أصغي إلى رمادي
حميد العقابي
الطبعة الأولى - 2002
تصميم الغلاف: أليسا زيلينوفا
دار الينابيع - دمشق
يثير كتاب حميد العقابي (أصغي رمادي) إشكالية لم تحل في الخطاب الأدبي رواية، سيرة، سيرة ذاتية، أم سيرة ذاتية روائية، وكلها مفاهيم مختلفة حينا، على مستوى الخطاب والتركيب والبناء، ومتداخلة على المستوى نفسه حينا آخر، وتتعقد هذه الاشكالية أكثر في الخطاب الأدبي العراقي الذي لم يعالج لا على مستوى علم نقد النص، ولا على مستوى القراءة الابداعية بوصفها اعادة صوغ وكتابة أخرى للمقروء، قضية السيرة الذاتية/ الروائية/ السيرة، بإستثناء ما عرف من"سير" الشخصيات العامة التي ترى في نفسها اهمية أو في حياتها أو في المرحلة التي عاشتها، وهذا النوع الاخير من السير، عراقيا، لا يدخل في نسيج الادب لأنه أقرب ما يكون الى التوثيق التاريخي، والاعترافات، وملفات المحاكم، وخطابات تبرئة الذمة، والحرص على مبدأ المطابقة بين الواقع وبين النص، بين الشخص الواقعي ـ السارد أو موضوع السيرة أو التاريخ ـ وبين الوقائع، وهذه السير هي أقرب الى خطابات التبرير منها الى محاولة اعادة صوغ هوية ذاتية جديدة كما هو الامر في جنس السيرة الذاتية/ أو السيرة الروائية، وهذان جنسان مختلفان ومتداخلان وفي بعض النصوص يصعب الفصل بينهما، و في نصوص اخرى يظهر التمايز واضحا، فليس العنوان أو القراءة أو العقيدة هي التي تحدد جنس الخطاب الادبي، بل الخطاب نفسه وتموضعه داخل علاقات اللغة والاسلوب. فالتجنيس ليس سابقا على النص، اي نص، بل هو ينبثق منه، وهذا هو خطأ يرتكبه النقد الايديولوجي الذي لا يقرأ النص من داخله، بل يقرأ أفكاره فيه، فهو مقبول اذا تطابقت هذه بتلك، ومرفوض اذا تنافرا، وهذه القراءة هي في الاساس قراءة دينية حرفية وثوقية وعظية، بتعيبر أدق: إنها ليست قراءة، بل هي اجترار مقولات عن الأدب وليس الأدب نفسه.
وموضوع السيرة الذاتية أثار ويثير جدلا متواصلا حول طبيعته كجنس أدبي منفصل أو متداخل مع أجناس أخرى، ولم يحسم هذا الجدل النقدي حتى في علوم النقد الأوروبية على اختلاف مذاهبها. وكتاب فليب لوجون (السيرة الذاتية ـ الميثاق والتاريخ الأدبي) يعد مرجعا في حقل النقد السيروي، رغم ان المؤلف نفسه لم يصل الى استنتاجات نهائية وحاسمة في هذا الصدد، وهذه هي طبيعة النص النقدي المفتوح، على عكس الخطاب النقدي العربي الذي يميل الى التحديد، والتمركز، والآراء الجازمة، ويمكن في هذا الصدد مراجعة كتاب (زمن الرواية) للناقد المصري جابر عصفور، وكتاب الروائي عبد الرحمن منيف(رحلة ضوء) ـ تمثيلا لا حصرا ـ كنماذج على طريقة تصور الكاتب العربي لموضوع السيرة الذاتية/ الروائية/ والخلط الحاصل بينهما، واللغة اليقينية، والجاهزة، والصارمة، وهي لغة قادمة من حقل الايديولوجيا لا حقل الادب، وربما يعد، حسب اطلاعنا، كتاب الناقد والروائي المغربي عبد القادر الشاوي (الكتابة والوجود ـ السيرة الذاتية في المغرب) استثناءً في دراسة السيرة الذاتية العربية، ومرجعية قيمة لدراستها، إضافة إلى كتابات الدكتور عبد الله إبراهيم في نقد وتفكيك الخطاب الروائي من خلال منهج ورؤية غير تلك التي اعتاد عليها النقد العراقي.
ومن الضروري هنا استعراض بعض الآراء النقدية في هذا الجنس الأدبي الملتبس قبل الدخول في نص العقابي، إن فليب لوجون في نصه المرجعي المذكور ينطلق من ان السيرة الذاتية (هي حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية) ويقر ان لفظة السيرة الذاتية أخذت في انكلترة في بداية القرن التاسع عشر، في حين اعادها باختين الى العصر الاغريقي في القرنين الثاني والرابع في مؤلف افلاطون(دفاعا عن سقراط) في حين جعل جورج ماي في كتابه(السيرة الذاتية) بداية القرن الثامن عشر نقطة انطلاق استنادا الى( اعترافات) القديس أوغستان، ويتواصل الجدل النقدي حول قضية التأسيس والشروط أيضا.
يرى الناقد فابيرو أن (السيرة الذاتية تترك مكانا واسعا للاستيهام، ومن يكتبها ليس ملزما البتة بأن يكون دقيقا حول الأحداث كما هو الشأن في المذكرات، أو أن يقول الحقيقة المطلقة كما هو الشأن في الاعترافات)، لكن لا خلاف بين فليب لوجون وفابيرو في ان المطابقة بين خطاب السيرة وبين الواقع لا وجود له، وهو تطور في موقف لوجون، واعتبر في كتابات لاحقة ان النص السيروي هو اعادة خلق لخطاب وزمان وذات وتاريخ مختلف عن تاريخ الراوي أو المؤلف أو السارد أو الشخصيات والحوادث، ويرى لوجون ان هناك خلطا قد حصل حتى بالنسبة له بين مفهومين متناقضين هما مفهوم التطابق ومفهوم المشابهة، ويقول جيرار جنيت حول المطابقة والمشابهة(إن علاقة الشخصية في النص، بالنموذج، هي بالتأكيد علاقة مطابقة أولا، لكنها وبالخصوص علاقة مشابهة) والمعني بالنموذج هو الواقع، فكيف يمكن لنص أن يشبه حياة؟ كما يتساءل لوجون.
ان المطابقة هي استعادة حرفية والمشابهة خلق، وان النظام المرجعي في الامر هو النص نفسه، دون احالات خارجية على النص، وتحميله منظومة قيم فكرية قادمة من حقول اخرى غير حقول الأدب، اي قادمة من خطابات اجتماعية وسياسية وفكرية، وحسب كوسدروف في كتابه (شروط وحدود السيرة الذاتية) فإن السيرة الذاتية (لا تستطيع اعادة بناء الماضي كما جرى، وهكذا تغدو السيرة الذاتية خلقا للأنا)، ويقول جيمس أولني(لم يعد من المهم في السيرة الذاتية صدقها ووفائها للماضي المعاش، بل دورها في البحث عن الهوية) وحسب الناقد ياكين في قضية السيرة الذاتية (إن المؤلف هو الذي يخلق نفسه، ويخلق معه أناه الذي ماكان له أن يوجد لولا النص).
السيرة الذاتية، حسب وجهات النظر هذه، لا توثق، بل تكتشف، ولا تبرر، بل تحاول استعادة هويتها الاصلية الضائعة في الماضي من خلال الخطاب السيروي، وهنا يكون النص ليس موازيا للحياة، او حياة مستعادة حرفيا، بل هو هوية أخرى، وحياة مغايرة، وذات تتشكل لا في الواقع، بل داخل النص، وداخل ذات الكاتب، المؤلف، السارد، وهذه الحياة الجديدة، أو (الذات النصية) لها عالمها الداخلي، وشبكة بناء، ومنظومات لغة، وزمن خاص هو زمن الخطاب وهو ليس زمن الحكاية، اي ان النص السيروي لا ينفتح على الماضي بكل مقوماته انفتاحا حرفيا، بل هو انفتاح على الذات الجديدة: اي الذات الكاتبة، ذات المؤلف، وهي تعيش في زمن يختلف عن زمن الذات المروي عنها، ويتقاطع معه، وذات النص لا تحيل الى ماقبل أو مابعد النص، بل تحيل الى زمن التخيل والرؤى وعلاقات اللغة وشروط البناء النصي، ووعي الراوي الجديد، ونظرته الى ذاته والى العالم الذي يتشكل معه وفيه.
وليس مهما في السيرة الذاتية/الروائية ضمير السارد أو الراوي أو المؤلف كي يحمل عنوان سيرة ذاتية، فلقد كتب كثيرون سيرتهم بضمير المخاطب أو الغائب: عربيا كتب الروائي المغربي محمد برادة سيرته (لعبة النسيان) كرواية بضمير الغائب واحيانا المخاطب، وكتب حنا مينا سيرته في ثلاثية (بقايا صور، الدقل، القطاف) على لسان أبطال آخرين، وضمّن نجيب محفوظ رواياته مساحات واسعة من سيرته الشخصية، وعلى الصعيد الغربي قال فلوبير عن روايته (مدام بوفاري) ان بوفاري هي انا، وكذلك جان بول سارتر في كتابه(الكلمات) الذي يروي قصة عائلة، وسيرة الروائي ميشيل بوتور(التغيير) المكتوبة بضمير المخاطب، ورواية جبرا إبراهيم جبرا(صيادون في شارع ضيق) رغم ميثاق القراءة الموجود على الغلاف والذي يشير الى انها رواية، لكنها تضمنت الكثير من حياة جبرا الشخصية.إن تاريخ الذات في السيرة الذاتية ليس في الماضي وحده، وزمن الكتابة ليس هو زمن السيرة، وفضاء السرد ليس هو فضاء الاحداث، وليس الزمن واحدا في السيرة، اي انه ليس الماضي فحسب، بل هو الحاضر، اي زمن الخطاب والمشفر، زمن الحكي. لذلك يكون الحكم تعسفيا وسطحيا على تاريخ سيرة من خلال ماضي السارد أو المؤلف أو وجهات نظره في احداث عاشها أولا، وتخيلها ثانيا، وقرر استعادتها ثالثا، وبناء هوية نصية مختلفة رابعا، فهذا النوع من الحكم يصلح في خطابات السياسة والاجتماع والتوثيق والتاريخ والفلسفة والردح والمحاكم ، لكنه تعسفي ومقحم ودخيل في نص جسدي يتشكل داخل علاقات اللغة، بعد ان تشكّل داخل علاقات القوى ومنظومات المجتمع والدولة والسياسة والعائلة. وليس هناك نص سيروي ذاتي مكتمل مادام قد دخل في علاقات الكتابة ومكونات الكلام وقوانين الخطاب،لأنه يستمر حتى بعد موت المؤلف، لأن هذا الموت لا يشمل السارد السيروي، واليوم نقرأ نصوصا كتبت على الحجر والواح البردي تعيش حية معنا، وتتحاور، ونختلف معها، بل أكثر حياة من نصوص معاصرة ولدت ميتة، والعقابي يشير في بداية السيرة إلى أنها (فصول من سيرة ذاتية) أي انها في طور التشكل مثل أناة الكاتب.
لا يمكن تجاوز هذه المقدمة عند الحديث عن السيرة الذاتية (أصغي الى رمادي) لحميد العقابي، فهذه المقدمة لا تضع هذا النص في مكانه كجنس أدبي خاص، بل غرضها توسيع دائرة القراءة والحوار في هذا النوع الجديد من الادب العراقي، وهو يأتي مباشرة بعد السيرة الذاتية الروائية لكاتب هذه السطور"الاعزل، وعزلة اورستا"، وهذا الادب يبدو كأنه رد فعل أدبي على خطابات السياسة واكتشاف الذات المغيبة تحت ركام الكلمات والسلطات والأوهام، وعلى اعترافات ومذكرات وسير أصحاب الشأن والحكم والاحزاب والمال ومالكي الحقيقة والثروة وابواب الدنيا والاخرة وحراس النوايا.
وعلى عكس تصور الكاتب سلام ابراهيم في تناوله هذا النص( المؤتمر.ع.305 .س 2002) حين جعل من سؤال الراوي في الطائرة من دمشق الى كوبنهاكن( هل اكتشفت نفسي؟ مالذي ابغيه؟..) مفتاحا جوهريا لقراءة نص العقابي، فإن مفاتيح النص لا توجد في هذا السؤال، بل في مكونات وعلاقات وشبكة بناء وأزمنة الخطاب ومحاولات تجديد الهوية عبر الجسد والكتابة، وليس في اسئلة منتقاة على مقاس مسبق. ولا توجد في النصوص مفاتيح دخول وخروج عامة، بل هناك قراءات واحتمالات وتأويلات وتفسيرات وشفرات وعلامات ورموز، فكل نص، حسب أمبرتو إيكو، يتحمل قراءات مختلفة ومتعددة، والقراءة الواحدة تغلق الباب، لأنها تملك المفاتيح الجوهرية، من أين ندخل إذن؟
قراءة سلام ابراهيم تصلح نموذجا لنوع النقد السائد في الساحة الثقافية العربية عامة، والعراقية خاصة، وهي قراءة ايديولوجية حرفية تتعامل مع النص الروائي/السيروي/القصصي/بناءً على مبدأ المطابقة لا على مبدأ المشابهة والاختلاف، وسنبرهن على ذلك بقراءات نقدية سابقة للكاتب سلام ابراهيم مع التمثيل بنصوص من كتاباته في محاولة لخلق تقاليد في الحوار النقدي. ماهي أساليب السرد السيروي التي اتبعها العقابي في بناء نصه؟.
*عقد القراءة الأول، وليس مفتاح الدخول، الذي يقترحه علينا العقابي هو العنوان (أصغي إلى رمادي)، وهو عنوان مراوغ وضبابي في الظاهر، ولكنه دال وشديد الوضوح من زاوية أخرى. إن كلمة (أصغي) من الكلمات السمعية، وكلمة(رماد) هي من كلمات النظر، وبديهي ان الرماد لا يترك صوتا.
فكيف يمكن الإصغاء إلى صوت الرماد؟ وبدون الدخول في لعبة تفسير المعنى، فليس هذا مجال هذه الدراسة ولا موضوعها ولا هو منهجنا، فإن ما اراد العنوان الايحاء به، والايحاء هو معنى المعنى حسب الجرجاني، أو ما عرف عند العرب بالتخيل، أو (نقيض التقرير) كما يرى غريماس، أو انه حسب رولان بارت(نسق سيميائي)، هو الاحالة الى ماضي الكاتب ومحاولة استعادته، وهذا من شروط السيرة الذاتية: استعادة ذات وصوغ أخرى من جديد داخل النص وعلى انقاضها.
*أما عقد القراءة الثاني، وهو عقد سيروي ايضا، فهو العنوان الفرعي (سيرة ذاتية) اي ان الكاتب يقول صراحة ويؤسس مع القارئ ميثاق قراءة على نحو واضح، رغم ان الكاتب يستعمل تقنيات من أنواع ادبية عديدة كالشعر والرواية.
*عقد القراءة الثالث هو الاهداء(الى ابنتي دجلة ونور) ولن نفهم دلالة هذا الاهداء ولا لغز هذه الاسماء الا عند التوغل في النص. يردد المؤلف عبر صفحات كثيرة هذه العبارة(ثلاثة اشياء لا تختفي من هذه المدينة: السدة، والسجن، والجدة شمعة).
إذا كانت السدة هي النهر (دجلة) واذا كانت الجدة شمعة هي النور(نور) فسيكون واضحا دلالة الاهداء وهو جزء بنيوي من النص كالعنوان الاول والثاني، اي ان السيرة تتجه نحو المستقبل، وليست استعادة للماضي أو الوقوف عند حدود المراثي.
لن الجأ الى تفسير وشرح هذا النص لأن هذه ليست من اختصاص هذه القراءة، ولا أملك مثل الزميل سلام ابراهيم مفاتيح الدخول الى نص لا ينفتح من سؤال أو قصيدة أو حادثة أو علاقة، بل سأحاول قراءة الكيفية التي قام بها المؤلف ببناء هذا النص، فالمهم هو التجربة الذاتية المستعادة والمصاغة صوغا فنيا، حسب تعبير الدكتور عبد الله إبراهيم في (السيرة الروائية وإشكالية التهجين السردي).
ويضيف الدكتور (السيرة الروائية هي "نوع" من السرد الكثيف الذي يتقابل فيه الراوي والروائي/ والتجربة الذاتية تشحن بالتخيل واعادة صوغ الوقائع واحتمالاتها، وكل وجوهها دون خوف من الوصف المحايد والبارد للتجربة/ ويقتضي الحديث عن السيرة الروائية الى اهمية التجربة الذاتية والمصاغة صوغا فنيا محضا يناسب متطلبات السرد والتخيل ومقتضياتها، ذلك ان المادة التي يفترض أن تكون حقيقية وأصلية، لا يمكن أن تحتفظ بذلك، فما أن تصبح موضوعا للسرد الا ويعاد انتاجها طبقا لشروط تختلف عن شروط تكونها قبل أن تندرج في السياق الفني، وعليه لا يمكن الحديث أبدا عن مطابقة وحرفية ومباشرة بين الوقائع التاريخية المتصلة بسيرة المؤلف الذاتية والوقائع المتصلة بسيرة الشخصية الرئيسية في النص/اننا يمكن ان نحيل على وقائع خارج نصية استنادا الى الاشارات المعترف بها كالتواريخ والوثائق والاحداث، لكن تلك الوقائع كُيّفت وانتجت، لتكون عناصر في نظام مغاير/ وذلك يفضي الى التأكيد أن أمر المطابقة الكاملة بين الوقائع النصية في السيرة الروائية مستبعد، ولا يفضي الى نتيجة مفيدة لكل من التاريخ والسيرة والرواية)، وقراءة الكاتب سلام ابراهيم هي قراءة مطابقة، اي قراءة ايديولوجية، لأنها تشرح ولا تفكك آليات انتاج الخطاب، وهذا المقال هو أيضا محاولة ليس لقراءة نص العقابي فحسب، بل محاولة لخلق نوع من الحوار النقدي مع نص أو نصوص سلام ابراهيم لأنها نصوص/ نص عام وشائع وقراءة عمومية ، والحوار النقدي لا يعني القدح ولا يتنافى مع الاحترام، بتعبير "ليونارد لانسكي" في "اشكالية المرجع" بل هو محاولة لتجاوز الحساسية والسمو بالفكر النقدي من الدوغمائية والانطباعية والتاريخية، والتمسك بالحوار المتعدد الاصوات انطلاقا من مبدأ الاختلاف ـ كما يقول الناقد المغربي محمد سويتري وهو يشرح مصطلح النقد الحواري الذي اطلقه "تودوروف".
إن سيرة العقابي الذاتية (أصغي الى رمادي) هي دعوة خفية لكي نصغي نحن ايضا إلى هذا الرماد، وما أكثر الرماد العراقي! ورغم أن عقد القراءة يشير صراحة الى أنه (سيرة ذاتية)، لكن أساليب الخطاب وعناصر البناء تتجاوز السيرة إلى تقنيات العمل الروائي وتستعير كثيرا من الرواية والشعر والسينما والاسطورة في محاولة فهم واستعادة ماضي النص، وهذا الماضي لا يخضع للادانة أو المدح كما يذهب دائما نقاد الايديولوجيا، بل هو مدعاة للفهم واقامة الحوار مع ذات/مجتمع/هوية/مغيبة، وهذا الحوار لا يعني اعادة الانسجام مع هذه المكونات، فهذا مستحيل ماديا، بل يعني اعادة بناء الذات وهذه المرة من خلال الكتابة.
إن الذات تنتمي الى عالم الطبيعة، والكتابة هي مفهوم ثقافي. فمع من يتصالح الكاتب؟ واذا كان الزميل سلام ابراهيم قد جزم بأن هذه الذات قد (دمرتها الطفولة والحرب) وهو عنوان مقالته، فكيف استطاع العقابي، المؤلف، من اعادة كتابة ذاته من جديد، وتشكيلها عبر النص ونسيج الخطاب؟. صحيح ان المؤلف في السيرة قد تعرض الى اشكال كثيرة من الهوان والتشرد والخوف والكبت والهروب المتكرر كأجيال أخرى، لكن ما ينفي فرضية الذات المحطمة هو فعل الكتابة، كتابة هذه السيرة الذاتية. إن الجسد هو الاخر مفهوم طبيعي كالذات، والكتابة هي فعل ثقافي، والمعادلة في هذا النص هي انتصار الكتابة، الثقافة، النص على بربرية المؤسسة: سلطة حاكمة، أو منظومة قيم، أو عناصر خوف وكبت وزجر من مصادر مختلفة. اي اننا أمام شهرزاد ذكورية تحكي لا لتنجو من الموت فحسب، بل من الذل، اي مرة اخرى النص في مواجهة السلطة بالمعنى الواسع للسلطة.
يروي العقابي حكايته الشخصية، لكنها في الخطاب لم تعد شخصية، كما أن أب المؤلف وعائلته ليست هي العائلة البيولوجية، بل هي في النص عائلة نصية ولغوية تحكمها شبكة مفاهيم لغوية وسردية وقواعد خطاب وتقنيات كتابة من جهة، وهي تشكل، من جهة أخرى، وضعية المؤلف الاجتماعية، لكن اعيد تشكيلها على صورة أخرى. هذه هي طبيعة الفن، والادب: ليس نسخا، بل خلقا.
ما قام به الكاتب سلام ابراهيم هو إعادة شرح النص وردد كلام المؤلف، اي اعاد العقابي الى الحالة التي حاول الهروب منها، ونجا من موت وشيك عدة مرات، وهذه هي متاعب القراءة الحرفية. إن شرح النص لا يشكل، في علم النقد نقدا، بل هو نسج على ذات النول. وقراءة سلام ابراهيم تتكرر في نصوص أخرى وبالأسلوب نفسه.
ففي عدد المؤتمر 308 كتب سلام ابراهيم تحت هذا العنوان ( قراءة لمرحلة من تاريخ العراق المعاصر) عن رواية (الغلامة) للكاتبة عالية ممدوح، والعنوان يحيل الى كتب التاريخ والوثائق والسياسة وليس الى حقل الأدب، لكن هذا هو مدخل الناقد، حيث يقول صراحة بتعبير واضح عن منهج نقدي معروف بأنه لن يركز على البناء الفني للنص، بل على مضمونه، ويكتب حرفيا (سأركز على مبنى النص الأصلي"نص عالية ممدوج" وليس في اطار اللعبة الفنية المعلنة).
وفي عدد المؤتمر 311 كتب سلام إبراهيم عن مجموعة قصصية للكاتب نعيم شريف اسمها(عن العالم السفلي) هذا العنوان المماثل (العراقي يحمل جرح الحرب في الوجدان والذاكرة، وكما هو مشغول بشرح نص العقابي، وعلى (مبنى النص) أي محتواه، كما في عالية ممدوح، فهو هنا ايضا مشغول بقضية المطابقة بين نصوص نعيم شريف وبين الوقائع مطابقة حرفية دون الانتباه الى ان تلك النصوص قد كيّفت وانتجت في نظام نصي مغاير. يكتب سلام ابراهيم:(يخلق الكاتب" نعيم شريف" في هذه الاقصوصة الجميلة معادلة عميقة عن الواقع العراقي المعاصر).إن مثل هذه المعادلة وفي أقصوصة لا توجد في اي نص في العالم، فماقيمة أن ينتج الادب معادلة أو مطابقة مع واقع شديد التغير، شديد الالتباس، واكثر مراوغة من اي نص، ومن اي سلطة نقدية أو سياسية أو غيرهما؟ وأين هو الاستقلال الذاتي للأدب عن الواقع اذا كان قادرا على تقديم(معادلة عميقة) عنه؟ مافائدة الادب في هذه الحالة اذا لم يكن كشفا، وفرادة، أو واقعا مختلفا عن الواقع الأصلي؟.
وسلام إبراهيم سواء كتب عن سيرة ذاتية للعقابي أو رواية لعالية ممدوح أو مجموعة قصصية لنعيم شريف فهو يستعمل المنهج النقدي الايديولوجي نفسه، وفي قراءة رابعة له لرواية (عراقيون أجناب) لفيصل عبد الحسن في جريدة صادرة في لندن تحدث عن شخصيات الرواية استنادا الى هويتهم السياسية، وليس كونهم مخلوقات روائية، فهو غير مهتم كما يقول صراحة (باللعبة الفنية)، اي كل ماله علاقة بأنظمة الخطاب الروائي وابنيته ونسيج طبقاته ولا الحفر في أعماق النص ككائن لغوي يعيش خارج الواقع ويتخطاه، بل يشغله أولا وأخيرا الانتماء السياسي أو العقائدي، فهو لا يتعرض مثلا لبطل (عراقيون أجناب) كشخصية روائية، بل يتحدث عنه كرفيق في الحزب، رغم ان هذه الشخصية العقائدية في هذه الرواية ممزقة البناء وتتحرك خارج النص ومقطعة الاوصال وغير مقنعة على المستوى البنائي، ولايشفع في عملية البناء الروائي قيم البطل وعقائده وهويته الاخلاقية، بل ان البناء الهش يسيء الى هذه القيم. هكذا تتم قراءة النص بمقاييس السياسة،وهذا تشريع معروف في النقد الادبي وفي غيره حيث يتم وضع اللغة الادبية، رواية، سيرة، او شعرا، على مستوى واحد مع قوانين الفكر والعقائد والأخلاق ولغة السياسة.
واختيار الكاتب سلام ابراهيم هنا مقصود لأنه أكثر النماذج وضوحا في هذا النوع من القراءات التي تتعامل مع الخطابات، رواية، قصة، سيرة، شخصية، من خارج منظومة الادب وعلم النص، ولا تفرق بين المتخيل والمعيش، وتؤمن بالمطابقة بينهما وهذا مستحيل في الفن، وبهذه الطريقة تعامل مع نص حميد العقابي وهو نص يفتح الجرح السري المغلق على المسكوت عنه والمؤجل والمخبوء والمهموس به والذي لا يقال الا عبر الكلمات المحجوبة والخائفة والمترددة.
النقد يتشكل مع القراءة وليس قبلها أو بعدها، انه كتابة ابداعية أخرى وليست شرحا، إن نص(أصغي الى رمادي) تأتي كتابته ونشره في ظروف تفتح وحرية غير تلك التي صنعت زمن الحكاية أو السيرة، وهذه هي وظيفة الكتابة الابداعية: التمرد على شروط جسد مهان، وسلطة وحشية، وقواعد كتابة مدجنة، وبناء مساحات في الزمان والمكان تصلح للعيش والحب والصداقة والنظافة والتأمل في مناخ الطمأنينة، ولا يبقى من الماضي إلا ذلك الرماد الذي هو خليط من البشاعة والتخلف والقسوة والهمجية والجمال والرغبة المستحيلة والأمل في مكان نظيف حسن الاضاءة، بتعبير أرنست همنغواي.
وبهذا المعنى فإن هذا الكتاب الذي يستأهل وقفة اطول، يتطلع صوب المستقبل، من خلال انتهاك اللغة، وتعرية قيم الخوف، وقهر المؤسسات، ومد البصر نحو دجلة ونور، حيث "السدة" باقية حتى اليوم، و"الجدة شمعة" باقية ايضا داخل الحكاية والذاكرة، ولم يبق إلا السجن الذي سيزول حتما من الحكاية والذاكرة والحياة إذا أصغينا جميعا إلى هذا الرماد العراقي المتكاثر.
المصدر
حياكم الله