(21)
استقبلتُ استقبالاً حافلاً فى المستشفى . قابلنى الأطباء بود حقيقى , أما لطيفة إبراهيم فجعلت تنظر إلىّ وتبتسم , وحين انفردتُ فى مكتبى , دلفت إليه بخفة , وقالت بدلال :
- اشتقت إليك كثيراً يا حبيبى ..
- وأنا ..
- زوجى عاد وحدثنى عن بطولاتك .
- أنا !
- بالطبع يا حبيبى ..
- خليفته !!
- حتى فى بيته ..
- لكن ..
- اسمك على كل لسان , وفى كل بيت .. كانت الناس تحب الشيخ كثيراً وهى الآن تحبك .
- وأنتِ ؟
- زوجى يعشقه عشقا ..
- هل رأيت الشيخ عبد السلام ؟
- زوجى رآه ..
كنت أتحدث معها شارد اللب . لم يعد لشئ قيمة عندى .. غير أننى وددت لو تذهب بعيداً عنى , أو أذهب أنا . وقلت فى نفسى : " يجب أن تنتهى هذه المهزلة " . واقتربت منى . مست براحتها جبهتى الملتهبة , وداعبت لحيتى . أذّن الظهر فابتعدت وهى تردد :
- حان وقت صلاتك ..
- لن أصلى ..
فغرت فاها عن أسنان نضيدة , وقالت : حقاً !
ولما لم أرد , أردفت :
- شئ فيك تغير ..
- ربما ..
- عيناك انطفأ فيهما بريق ..
- لا يهم ..
- ماذا بك ؟
- لا شىء ..
- سأنتظرك الليلة .
- وزوجك !
- عاد ولم يعد .
- فى البيت ؟
وأردفتُ بسرعة :
- لا ليس الآن ..
- أريدك بـ....
قاطعتها : ليس الآن .
وتراجعتْ حين سمعت وقع أقدام تقترب من مكتبى ، وهمستْ : سوف أنتظرك الليلة .. نفس المكان .
كل شىء حولى كريه جداً . أشعر بثقل فى صدرى , أما الناس فجراثيم متحركة , والقانون سُبة إن صارمعبراً للأثرياء والمنافقين . أما ليل الصب فلا غد له .. ووجدت على باب مكتبى شاباً راسخ النظرة . كان ينظر إلىّ بثبات .. وقال :
- حمداً لله على سلامتك .
- أهلاً بك ..
- دكتور إبراهيم رمضان ..
- أعرف .
- لكنك ..
قلت وأنا أصطنع ابتسامة :
- تذكر أننى أعمل فى شئون العاملين ..
وابتسم . لعنته فى سرىولا أدرى لِمه ! .. وقال :
- أصبحتَ حديث المدينة ..
- الشهرة كالموت .
- لم أرك فى حياة شيخنا عبد السلام النمل ..
- لستُ من سكان مدينتكم .
- اسمح لى أن أكون صريحاً معك ..
- تفضل ..
- أنت تعرف - بالطبع- أن شيخنا عبد السلام ربى فى المدينة جيلاً من الشباب يحمل على عاتقه قيم الدين ومبادئ اللإسلام الحنيف ..
- عرفت هذا فى المعتقل .
وقال بجد ، وقد زادت نظرته صرامة حتى كدت أن أطيش من الكرسى :
- نحن فى أمس الحاجة لمن نلتف حوله .. طبيعة الإسلام تقتضى أن يتحقق فى المجموع .. فى جماعة ومن ثم فى دولة حتى يفتح الدنيا جميعا ..
قلت أخفف من التوتر الذى شعرت به :
- ومن الممكن أن يتحقق ولو كنت وحدك ..
- أعرف هذا جيداً ..
- ماذا تريد ؟
- نحن فى حاجة إلى سفينة ..
- ماذا تقصد ؟
- الطوفان أوشك أن يبتلعنا .
- ياأخى حدثنى بوضوح أكثر ..
رد بصوت أشد صرامة من نظرته :
- من أنت إذن ؟
- ألا تعرفنى !!
- حدثنى أنت الآخر بوضوح تام ..
قلت والعجب يدب فى أوصالى :
- ماذا تريد بالضبط ؟
- من أنت ؟
- لا أفهمك ..
- سيدى ..
وعادت لطيفة ابراهيم ، فصمت الدكتور إبراهيم رمضان ، واستأذن قائلاً :
- سوف أمر عليك فى الغد ، لنكمل حديثنا ..
قلت بلا مبالاة :
- وأنا فى انتظارك .
وجعلت أدق على مكتبى بقلم فى يدى ، وهى تنظر إلىّ شاردة .. وقلت :
- أتعرفينه ؟
- يعمل هنا ..
- أعرف أن اسمه ابراهيم رمضان .. خريج طب طنطا .. كل هذا عندى ، فهل من جديد ؟
- إنه شخصية غامضة ..
- بمعنى ؟
- الكل هنا يهابه حتى مدير المستشفى ..
- لِمه !
- لا أدرى ..
- وأنتِ ؟
- إنه جاد أكثر من اللازم ، ولا أحب هذا النوع من الرجال ..
- وبعد ؟
- هذا كل ما أعرفه عنه ..
- هل كان من تلاميذ الشيخ عبد السلام ؟
- ربما ..
كيف تأتى لذلك الشيخ أن يربى مثل هذا الجيل الذى شاهدت نماذج منه متباينة وإن كانت كلها معتصمة بحبل الله المتين !. أردفت لطيفة تخرجنى من تساؤلاتى :
- إياك أن تنسى .. أنا فى أشد الحاجة إليك ..
- لِمه !
فغرت فاها الدقيق ، وتنهدت بدلال قائلة :
- سوف تعرف حين تأتى ..
- لا أعدك .
- سوف أنسيك المعتقل وعذابه .
- صدقينى هناك مايشغلنى ..
- زوجتك ؟
- ربما ..
- وتقولها أمامى !
قلت شارداً :
- يفعل الله ما يشاء .