنَّ وكأنَّ ولعلَّ مع نون الوقاية قبل ياء المتكلم ، أو ضمير المتكلمين المنصوب :
أمثلة :
قول جميل بن معمر العذري :
فقالت لعَنَّا يا جميل نبيعه ..... وآجالنا من دون ذاك قريبُ
والحذف مع هذه الأحرف هو الشائع في القرآن الكريم ؛ ففيه مثلاً بالحذف لا غير : (( وأنّا )) 8 مرات ، (( فإنّي )) 6 مرات (( أئنّا )) 10 مرات ، (( فإنّا )) 10 مرات ، (( ولكنّي )) 4 مرات ، (( ولكنّا )) مرتين ، (( لعلّي )) 6 مرات.
وفيه كذلك : (( أنّا )) 17 مرات ، في مقابل : (( أنّنا )) مرة واحدة ؛ (( بأنّا )) مرتين ، في مقابل : (( بأنّنا )) مرة واحدة ؛ (( إنّي )) 124 مرة في مقابل : (( إنّني )) 6 مرات ، (( وإنّي )) 13 مرة ، في مقابل (( وإنّني )) مرة واحدة ، (( إنّا )) 53 مرة ، في مقابل : (( إنّنا )) 5 مرات ؛ (( وإنّا )) 33 مرة ، في مقابل : (( وإنّنا )) مرة واحدة .
4. الأفعال الخمسة إذا اتصلت بها نون التوكيد :
والحذف هنا لازم مطرد في العربية .
يقول ابن عقيل : " الفعل المؤكد بالنون ، إذا اتصلت به ألف اثنين ، أو واو جمع ، أو ياء مخاطبة – حرك ما قبل الألف بالفتح ، وما قبل الواو بالضم وما قبل الياء بالكسر ، ويحذف الضمير إن كان واواً أو ياءً ويبقى إن كان ألفاً ؛ فتقول : يا زيدان هل تضربانِّ ؟ ، ويا زيدون هل تضربُنَّ ؟ ، ويا هند هل تضرِبِنَّ ؟ ، والأصل : هل تضربانِنِّ ، وهل تضربونَنَّ ، وهل تضربينَنَّ ؛ فحذفت النون لتوالي الأمثال ، ثم حذفت الواو والياء لالتقاء الساكنين فصار : هل تضربُنَّ ، وهل تضربِنَّ ، ولم تحذف الألف لخفتها فصار : هل تضربانِّ .
وبقيت الضمة دالة على الواو ، والكسرة دالة على الياء " .
5. كلمة ( بَنو) الداخلة على معرف باللام القمرية :
مثل : بِلْحارث ، وبِلْهجيم ، وبَلْعَنبر ، وبِلْقَين ، يعني : "بنو الحارث وبنو الهجيم وبنو العنبر وبنو القين" .
أمثلة :
ذلك كثير الورود في كتب التراث العربي ؛ ففي تاريخ الطبري :
" وأقبل رجلان أخوان من بَلْقَين ، يقال لهما : ملك وعَقِيل " .
وفي طبقات ابن سعد : " قالوا : إنَّ بَلْمُصْطَلق من خزاعة " .
6. دخول حرف الجر ( على ) على معرف بأل القمرية :
أمثلة :
قول الفرزدق :
وما سبق القيسىُّ من ضعف حِيلة ..... ولكن طَفَت عَلْمَاءِ قُفْلَة خالدِ
وقول شاعر :
وللْمَوْتُ خيرٌ لامرئٍ من حياته ..... بِدَارَة ذُلٍّ عَلْبَلايَا يُوقَّرُ
يُراد في الأولى : على الماء ، وفي الثانية على البلايا
7. دخول حرفي الجر ( من ) و ( عن ) على معرف بأل القمرية :
قال ابن منظور : " قال أبو اسحاق : ويجوز حذف النون من ( من ) و( عن ) عند اللف واللام ، لالتقاء الساكنين ، وحذفها من ( من ) أكثر من حذفها من ( عن ) ؛ لأن دخول ( من ) في الكلام أكثر من دخول ( عن ) . "
أمثلة :
قول ابن ميادة :
وما أنس مِلْأَشْياء لا أنس قولها ..... وأدْمُعُها يُذْرِينَ حَشْوَ المكاحلِ
وقد كثر ذلك في شعر عمر بن أبي ربيعة ومن ذلك قوله :
فما أنس مِلْأَشْياء لا أنس موقفي ..... وموقفها وَهْناً بقارعة النخل
مِلْأَشْياء : أصلها من الأشياء ..
8. الفعل ( استطاع ) ومضارعه :
أمثلة :
من القرآن الكريم قوله تعالى :
((ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا )) سورة الكهف ، آية ( 82 ) .
وقوله تعالى :
(( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا )) سورة الكهف ، آية ( 97 ) .
من الشعر :
قول عدي بن زيد العبادي :
ولا تُقْصِرَنْ عن سعى من قد ورِثْتَهُ ..... فما اسْطَعْتُ من خير لنفسك فازْدَدِ
9. مصغر ( ابن ) عند إضافته إلى ياء المتكلم :
وهذا الحذف لازم إذ يقال دائماً :
(( بُنَيٌّ )) وأصله : (( بُنَيِّيٌ )) ..
10. مثال : ميّت ، وهيّن ، وليّن ونحوهما :
إذ تخفف أحياناً فيقال :
مَيْت ، هَيْن ، لَيْن . وهذا معناه حذف المقطع : (yi) فراراً من تكرار الياء .
مثال :
وردت كلمة (( أَيِّم )) بالتخفيف في بيت العجاج :
وبطن أَيْمٍ وقواما عُسلجا .
11. عبارة أَيْمُنُ الله :
يقال فيها :
(( أَيْمُ الله )) ..
12. كلمة (( لله )) :
يقال فيها : (( لاهِ )) ؛
مثال :
قول ذي الإصبع العدواني :
لاهِ ابنُ عمك لأفضلت في حسب ..... عنِّي ولا أنت ديِّاني فتَخْزُوني
13. الفعل المضارع إذا كان نوني الفاء وهو مسند لجماعة المتكلمين :
مثال :
من القرآن الكريم :
قوله تعالى : (( وكذلك نُجِّي المومنين )) .
أصله نُنَجّي بفتح النون الثانية وقيل الأصل : نُنْجِي بسكونها فأدغمت كإجّاصة وإدغام النون في الجيم لا يكاد يعرف ..
14. مضارع وزن ( أفعل ) :
وأصل كراهة توالي الأمثال هنا في المضارع المسند إلى ضمير المتكلم ؛ إذ الأصل فيه :
(( أُؤَكْرِمُ )) فصار بعد حذف أحد المقطعين المتماثلين : (( أُكْرِمُ )) ثم حملت باقي المضارعة على هذه الصيغة ، طرداً للباب على وتيرة واحدة .
ملاحظة :
قد يضطر بعض الشعراء إلى استخدام الأصل الذي لا تتوالى فيه الأمثال مثل :
قول ليلى الأخيلية :
تَدَلّت على حُصٍّ ظِماء كأنها ..... كُراتُ غلام في كساء مُؤّرْنَبِ
ومثل قول آخر :
وصالياتٍ ككما يُؤَثْفَيْنْ
وقول ثالث :
فإنه أهلٌ لأن يُؤَكْرَمَا
15. عبارة : (( وَعَبَدَ الطاغوت )) :
في قوله تعالى :
(( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ )) .
فقد عد لها ابن جني عشر قراءات مختلفة إحداها من جهة أحمد بن يحيي ثعلب ، مبنية على كراهة توالي المقاطع المتقاربة في المخارج والصفات ؛ يقول : " ومن جهته ( أحمد بن يحيي ) أيضاً : وعَبَدَ الطاغوت ، وقال : أراد عَبَدَةَ الطاغوت فحذف الهاء . قال : ويقال : عَبَدَةَ الطاغوت والأوثان ، ويقال للمسلمين : عُبّاد " .
16. (( عِدَا الأمر )) :
في قول زهير :
إن الخليط أجَدُّا البَيْنَ فانجردوا ..... وأخلفوك عِدَا الأمرِ الذي وعدوا
فقد قال فيه الجوهري :
(( أراد : عِدَةَ الأمر ، فحذف الهاء عند الإضافة )) ..
تلك هي معظم أمثلة ظاهرة كراهية توالي الأمثال في العربية ..
المرجع الرئيس :
كتاب بحوث ومقالات في اللغة ..
د. رمضان عبد التواب