ماهية العقل

العقل في اللغة وعند الفلاسفة


يُعَد العقل من المعاني التي أثير بشأنها الجدلُ قديمًا وحديثًا.
فما هو العقل؟ هل هو جوهر أم هو عرض؟ وما هي وظيفته؟ وهل العقل هو القلب، أم هو العلم؟ أم هو عملٌ بالعلم؟ وما عَلاقة العقل بالدماغ الإنساني؟
هذه هي الأسئلة التي أثيرت حول العقل، وتعددت الإجابات حولها منذ عهد الفلسفة اليونانية وحتى العصور الحاضرة.
وحتى يطلع القارئ على هذا الموضوع الشائك، نستعرضُ بعض هذه الإجابات، ونبرز بعدَها - في مقالات تالية - رأيَ الإمام ابن تيمية، الذي ناقش الآراء السابقة له وفنَّد أدلتها حول معنى العقل ووظيفته.
أولاً: العقل في اللغة:جاء في لسان العرب[1]: إن العقل مصدر عقَل.
قال ابن الأنباري: رجل عاقل؛ أي: جامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عقَلْت البعير إذا جمعت قوائمه... وشدُّوها بحبل هو العِقال.
ولذا قالوا: سمي العقل عقلاً؛ لأنه يعقِل صاحبه عن التورُّط في المهالك؛ أي: يحبسه.
وقيل: العاقل هو الذي يحبس نفسه ويردُّها عن هواها.
كما قيل: إن العقل هو التمييز، وبه يفترقُ الإنسان عن سائر الأحياء، وبه يفهمُ الإنسانُ ما لا يفهمه الحيوان.
وجاء في تاج العروس للزَّبيدي: العقل هو العلم، الحِجْر، النُّهْيَة، وهو قوة، وهو غريزة.
والعقل هو القوة المهيَّأة لقبول العلم، وبه يستنبط العاقل الأمور.
وقيل: العقل نورٌ روحاني يقذِفُه الله في القلب والدماغ.
وقال أبو المعالي في الإرشاد: العقل هو علوم ضرورية، بها يتميَّز العاقل عن غيره... وهو قوة للنفس بها تستعد للعلوم والإدراكات، وهو المَعنيُّ بقولهم: غريزة يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات.
قال الإمام علي - رضي الله عنه -: العقل عقلانِ؛ مسموع ومطبوع"؛ (انتهى كلام الزَّبيدي).
ونخلص إلى القول: إن العقل لغةً يُفِيدُ معاني عدة؛ منها: أنه قوة مهيَّأة لقَبول العلم، وأنه غريزة في الإنسان، وأنه العلم، وأنه الحبْس والحجر، وأنه نور يقذفه الله في القلب، وأنه التمييز بين الإنسان والحيوان.
ثانيًا: العقل عند الفلاسفة:1- في الفلسفة اليونانية ومَن تأثر بها:نختار من الفلاسفة القدماء الفيلسوف اليوناني أرسطو، الذي تأثر به كل مَن يطلق عليهم فلاسفة الإسلام؛ مثل ابن سينا، والكندي، والفارابي.
يحدد أرسطو معنى العقل بأنه جوهر قائم بنفسه، وهو أنواع متعددة؛ مثل: العقل الهيولاني، أو العقل بالقوة، وهو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات، وهو قوة محضة خالية من الأفعال، وسمي بالهيولاني نسبة إلى الهيولَى الأولى الخالية من الصور كلها.
والعقل الفعَّال، وهو العقل العاشر، وسمي فعالاً لكثرة أفعاله في عالم العناصر.
والعقل بالفعل؛ أي النفس الناطقة.
وهناك العقل المستفاد والعقل المطلق... إلخ.
ولو بحثتَ عمَّا وراء هذه الأنواع من العقول، أو عن مضمونها الحقيقي، لما وجدتَ سوى أوهام، أو مجرد كلام نظري ناتج عن تأملات خيالية، لا حقيقة خلفها.
ويأتي ابن رشد، فيقسم العقول إلى ثلاثة أنواع:النوع الأول: العقول البرهانية القادرة على متابعة دليل يقيني محكم، وتصل إلى نتائج بيِّنة ضرورية، وربطُ هذه الأدلة هو الذي يكوِّن الفلسفة، ولكن هذا لا يتسنَّى إلا لقلة من العقول الموهوبة، بالقدر الذي يجعلها تكرِّس نفسها لها.
النوع الثاني: عقول منطقية تكتفي بالبراهين الجدلية.
النوع الثالث: العقول التي تستجيب للوعظ والأدلة الخطابية، وهذه غير مهيأة لاتِّباع الاستدلال المنظم.
والعقول الأخيرة نجدها عند الناس العاديين، وهم السواد الأعظم، الذين لا يستجيبون إلا للخيال والعاطفة فحسب[2].
ويردُّ أبو بكر بن العربي على الفلاسفة مُنكِرًا هذه الأنواع للعقل، ويقول بأنها أسماء لا فائدة تحتها، وتهويلات لا طائل وراءها؛ وذلك أن الأشياء والمدركات تسمَّى في نظره علمًا لا عقلاً؛ حيث قال - تعالى -: ï´؟ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ï´¾ [النمل: 52]، كما أطلق عليها عقلاً بقوله: ï´؟ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ï´¾ [الرعد: 4].
فالعقل عند ابن العربي هو العلم، وهو صفة يتأتَّى بها إدراك العلوم، وهذا التعريف للعقل هو إحدى مقولات ابن تيمية في تعريف العقل، كما سترى عند بحثنا للعقل عنده - رحمه الله.
2- في فلسفة الأوروبيين في قرونهم الوسطى والحديثة:أعطي هنا لمحاتٍ فقط عن العقل عند بعض الفلاسفة في القرون الوسطى والحديثة - وليس كلهم - ولا أتعمَّق في حدوسهم، وأقول حدوسهم لأعبِّر أن فلسفتهم آراءٌ وتأملات مبنيَّة على رؤيتهم العقلية للوجود والحياة، وقد تصل إلى بعض الحقيقة وقد لا تصل، ولكن حتى أعطي القارئ الكريم صورةً عن أسلوب تفكيرهم ونتائج هذا التفكير التي قد تلتقي مع الفكر الإسلامي وقد لا تلتقي، بل قد تكون ضدَّه كما تمثَّل ذلك في الفلسفة المادية الإلحادية عند كلٍّ من ماركس فيلسوف الشيوعية، وسارتر فيلسوف الوجودية.
وحتى يقارِنَ المسلم بين حدوس الفلاسفة البشرية حول أثر العقل الإنساني في الحياة، ونتاج الفكر الإسلامي لدى ابن تيمية - رحمه الله - كما سأبينه - بإذن الله - في هذه الدراسة، ومن هؤلاء الفلاسفة[3]:1- أوغسطين (354 - 460م، عاش في شمال إفريقيا قرب مدينة عنابة الجزائرية)، يُعَد من رجال الكنيسة، ذكر في كتابه: "المعلم عام 389م": الإيمان ضروري للعقل، والعقل ضروري للإيمان، أو كما يقول: "اعقِل كي تؤمن، وآمِن كي تعقِل".
شعور الإنسان بوجود نفسه دليل على وجود الله.
الله والروح والعقل لا شك في أمرها.
الإلهام يشكِّل المصدر القوي للمعرفة الصحيحة.
2- أنسلم (1033 - 1109م) قديس إيطالي، أصبح رئيس أساقفة في إنكلترا، سار على نهج أوغسطين، ومن أفكاره: العقل وحدَه هو وسيلة المعرفة، وهو سبيل الإيمان.
القلب سبيل الكشف والإلهام.
الكمال في الكون هو دليل وجود الله.
3- توما الإكويني (1225 - 1274م) من فلاسفة الكنيسة، ولد في إيطاليا، واعتمد على أفكار أرسطو، وابن سينا، والغزالي، وابن رشد؛ ومن آرائه: العقل والعقيدة يرميانِ إلى غرض واحد.
بالوحي يعلم الإنسانُ ما هو فوق العقل.
بالعقل نفهم الوجود، وبالعقل والوحي تتمُّ المعرفة، لكن العقيدة أولاً.
خلق الله العالم ورعى نظامه في خلق مستمر.
4- مونتاني (1533 - 1592م)، كاتب ومفكر وفَرَنسي، من أفكاره: لكل إنسان حق في أن يبحث عن الحقيقة بحرية.
الحواسُّ قد تخدع، والعقل قد يعجز.
الإنسان قد يعجز عن بلوغ الحقيقة والعدل.
5- فرنسيس بيكون (1561 - 1626م) فيلسوف إنكليزي من أصحاب الفلسفة العقلية، ويعدُّه الغربيون واضعَ المذهب التجريبي الذي يقوم على الاستقراء الذي ينتقل من الوقائع المادية إلى القوانين.
قال بأن العقل يكفي وحده للوصول إلى الحقيقة بدون الوحي.
7- كانت (1724 - 1804م) فيلسوف ألماني، كان له أثر كبير في الفكر الغربي، وذكر العقل في كتابيه المشهورين: "نقد العقل الخاص"، و"نقد العقل العلمي"؛ ومن آرائه في الكتابين: التجربة الحسية تُوقِظُ العقل أكثر ممَّا تنفعه.
المعرفة ليست كلُّها من عمل الحواس.
قواعد الإيمان والأخلاق فوق العقل.
العقل يقوم بمهامِّه بواسطة الزمان والمكان فيرتب المدركات.
لا يستطيع العقل فهمَ حقيقة الأشياء ولباسها.
لا يتمكَّن العقل من البرهان على وجود الله، والدليل على وجوده العقل الفطري المغروز فينا.
إن في أعماقنا صوتًا ينادِي ليدلَّنا على الخير والفضيلة، وهو خارج عن مملكة العقل، وهو فطري فينا، وهو صوت الواجب.
7- هيجل (1770 - 1831م) فيلسوف ألماني، من أفكاره: لا يتم الوصول إلى حقيقة العالم إلا إذا تدرَّجنا بمراتب العقل من الأدنى إلى الأعلى، وقال عبارته المشهورة: "إن ما هو عقليٌّ حقيقي، وما هو حقيقي عقلي".
الحقيقة النهائية التي هي أساس كل الحقائق هي العقل.
إن الوحدة في الفكر هي وحدة أضداد، وإن المطلَق هو الانسجام بين الأضداد، وهو ما أطلق عليه (الجدلية الهيجلية أو التضاد)؛ أي إن الفكرة تتطور على مراحل: الإثبات، ثم النقض، ثم الخلاصة، ومن هذه الفكرة استقى ماركس فكره.
8- برغسون (1859 - 1941م) فيلسوف فَرَنسي، من أفكاره: العقل ليس أداة صالحة لإدراك الحياة؛ لأنه والحواسَّ أدواتٌ للتجزئة.
البصيرة (أو الحدس) هي وحدَها التي تُدرِك روابط الوجود؛ (فكرة تذكرنا بآراء أبي حامد الغزالي).
انتقد "دارون" في قوله بالمصادفة وبداية الخلق والتطور، وسأل: هل يعقل أن العين وطبقاتها مصادفة؟ وهل المصادفة هي التي خلقت الذكورة والأنوثة؟
العقل والدماغ ليسا شيئًا واحدًا، والدماغ هو المجرى الذي يسير فيه تيار الإدراك، ولكن ليس الماء ومجراه شيئًا واحدًا.
9- وليم جيمس (1842 - 1910م) عالم نفسي أمريكي، وصاحب مذهب البراجماتزم (الذرائعية)، من أفكاره: على الإنسان أن يتَّخذ من أفكاره ذرائع لحفظ حياته، ثم السير بالحياة نحو الكمال ثانيًا.
الرأي الصحيح ما له فائدة عملية لأكبر عددٍ من الناس.
سلوكنا العملي هو الذي يُوجِّه أفكارنا، وليست أفكارُنا هي التي توجِّه أعمالنا.
المدرك العقلي هو مدرك حسي يعمل بطريقة معيَّنة، والمدرك العقلي إما أن يكون كلمة (وهي مدرك حسي)، وإما صورة ذهنية (وهي مدرك حسي).
هذه حدوس بعض الفلاسفة القدماء والمحدثين من الغربيين، والحدس قد يصدق وقد يخطئ، عرضتُها ليتبيَّن القارئ الكريم قيمةَ العقل عند المسلمين بعامة وعند الإمام ابن تيمية بخاصة، ويعرفَ أن العقل المسلم كان أكبر الأثر في بناء الحضارة الإسلامية، الحضارة الإلهية القائمة على الرحمة والعدل، والمعرفة الحقة، بينما نجد الفلسفة الغربية أودَتْ بأبنائها إلى حضيض المادية المظلم، والأنانية الفردية.

[1] لسان العرب لابن منظور، مادة: عقل.
[2] ارجع إلى: تراث الإسلام لشاخت وبوزرورث، ترجمة الدكتور محمد زهير السمهوري، القسم الثاني ص209، سلسلة عالم المعرفة - الكويت 1398هـ - 1978م.
[3] انظر: العقل في مجرى التاريخ، د/ علي شلق، ص 111 وما بعدها، دار المدى، بيروت: لبنان.


الألوكة