أسند إبراهيم ظهره إلى الحائط، وسحب رجليه متلاصقتين متخذا من ركبتيه متكئا لذقنه، وأرسل وجدانه يلملم جراحا مبعثرة من ماضيه، تمتد غائرة متقاطعة كنسيج العنكبوت، كل خيط يهتز منها، يهز الشبكة كاملة.
كانت أمه حزينة، ومازالت ،حزينة لأن الأيام كانت تعاكسها ، مات زوجها الثاني واستمر الحفر في عمق الذات كانت خناجره تقطع أوصال الروح وترمي فتاتها لديدان الهم ، فترسل الروح نشيجها تمتصه حافات الشعاب المحيطة ذات الألوان الشهباء المصفرة وقد تعلقت بها أشجار الطاقة والصبار.
وكثيرا ما كان إبراهيم يتساءل وهي تهزه أخاه الأصغر فوق ركبتها : هل هي تغني باكيه أم تبكي مغنية!? .
– ما سرك يا أماه!? و من أين يغزوك هذا الأسى !?، يهم بسؤالها ولكنه يتهيب، فيندفع كالسهم خارجا كي لا تمتد جراحها إلى وجدانه.
يهيم إبراهيم على وجهه مشردا ، يقفز من حجر إلى حجر ، يعتلق بهذا الغصن ثم بذاك ،يكسر ما استطاع تكسيره ، يلتقط الحجارة ، يقذف بها الغيلان التي تحاصر آسرته ؛ يشعر بوجودها ؛ تطل عليه من وجه أمه ولا تغادره يغني يصرخ ، ينادي تدخل حفيدته .
- ما بك يا جدي، لم تنادي
- لا شيء، لم أنادي يا بنيتي.
وتخرج الحفيدة، يتمنى لو استطاع أن يرى ملامحها، صوتها يشبه صوت أمه، وفيه مسحة من أساها،أسى يمتد، يشد الماضي إلى الحاضر ويحفر بمخالبه في المستقبل.
يرسله الأسى في صوت الحفيدة إلى حيث كان.
- كانت حال أمي كحال من هو على موعد ثان مع الموت، هل تراه يعود إلينا ؟ كان الموت قد أخذ والدي منذ ثلاث سنوات ، وغرس في بيتنا شجرة اليتم التي نمت بسرعة رهيبة، ومدت ظلالها ورطوبتها الخانقة ،وبدأت أدرك يومها ، لم كان أخي الأكبر غير الشقيق "علي" لا يضحك أبدا، ولم كان ينهض من مكانه متثاقلا ؛ ويغادر في أي اتجاه ؛ عندما يراني أضحك فرحا.
كان كل قلب في هذا البيت يقاسي أوجاعه ،والشمس المرمدة العين ترقب الجميع ، تمر علينا كل يوم فتجفف ما بقي حولنا ؛و تسهل مهمة الرياح السافيات.
قالت أمي: غدا السبت، أرجو أن تنهض باكرا و تذهب بصحبة أخيك علي، وأن تسمع كلامه.
- إلى أين؟.
- إلى حيث ذهب، ولا تتعبني أكثر.
كان الألم يعصر ملامحها ، ويكاد يشل صوتها ، فشعرت إنني إذا تماديت في أسئلتي وسعت مساحة هذا الألم ، فسكت على مضض رغم أنني كنت أكره أخي علي ، أو قل لا أرتاح لوجوده معي.
عادت حفيدتي من الخارج ، أحسست بها تدنو ؛ يفشي حفيف ثيابها مقدار دونها واتجاه سيرها ، قلت لها ماذا يا بنيتي؟.
قالت بصوت حزين: أشعر أنني اختنق يا جدي، الجو في الخارج، حار، مغبر وخانق، والطيور عطشى ترسل أصواتا شجية واهنة، وتطير من غصن لآخر بثقل حتى لتبدو وكأنها تتهاوى من دون أرواح.
قلت في أي يوم نحن يا بنيتي؟
- اليوم يوم السبت.
- ما أشبه اليوم بالبارحة.
- ماذا تعني يا جدي؟
- منذ سبعين عاما مر عام كهذا العام، ويوم كهذا اليوم في سوئه يا بينتي.
ومد يده يبحث عن يد حفيدته، وعندما التقطها أحس وكأنه مسك بحبل نجاة، فاحتضنها براحتيه، ولم يعرف يقينا ، وما عاد يريد أن يعرف؛هل هي يد أمه أم يد حفيدته ؛ فالعام واحد ؛ واليوم واحد والهم واحد ، والصوت يكاد يكون واحدا.
وتحدث: تتذكرين يا أمي أنني لم أسمع يومها كلامك، ولم اذهب بصحبة أخي كما طلبت.
قالت الحفيدة: جدي ما بك ماذا حدث لك؟.
- لم اسمع كلام أمي يا بنيتي ، أغضبتها في يوم كهذا ، كان أشأم يوم في حياتها ، بل في حياتنا جميعا، كانت يومها ضعيفة ، وحيدة ، هشة عاجزة حتى عن لملمة أعضائها والتحكم فيها ، لم تكن مسيطرة على حركاتها ،كانت كحال عصفورة تسلل ثعبان إلى عشها واتخذ منه مرقدا ومن صغارها طعاما، فراحت تخرج من العش ، تنظر نحو الغرب؛ نحو الوادي متطلعة يملأها الرعب ثم تدخل لتخرج ثانية، وبدا وجهها مكدودا ، يزداد كل لحظة جفافا ، تدخل تتطلع إلى أخي الأصغر النائم ملفوفا في قماطه على الوسادة ، ثم تحول وجهها نحوي لتنحرف به مسرعة كأنها تخاف أن اكتشف سرها ،تريد أن تصرخ في وجهي ، أن تقول شيئا ما ..لم لم تذهب مع أخيك كما أوصيتك؟ و لكنها كانت لا تفعل.
قالت الحفيدة: ولم كانت تفعل ذلك يا جدي؟ وأين ذهب أخوك؟
لم يسمع سؤال حفيدته التي كانت قد أسندت ظهرها إلى الحائط بجانبه ومالت نحوه قليلا وواصل حديثه و كأنه يتحدث من بئر عميقة:
- وفجأة وجدتها تلطم خديها بيديها وتندفع إلى الداخل، وتعود جارية وقد احتضنت الوسادة التي كان أخي الصغير ينام فوقها والأقمشة التي كانت تلفه بها عادة ، دفعتني أمامها ، وعندما تلكأت أمسكت بيدي وجذبتني بقوة وانطلقت تجري وهي ترتعد والعرق الحار يتصبب من سائر جسدها ، تجري وتلهث وتبكي ، تنتحب في صوت مخنوق خشية أن تسمع ، جرينا فوق الأشواك التي راحت تنغرز في أرجلنا باشتهاء، وكلما صرخت من الألم صفعتني على قفاي ، صارخة :
- قلت لك البارحة أذهب مع أخيك، انج بنفسك يا ذرية السوء..
ثم تمسك براحتها على فمي حتى تجحظ عيناي ، وتدفعني أمامها لنعاود الفرار من جديد ، حتى وصلنا إلى مخبأ بين نبات الصبار يصعب اقتحامه على غير العارف به ؛ تمددت على جنبها ووضعت أخي أمامها وطلبت مني أن أتمدد أيضا حتى لا يرانا أحد.
مرت لحظات ، وكأنها انتبهت لأمر غريب : أخي لم يستيقظ من نومه ، ولم يحدث أمرا فراحت تزيح عنه القماش ، رمت القطع قطعة وراء قطعة ثم رمت الوسادة ، وصاحت ابني ؛ابني ، يا ويلي وضربت على صدرها ، وفخذيها ؛ جحظت عيناها ثم ذابتا فسالتا على خديها جليدا لفحه أتون أرعبني منظرها، التفتت نحوى وقالت:
- إياك أن تقف أو يصدر عنك ما يكشف مكانك ثم انتصبت تريد العودة إلى البيت ، خطت خطوة واحدة ، و ند عنها صوت غريب و تهاوت كقطعة قماش وراحت في غيبوبة ، ارتميت عليها بدوري ورحت أناديها : أمي ، أمي ؛ اضرب على خديها ، على صدرها بدون جدوى ، جلست أنا والعجز والحيرة، ومذ ذاك لم نفترق إلى اليوم.
- استعادت أمي وعيها وراحت تضرب رأسها وهي تنشج: ابني ؛ ضيعتك يا سواد أيامي ، تركتك للوحوش، واحتضنت الوسادة ك
نهضت بصعوبة و أمسكتني من يدي وعادت تحاول أن تسرع الخطو نحو البيت، ولما وصلنا ، أشعلت شمعة وراحت تبحث حيث كان أخي نائما في لهفة، تضرب بيديها في المكان فلم تجد له أثرا، أغمي عليها مرة ثانية ، سقطت منها الشمعة وكادت النار أن تمسك بتلابيبها ، ولكني تمكنت من إطفائها ولعل هذه المرة الوحيدة التي كنت نافعا فيها .
- لكني لم افهم شيئا من هذه القصة يا جدي هل أنت تهذي؟ ؛ هل تشعر بالحمى؟
ومع المغيب ، وبعملية محسوبة ،يسندها الرصد ،جاء القايد بصحبة الشرطي خديم باشاغا اللعين ، رأتهما أمي عن بعد ، لم تهرب ، بل برزت لهما ، كان القايد راكبا على حصانه الأسود ، والشرطي خديم باشاغا اللعين يزحف أمامه.
- قال القايد للخديم ورفع الخديم صوته:
- قال لك سيدي الباشاغا أدام الله سلطانه وعزه وبالمختصر : يا فاجرة ، لست أنت التي تعصي أمري ، أما وقد فعلت فأن لك عنده ما يسرك وهو يمهلك إلى غد فإذا لم تأت صباحا إلى القصر مصحوبة بعقود الأرض ؛ وبجميع صبيانك للإمضاء على البيع الذي حرره سيد القاضي اليوم فإن ابنك سيقدم غذاء للكلاب .
مسك الشرطي الخديم لجام الحصان ودار به منصرفا ، وتهاوت أمي في مكانها .
وفي اليوم الموالي ، جردنا من أملاكنا وقدمت أمي لعبة للكلاب بدل أخي ؛ ورغم الدماء التي أريقت فإن الكلاب ما انفكت تتكائر فوق أرضنا ؛ محمية معززة ؛ تمدد تخوم مملكتها إكراما للباشاغا ، ونحن مازلنا نتوالد لنقدم طعما للكلاب.