يوسف العظم .. الأديب الزاهد
بقلم المفكر الأستاذ / إبراهيم غرايبة
16/7/1428
30/07/2007
ويرحل أبو جهاد الأستاذ يوسف العظم عن هذه الدنيا، ولكنه باق بذريته الصالحة، وعلمه الذي يُنتفع به، وأعماله المتواصلة، وذكريات الناس عنه، هذا الفارس الذي أعطى أكثر مما أخذ، وبذل وقدم في التربية، والأدب، والدعوة، والإعلام، والسياسة، والخدمة العامة ما يحتاج إلى مؤسسة وفريق، وكأنه بالفعل أمة في رجل.
عندما كنت أزوره في بيته عام 2000 لإجراء حوار تذكري مطول معه، وجدته يعيش في بيت متواضع في حي فقير مزدحم، وهو الذي يشغل عضوية مجلس النواب منذ عام 1963 – 1993، وعمل وزيراً للتنمية الاجتماعية، وكان يدير مؤسسة تعليمية عريقة لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً. قلت في نفسي: كم تملك هذه الأمة رجالاً عظاماً لم تغيرهم الأضواء والمناصب، ولا استدرجتهم فرص الثراء غير المشروع، وحتى المشروع، ولكنهم بعيدون عن الأضواء، والتكريم، والمناصب، ويلقى غيرهم من العاجزين والفاشلين والفاسدين التكريم والإغداق والفرص المتوالية للمناصب والمكاسب.
ولد الأستاذ يوسف العظم في مدينة معان جنوب الأردن عام 1931، وهو من أسرة دمشقية عريقة، هاجر قليل من أفرادها أيام الدولة العثمانية للعمل والتجارة في الدولة الواحدة المترامية الأطراف، وعلى الرغم من أن عائلته صغيرة جداً في معان المدينة البدوية العشائرية فقد انتخبه أهلها نائباً، وكان عمره اثنين وثلاثين عاماً فقط، وظل يُعاد انتخابه لكل مجلس نواب منذ عام 1963 حتى عام 1993 عندما اختار هو بنفسه أن ينسحب من العمل النيابي بسبب ظروفه الصحية.
درس العظم بعد تخرجه من الثانوية في بغداد، وكان ملازماً للشيخ محمد محمود الصواف رحمه الله، وكتب في الصحف العراقية، ثم انتقل للدراسة في القاهرة، وتخرج من كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، ثم في معهد التربية العالي بجامعة عين شمس، وكان في أثناء دراسته ملازماً للأستاذ سيد قطب -رحمه الله- ويحضر في بيته ندوة أسبوعية، وكتب في مجلة الرسالة وهو بحدود العشرين من عمره وكانت آنذاك تنشر لكبار الكتاب والأدباء مثل طه حسين، والعقاد، والرافعي، وسيد قطب.
وبعد تخرجه في الجامعة عاد إلى عمان، وأنشأ صحيفة الكفاح الإسلامي الأسبوعية التي أصدر منها ثلاثة وأربعين عدداً، حتى أُوقفت ومُنعت من الصدور عام 1957 بسبب مواقفها الجريئة من الفساد والنفوذ البريطاني في الأردن، وكانت مجلة ناجحة تلاقي إقبالاً كبيراً من الجمهور والاتجاهات السياسية المختلفة.
وعمل في التعليم، ثم أنشأ مدرسة خاصة (الأقصى) في بداية الستينيات، وظل يديرها أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، وهي اليوم مدرسة رائدة وعريقة في عمان.
وشارك في الانتخابات النيابية، وعمل نائباً أكثر من ثلاثين سنة، وشغل منصب وزير التنمية الاجتماعية عام 1991.
والأستاذ يوسف العظم شاعر معروف، ولعله معروف بشعره وأدبه أكثر من عمله السياسي والعام، وقد أصدر أربعة دواوين من الشعر، هي "في رحاب الأقصى"، و "عرائس الضياء"، و "على خطا حسان"، و "قبل الرحيل"، وأصدر مجموعة كتب فكرية وتعليمية، مثل "سيد قطب، رائد الفكر الإسلامي المعاصر" و "رحلة الضياع للإعلام العربي المعاصر" و "الإيمان وأثره في نهضة الشعوب"، و "في آفاق العمل الإسلامي"، و "ألوان من حضارة الإيمان"، و "إعادة كتابة التاريخ الإسلامي"، و "مع الجيل المسلم".
نشأ يوسف العظم يتيماً فقيراً، فقد مات أبوه العامل في شركة نفط العراق وهو فتى صغير، وقد أصرّت والدته على أن يواصل ابنها تعليمه، ولم تكن المدارس في مدينة معان تعلم أكثر من الصف السابع، فهاجر إلى عمان التي تبعد أكثر من مائتي كيلو متر عن عمان (نتحدث عن منتصف الأربعينيات، حين كانت ظروف النقل والطرق والمواصلات أقرب إلى البدائية) وعمل في الورش والمحلات التجارية وحارساً حتى يؤمن مصروف دراسته ويساعد عائلته.
كان الفتى الصغير المغترب في عمان يقيم في غرفة صغيرة متواضعة، يكافح الجوع والبرد؛ حتى إنه فكّر في ترك الدراسة لولا تشجيع مدير المدرسة الأستاذ حمد الفرحان (أحد قادة ورموز العمل القومي).
وشارك العظم في العمل العام والسياسي، وسُجن إحدى عشرة مرة، وتقدم في العمل السياسي الأهلي والرسمي، فكان من قادة الحركة الإسلامية ونائباً ووزيراً، وكان محاضراً وخطيباً مؤثراً تأتي الجموع من كل مكان للاستماع إلى محاضراته وخطبه، وشارك في عشرات المؤتمرات والندوات في جميع أنحاء العالم، وكان ممثل آسيا في مجلس الندوة العالمية للشباب الإسلامي.
تعرّف العظم تلميذاً وزميلاً على معظم قادة الفكر الإسلامي المعروفين، سيد قطب، محمد الغزالي، ومحمد قطب، ويوسف القرضاوي، وأحمد العسال، والبهي الخولي، وعبد العزيز كامل، ومحمد محمود الصواف.
ويذكر العظم بحنين زملاء السجن ومعظمهم شيوعيون وبعثيون: فؤاد نصار (مسيحي) رئيس ومؤسس الحزب الشيوعي (أذهلني بخلقه وتواضعه، وكان مثال التعاون والتكاتف، ويوقظني في السجن لأصلي الفجر)، وسليمان الحديدي (بعثي)، وفريد القسوس الشيوعي المسيحي، وأصدقاء آخرون يتولون مناصب رفيعة في الحكومة، وزراء وسفراء وأعيان.. فالناس على اختلافهم يجمعون على احترام وتقدير هذا الرجل وهو يبادلهم الصداقة والاحترام.
وظل هذا الفتى في طاقته العظيمة، وهو يطوف في المدن والبلدات يلقى المحاضرات، ويلتقي الناس ويواجه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويكتب في الصحف، ويصدر المجلات والنشرات، ويدير المدارس، ويمارس عمله النيابي، ويتابع شؤون دائرته الانتخابية التي كانت مساحتها تزيد على ثلث مساحة الأردن لتشمل الطفيلة والعقبة ووادي موسى والبادية، ويكتب ويؤلف ويسافر في العالم داعية ومحاضراً، ولم يحتمل قلبه هذه العزيمة الجبارة فأُصيب بمرض في القلب، ولكنه ظل على مدى عشرين عاماً بعد مرضه هذا يواصل عمله وعطاءه مواجهاً المرض والإجهاد وتقدم السن.
وأحسب أنه لم يخرج من الدنيا بعد هذه السيرة المليئة بالأعمال والإنجازات والمناصب الكبرى أكثر مما يمكن لإنسان عادي بسيط أن يحصل عليه؛ بيت في جبل التاج لم يشأ أن يغادره، وراتبه التقاعدي، وفي عام 1974 عندما حل مجلس النواب رفض أن يواصل استلام راتبه النيابي الذي بقي جارياً، وأعاده مع موظف المجلس الذي حضر بنفسه ليسلمه إليه في مكتبه في المدرسة، وسمعت مرة الدكتور عبد الله عزام -رحمه الله- أنه حين كان أمين السر العام لجماعة الإخوان المسلمين بين عامي 1974 - 1978 يقول: إنه تحدث مع الأستاذ يوسف؛ لأنه مقصر في دفع الاشتراكات الشهرية للجماعة، فقال له: صدقني أني أجد صعوبة كبيرة في تدبير الطعام والاحتياجات اليومية لأسرتي.