الأضداد.. في اللغة العربية ____ نصر الدين البحرة
إذا رأينا أن وضع كتب الأضداد، يدخل في مجال التأليف المعجمي، فإنه اقترن تاريخياً بولادة هذا النوع من الكتابة. وقد "ولدت معجماتنا اللغوية صغيرة متفرقة غير منظمة، ثم نمت شيئاً فشيئاً، وتوسعت وتكاملت جيلاً بعد جيل"(1)
وعلى الرغم من أن الصينيين واليونان قد سبقوا العرب في وضع المعاجم ببضع مئات السنين، إلا أن العرب سبقوا أوروبا في هذا المضمار بأكثر من تسعة قرون ذاك أن تأليف أول معجم عربي يعود إلى القرن الثامن الميلادي، في حين يرجع تأليف أول معجم أوروبي إلى القرن السابع عشر، وهو معجم انكليزي(2).
ولقد جمعت ألفاظ اللغة العربية ودونت ورتبت خلال ثلاث مراحل تاريخية، بدأت الأولى منها أواخر القرن الهجري الأول واستغرقت زهاء مئة سنة حتى أواخر القرن الثاني للهجرة. وفي هذه المرحلة جمعت الأحاديث الشريفة والقصائد الشعرية وبعض الأعمال النثرية. "وكان علماء اللغة يأخذون الألفاظ العربية من أفواه عرب الصحراء، أو الوافدين على الأمصار، ممن لم تتأثر ألسنتهم بمخالطة الأعاجم."(3)
في المرحلة الأولى جمعت المفردات والألفاظ كيفياً دون ترتيب أو تنظيم "لأن الغاية كانت تتجه أولاً إلى الجمع والتدوين دون غيره، خوفاً على العربية من الغريب الدخيل"(4) وعرفت المرحلة الثانية قدراً أكبر من التنظيم، كجمع الألفاظ التي تشترك في حرف واحد أو التي ترتبط برابطة الأضداد. وفي المرحلة الثالثة وضعت المعجمات الشاملة المنظمة، واعتمد مؤلفوها على ما كُتب في المرحلتين السابقتين، فجمعوا وأضافوا ورتبوا ونسقوا.
وفي هذه الأثناء ظهرت كتب الأضداد وهي "التي جمعت ألفاظاً تأخذ معنيين متضادين، بحيث يمكن استخدام كل لفظة منها لمعنيين متنافرين، إذ أن كل لفظة تعني الشيء وضدَّه"(5)
وبين الذين وضعوا معجمات الأضداد: الأصمعي، والسجستاني، وابن السكّيت وقطرب، وأبو الطيب اللغوي، وابن الدهان، والصغاني، وابن الأنباري. وقد قام المستشرق أوغست هفنر بتحقيق كتب الأضداد التالية:
- الأضداد - تأليف الأصمعي. "ت- 215هـ"
- الأضداد -تأليف ابن السكّيت "ت- 244هـ"
- الأضداد- تأليف السجستاني "ت- 255هـ"
ونشرتها معاً في بيروت سنة 1913م دار الكتب العلمية. ونشر هفنر أيضاً كتاب الصغاني في الأضداد في السنة ذاتها وجعله ذيلاً للكتب الثلاثة.
أما كتاب قطرب "الأضداد" فقد حققه المستشرق هانس كوفلر ونشره عام 1931 في مجلة “ISLAMICA”المجلد الخامس.(6)
وحقق الدكتور عزة حسن كتاب أبي الطيب اللغوي: "الأضداد في كلام العرب" ونشره المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1382هـ - 1963م.
وتولى تحقيق كتاب ابن الدهان "الأضداد في اللغة" محمد آل ياسين ونشرته مكتبة النهضة في بغداد ط2 سنة 1382هـ- 1963م.
أما كتاب الأضداد لابن الأنباري(7) محمد بن القاسم، فقد صدر في طبعة حديثة أولى في القاهرة سنة 1325هـ "اعتنى بضبطها بالشكل وتصحيحها -حضرة- ملتزم طبعها الشيخ محمد عبد القادر سعيد الرافعي، صاحب المكتبة الأزهرية مع العلامة اللغوي الشيخ أحمد الشنقيطي بعد مقابلتها على نسخة قديمة من خط المؤلف- يعني: ابن الأنباري"(8).
وصدر هذا الكتاب أيضاً في الكويت، من تحقيق "أبو الفضل ابراهيم" -التراث العربي عام 1960. وفي هذه الدراسة سنعتمد الكتاب الأول الذي حققه العلامة الشنقيطي.
وجهة نظر في تفسير "الأضداد"
يقول د. مراد كامل في تقديمه كتاب "الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية" لجرجي زيدان في طبعة جديدة:(9)
"في أوائل القرن العشرين استطاع "موريس جرامون" و "أنطون مييه" و "جوزيف فندريس" أن يثبتوا أن التغيرات الصوتية وغيرها من التغيرات اللغوية، لا يمكن القول إنها مماثلة للتغيرات التي تحدث في العالم الطبيعي، كما ذهب علماء اللغة خلال القرن التاسع عشر، ولكنها تدل على تفاعل بين الدوافع النفسية الفيزيولوجية، وبين نظام اللغة الذي تطرأ عليه التغيرات. والتغيرات تحدث في الأفراد في اللاشعور أو على هامش الشعور"(10).
يدخل "التضاد" في صميم هذه التغيرات التي تحدث في الأفراد على صعيد اللاشعور.فإن رؤية الشيء أو الحركة، قد تستدعي في اللحظة ذاتها ضده أو ضدَّها. وهذا ما يفسره علم النفس في دراسته تداعي الأفكار، فقد جعل لذلك قانوناً بثلاثة بنود:
- التداعي بالاقتران "اقتران شيء بشيء".
- التداعي بالتشابه "فلان يشبه فلاناً".
- التداعي بالتضاد "أبيض أسود".
ولكن التضاد الهام جداً في اللغة العربية هو ذاك الذي يجعل المعنيين المختلفين- وأحياناً: عدة معانٍ -كامنين في قلب الكلمة الواحدة "فالجَوْن" تعني الأبيض والأسود. و "القَنيص" للصائد والمصيد. و "الكري" للمستأجِر والمستأجَر. و"الطرب" للفرح والحزن. وهذا ما يؤكد أن العقل العربي هو في طبيعته غير سكوني. بل هو جدلي Dialectical.
إن الدكتور عبد الكريم اليافي(11) في دراسة فريدة له عن أبي تمام يستخرج من بعض شعره من الأضداد ما يحمله على القول إن التضاد هو أساس التفكير عنده.
ويرى أيضاً أن أبا تمام "يرى من خلال التضاد أن الحركة هي الأصل في حُسْن الطبيعة وجمال الأرض" وهو يذهب أبعد من ذلك فيقول:
" حين نطالع شعر أبي تمام نجد أنه قد سبق هيغل وأمثاله من الفلاسفة بعصور طويلة فشق طريق الديالكتيك المستند إلى صراع الأضداد، فهو في الحقيقة أبو الجدل الحديث".
ومن الأمثلة الموفقة التي يقدمها الدكتور اليافي في هذا المجال قول أبي تمام:
من سجايا الطلول ألا تجيبا
فصواب من مقلتي أن تصوبا
فاسألنها واجعل بكاك جواباً
تجد الدمع سائلاً ومجيبا
وإذا كانت "الأضداد" توضح حركة الذهن العربي وجدليته، من خلال المفردات التي هي مادة التفكير، فإنها تؤكد من جانب آخر، في الوقت نفسه، مرونة هذا الذهن وقابليته للنقاش وسعة الرؤية اللغوية.
من أساليب التضاد
هنالك أكثر من أسلوب للنفي حسب حركة الذهن، فيمكن أن نقول مثلاً:
"طويل- وغير طويل أو- لا طويل" كذلك القول "قصير- غير قصير أو- لا قصير".
ومثل ذلك قولنا: "أسود- لا أسود أو- غير أسود" كذلك القول: "أبيض- غير أبيض أو- لا أبيض".
ولكن الطبيعي أن نقول "طويل وقصير" و "أسود وأبيض" مثلما نقول "حركة وسكون" و "ظلام وضياء" وهناك معجمات كثيرة اهتمت بهذه الأضداد في بعض فصولها، هي معجمات المعاني مثل "فقه اللغة" للثعالبي و "تهذيب الألفاظ" لابن السكّيت و "الألفاظ الكتابية"(12) للهمذاني. وفيه فصل عنوانه "باب الأضداد" منه "الفرح والغم. اليسار والفقر. المدح والثلب. الدنّو والبعد. الإظهار والكتمان.. إلخ".
.. إلا أن ما يعنينا هنا هو اجتماع المعنيين أو أكثر في لفظ واحد، وهذا ما اهتمت به معجمات الأضداد، وبينها كتاب ابن الأنباري الذي نحن في صدد الحديث عنه.
في تعريف الأضداد
ورد في لسان العرب أن الضد هو كل شيء ضادَّ شيئاً ليغلبه. وورد التعريف نفسه في "تاج العروس" للزبيدي(13) وأضاف: "السواد ضد البياض، والموت ضد الحياة: قال الليث. ويقال: لقي القوم أضدادهم وأندادهم أي: أقرانهم. وقال الأخفش: الند هو الضد والشبه. وقال ابن السكيت: حكى لنا أبو عمرو: الضد مثل الشيء. والضد: خلافه.
وجاء في "المصباح المنير"(14): الضد هو النظير والكفء. والجمع أضداد. والضد خلافه. و (ضادّه) (مضادةً) إذا باينه مخالفة و (المتضادان) اللذان لا يجتمعان كالليل والنهار.
وأشار الشرتوني في "أقرب الموارد"(15) إلى ما دعاه "لغات الأضداد": اللغات الدالّة على معنيين متضادين كالضد للمثل والمخالف.
كتاب ابن الأنباري
هناك إجماع بين الباحثين على أن كتاب "الأضداد" في اللغة لابن الأنباري هو واحد من أهم كتب الأضداد المطبوعة في اللغة العربية، وقد جمع فيه مئتين وثلاثاً وتسعين لفظاً من ألفاظ الأضداد. وهناك من يقول إنها ثلاثمئة(16).
وهو يستهل كتابه بتبيان الغرض من تأليفه قائلاً: "وقد جمع قوم من أهل اللغة الحروف -يعني: الكلمات- المتضادة. صنّفوا في إحصائها كتباً نظرت فيها فوجدت كل واحد منهم أتى من الحروف -الكلمات- بجزء، وأسقط منها جزءاً.وأكثرهم أمسك عن الاعتلال لها، فرأيت أن أجمعها في كتابنا هذا، على حَسَب معرفتي ومبلغ عملي، ليستغني كاتبه والناظر فيه عن الكتب القديمة المؤلفة في مثل معناه"(17).
وكان قبل ذلك، قد عرض وجهة النظر التي تعارض فكرة الأضداد أي أنْ "يكون الحرف -الكلمة- مؤدياً عن معنيين مختلفين. ويظن أهل البِدَع والزَيغ والإزراء بالعرب أن ذلك كان منهم لنقصان حكمتهم وقلة بلاغتهم، وكثرة الالتباس في محاوراتهم عند اتصال مخاطباتهم، فيسألون عن ذلك ويحتجّون بأن الاسم منبئ عن المعنى الذي تحته، ودال عليه، وموضح تأويله.
فإذا اعتور اللفظة الواحدة معنيان مختلفان، لم يعرف المخاطب أيهما أراد المخاطِب، وبطل بذلك تعليق الاسم على المسمى(18)".
ويَردّ ابن الأنباري على هذا الاعتراض الذي تضمن وجهة نظره في قائله، وهو لا بد أن يكون من الشعوبيين(19) "أهل البدع والزيغ والإزراء بالعرب" فيقول:
"فأجيبوا عن هذا الذي ظنوه وسألوا عنه، بضروب من الأجوبة، أحدهن أن كلام العرب يصحح بعضه بعضاً، ويرتبط أوله بآخره، ولا يعرف معنى الخطاب منه إلا باستيفائه واستكمال جميع حروفه، فجاز وقوع اللفظة على المعنيين المتضادين لأنها يتقدمها ويأتي بعدها ما يدل على خصوصية أحد المعنيين دون الآخر، ولا يراد بها في حال التكلم والإخبار إلا معنى واحد فمن ذلك قول الشاعر:
كل شيء ما خلا الموتَ جلَلْ
والفتى يسعى، ويلهيه الأمَلْ
فدل ما تقدم قبل "جلل" وتأخر بعده على أن معناه: "كل شيء ما خلا الموت يسير" ولا يتوهم ذو عقل وتمييز أن الجلل هنا معناه عظيم. ويقدم ابن الأنباري مثالاً آخر:
فلئن عفوتُ لأَعُفَونْ جللاً
ولئن سطوت لأُوهِنَنْ عظمي
قومي همُ قتلوا أميم أخي
فإذا رميت، يصيبني سهمي.
ثم يتابع شارحاً: فدل الكلام على أنه أراد "فلئن عفوت لأعفون عفواً عظيماً، لأن الإنسان لا يفخر بصفحه عن ذنب يسير" فلما كان اللبس في هذين زائلاً عن جميع السامعين، لم يُنْكَر وقوع الكلمة على معنيين مختلفين في كلامين مختلفي اللفظ"(20).
خطة ابن الأنباري في "الأضداد"
1- لم يرتب كتابه حين وضعه ترتيباً أبجدياً، كما جرت العادة في وضع المعجمات. ولذلك فإنه بدأه بحرف هو السابع عشر في الأبجدية العربية هو "الظاء" في كلمة "الظن" التي استغرق شرحها زهاء خمس صفحات. في حين نجد حرفي "الألف" و "الجيم" في الصفحات الأخيرة من الكتاب، ورقمهما هو "308" و "309". وعدد صفحات الكتاب "المطبوع" هو ثلاثمئة وخمس وسبعون ورقة.
2- لم يميز ابن الأنباري في عرض مفرداته وشرحها بين فعل وبين اسم وبين حرف. كان يقدمها ويتحدث عنها كيفياً على هواه، منتقلاً من الحروف إلى الأسماء فالأفعال دون حرج. ففي صفحتين متتاليتين في الكتاب تحدث عن هذه الكلمات:
- "مُشِبّ" -اسم: للمسنّ وللشاب.
- "أعبل" -فعل: إذا سقط ورقه. وإذا أخرج ثمرته.
- "طلعت" -فعل: على الرجل: أقبلت عليه. وأدبرت عنه(21).
3- يعتمد الإسهاب في الشرح، باستمرار، وربما لا تدعو الحاجة إلى ذلك. انظر إلى هذا الإسهاب: في حديثه عن "أَشُدّ" يقول: "بلغ فلان أشده إذا بلغ ثماني عشرة سنة. وبلغ أشده إذا بلغ أربعين سنة. قال الله تعالى: "حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة". قال الفراء: ويقال الأشد أربعون سنة. قال وحكى لي بعض المشيخة بإسناد ذكره أن الأشد ثلاث وثلاثون سنة، والاستواء أربعون سنة(22).. إلخ..
4- يميل إلى الاستطراد كلما سنحت أمامه فرصة لذلك، ولا غرابة ما دام قد ولد بعد وفاة سيد الاستطراد وظريفه الجاحظ بعشرين سنة تقريباً: "الجاحظ: 163- 255هـ. ابن الأنباري: 271- 328هـ" فلا بد أنه قرأه جيداً، وتأثر بأسلوبه في الكتابة. فلننظر ماذا فعل وهو في صدد كلمة "وثب". "يقال: وثب الرجل إذا نهض وطفر من موضع إلى موضع. وحِمْيَر تقول: وثب الرجل إذا قعد. وقال الأصمعي وغيره: دخل رجل على ملك من ملوك حِمْيَر، وكان الملك جالساً في موضع مشرف، فارتقى إليه، فقال الملك: ثِبْ! يريد: اجلس.فطفر فسقط فاندقت عنقه. فقال الملك: من دخل "ظَفَار" "حمَّر" أي: تكلم بلسان حمير. وقال بعضهم: معنى "حمَّر" تزيّا بزيِّهم، ولبس الحمْر من الثياب. و "ظَفار" اسم مدينة باليمن، ينسب إليها الجَزْع الظَفاري. و "ظَفارِ" كسرت لأنها أجريت مجرى ما سمي بالأمر كقولك: قَطامِ وحَذامِ لأنهما على مثال: قَوالِ ونَظارِ.ومن ذلك: حَلاقِ من أسماء المنيَّة، وطمارِ اسم جبل(23).
5- يقدم الحكاية مع الشاهد، بين وقت وبين آخر، خلال شرحه مفرداته في الأضداد. مثال ذلك ما كان وهو يتحدث عن لفظة "لحن" فبعد أن بين أنها تقال للخطأ وللصواب، وبين وجوهاً وشواهد في ذلك، قال، مورداً حكاية:
"خبَّرنا الأصمعي عن عيسى بن عمر قال، قال معاوية للناس: كيف ابن زياد فيكم. قالوا: ظريف على أنه يَلْحَن، قال: فذاك أظرف له. ذهب معاوية إلى أن معنى يلحن: يفطُن ويصيب(24).
وثمة حكاية مثلها -والحكايات كثيرة- رواها بعد العنعنة. قال: كتب معاوية إلى زياد كتاباً، وقال للرسول: إنك سترى إلى جانبه رجلاً، فقل له: إن أمير المؤمنين يقول لك قد شككت في قولك:
فإن يكُ حبّهم رُشْداً أصبْه
وليس بمخطئ إن كان غيّا
والرجل المقصود هو: أبو الأسود، القائل:
يقول الأرذلون بنو قُشَيْرٍ
طوال الدهر ما تنسى عليَّا
بنو عم النبي وأقربوهُ
أحب الناس كلِّهِمُ إليَّا
فإن يكُ حبهم رشْداً أصبْهُ
وليس بمخطئ إن كان غيَّا
فقال (الرسول) لأبي الأسود ما قال معاوية. فقال: قل له لا علم لك بالعربية، قال الله عز وجل: "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" أفترى ربّنا شك. فسكت معاوية لما بلغه احتجاج أبي الأسود(25).
وكان ابن الأنباري يتحدث عن "جَبْر"، فهي: للملك والعبد، مستشهداً بقول ابن الأحمر:
فاسلم براووقٍ حُبيتَ به
وانعم صباحاً أيها الجبر.
فإذا هو يستطرد إلى حديث آخر. قال:
"أراد أيها الملك. وقولهم: جبرئيل. معناه: عبد الله. فالجبر العبد، و "الإيل" و "الإلّ" الربوبية. وكان ابن يعمر يقرأ "جَبْرَ إِلُّ" بتشديد اللام. وقال بعض المفسرين "الإِلُّ" هو الله جل اسمه.واحتج بقول الله جل وعز "لا يرقُبون في مؤمن إِلاًّ ولاذمَّةً" قال: معناه لا يرقبون الله ولاذمته. ويحكى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن المسلمين لمّا قدموا عليه، من قتال مسيلمة استقرأهم بعض قرآنه فلما قرئ عليه عجب وقال: إن هذا الكلام لم يخرج من إِلٍّ أي: من ربوبية. ويقال: الإلّ القرابة والذمة والعهد(26)... إلخ"
ثم لا ينتهي هذا الاستطراد، ذاك أننا نقرأ بعد قليل: "وقال بعض المفسرين: جبرئيل معناه: عبد الله. وميكائيل معناه: عبد الله. واسرافيل معناه: عبد الرحمن. وكل اسم فيه إيل فهو معبَّد لله عز وجل(27)".
6- كان يلجأ إلى تأويل معاني الأضداد في ضوء الآيات القرآنية والحديث الشريف، من ذلك كلمة: "الأُمَّة" فتقال للواحد الصالح الذي يؤتم به ويكون علماً في الخير، كقوله عز وجل: "إن ابراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً" ويقال: الأمة للجماعة، كقوله عز وجل "وجد عليه أمة من الناس يسقون" ويقال: الأُمّة أيضاً للواحد المنفرد بالدين. قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل، قلت: يا رسول الله، إن أبي قد كان على ما رأيت وبلغك، أفلا أستغفر له. قال: بلى، يُبْعث يوم القيامة أمة وحده. ويفسر هذا الحرف -الكلمة- من كتاب الله تعالى تفسيرين متضادين، وهو قوله جل وعز: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيّين مبشرين ومنذرين" فيقول بعض المفسرين: معناه كان الناس مؤمنين كلّهم. ويقول غيره معناه: كان الناس كفاراً كلّهم. فالذين قالوا: الأمة ههنا المؤمنون، ذهبوا إلى أن الله عز وجل، لما غرَّق الكافرين من قوم نوح بالطوفان، ونجّى نوحاً والمؤمنين، كان الناس كلهم في ذلك الوقت مؤمنين، ثم كفر بعضهم بعد الوقت، فأرسل الله إليهم أنبياء يبشّرون وينذرون ويدلونهم على ما يسعدون به ويتوفر منه حظهم. ومن قال: الأمة في الآية معناها الكافرون، قال: تأويل الآية: كان الناس قبل إرسال الله نوحاً كافرين كلهم، فأرسل الله نوحاً وغيره من النبيّين والمبعوثين بعده يبشرون وينذرون، ويدّلون الناس على ما يتدينّون به، مما لا يقبل الله تعالى يقوم القيامة غيره. والله أعلم بحقيقة القولين وأحكم.(28)"
وفي مثل هذا يقدم تفسيرين متضادين لقوله تعالى "والعاديات ضبحا" يقول بعضهم: العاديات الخيل. والضَّبح صوت أنفاس الخيل إذا عدون. يقال: قد ضبح الفرس وقد ضبح الثعلب، وكذلك ما أشبههما. ويقال: العاديات الإبل. وضبحاً معناه ضبعا، فأبدلت الحاء من العين. كما تقول العرب: بُعثر ما في القبور وبحتر ما في القبور، فمن قال: العاديات الخيل، قال: هي الموريات قدحاً، لأنها توري الناس بسنابكها إذا وقعت على الحجارة، وهي المغيرات صبحاً، ومن قال: العاديات الإبل، قال: الموريات قدحاً الرجال، يتبين من رأيهم ومكرهم ما يشبه النار التي تورى في القَدْح. والمغيرات صبحا: الإبل يذهب إلى أنها تعدو في بعض أوقات الحج. ثم يقدم ابن الأنباري خبراً عن مجادلة كانت بين ابن عباس (ر) والإمام علي كرم الله وجهه، حول هذين التفسيرين. وقد قال الإمام علي: إنْ كانت أول غزوة في الإسلام لبدر، وما كان معنا إلا فرسان، فرس للزبير، وفرس للمقداد، فكيف تكون العاديات الخيل؟!. إنما العاديات ضبحاً من "عرفة" إلى "المزدلفة" ومن "المزدلفة" إلى "منى" فإذا كان الغد فالمغيرات صبحا إلى "منى" فذلك جمع. فأما قوله: فأثرن به نقعاً، فهو نقع الأرض حين تطؤه بأخفافها. قال ابن عباس، فنزعتُ عن قولي ورجعت إلى قول عليٍّ رضي الله عنه(29)"
7- تبدو النزعة العربية واضحة لدى ابن الأنباري، بين موضع وبين آخر في الكتاب. فهو يمر بأسماء يعرفها كثيرون على أنها أعجمية، يرى وجهاً لعروبتها، لكنه يتحفظ قائلاً "لا قياس". من ذلك مثلاً اسم "يعقوب".
يقول ابن الأنباري: يكون عربياً لأن العرب تسمّي ذكَر الحَجَل يعقوباً ويجمعونه: يعاقيب. قال سلامة بن جندل:
أودى الشبابُ حميداً ذو التعاجيب
أودى وذلك شأو غير مطلوبِ
ولّى حثيثاً وهذا الشيب يطلبه
لو كان يدركه، رَكْضَ اليعاقيب
وهناك اسم "اسحاق" وقوله فيه: يكون أعجمياً مجهول الاشتقاق، فيُمْنَع الإجراء في باب المعرفة بثقل التعريف والعجمة. ويكون عربياً من أسحقه الله إسحاقاً أي أبعده إبعاداً، من ذلك قوله جل اسمه: "فسحقاً لأصحاب السعير" أي: بعداً لهم.
ومثل ذلك اسم "أيوب" وفيه يقول ابن الأنباري: يكون أعجمياً مجهول الاشتقاق، ويكون عربياً مُجْرىً في حال التعريف والتنكير، لأنه يجري مجرى "قيّوم" من: قام يقوم. ويكون فيعولاً من "آب- يؤوب" إذا رجع.
قال عبيد بن الأبرص:
وكل ذي غيبة يؤوب
وغائب الموت لا يؤوب
ويتمهل ليتحفظ مع أبي بكر الذي قال: ولا يقاس على هذه الأسماء الثلاثة، أعني: اسحاق ويعقوب وأيوب، غيرها من الأسماء الأعجمية مثل إدريس وغيره، لأنه لم يسمع من العرب إجراء سوى هؤلاء الثلاثة في باب المعرفة. و محال أن يعمل من هذا بالقياس ما تنكبه العرب ولا تعرفه(30).
الألفاظ والمعاني: النقائض والمترادفات
يتوقف ابن الأنباري ملياً في مقدمة كتابه، أمام ما يمكن أن ندعوه: الأضداد أو النقائض، والمترادفات، فيقول إن أكثر كلام العرب يأتي على ضربين آخرين، أحدهما أن يقع اللفظان المختلفان على المعنيين المختلفين كقولك: الرجل والمرأة، والجمل والناقة، واليوم والليلة، وقام وقعد، وتكلم وسكت. وهذا هو الكثير الذي لا يُحاط به. والضرب الآخر، أن يقع اللفظان المختلفان على المعنى الواحد، كقولك: البُرّ والحنطة. والعَيْر والحمار، والذئب والسِّيد، وجلس وقعد. وذهب ومضى.
ويرفض ابن الأنباري أن يعد هذه الألفاظ مترادفات، كما درج بعضهم على ذلك. محتجاً برأي ابن الأعربي نقلاً عما قاله أبو العباس: كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد، في كل واحد منهما معنى ليس في صاحبه، ربما عرفناه فأخبرنا به. وربما غمض علينا فلم نلزم العرب جهله.
ويؤكد ربط الأسماء بالمعاني في هذا الحديث، ناقلاً عن الرجل نفسه: الأسماء كلها لعلّة خصت العرب ما خصصت منها من العلل ما نعلمه منها وما نجهله.
ثم يتابع عن ابن الأعرابي، مسنداً الكلام إلى أبي بكر، أن مكة سميت مكة لجذب الناس إليها. والبصرة سميت البصرة للحجارة البيض الرخوة بها-والكوفة سميت الكوفة لازدحام الناس بها من قولهم: قد تكوَّف الرمل تكوّفاً إذا ركب بعضه بعضاً. والإنسان سمي إنساناً لنسيانه. والبهيمة سميت بهيمة لأنها أُبهمت عن العقل والتمييز من قولهم: أمر مبهم، إذا كان لا يعرف بابه.ويقال للشجاع: بُهْمَة لأن مُقاتله لا يدري من أي وجه يوقع الحيلة عليه.فإن قال لنا قائل: لأي علة سمي الرجل رجلاً، والمرأة امرأة، والموصلُ الموصلَ، ودعدٌ دعداً. قلنا لعلل علمتها العرب وجهلناها أو بعضها(31).
الاتساع في الكلام
وفي معرض تأويله ارتباط الأسماء بالمعاني، يطرح فكرة أخرى لسنا ندري إلى أي درجة كانت جديدة في زمان ابن الأنباري هي "الاتساع في الكلام": وهنا ينقل عن قُطْرُبٍ قوله: "إنما أوقعت العرب اللفظتين على المعنى الواحد ليدلّوا على اتساعهم في كلامهم، كما زاحفوا في أجزاء الشعر ليدلّوا على أن الكلام واسع عندهم، وأن مذاهبه لا تضيق عليهم عند الخطاب والإطالة والإطناب.ثم ينوِّع ابن الأنباري على هذا اللحن، ناسباً الكلام إلى آخرين قالوا: إذا وقع الحرف -الكلمة- على معنيين متضادَّين، فالأصل لمعنى واحد، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتساع. فمن ذلك: الصَّريم. يقال لليل: صريم وللنهار صريم.لأن الليل ينصرم من النهار، والنهار ينصرم من الليل، فأصل المعنيين من باب واحد وهو القطع. وكذلك: الصارخ المغيث. والصارخ المستغيث. سميا بذلك لأن المغيث يصرخ بالإغاثة والمستغيث يصرخ بالاستغاثة، فأصلهما من باب واحد. وكذلك: السُّدْفَة، الظلمة والسُّدْفة، الضوء. سمِّيا بذلك لأن أصل السدفة الستر، فكأن النهار إذا أقبل ستر ضوؤه ظلمة الليل، وكأن الليل إذا أقبل سترت ظلمته ضوء النهار(32).
المعاني بين أحياء العرب
وفي تقليبه الرأي حول المعنيين المتضادين لكلمة واحدة ينتهي ابن الأنباري إلى القول: إذا وقع الحرف -الكلمة- على معنيين متضادين، فمحال أن يكون العربي أوقعه عليهما بمساواة منه بينهما، ولكن أحد المعنيين لحيٍّ من العرب، والآخر لحي غيره، ثم سمع بعضهم لغة بعض، فأخذ هؤلاء عن هؤلاء، وهؤلاء عن هؤلاء. قالوا: فالجَوْنُ، الأبيض في لغة حي من العرب. والجَوْنُ، الأسود في لغة حي آخر، ثم أخذ أحد الفريقين من الآخر(33).
ثم ينتقل إلى بحث في عين الفعل في الإطار نفسه.
التفاسير المتضادة: ذو القرنين
ويرى ابن الأنباري أن الأضداد يمكن أن تتضمن "التفاسير المتضادة" أيضاً، مما لا علاقة مباشرة له بالألفاظ. من ذلك مثلاً قوله تعالى "ويسألونك عن ذي القرنين". وفي شرحه ذلك يعرض حكاية: أن خالد بن معدان قال سمع عمر رحمه الله رجلاً يقول لرجل ياذا القرنين. فقال: أما ترضون أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى صرتم تسمون بأسماء الملائكة.
التفسير الثاني بعد العنعنة ينقله عن مجاهد. قال: ملك الأرض شرقها وغربة أربعة، مؤمنان وكافران. فأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين.وأما الكافران فالذي حاجَّ ابراهيم في ربه، يعني: نمروذ وبختَ نَصَّرَ.
والتفسير الثالث ينسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن ذي القرنين أنبياً كان أم ملكاً؟
فقال: ليس بنبي ولا ملك، ولكنه عبد صالح أحب الله فأحبه، وناصح الله فناصحه. بعثه الله عز وجل إلى قومه فضربوه على قرنه الأيمن فمات. ثم أحياه الله فدعاهم، فضربوه على قرنه الأيسر فمات وفيكم مثله. وقال الحسن: إنما سمّي ذو القرنين ذا القرنين لأنه كان في رأسه ضفيرتان من شعر يطأ فيهما. قال لبيد بن ربيعة:
والصعب ذو القرنين أصبح ثاوياً
بالحِنْو في جدثٍ، أميمَ، مقيمِ
وذو القرنين هذا، قال، النعمان بن المنذر، لأنه كانت في رأسه ضفيرتا شعر.
أما