اللغة والعصر
لم يبق في أرباب الأقلام ومنتحلي صناعة الإنشاء من الأمة من لم يشعر بما صارت إليه اللغة من التقصير بخدمة أهلها، والعقم بحاجات ذويها، حتى لقد ضاقت معجماتها بمطالب الكتاب والمعربين، وأصبحت الكتابة في كثير من الأغراض ضربا من شاق التكلف، وبابا من أبواب العنت. واللغة لا تزداد إلا ضيقا باتساع مذاهب الحضارة، وتشعب طرق التفنن في المخترعات والمستجدات، إلى أن كادت تنبذ في زوايا الإهمال، وتلحق بما سبقها من لغات القرون الخوال. ومست الضرورة إلى تدارك ما طرأ عليها من الثلم قبل تمام العفاء، وقبل أن ينادي عليها مؤذن العصر: سبحان من تفرد بالبقاء، ويختم على معجماتها بقصائد التأبين والرثاء.
تلك هي اللغة التي طالما وصفها الواصفون بأنها أغزر الألسنة مادة، وأوسعها تعبيرا، وأبعدها للأغراض متناولا، وأطوعها للمعاني تصويرا قد أفضت اليوم إلى حال لو رام الكاتب فيها أن يصف حجرة منامة لو يكد يجدها فيها ما يكفيه هذه المؤونة اليسيرة، فضلا عما وراء ذلك من وصف قصور الملوك والكبراء، ومنازل المترفين والأغنياء، وشوارع المدن الغناء، وما ثم من آنية وأثاث، ملبوس وفراش، وغير ذلك من أصناف الماعون وأدوات الزينة مما لا يجد لشيء منه اسما على معاني في قلبه لا يتسنى له إبرازها بالنطق، ولا يجد سبيلا إلى تمثيلها باللفظ، كأن المقاطع التي يعبر بها عن هذه المشخصات لم يخلق لها موضع بين فكيه، وليست مما يجري بين لهاته وشفتيه. فعاد كالأبكم يرى الأشياء ويميزها، ولا يستطيع أن يعبر عنها إلا بالإشارة، ولا يصفها إلا بالإيماء.
يتبع