دق إنسان باب الحبيب، فناداه صوت من الداخل:
من الطارق؟ فأجابه "أنا" فناداه الصوت: "إن هذه الدار لا تتسع لي ولك"، وظل الباب مغلقاً. فسار المحب إلى الصحراء، وداو في عزلته على الصوم والصلاة ثم عاد بعد عام ودق الباب مرة أخرى، وسأله الصوت كما سأله من قبل: "من الطارق؟" فأجاب المحب: "إنه أنت نفسك"، ففتح له الباب(46). ونظرت حولي أبحث عنه، فلم أجده على الصليب، وذهبت إلى هيكل الأوثان؛ وإلى المعبد القديم، فلم أشاهد فيهما أثراً...ثم وجهت بحثي نحو الكعبة، لكنني لم أجده في هذا المكان الذي يلجأ إليه الشبان والشيب، وسألت ابن سينا عن مقامه، ولكن ابن سينا لم يحط به. ثم تفقدت قلبي، وفيه وجدته، ولم يوجد في مكان سواه(47).
إن كل سورة تراها لها أصل مثلها في العالم اللامكاني، فإذا انعدمت الصورة فليس ذلك بذي خطر لأن أصلها باقٍ مخلد. وما من شكل جميل رأيته، أو قول حكيم سمعته-فلا يحزنك أنه قد فني لأنه في واقع الأمر لم يفنَ...فما دام النبع فياضاً فإن الأنهار تجري منه. فاطرد الغم من قلبك وعبِ من هذا النهر، ولا تظنن أن الماء سيفرغ فمعينه لا ينضب.
ولقد وضع أمام من ساعة مجيئك إلى عالم الخلق سلم لتفر عليه منه. ولقد كنت في أول الأمر جماداً، ثم استحلت بعدئذٍ نباتاً ثم صرت حيواناً، فكيف يخفى عليك؟ثم جعلت بعدئذ إنساناً ذا علم، وعقل، ودين...فإذا ما واصلت رحلتك بعد الآن، أصبحت بلا ريب ملاكاً. وانتقل مرة أخرى من طائفة الملائكة، وادخل ذلك البحر الخضم حتى تصبح نقطتك بحراً...دع عن هذا "الابن" وقل : "الواحد" على الدوام بكل قلبك