"أتجعل فيها من يفسد فيها..."
الأستاذ عبدالرزاق المساوي
00++**هذا مدخل للقراءة الجديدة المقترحة لبعض مشاهد قصة بدء الخليقة**++00
إن السرد القصصي يعتبر ركيزة من ركائز التربية الإسلامية وأسا من أسس القرآن الكريم ودعامة من دعائم الخطاب الرباني الموجه لكل الناس بدون استثناء.. بله إنه يعتبر التصوير الحقيقي بأدوات تعبيرية ذات طابع سردي، ولغوية ذات سمات جمالية تعتمد مقومات التصوير بالريشة البلاغية الحية.. والتقديم التشخيصي والأنموذجي كأنك أمام أحداث ووقائع وشخصيات تمر بين يديك بكل انسيابية وتترك بصماته على مخيلتك وتأثر في مسار حياتك.. ثم إن هذا السرد القصصي هو الحديث الواقعي والإنساني لكل موضوعات القرآن الكريم ولكل مكونات الخطاب الرباني العظيم.. فهو يرصد أهم وأبلغ وأعمق ما يطرحه ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه.. ويشخص موضوعاته وما تناوله من قضايا عقدية وسلوكية.. فكرية ومعرفية.. نظرية وتطبيقية.. إنها سرد قصصي يأخذ بلغته الربانية بتلابيب الحياة البشرية في مسارها الطويل من المهد إلى اللحد، من الخلق إلى الجزاء.. (1)
(1) انظر مقدمة قراءة جديدة للسرد القصصي في الخطاب القرآني على الرابط: http://www.odabasham.net/show.php?sid=10517
كما يعتبر السرد القصصي في الخطاب القرآني دليلا حيا على أن كل ما أتى به الإسلام من شرعة ومنهاج، بناء على ما سبق ذكره، يتميز بالواقعية ولا يرتبط بأي حال من الأحوال بالخيال.. ويتميز بالإنسانية ولا يرتبط بما فوق الطبيعة البشرية.. فما أتى به الإسلام من قضايا لا تخرج عن أن تكون قضايا قابلة للتطبيق الحي والترجمة الميسرة إلى حركات واقعية.. وها هي كوكبة الأنبياء والرسل والصالحين في كل زمان ومكان تقدم الدليل على ذلك من خلال ما سطره كتاب الله تعالى عنهم وما أثبته التاريخ مصدقا بما جاء في هذا الكتاب العظيم.. (2)
(2) انظر "السرد القصصي في الخطاب القرآني بين الحقيقة والخيال" على الرابط التالي: http://www.odabasham.net/show.php?sid=11098
ولأهمية هذه القضية وفاعليتها في التأثير على المتلقي نجد السرد القصصي يشغل مكانا واسعا وحيزا كبيرا وفضاء مكانيا متراميا من جغرافية النص القرآني الجليل.. ويتمدد عبر خريطته الشاسعة في فضاءات عديدة ومتنوعة ومختلفة وبأشكال متغايرة ومتباينة من أول سورة إلى آخر سورة....
ولكن هذا السرد القصصي بكل ما يحمل من معاني رائعة راقية.. وموضوعات جميلة فائقة.. وبكل ما يشكله من تصوير رائع موفق للمرامي القرآنية والغايات الإسلامية.. وبكل ما يشخص من مثل وقيم عالية وأخلاق فاضلة وسلوكيات متعالية.. وبكل ما يسلطه من أضواء كاشفة على الأفكار المنحطة والسلوكات الدانية والتصرفات المشينة.. وبكل ما يزخر به من أداء لغوي عال وبلاغي فصيح.. وبكل ما يقدمه من جمالية لفظية وشاعرية تركيبية عز نظيرهما.. تعرض هذا السرد القصصي مثله مثل بعض القضايا الإسلامية الأخرى لعدد من التعسفات وكثير من التجاوزات وجملة من المفاهيم الغريبة عن طبيعته مما أفقده العديد من خصوصياته، ونأى به عن كثير من المزايا والأهداف النبيلة التي من أجلها صيغ بالشكل الذي هو عليه في كتاب الله تعالى، بله لقد أفرغه هذا التدخل البشري من فحواه وجعله كأنه أجوف لا طائلة تحته اللهم إلا من الجانب الحكائي حيث إن القصة القرآنية أصبحت تعيش بين الحقيقة والخيال في حياة كثير من الناس، وأضحت بينهم تروى للتسلية والتفكه والسمر وضرب الأمثال.. أو تقرأ للخوض -وبجميع الوسائل المتاحة- في الغيبيات والقضايا التي لم يشهد أحد خلقها.. ولم يعيشوا أحداثها ولا زمانها ولا مكانها ولا أشخاصها.. ولا ارتكزوا في التعامل معها على ما هو حقائق تاريخية مدونة وغير محرفة، ولا اعتمدوا على روايات محققة مدققة لا يرقى إليها الشك من أي جهة.. مما أدى وبكل وضوح إلى الحديث عن التاريخ البشري بشكل خرافي أو برؤية أسطورية، أو بضرب من الظن الذي لا يغني من الحق شيئا.. (3)
(3) انظر كتاب "قصص الأنبياء" المسمى بـ "العرائس" من تأليف ابن إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبي..
وتأتي قصة آدم عليه السلام أول قصة قرآنية تحيط بها المشكلات من جميع الجهات.. فلقد كانت أكثر القصص القرآني عرضة للتفسير الخرافي والتحليل الأسطوري والعرض الحكواتي، حتى أمسى القارئ للقرآن الكريم في سرده القصصي لأحداث بدء الخليقة لا يستطيع أن يتخلص من كثير من الأفكار التي علقت بأحداث القصة والتي جاءت روايتها عن رجال ثقات استنادا إلى مصادر كتابية تم التعامل معها بمرونة زادت عن الحد حتى انقلبت إلى الضد.. مما زاد القصة القرآنية في حلقتها الآدمية غموضا ولفا في المجهول كما زادها إيغالا في الأسطورية.. وكيف لا وهي قصة بدء الخليقة، فكلما بعدت القصة في الزمان كلما أحاطها الناس بهالة من الأفكار العجائبية والآراء الأسطورية.. وغدا المرء المتلقي لا يفرق في فهمها بين ما هو حق وحقيقة وما هو باطل وخيال، بين ما يتصل بالقص الرباني الموثق والمشهود له بالصدق، وما له علاقة بالحكي الإنساني والتفكير البشري.. بين ما هو وحي وما هو رأي.. بين ما هو غاية في الأهمية وما هو وسيلة للتسلية.. لقد اختلطت الأمور على متلقي الخطاب القرآني في شقه السرد قصصي.. وللأسف الشديد التبس الأمر حتى على بعض أولئك الذين يعتبرون من أهل العلم والفضل قديمهم وحديثهم.. (4)
(4) انظر كتاب الدكتور عبد الصبور شاهين "أبي آدم قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة" دار أخبار اليوم قطاع الثقافة جمهورية مصر العربية-الناشر دار الاعتصام سنة النشر 1998..
وإن من جملة الأمور التي أثارتها قصة آدم عليه السلام في القرآن الكريم وأسالت مداد أقلام كثيرة قديما وحديثا.. وحيرت عقولا عديدة وأربكت فهم النص القرآني المتعلق بالقصة ككل وما يرتبط بها.. تلك الحلقة العجيبة أو تلك اللقطة الهائلة أو ذلك المشهد الرائع الذي أتى في الخطاب القرآني في سورة البقرة على صرح اللغة العربية الحية ومحمل البلاغة الراقية المتحركة.. إنه المشهد المفعم بالحركة.. وهو يصور وأقول يصور بالمفهوم السينمائي لحظة الحوار العلوي بين رب العالمين عز وجل وعباده الطائعين من ملائكته المقربين.. والتي كانت لحظة مثيرة إثارة مفيدة جدا من خلال رسم صورة قمة التسامح في الحوار بين الخالق والمخلوق.. ومعبرة تعبيرا حيا عن السمو والعلو والنزاهة والكرامة في مناقشة قضية جوهرية بين صاحبها وواضعها سبحانه في علوه وبعض خلقه الذين من المفروض بداهة أن لا يناقشوا ولا يحاوروا بله يسمعوا وينفدوا.. إنها لحظة مشهدية حبلى بالمعاني العظيمة والدلالات الجليلة إلا أنها تعرضت لسوء فهم وتأويل جعلها عوض أن تكون للعبرة والعظة والدروس المفيدة ومعلمة من معالم التربية القرآنية في مسيرة الحياة الإنسانية، أصبحت مثار نقاش عقيم وجدال سقيم لا طائلة تحته وتأويلات لا فائدة ترجى منها.. وما أظن أن الأمر كان يحتاج إلى كل ما أثير من ضجيج فكري وصخب علمي وصل عند بعضنا – غفر الله لنا ولهم - إلى حد التقاضي..(5)
(5) انظر مقدمة الطبعة الثانية لكتاب عبدالصبور.. الصفحة: 19.. م.س.
ولا بأس هنا من التذكير بالآيات القرآنية الكريمة وسرد ما جاء في تأويلها ببعض كتب التفسير القديمة والحديثة كي نقف على ما هو كائن أولا ثم بعد ذلك نحاول قراءة الآيات القرآنية بالشكل الذي نقترحه ونسأل الله تعالى التوفيق إنه سميع مجيب..
00++** يــتــــبـــع **++00