[align=center:4e5bfdd540]
صدى صوتها كان يخترق الطرقات كقطرات المياه المنسابة بخفة من سطوح المنازل المهترئة ..تعزف عزفا هادئا فوق الأرصفة تنقش بسيلانها دروبا متعرجة بين ركام الثلوج المسهدة هنا وهناك ..تمازجت و صيحاتها التي تبحث عمن يشتري عمن يبتاع ..عمن يريد .."كبريت ..كبريت .."
لم يكن أحد ليهتم ..ولم يكن صوتها ليهدأ ..ظلت تهمس ..ظلت تدندن "كبريت كبريت ..."وكأنه شدو بلبل عذب الترانيم ..يبعث الدفء كيفما حل وأينما ارتحل ..يقشع غيوم المدافيء الرمادية ..بائعة صغيرة رقيقة هشة ..وبضاعتها أعواد من الكبريت ..الكثير الكثير من الكبريت..
البرد والثلج والصقيع ..والطريق الطويل ..كلها كانت كالليل العتيم غامضة وغريقة ..وكانت تسير قدميها الحافيتين العاريتين إلا من مسامات جلدها المصتكة ..تقفز قفزا فوق الأرض الباردة ..تحدق عيناها عاليا ..علّها تطرق حنين ما في عيون الآخرين ..الكبار الكبار الذين كانت خطاهم تسير أماما دافعة كل ما هو صغير ..داهسة كل مالا تراه ..نافثة زفرات باردة ..ولهاث جائع يطلب المزيد ..
البرد يتشابة والكثير من الأشياء ..يشبه الكره في جفوته والحقد في يبسه والحسد في جفائه والأنانية في قسوتها وسطوتها ..وكلها بغيضة وكلها لا تحتمل ..موجعة ..ومؤلمة ..وقارسة
رمت جذعها النحيل على حائط باطنه فيه الدفء وكل معانيه التائهة ..وخارجه ما يعني الصقيع ..تهاوت أرضا ببطء..كي لا تنزعج منها أحلام الكبار ..
كانت تزفر بنسمات دافئة ينفثها ثغرها المتلأليء الوردي .. رغم زرقة البرد ..نظرت لسلة تعانقها منذ الأزل ..تلك التي روتها الحكايا لنا ..مليئة مليئة بأعواد الكبريت ..بعضها ابتل وبعضها تكسر ..وبعضها لا زال فيه رمق ..
"لم لا
..أشعلها لي ..لي وحدي.."
>>
/هكذا هو البرد ..يعلّم الأنانية ../>>
وعاشت أنانيتها لحظة لحظة ..وبدأت بالإشتعال..بالتوهج ..
أحلام لفقير هنا ..غث الثياب .. وأماني للمحروم هناك تشتاقه الأحضان ... وكثير من السعادة لبعض التعساء والبؤساء ..وضمادات للمجروحين ..المكلومين العاشقين لحياة دافئة دفئا ربانيا غادقة بالكثير ... وهاهو عود آخر تشعله للباعة الصغار ..الذين تاه بهم المسير ..وإذ بهم ينتهون لأنفاق مظلمة أو متاهات مشقية ..علّهم يئوبون ..يتوبون ..يعودون..وآخر لجباه ما طأطأت الأرض ساجدة ولكن كي تسترزق فتمسح أحذية المهمّين .. ..وعود آخر صغير لقهر يسكنا ويأس يعشش فينا وموت يتسلل يقتنص بعضا منا>>
لم يرها أحد ...لم بعبأ بعبثها أحد ...فالكل مشغول ..ملهوف ..مسرع ..مليء بفراغات وفقاعات تحتله وتكتظ في دواخله فيبدو بدينا ..بدينا جدا ..هكذا دوما هم ..المهمّون ..بدينون ..دائما منتفخون ..متخمون ..
..والبرد لا يتلذذ إلا بها ..وحدها وبعودها النحيل ..الذي لا يملك سوى أعواد من الكبريت ..تشعلها عود عود .. .. وقليل من الأحلام تراودها..توميء لها بالإشتعال بقليل من الحياة ..وسط البرد الذي يحاصرها من كل إتجاه .
تعثر أحد المارة الكبار ..بقدمها الصغيرة وحظها العاثر ودفئها الغض ..لم يقع ..فمثله لا يقع ..و مع ذالك زمجر غضبا وتعجرف زجرا وزأر مستاءا ..وركل برجله كل أعواد الكبيرت المشتعله والمنطفئة ودهس ما بقي منها وهشم كل الأحلام التي كانت تبعث الدفء ..طحن بغضبه الكبير كل ما كان في ثنايا الرصيف ..وكل ما تخبئه أعواد الكبيرت ..كل اشتعال وكل توهج ..وكل النور ..
فالبرد كان حرفته واللثلج ينهمر منه يغمر كل رمق بالإخضرار بالتورق ..بالحياة ...
...>>
أرغمها على النهوض ..والمضي بعيدا ..حيث لا يراها ..فما كان مسطيعا أن يراها ..وما كان له أن يفعل ..
ظلت تهمس ..ظلت تدندن ..
هذه المرة ..ما كانت تملك شيئا من أعواد الكبريت ..كانت تمخر عباب الأرصفة ..وركام الثلوج ...وانهمارات المطر ..ما كانت تطلب الكثير ..
كانت فقط تبحث عن
"كبريت ..كبريت .."
\\
//
\\
في بكرة اليوم التالي ..حزنت الشمس فما اشتعلت ..وحبست المطر ..فما تقاطرت ..وضاقت أرصفة الطرقات ..حتى من بوح لأعواد الكبريت .>>[/align:4e5bfdd540]