( 6 )

أدركت ـ حين مالت على أمها لتقبلها ـ أنها لم تتعرف إليها . ومضت عيناها ببريق خاطف ، ثم أسبلت جفنيها ، وظلت صامتة ..
قالت :
ـ أنا سيلفى ..
قال أنطوان :
ـ اتركيها الآن .. إنها لا تعى شيئاً ..
تمتمت دومينيك :
ـ باسم الصليب حولك .. باسم الصليب ..
تضايقها عبارات المواساة التى يتحدث بها الطبيب عن أمها . لا كلام عن أمل الشفاء ، والعودة إلى مألوف حياتها ، مألوف حياتهم . تجلس فى الصالة ، أو فى حجرتها . تلاحق دومينيك بمطالبها . لم تعد تجد فى الأمر ما يؤلمها ، أو يثير ضيقها . تدعو أن تترك السرير ، تقف على قدميها ، تجلس ، تمشى ، تتكلم ، تتمنى حتى الأوامر التى طالما ضاقت بها .
فطن الطبيب إلى أن الأم تعيش لحظاتها الأخيرة ، وأن الحشرجة تصدر أنفاساً واهنة تغالب الصمت . رفع الطبيب عينين تشيان باليأس . عرفوا أن الأم تحتضر . لم يحدد الطبيب المرض ، وإن همس وهو يغلق حقيبة أدوات الكشف :
ـ الحالة متقدمة !
ومال على أذن أنطوان :
ـ ادعوا لها ألا تتعذب أكثر مما عانت .
أضمر أنطوان مصارحة الطبيب له ، بأن ما تعانيه الأم هو مرض الموت :
ـ الأدوية لتخفيف الألم ، لكنها لن تمنع النهاية .
أدرك أنها لن تترك سريرها حتى يمنحها الأب يوحنا مسحة الموت .
كان يعد لها الفطور ، يرتب الوسادة الطبية تحت ظهرها ، يحيطها بوسائد من القطن ، وعجلات من المطاط ، كى لا تصاب بقرح الفراش ، يساعدها فى الجلوس على القصرية ، يضع الملاءات المتسخة فى الغسالة . يتحمل غضبها وشراستها . تظهر التأثر لأقل سبب . تطلب رفع الوسادة ، تشكو الحر ، ترفض الماء البارد والساخن . تصرخ من تآكل ظهرها بالهرش . يثيرها الصمت والأصوات العالية .
نال منها الضعف . تجد صعوبة فى الانتقال من السرير إلى الكرسى المقابل . تمضى دقائق تسند ظهرها على الكرسى ، تريحه من عناء النوم ساعات متصلة .
تتحدث عن شخصيات تلتقى بها ، وأصوات تخاطبها . فاجأتهم بالإيطالية ، خاطبت بها أشخاصاً تراهم وحدها . ذكرت أسماء لا يعرفون أصحابها . يعرفون المفردات ، يصلونها بحيث تؤدى المعنى الذى تقصده ، أو تقترب منه . ما أقلقهم أنها لم تعد تتحدث بالإيطالية منذ سنين بعيدة . أصرت أن تكون اللغة بما يتكلمون به خارج البيت .
صارت عيناها حفرتين أحاطت بهما هالتا سواد . لم تعد قادرة على الابتلاع . تعلم من الممرضة كيف يغذيها بالمحلول عبر الأنبوب المطاطى .
إذا طال الصمت والسكون ، مال أنطوان بأذنه ، يتسمع صوت أنفاسها . يرفع رأسه ـ فى اطمئنان ـ ويتنهد .
فتحت عينيها : طالعتها الوجوه المتسائلة ، والمشفقة ، والحزينة ..
همست بوصيتها أن تدفن فى ثوب الزفاف .
تحشرج صوت دومينيك باللهفة :
ـ اعطها حقنة كورامين .
كور الطبيب سماعته فى يده :
ـ أملنا فى رحمة الله !
بدا على أنطوان اقتناع أنها ستجد فى الموت خلاصاً وراحة ، وأنها تفرح به ، وإن لمح فى نظرتها الثابتة ، الشاحبة ، ما يشى بالخوف أو الفزع ..
رشم الأب الصليب على رأسها ووجهها وجسدها . كرر كلمات لم يفهمها . ثم كرر الرشم بالصليب ..
لاحظ ماهر أن زيارات الأب للبيت تلقى حفاوة . ما عدا جان ، فإن أفراد الأسرة يوقرونه ، ويرحبون له ، ويهمسون له بما يعانون .
تحدثت سيلفى عن الأوقات التى كانت أمها فيها صاحبة الأمر والنهى . قبل أن يقعدها المرض ، لم تكن تأذن لأفراد الأسرة أن يخالفوا رأيها ، ولا أن يبدوا اعتراضاً ، أبوكم يكتفى بالغناء ، ومهمتى أن أقود السفينة .
تصحب أبناءها إلى الكنيسة ، أو تسبقهم ، أو تلحق بهم ، لا أحد ـ إلا للمرض ـ يتخلف عن قداس الأحد . إذا استغرق الأب فى شروده ، وعلا صوته بالأغنيات ، أدت الصلوات قبل تناول الطعام .
قرب المسافة بين الكنيسة والبيت ، يدفعها للتردد على الكنيسة مرة ، أو مرتين ، فى اليوم الواحد . تزور الأب فى مكتبه ، تكلمه فى أحوالها الشخصية ، تطلب رأيه فى ظروف الأسرة ، تجد فى كلماته النصيحة والعزاء ، وما يعينها على التصرف . تدعوه ـ فى زياراته للبيت ـ كى يرش الماء المقدس فى الأركان والزوايا ، وعلى الأثاث .
تبدى حرصها على ما فى الفيلا ، الجدران والحديقة والأثاث والتحف الصغيرة . هى كل ما تبقى من البيت القديم . لن تستطيع الأسرة استعادة ما يتحطم ، أو يتشوه ، أو يضيع .
منذ فاجأتها الأزمة القلبية ، أسلمت نفسها لرعاية أبنائها ، وعلاج الأطباء . توافق على تأكيداتهم بأن الأزمة عابرة ، تستجيب للملاحظات والأوامر ، تتعاطى الدواء ، تؤمّن ـ ولو بهزة الرأس ـ على الدعوات ، لكن الهاجس فى داخلها أنها تعيش أيامها الأخيرة .
تنبه ماهر ـ فى لحظات إفاقة الأم ـ إلى أن سيلفى تقلدها فى طريقة كلامها , والمفردات التى تستخدمها ، والضحكة التى لا تعلو عن الهمس .
قال لسيلفى :
ـ أخذت من أمك الكثير .
ـ يقال إنى أقرب فى الشبه إلى أبى .
أدرك أنها لم تعرف ما يقصده .
جاء إلى الفيلا فى آخر أيام الأسرة . الأم تموت ، والأب ذاهل عما حوله ، والأبناء يكثرون من الأسئلة ، ويختلفون ..