يضيف كيتس : " إننى أشعر كل يوم أكثر فأكثر ، عندما يقوى خيالى ، أننى لا أعيش فى هذا العالم وحده ، وإنما فى ألوف من العوالم " . ويقول ميشيل فوكو : " إن العملية الإبداعية تولّد الخيال ، وترتبط به بطريقة مركّبة ، فهى تنتظر منه دعماً ودحضاً على السواء . إنها تفترض مسافة لا تخص العالم أو اللاشعور أو النظرة أو السريرة " ( محمد على الكردى : ألوان من النقد الفرنسى المعاصر ص 78 ) . وعلى حد تعبير مارتينيث بوناتى ، فإن الأدب يجد إمكانيته فى التخييل ..
واذا كان قدامى الإغريق مثل سوفوكليس وهوميروس قد استعاضوا عن اللجوء الى الخيال باستخدام صور الميثولوجيا المتاحة ، فإن دانتى وشكسبير وكالديرون وملتون وجوجول وغيرهم قد أفادوا من الخيال بصورة مؤكدة .
يقول بورخيس : " إن أعظم ما يمتلكه الإنسان هو الخيال " . وتصف الناقدة البريطانية هيلين جاردنر المبدعين ، الشعراء وكتاب المسرح والرواية والقصة القصيرة ، بأنهم " صانعو العوالم الخيالية من كل نوع ، ومبتدعو الصور العميقة لمعنى للحياة والتجربة البشرية " . وقد رفض جابرييل جارثيا ماركيث تحويل رواياته إلى أفلام سينمائية . فضّل أن يتخيل القارئ شخصيات القصة وأحداثها ، فلا يقتحم عليه ذلك الخيال مؤثر من أى نوع . الفيلم السينمائى يجسد الشخصيات والأحداث والمكان والزمان ، من آفاق الحركة
الراوى العليم لا يكون كذلك إلا إذا أفاد من الخيال ما وسعه . من الصعب على الراوى أن يكون عليماً بكل شىء ، لأنه لن يستطيع التعرف على ما فوق السطح وما تخفيه المياه . فهو إذن لابد أن يستعين بالخيال لتستكمل الصورة ملامحها .
إن الرواية الجيدة لا تقتصر على نقل الحياة فحسب ، لكنها تقول شيئاً عن الحياة ، فهى تكشف عن نمط أو مغزى معين فى الحياة . إن عين الفنان لا تستطيع أن ترى أكثر من واحد فى المائة من الناس والأحداث حوله ، وهو لا يعى ويفهم مما رأى أكثر من هذه النسبة ، وهو كذلك لا يستطيع أن يعبر عما وعى وفهم ، وأحس بأكثر من واحد فى المائة ..
بديهى أن الخيال يبدأ من الواقع ، أو أن الواقع هو البداية فى أى عمل فنى . أختلف مع الرأى فى أن الفن أكثر واقعية من الواقع نفسه ، وهو ما يذهب إليه وليم بليك فى قوله : " نحن نجد فى الخيال حياة حقيقية أكثر واقعية مما يسميه الناس العالم الحقيقى " العكس ـ فى تقديرى ـ صحيح . إن الواقع أشد واقعية من الفن ، مهما يخلص الفنان فى تصوير الواقع . وعلى حد تعبير أندريه موروا ، فإن أكثر شخصيات العمل الروائى تعقيداً ، هو ـ فى المحصلة النهائية ـ أقل تعقيداً من أبسط شخصية إنسانية .
الواقعية ليست نقلاً عن الواقع ، لكنها اختيار فنى من الواقع . يبدأ من الزاوية التى يلتقط منها الفنان " الكادر " ، قيمة الصورة الفوتوغرافية فى الانتخاب ، الاختيار ، انتخاب أو اختيار ما تلتقطه العدسة ، الواقع ، وليس الخيال ، هو النبع الذى يستمد منه الفنان إبداعه ، وإن كان من الصعب أن يهمل الخيال تماماً . يقول ماركيث : " ينبغى أن نعترف أن الواقع أفضل منا جميعاً ، فقدرنا ـ وربما مجدنا كذلك ـ هو أن نقلده بتواضع ، وبشكل أفضل ، فى إطار المتاح لنا " ( حامد أبو أحمد : فى الواقعية السحرية ص 145 ) . إحدى ميزات الرواية ـ والقول لروجر ب هينكل ـ إنها تتفوق على الحياة الحقيقية فى القدرة على اجتذابنا إلى أعماق وعى الناس الذين قد لا نجد سبيلاً آخر لفهمهم فهماً كاملاً . وإذا كانت مثالية ديستويفسكى ـ على حسب تعبيره ـ أشد واقعية من أعمال الأدباء الواقعيين ، فإن الواقع أشد واقعية من أعمال الواقعيين ومثالية ديستويفسكى فى آن . أذكر قول جابرييل جارثيا ماركيث : " هناك شئ غالباً ما ننساه نحن الروائيين ، وهو أن الحقيقة ما تزال حتى الآن أبرع قالب أدبى " . المعنى نفسه ـ تقريباً ـ يذهب إليه ميشيل بوتور فى قوله : " إن الرواية تقرير علمى عن شئ أهم من مجرد الأدب . إنها طريقة أساسية لمعرفة الحقيقة " ..
إن الصدق فى التاريخ ، وفى العلم ، هو الصدق فى الواقع . أما الصدق الفنى فهو الصدق فى الإمكان ، بمعنى أن الصدق فى العمل الفنى هو انعكاس لما يمكن أن يحدث فى حياة الإنسان ، والصدق فى الإمكان يتسم بالشمول والعمق لأنه يتركز فى العواطف الإنسانية ، بكل ما تحفل به من مشاعر وميول وأهواء وانفعالات . بل إنه ليس كل ما يجرى فى الواقع يحتمله العمل الفنى ، أو يبدو صادقاً فى مرآته . أذكّر بقول سومرست موم : " إن الكاتب لا ينسخ نماذجه من الحياة ، وإنما يقتبس منها ما هو بحاجة إليه . ملامح معينة استرعت انتباهه ، أو عبارة أثارت خياله ، فهو يبدأ من ثم فى تشكيل شخصيته ـ أو شخصياته ـ دون أن يشغله أن تكون صورة مطابقة ، بل إن ما يعنيه بالفعل هو أن يخلق وحدة منسجمة ، محتملة الوجود ، تتفق وأهدافه الفنية الخاصة . وكما يقول هنرى جيمس ، فإن العمل الفنى وحدة مترابطة حية ، تضم الشخصيات والأحداث والحوار والأسلوب . إنها شئ حى ، متكامل ، متصل ، مثل أى كائن حى ، وبالقدر الذى تكون حية ، بالقدر الذى نجد فى أى جزء من أجزائها شيئاً من كل الأجزاء الأخرى " .
أوافق أرسطو أن المحتمل فى الواقع يستطيع أن يكون أكثر احتمالاً فى السياق الفنى من الواقع نفسه ، لأن من المحتمل أن تحدث أشياء كثيرة منافية للاحتمال . مع ذلك فإنى أشير إلى حقيقة أن أبطال الحياة ، الواقع ، يموتون ـ أحياناً ـ فجأة ، ربما بلا تبرير ، ربما بلا مرض ولا ممهدات يصبح المرض نتيجة لها . أما أبطال الفن فإن وفاتهم لابد أن تكون خيوطاً فى نسيج العمل ككل ، فهم لا يموتون فجأة مثل أبطال الحياة ، وإلاّ تقوض العمل من أساسه ، وفقد استمراره وتواصله ، وربما لهذا السبب بدأ نجيب محفوظ رواية بداية ونهاية بوفاة العائل ، فقد يرفض الواقع الفنى وفاة الأب لو أنه مات فى تنامى الرواية . حتى بطل قصة تشيكوف العطسة القاتلة لم يمت فجأة . ولو أننا تأملنا مقولة وليم بليك : " إننا نجد فى الخيال حياة حقيقية ، أكثر واقعية مما يسميه الناس بالعالم الحقيقى " فبماذا نفسر رفض المتلقى تقبل فكرة إيقاف تنفيذ حكم الإعدام بعد أن وضع الحبل فى العنق فعلاً ، مع أن الواقعة ـ بنصها وفصها ـ حدثت فى الحياة المعاشة ؟! . أشير إلى فيلم الكاتب محمد كامل حسن حب وإعدام الذى رفع فيه حبل المشنقة من عنق البطلة فى اللحظة الأخيرة ، فأعلن جمهور السينما عدم تصديقه ورفضه ، بينما كانت الواقعة قد حدثت قبل فترة قصيرة ، وكان بطلها مواطناً من شبرا ، استشكل محاميه ـ واسمه ، فيما أذكر ، فاروق صادق ـ وحصل على موافقة النائب العام بإيقاف تنفيذ الحكم ، وهو ما أفلح فيه المحامى قبل أن يجذب عشماوى يد المشنقة !؟
الواقع فى العمل الإبداعى ليس إلاّ واقعاً افتراضياً ، واقعاً نتصور حدوثه ، دون أن نملك التأكيد على أنه قد حدث بالفعل . من هنا يأتى تحفظى على قول الأسبانى خوان مارسيه " يهمنى الواقع قليلاً ، وعلى نحو نسبى . أهدف إلى واقع متقن الصنع . إننى لا أستنكر نظرية ستندال فى الرواية ، لكننى لست مستنسخاً للحكايات . إننى أخلقها . أعشق الحقيقة المخترعة " ( الرواية الأسبانية المعاصرة ص 218 ) .
***
يقول ماركيث : " لا يوجد فى رواياتى سطر واحد ليس له أساس من الواقع " ( فى الواقعية السحرية ص 146 ) ، لكن الإبداع لا يقدم الواقع على علاته ، لا ينقله كما هو ، وإنما هو ـ على حد تعبير توفيق الحكيم ـ يقدم الحقيقة مصفاة بعد هضم الواقع . الواقع يخلو من البنية الفنية ، ولكى تتشكل تلك البنية ، فإن الواقع يجب أن يؤطر بقوانين جمالية . وكما يقول لوكاش : " العمل الإبداعى ليس الواقع نفسه ، لكنه شكل خاص من أشكال انعكاسه . الإبداع لا يقوحين قرأ جارثيا ماركيث لكافكا هذه الكلمات : " عندما استيقظ جريجور سامسا من نومه ، بعد أحلام مزعجة ، وجد نفسه وقد تحول إلى حشرة عملاقة " ، قرر ماركيث أن يصبح كاتباً .
للعمل الإبداعى منطقه الخاص الذى يختلف عن منطق الواقع . إنه منطق قد يقف على أرضية الخيال إطلاقاً . يصنع صيرورته دون اتكاء على دعائم منطقية من خارج العمل الإبداعى . ما يهمنى هو معادلة الإبداع لا معادلة الحياة ، زمن الرواية لا زمن الحياة ، شخصيات الرواية وأحداثها لا الشخصيات والأحداث التى يفرزها الواقع . الفن ـ على حد تعبير تشارلس مورجان ـ ليس دواء لشفاء عصر ما ، لكنه نبأ عن الواقع ، متمثلاً فى رموز وأفراح وترانيم ورؤى مسحورة .. والتعبير عن ذلك النبأ لا يأتى بغير منطقه ، منطق الفن نفسه . هناك شخصيات مبتكرة بشكل كامل ـ والقول لكونديرا ـ خلقها الكاتب وهو مستغرق فى تفكيره الحالم . هناك تلك الشخصيات التى يستلهمها عن طريق نماذج بشرية . فى بعض الأحيان يتم ذلك بشكل مباشر ، أو بشكل غير مباشر . هناك تلك الشخصيات التى تخلق من مجرد تفصيلة منفردة قد لوحظت فى شخصية ما ، وكلها تدين بالكثير لاستبطان الكاتب ، لمعرفته لذاته . إن العمل الناجم عن الخيال يحوّل أشكال تلك الإلهامات والملاحظات بدرجة عميقة جداً ، لدرجة أن الكاتب ينسى كل ما يتعلق بها " ( الطفل المنبوذ ص 241 ) . وبالنسبة لى فأنا لا أنقل الشخصية كما هى فى الواقع ، وإنما أحذف منها ، وأضيف إليها ، وأدمجها ـ أحياناً ـ فى شخصيات أخرى ، بحيث تتخلق الشخصية الفنية . وقد أوزع من ملامح الشخصية الواحدة على شخصيات متعددة . يغيظنى من يتصور أن الشخصية الروائية ـ أو فلنقل القصصية ـ هى شخصية المبدع نفسه . قد يكون فى الشخصية الروائية ملامح من شخصية المبدع ، لكنها تظل شخصية روائية ، شخصية فنية ، تستمد مقوماتها من شخصيات متباينة ، قد تكون من بينها شخصية الفنان نفسه . أذكر بعد أن قرأ ابن عم لى قصتى القصيرة نبوءة عراف مجنون اتصل بى محتجاً : كيف تكتب عن أبيك بهذه الصورة ؟.. والصورة التى احتج عليها ابن العم هى الأب الذى يصحب ابنه الصغير لشراء لوازم العيد وهو يؤذيه بالقول . وبالطبع ، فلم تكن شخصية الأب فى القصة تقترب من شخصية أبى فى قليل ولا كثير ، لكنها شخصية قصصية ، فنية ، تأخذ من أكثر من شخصية حقيقية ، وتأخذ من الخيال أيضاً ! من هنا ، يأتى تحفظى على قول إنريكى أندرسون بأن القصة القصيرة مجرد تخيل ، وأنها تعرض حدثاً لم يقع أبداً ، أو تعيد ترتيب أحداث فعلية ، وإن ركزت بصفة أساسية على البعد الجمالى أكثر من الحقيقة ( القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية ـ 6 ) .
***
كان رأى العقاد أن خلق العمل الفنى من الواقع ، أصعب بكثير من صنعه من الخيال . وقد وافقه الحكيم على ذلك ( تحت المصباح الأخضر ص 82 ) . وقد كتب كافكا روايته أمريكا من خلال الصورة التى كونها خياله بتأثير قراءاته للمطبوعات الشعبية ، فهو لم يزرها إطلاقاً ، لكن عبقرية كافكا عوضت المشاهدة ومصادقة المكان . وكان أستاذنا محمد مفيد الشوباشى يفضل اللجوء إلى خياله ، بدلاً من السفر : " إن خيال الإنسان يمكن أن يتصور أماكن أجمل من الحقيقة . فلماذا أرهق نفسى ، وأتكبد مشاق السفر ومخاطره ، إذا كنت أستطيع أن أتصور بخيالى ما هو أجمل مما سأراه ؟ " . ولعلنا نذكر قول ماريو إيوسا إن الإطار المكانى لقصص همنجواى هو حلقة الملاكمة . أما بورخيس فإن إطار قصصه المكانى هو المكتبة . والدلالة ـ بالطبع ـ واضحة : همنجواى يعتمد على الموهبة ، ويعتمد كذلك على المغامرة ومحاولة التجربة والتعرف على الأشياء . أما بورخيس فإنه كان يعتمد على القراءة الغزيرة إلى جانب الموهبة ، وإن رأى فى عدم الواقعية شرطاً ضرورياً للفن ..
وقد ذهب طه حسين إلى أن الآلهة القديمة لبلاد العرب لم يكن لها أى حظ من الخيال ، فجاءت حياتها كئيبة بالفعل ، لأنها لم تلهم المؤمنين بها أياً من المظاهر الفنية التى أغدق بها على غيرهم من الشعوب ، كما يرى العقاد أن العرب أمة بلا خيال ، وهو ما يراه أيضاً أحمد أمين ، وإن قصر رأيه على البدو . ثمة رأى ـ فى المقابل ـ يرى فى رسالة الغفران وحى ابن يقظان إطلاقاً للخيال فى آماد بعيدة ، وأن " ألف ليلة وليلة عكس كل الأحكام التى قيلت عن العقلية العربية ، فهى تثبت قدرة هذه العقلية على الإبداع الفنى الكامل ، كما تثبت قدرة هذه العقلية على الخلق ، وعلى إعادة الخلق من جديد " . وكان حرص الراوى فى حكايات ألف ليلة وليلة على أن يظل مورد رزقه ـ الحكايات ـ موصولاً بسماع المتلقين ، ومتابعتهم له ، دافعاً لأن يلجأ إلى الخيال ، يضفّر منه وقائع وأحداث وأصناف من البشر والحيوان والطير والأسماك والمخلوقات المتخيلة والجماد ، عالم من الأسطورة والسحر والفانتازيا ، كان هو الأرضية التى تحركت من فوقها واقعية أمريكا اللاتينية السحرية ..
الغريب أن الإبداع عندما يلامس ـ أو يقتحم ـ مناطق الخيال ، الأسطورة ، الفانتازيا ، الخرافة ، الغرائبية ، العجائبية ، إلخ .. التسميات كثيرة ، فإننا نحيله إلى أدب الطفل ، نعتبره نصاً يقرأه الطفل . تصورنا أن الخيال مقصور على الأطفال ، حتى جعلنا حكايات ألف ليلة وليلة ـ المفعمة بالخيال والأسطورة والغرائبية ـ مجرد حكايات للأطفال ، مع أنها ليست كذلك ..
الخيال ـ خيالى وخيال كل قارئ للنص ـ هو الذى يعتق النص من ماديته وجموده ، هو الذى يجسّده . يقول ماركيث : " الخيال هو فى تهيئة الواقع ليصير فنا " . وتضيف هالى بيرت : " عندما تلتمع الفكرة فى الذهن ، فإن الخيال مهم لإثراء الصورة ، بحيث لا يبقى أمام المبدع ـ فى لحظات الكتابة ـ ألاّ أن يكتب ما يمليه عليه خياله . وكما يقول ديهاميل فإن أى منظر لا يمكن أن يصل إلى مثل ما يصل إليه الخيال فى عمله المدهش عندما يحركه قصص جميل مؤثر ( دفاع عن الأدب ص 52 ) .
أحياناً ، يشدنى عمل إبداعى بخيال جميل منطلق ، جواد فن يمضى فى طريق بلا آفاق . ثم يئد الفنان انطلاقة خياله ، حين يتذكر أنه كاتب ، وأنه يكتب إلى قارئ ، وأن هذا القارئ لابد أن يجد فى العمل الإبداعى ما يغريه بالمتابعة ، ويتجه العمل ـ بالغصب ـ إلى طرق غاب فيها الخيال ، ونعانى التكرار إلى حد الملل !..
***
يقول روجر ب . هنكل إن أتم تصوير روائى للمجتمع ، هو ذلك التصوير الذى يشعرنا أننا نوشك أن نكون جزءا ًَمن بناء ذلك المجتمع ( قراءة الرواية ص 106 ) ،
ويختلف كاتب الواقعية الطبيعية عن غيره من الكتاب ـ كما يقول سترندبرج ـ فى أنه هو الذى يبحث فى معترك الحياة عن المثيرات الكبيرة التى يعتبرها الكاتب الواقعى شذوذاً ، تلك المثيرات التى تتوارى وراء حجب كثيفة من التقاليد والقوانين والقواعد الأخلاقية ( الأدب ومذاهبه ص 131 ) . أذكر قول إيزابيل الليندى إن التصوير والكتابة هما محاولة للإمساك باللحظات قبل أن تتلاشى . لكن الواقع الفوتوغرافى ، الواقع الكربونى ، يبين عن فشل مؤكد إذا لجأ إليه المبدع فى تصوير التحول الذى يطرأ على الأشياء . إنه يحمل الواقع ، ويحيله إلى شئ ثابت لا يتحرك ، فهو يسلبه حريته ، ويعمل على قتله . وكما تقول إيزابيل الليندى فإن الصورة هى خلاصة الواقع مضافاً إليها حساسية المصور . زقاق المدق ـ مثلاً ـ تتسم بخصوصية تختلف بها عن أعمال مرحلة الواقعية الطبيعية فى أدب نجيب محفوظ . السراب تتناول مشكلة فردية ، وخان الخليلى كذلك ، وبداية ونهاية تعنى بمشكلة أسرة ، والثلاثية تهب صورة للمجتمع كله إبان فترات من تاريخه . أما الزقاق فهى لا تتناول مشكلة فردية محددة ، ولا صورة اجتماعية بانورامية ، وإنما تتناول أحد أزقة القاهرة ، تحيا فيه وعلى هامشه شخصيات تتنافر أمزجتها وطموحاتها وسرعة خطواتها فى طريق الحياة . ولم يكن تصوير الفنان لتلك الشخصيات هدفاً فى ذاته ، وإنما كان يعكس بهم واقع المجتمع المصرى : المحبط ، والشاذ ، والمعقد ، والمشوه ، والمتصوف ، والمجذوب إلخ .. كانوا صورة مختزلة ، وربما متشائمة ، للمجتمع المصرى آنذاك .. ولكن : ألم تكن هذه صورة المجتمع المصرى فعلاً ؟!
المبدع يختلف عن الآخرين ، حتى فى أوقات الصمت ، فى أوقات السكينة . فجميع أجزاء جسمه الظاهرة تكف عن الفعل ، بينما العمل الإبداعى ، أو الشخصية ، أو الحدث ، يتخلق فى داخله ، يفرض عليه حالة من التوتر قد لا تبدو على مظهره الساكن . ويقول ميلان كونديرا : " هناك شخصيات مبتكرة بشكل كامل ، خلقها الكاتب وهو مستغرق فى تفكيره الحالم . هناك تلك الشخصيات التى يستلهمها عن طريق نماذج بشرية . فى بعض الأحيان يتم ذلك بشكل مباشر ، أو بشكل غير مباشر . هناك تلك الشخصيات التى تخلق من مجرد تفصيلة منفردة لوحظت فى شخصية ما ، وكلها تدين بالكثير لاستبطان الكاتب ، ولمعرفته لذاته . إن العمل الناجم عن الخيال يحول أشكال تلك الإلهامات والملاحظات بدرجة عميقة جداً ، لدرجة أن الكاتب ينسى كل ما يتعلق بها " ( الطفل المنبوذ ) ، وكما يقول سارتر ، فإن الخيال هو الأداة السحرية التى يحقق بها الفنان مشروعه الإبداعى . انه يتجاوز كل ما هو ثابت وحتمى ، ويصنع العالم الخاص ، المتميز ، والمتفرد . إن واجبه ـ والتعبير لبرسى لبوك ـ هو أن يبدع الحياة .
أنا أخضع خيالى لخيال العمل الإبداعى . أخضع قراءاتى وخبراتى ورؤيتى للفضاء الذى تتحرك فيه القصة طولاً وعرضاً وعمقاً . الإبداع بعامة مزاوجة بين الحقيقة والخيال ، أشبه بالمزاوجة بين العلم والفن . الحقيقة ليست مطلقة ، والخيال يمكن أن يرتدى ثوب الحقيقة . العالم الذى يعتقد أنه قد وصل إلى الحقيقة ، يذكرنا بالفنان الذى كاد أن يحطم تمثاله لأنه لم ينطق ، والفنان الذى يعتقد أنه يعيش فى الخيال فحسب ، يعانى وهماً باعثه التبلد .
........................
2002