(القسم الرابع)
......................
بيد أنّ الرواية تحرص على أن تقد ذلك العصر من خلال وصفٍ حرّ ينقلنا إليه وإلى معالمه، تأمّل، مثلاً، وصف مسيرة أحدِ المواكب التى أشتهر بها :
"سار الموكب من حىّ الطبّالة، على الجسر الطويل بين بركة الرطلى والخليج الناصرى، فى المقدمة حملة المشاعل، ثمّ المئات من فرس الديلم، يرتدون الثياب الموشاة بالقصب، ويحملون الحراب، ثم حملة العصىّ، يتقاذفونها فى الهواء، فراكبوا الجمال، يضربون كؤوساً معدنية، وركب الآلتية ظهور الحمير، يضربون على الطبل، أو يعزفون على آلات النفخ، يتبعهم الصُّحبجيّة وأولاد عبد السلام، بثيابهم الواسعة، الملوّنة المزركشة، يتقدمون ويحيطون بالهودج، الذى جلست "شهرزاد" فى داخله، تنثر عليه خائف الذهب والفضة ".
والأمر يسير على هذا النحو فى وصف الأماكن والمجالس والقصور، بما يتلاءم مع الصورة التاريخية التى تنبض بالحياة من خلال اللغة الحية أيضاً، فإنّ الحوار ينطبق عليه ما ينطبق على الوصف، وتعبّر اللغة عن دلالاتٍتاريخية خاصةً بذلك العصر، وأنماط السلوك فيه، فضلاً عن الحوار فى البناء الروائى وقيامه بدوره ى عملية الكشف والنفسير والشرح، وربط الحاضر بالماضى، وتوقع الأحداث الآتية، مثلاًُ، أن نقتطف الجزء التالى من الحوار الذى دار بين زهرة الصباح وزوجها سعد الداخلى، حيث كان يتهيّأ للخروج من البيت وهى تبدى إشفاقها عليه:
ـ أظلّ فى خوف عليك، منذ خروجك من البيت، حتى عودتك إليه!
تلاعب بأصابعه شأن المتحيّر:
ـ جعلنى أبوك خادماً فى قصره.. لكننى كذلك أشرف على أعمال أبى.
فوّتت المعنى:
ـ وبماذا تقدّم نفسك للمحتسب؟
وهو ينزع الشارب الأسود من فوق شاربه المائل للاصفرار:
ـ كما تعلمين.. أغادر القصر متخفيّاً، وأعود إليه متخفيّاً..
استطرد وهو يتهيأ لاحتضانها:
ـ أنا عند أبى مشرف على أعماله. أما هنا، فأنى سعيد بأن أكون خادماً لمحبوبتى الجميلة.
وكما نرى، فإنّ الحوار، مع كفه لطبيعة العلاقة بين الزوجين، وظروف الزوج الذى يتخفى للوصول إلى زوجته، بالإضافة إلى التعريف بطبية عمله، فإنه يشير إلى الوظيفة التاريخية الهامة التى كانت سائدة فى عصر الرواية وهى وظيفة المحتسب، وكانت مهمّته مراقبة الأسواق، والآداب العامة، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، من خلال مساعديه الذين يختارهم من بين المؤهلين لهذه المهمّة.
وعلى هذا النحو يمضى الحوار فى المواضيع الأخرى حاملاً الدلالة التاريخية، وقائماً بمهمّة الكشف والإيضاح، تؤازره فى ذلك عملية تضمينٍ واسعةُ النطاق تعتمد عليها الرواية، ويتنوع التضمين ـ الذى ينتمى إلى الموروث ـ ما بين موّال، وحكايةٍ شعبية، وأسطورة، وإن كان الموّال أكثرها حضوراً من حيث الإبقاء على صيغته الأصلية.. أما الحكاية أو الأسطورة فقد تتعدّل صياغتها اللغوية لتكون أقرب إلى القارئ المعاصر..
إنّ الموّال، وهو صورة من صور الزَّجَل، يبدو أقرب إلى روح الشعب ووجدانه، فضلاً عن لهجته الدارجة القريبة من الفصحى، وقد أكثرت الرواية من تضمينه بحكم تسجيلة لأحزان الناس ومعاناتها فى واقعها وحياتها، فاهتمّ به الرُّواة الذين يقصّون الحكايات الشعبية فى المقاهى والميادين والحارات، واستدعته الرواية، ليؤكّد على اللغة التاريخية، ويتوازى مع الأحداث ودلالاتها، لذا نجد بعض فصول الرواية تقتصر على موّالٍ واحد فقط، لتكثف من دلالته، ولتؤكد على الأمل فى النجاة وعبور المحن، ولو بالموت، ففى الليلة الثامنة بعد الثلاثمئة مثلاً، يقول الراوى:
الـدنـيـا غـازيـّة مـا داِمـتْش للـنّاس ولا لـيـّهْ
ولا دامِتْش لمصرى ولا للرُّومى اللى نشا سور اسكندريّهْ
ولا دامتش لسيدنا داود اللى فتل الحديد، ولان لما بقى مَيّهْ
ولا دامتش لـسيـدنا سليمان اللى طاعـه الإنس والجنيّهْ
ولا دامـت لسيف اليزل اللى سعى وجـاب كـتاب المِيّهْ
ولا دامتش لأبو زيـد وديـاب أيـام حـروب الهلاليّةْ
والموّال هنا هو كلّ الفصل الروائى، واعترض المجال السردى ليؤكد على حقيقة الموت التى تطال الجميع بلا تفرقة ولا تمييز، وكأنّ الرواية بهذا الفصل الموّال، تؤكد مسبقاً على مصير شهريار المحتوم مهمه علا فى الأرض وجعل أهلها شِيَعاً.
ولا يقتصر التضمين بالموًال على هذا الفصل، ولكنه يتكرّر فى مواضع أخرى تشى بالحزن والألم، ولعلّ أكثرها توفيقاً الليلة الثامنة والثلاثون بعد الثمانمئة، حيث أنشد الراوى موّالاً، منه هذه الأبيات:
وكـلً سـاعَهْ نقـولْ بكرَهْ حا تتعدّلْ
ومهما نسعى نـلاقى الـزهر بَـهْدلْنا
ظـروفنا هيّـه كِـدَهْ حلفتْ ما تتعدّلْ
مـا دام معاهْ حَـظّ.. أحـوالُه بتتعدّلْ
وصاحب العقل فى الدنيا عايشْ مظلوم
والتضمين بالحكاية الشعبية قد يشمل القصة كاملةٍ، مثل حكاية القديس الذى ذبح الوحش وانتصر عليه، كما فى الليلة التاسعة بعد الأربعمئة، أو إشارات تستدعى الشخصية الشعبية مع ملمح من قصتها، كما نرى فى استدعاء عنترة وكليب والهلالية وغيرهم على مدى صفحات الرواية، ممّا يعطى المذاق التاريخى للرواية بعامّةٍ وللغتها على نحوٍ خاصّ.. وإن كان الحصاد فى النهاية عصرياً وقائماً بالقرب منا.
6. رواية الحلم بالنجاة:
وبعد..
فإن "زهرة الصباح" حلقة جديدة من حلقات البحث عن الأمل، والحلم بالنجاة من خلال إقامة العدالة والمساواة والرحمة، ورفض الشرّ والقسوة والانتقام الأعمى، ليعيش الناس فى أمن سلام وطمأنينة.