Reply to Thread
Page 2 of 4 FirstFirst 1 2 3 4 LastLast
Results 13 to 24 of 42

Thread: نص كتاب الروائي محمد جبريل "للشمس سبعة ألوان"

  1. #13  
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    الكاتب .. والقارئ
    ......................

    نحن نكتب على أمل أن نجد قارئاً لم يقرأ الأعمال السابقة علينا
    أندريه جيد


    إذا كان الفن يكمن فى العلاقة بين الدوافع الكامنة وراء الإبداع الفنى وبين المتلقى لهذا الإبداع ، فإن الكثير من الشخصيات الروائية ـ والقول لأندور لايتل ـ يجيئون إلى الحياة عبر صفحات العمل الإبداعى بقوة الإلهام اللاشعورى المتحكم فى مسيرة الكتابة ، دون إعداد سابق قد يسهل على القارئ تبينه . أذكر رأى أستاذنا حسين فوزى بأن " الحاسة الفنية لا يكاد يخلو منها إنسان ، وإن تفاوتت قدرات الناس على الانفعال بالفن ، واختلفت قيمة الأعمال الفنية ذاتها بالنسبة لمقدرة الناس على التذوق ، ووعيهم الثقافى " ( الطليعة ـ مارس 1967 ) . لذلك فإن على القارئ أن يستدعى مخزونه المعرفى من قراءات وتجارب الذات وتجارب الآخرين ، بل وإعمال الخيال ليصل ما قد يحمله العمل الإبداعى من دلالات ..
    الفنون هى أعلى شكل من أشكال النشاط التوصيلى . والعلاقة بين المبدع والمتلقى ـ فى تصورى ـ أشبه بالعلاقة بين جهازى الإرسال والاستقبال ، وعلى المبدع أن يطمئن إلى سلامة توصيلاته ، بمعنى أن يطمئن إلى صدقه الفنى ، لا يتعمد الغموض ، وإنما يترك العمل يكتب نفسه ، مستفيداً من موهبة المبدع ، ومن خبراته وقراءاته وتجاربه .. وفى المقابل ، فإنه على المتلقى أن يبذل جهداً مكافئاً لما بذله المبدع فى فنه ، أن يشارك المبدع مغامرة اكتشافه وإبداعه ، لا يكتفى بالتلقى السلبى أو السطحى الذى ينشد المتعة المجانية ، وإنما يحاول تذوق العمل الإبداعى ، وتبين دلالاته ، وتلمس النشوة الروحية العميقة التى يهبها لمتلقيه . بل إن عملية القراءة تختلف باختلاف لحظات التلقى . فالذهن الرائق ، والحالة المسترخية المنبسطة ، أو الموافقة التى قد تكون مسبقة لما يحمله النص من دلالات ، تتلقى النص بصورة مغايرة للذهن المكدود ، أو الحالة المزاجية المتعكّرة ، أو الرفض الذى قد يكون مسبقاً لما يحمله النص .
    ولعلى أوافق سارتر على أن القراءة عملية خلق من القارئ بتوجيه من الفنان . ثمة نصوص تهبنى نفسها منذ السطر الأول ، تهبنى صداقتها ، وخطابها التحدثى ، وحميميتها . تنفتح أمام القارئ ، فيسهل عليه المتابعة والفهم . قد يكتفى بدلالة ما ، وقد يعيد القراءة ، فيخرج بدلالات أخرى . وثمة نصوص تنغلق أمام قارئها ، فهو يجد صعوبة فى تلقّيها ، لا يصل ـ من خلال المتابعة ومحاولة الفهم ـ إلى مستوى دلالى ، ومن ثم فهو يضطر ـ لتحقق المتابعة ـ إلى تحميل النص دلالات قد لا يحتملها ، أو قد يمتنع عن مواصلة التلقى .
    القول بأن موت المؤلف سيجعل القارئ على الحياد ، يحتاج إلى مراجعة ، لأن عملية التلقى ـ بافتراض موت المؤلف ـ لا شأن لها بشخصية المتلقى نفسه . المتلقى شخصية مقابلة ، مغايرة ، لها خصائصها التى تحسن التلقى ، أو العكس . أنا أقبل على قراءة العمل الأدبى بمخزون معرفى وخبرات ، تمثل ـ فى مجموعها ـ الشخصية المتلقية التى هى أنا . المتلقى ليس شخصاً مطلقاً ، ليس مجرد فهم واحد ، متكرر ، فى تلقى العمل الأدبى ، لكنه شخص ، فرد ، يختلف فى ظروفه وبيئته وثقافته وتجاربه عن بقية القراء ، وباختلاف ذلك كله تختلف درجة التلقى بين قارئ وآخر ..
    ربما وجد الفنان فى دراسة نقدية لأحد أعماله دلالات لم تكن فى باله عندما شرع فى الكتابة ، بل ولا حين دفع بالعمل إلى المطبعة . لم يكن يقصد المعنى الذى تحدث به القارئ / الناقد إطلاقاً . وللدكتور عبد الله الغذامى مثل مهم ، هو أن المتنبى كان يقول إن ابن جنى أعرف بشعره منه ، أى من المتنبى . وكانت اجتهادات ابن جنى فى شعر المتنبى ، تأويلاً وتفسيراً ، رائدة وغير مسبوقة ، فضلاً عن امتيازها المؤكد المستند إلى ثقافة موسوعية . لكن الأجيال توالت ، وقدمت تأويلات جديدة لشعر المتنبى ، تختلف ـ بصورة جذرية أحياناً ـ عما قدمه ابن جنى من تأويلات ..
    والحق أن مشاهدة مسرحية ، أو فيلم سينمائى ، لا تحتاج من المتلقى إلاّ التركيز فى متابعة ما هو متجسد أمامه بالفعل . أما قراءة الرواية أو القصة ، فهى تترك للذهن تجسيد ما يقرأه ، بتخيل الشخصية والحدث ، بإثارة الحوار مع ، وفى ، ذلك جميعاً . إن الإبداع الجيد هو الذى نكتشف أننا لم نعد كما كنا عندما بدأنا تلقيه ..
    وبالطبع ، فإن الكتابة لا تتم فى لحظات ، إنما هى قد تأخذ زمناً طويلاً من الكتابة والمراجعة والتأمل ، والاطمئنان إلى الصورة النهائية . بالإضافة إلى ما سبق ذلك من قراءة وتجربة ومعايشة ، بحيث اكتملت للمبدع أدواته الفنية ، واكتملت نظرته الشاملة . وفى المقابل ، فإن القراءة يجب ألا تتم فى لحظات . إنها تحتاج إلى جهد يقترب ـ ما أمكن ـ من جهد الكتابة . قد تصح القراءة السريعة لمواد الجريدة اليومية من أخبار وتحقيقات وغيرها ، لكن الكتابة الإبداعية تحتاج إلى قراءة واعية ، ومتأملة ..
    ***
    ابتداء ، فإن المبدع يجب أن يعيد قراءة ما كتب أكثر من مرة . الناقد فى ذات المبدع هو صاحب النظرة الأخيرة التى تناقش وتحذف وتضيف وتجيز . وقد يكتب الأديب قصة فى ليلة ، ويراجعها فى أشهر .. وهذا ما أفعله شخصياً . وفى المقابل ، فإنه على القارئ أن يبذل جهداً مساوياً للجهد الذى بذله المبدع فى الكتابة . من الصعب التوقع بأن يمنح العمل الإبداعى عطاءه ، ويكشف مقولته ودلالاته ، دون أن يسهم القارئ فى مغامرة الاكتشاف . النص الإبداعى يحتاج إلى قراءة متأملة ، متعمقة ، متفكرة ، بحيث يلامس مفتاح العمل ، ويستطيع اكتناه دلالاته . وكما يقول أوكونور ، فإنه ليس للروائى أن يتوقع من القارئ أن يصبر على قراءته مرتين اثنتين ، إذا لم يكن مستعداً لقراءة ما يكتب عشرات المرات . أشفق على المبدع الذى يعنيه القارئ أكثر مما تعنيه العملية الإبداعية فى ذاتها . إنه يفكر فى التأثير الذى سيحدثه الموقف ، أو الشخصية ، أو الدلالة التى يعنيه توصيلها .. لكننى ـ فى الوقت نفسه ـ أرفض القارئ الذى تعنيه سهولة العمل . القارئ الذى أريده هو الذى يشاركنى فى متابعة الأحداث ، وفى فهمها ، وتقبل الشخصيات ، أو عدم تقبّلها ، التعاطف معها ، أو معاداتها . يقرأ بإيجابية ، يتأمل ، يضع الملاحظات ، يشارك بإيجابية فى تنامى النص ، يظل منشغلاً بما قرأه بعد أن يتركه . من المهم أن تتحول العلاقة بين المبدع والمتلقى من مجرد متابعة مسلية إلى مناقشة ، أخذ ورد ، قبول ورفض . ولعل غاية ما أرجوه أن أثير فى القارئ ـ القارئ العادى تحديداً ـ ملكة النقد . كذلك فإنى أفضل النهاية المفتوحة بدلاً من النهاية التى تقرر وتحسم . إنها تحض على تأمل العمل ، والتحاور معه ، ومحاولة الكشف عن الدلالة ـ أو الدلالات ـ الكامنة فيه . النهاية المفتوحة ، مجرد النهاية المفتوحة لقصة ما ، بحيث يضع المتلقى دلالتها ، يعنى أن المتلقى ليس مجرد مستهلك للعمل الإبداعى ، لكنه مشارك فى عملية الإبداع ..
    الأدب هو المعرفة الكاملة بخبرة الإنسان ، والمقصود بالمعرفة الفهم الفريد والمتشكل للعالم ، وهو ما لا يقدر عليه غير الإنسان . وبالنسبة لى ، فحين أستغرق فى القراءة ، أغادر صفحات الكتاب ، وأغادر الكرسى الذى أقعد عليه ، والحجرة التى تحتوينى ، والمدينة التى أقيم فيها . أتعرف إلى أماكن أخرى ، قريبة وبعيدة ، وإلى شخصيات تتحدث بلغات متباينة ، وأحيا التاريخ والجغرافيا والفلسفة والميتافيزيقا وعلم الاجتماع والسياسة إلخ . وثمة حقيقة ـ أتصورها بديهية ـ هى أن عمل الروائى الأساسى هو أن يجعل القارئ يستمر فى قراءته ، وهو لن يستمر إلا إذا استهواه ما يقرؤه ، أو فلنقل ما دام يؤمن بصدق ما يقرؤه .
    ثمة من لا يملك صبراً طويلاً على الأدباء الذين يكلفون القارئ مجهوداً ليتفهم كتاباتهم : " ليس لدى صبر طويل على هؤلاء الكتاب الذين يكلفون القارئ مجهوداً ليستبطن معنى ما يقولون . وما عليك إلاّ أن تذهب إلى كبار الفلاسفة لترى أنه من الممكن التعبير فى وضوح عن أعمق الأفكار " . وتقول الشاعرة ماريان مور : " إذا لم تستطع أن تشد انتباه المتلقى منذ البداية ، وتجعله يتابع ما كتبت ، فلا جدوى من الاستمرار " ، ولكن على القارئ ألاّ يتوقع حلاّ جاهزاً يقدمه له المبدع ، وعلى المبدع ـ فى الوقت نفسه ـ أن يحرك فى القارئ استجابة كافية للعمل بما يدفعه ـ بإرادته ـ إلى التفكير فى التغيير . الأدب فن للقراءة يقوم به القارئ وحده وهو يتلقى الصور التى يخلقها العمل الأدبى بمخيلته فى الدرجة الأولى ، أى فى التصور الروحى .
    يقول ميشيل بوتور : " إن القارئ لا يقف موقفاً سلبياً محضاً ، بل يعيد من جديد بناء رؤيا أو مغامرة ابتداء من العلاقات المجمعة على الصفحة ، مستعيناً هو أيضاً بالمواد التى هى فى متناول يده ، أى ذاكرته ، فيضىء الحلم الذى وصل إليه بطريقته هذه كل ما كان يغشاه من الإبهام . إن الإبداع ليس مهمة المبدع وحده ، وإنما يجب أن يشاركه فيه القارئ ، لأنه وجه العملة الآخر . أوافق على أن القارئ طرف فى علاقة طرفها الآخر هو النص . " نحن نبدع النصوص حين نقرأها ، ونحن بالقراءة نقيم حياة النصوص ، أو نشهد على موتها " . وكان كورناى Corneille يترك الجميع يعلنون آراءهم ، ثم يحاول أن يفيد من النصائح الصالحة ، بصرف النظر عن مصدرها . ربما لذلك أحرص على أن أدفع بكل عمل جديد أكتبه إلى أصدقاء متباينى الثقافة والمكانة الأدبية أو الاجتماعية ، يبدون آراءهم ، فأهمل مالا أراه عيباً فى العمل ، أو إضافة له ، وأعمل بالملاحظات الإيجابية . وأذكر أنى عملت بملاحظات أصدقاء بعيدين عن العمل الثقافى ، لأنها أنقذت بعض ما كتبت من أخطاء معيبة . وعلى سبيل المثال ، فقد تنبه صديق إلى وفاة الخادم فى اعترافات سيد القرية قبل وفاة البطل " زاو مخو " ، وكنت قد جعلته يقف على تحنيطه كما كان الحال فى العصر الفرعونى . خطأ مبعثه مغالاتى ـ كما ذكرت لك ـ فى أن تكتب القصة نفسها . أبدأ بالقليل ، ويتخلق الكثير الباقى فيما بعد . تتخلق أحداث ، وتظهر شخصيات ، وتموت شخصيات ، وتتبدل مسارات ، ولا يكون لى فى ذلك كله حيلة . وأذكر أنى توقفت عند النهاية التى اختارها محمد قاضى البهار ، بعد أن حاصرته الظروف تماماً ، حتى همس لى ـ بعد أيام قليلة ـ وأنا أسير فى الشارع ـ انه اختار النزول فى البحر ..
    ونزل محمد قاضى البهار البحر ، وإن لم أجعل ذلك التصرف نهائياً فى حياة قاضى البهار ، ربما لأنى وجدت فيه قيمة مصرية . قد تغيب عن حياتنا ـ لبواعث طارئة ـ لكنها لابد أن تعود ..
    ***
    الفن إضمار ، بمعنى أن العمل الإبداعى يجب أن يوجد فيه ضوء ، وفيه أيضاً ظلال . وفى أوفيد بجماليون : " الفن هو أن تخفى الفن " . بل إن العمل الإبداعى قد يجد إضماره فى تقديم بعض المفاتيح غير الحقيقية ، بحيث يصعب أن نتوصل من خلالها إلى دلالات مؤكدة . وعلى حد تعبير جون برين فأنت لا تدرى ما يحدث فى الرواية حتى تنتهى .. بل إن الفنان ـ فى تقدير جورجى جاتشيف ـ لا يدرك الكثير من تفسيراته الممكنة .. ومع ذلك ، فإنى أوافق شوبنهاور على أن " أسلوب التعبير الملتبس الغامض دائماً ، من الدلالات البالغة السوء . وهو يأتى فى معظمه نتيجة لغموض الفكرة ، بمعنى أنه يوجد نقص وتناقض فى الفكرة نغسها ، أو أن الفكرة خاطئة " .
    ***
    يقول فلوبير : " ان الفنان فى العالم الروائى ، صاحب القدرة على كل شئ ، برغم أنه لا يكشف عن ذاته .. ان عليه أن يكون مختفياً فى ثنايا عمله ، كالإله فى السماء " . لذلك فإنى أرفض الوصف الجسدى إذا لم يكن للعمل الإبداعى حاجة إليه . لماذا أقتحم ذهن التلقى بصورة محددة ، فى حين أنه ربما رسم صورة مغايرة ، تتسق مع الشخصية ، ومع الأحداث . الأبعاد الحقيقية لشخصية ما فى عمل إبداعى هى الأبعاد النفسية . كلما أجاد الفنان التعبير عنها ، توضّح تميزها ، صورتها الخاصة . وثمة عوامل مساعدة ، مهمة ، للأبعاد النفسية مثل تيار الوعى ، والحوارات الداخلية ، ودرامية الحوار ، والتصورات والأحلام والرؤى والذكريات الخ . أتفهم حب الكثير من الأصدقاء للقراءة أو السماع ، بدلاً من المشاهدة . القراءة والسماع يتركان للمتلقى فرصة تخيل المكان والشخصيات . أما المشاهدة فهى تحدد ذلك بصورة قاطعة . أنا أرسم الملامح الظاهرة إذا فرضت الحتمية الروائية ـ إن جاز التعبير ـ ذلك . أما الوصف لمجرد أن يكون للشخصية ملامحها الخارجية ، فهو تزيد لا معنى له ، ويشوش على الصورة التى ربما رسمها القارئ ـ فى ذهنه ـ للشخصية .
    العمل الإبداعى يصل إلى المتلقى بقدر الصدق الفنى الذى عبّر به المبدع . الصدق الفنى هو ما أطلبه فى العمل الإبداعى الذى أتلقاه . ما يهمنى هو قيمة العمل الفنية ، لكننى لا أستطيع أن أهمل البيئة التى أحيا فيها ، لا أستطيع أن أهمل المعتقدات والقيم والتقاليد ، فلا أنسلخ عنها ، ولا أرفضها ، ولا أسخر منها . العلاقة الإبداعية هى بين مبدع ومتلق . ومن الصعب أن تنهض هذه العلاقة على نقيض الاحترام ، وهو ما لن يتحقق إذا ناقض المبدع ما يؤمن به المتلقى من قيم ثابتة ..
    ***
    فماذا عن النقد ؟.. أليس الناقد قارئاّ ؟..
    الناقد الممتاز ـ فى تعريف البعض ـ هو فنان تبحر فى المعرفة ، وذوّاق كبير ، لا أفكار مسبقة عنده ولا غيره . بينما يرى آخرون أن الناقد ليس مقوماً بتوخى العدالة فى أحكامه ، إنما هو روح مرهفة الحس تصف لنا مغامراتها بين روائع الفن . ويرى جوتييه Gautier فى الناقد الخصى المسكين المجبر على مشاهدة السيد الكبير ـ المبدع ـ وهو يلهو ! . أما روجر ب . هينكل فقد لاحظ أن معظم الدراسات التى تعنى بالقراءة النقدية تسلك أحد سبيلين ، فهى قد تتخذ من المجموعات القصصية أو المقتطفات الروائية ما تعتمد عليه فى تحقيق ما تريده من إيضاح المداخل المتعددة للقراءة النقدية ، أو أنها قد تلخص المقالات النقدية النظرية المعنية بدراسة الرواية . ويناقش الفرنسى ألبير تيبوديه ما يشاع بين الكتاب من أن الفنان مبدع ، وأن الناقد لا يبدع شيئاً ، وليس له وظيفة إلا أن يرى ، وأن يحكم ، وعلى وجه أخص أن يطرى ما ابتدعه الآخرون . والمديح الأكبر الذى يمكن أن يوجهه إنسان إلى ناقد كبير هو أن يقول له : إن النقد فى المستوى الذى ارتفعت به إليه أصبح حقيقة نقداً مبدعاً خلاقاً . ويجيب تيبوديه عن السؤال : ما هو ذلك الإبداع ؟.. يقول : " لنأخذ نمط المعمارى . لكن هناك معمارى ومعمارى . معمارى يبنى بيتاً للسكن ، على حين أن مايكل رانج يبتدع قبة سان بيير . أن تبنى معناه أن تطبق قواعد استخدام المواد الأولية وتلاحمها وفقاً لخريطة معدة ، أن تطبق الذكاء الحركى ، لكن أن تبدع ، معناه أن تسهم فى قوة الطبيعة ذّاتها ، أى أن تنتج من خلال عبقرية موازية للعبقرية الأولى " ( ت أحمد درويش ) .
    ***
    ويفرض السؤال نفسه : هل الناقد مجرد وسيط بين المبدع والمتلقى العادى ، ليصبح المتلقى قادراً على الاستجابة للعمل الإبداعى ؟..
    النقد الأدبى ـ بأبسط تعبير ـ هو فن الحكم على الإبداع الأدبى . دراسة العمل الفنى يجب أن تركز على العمل نفسه ، وليس المبدع أو المتلقى . تركز على بناء العمل ، مكوناته ، صورته الفنية ، عناصره المختلفة ، تفصل بين العمل الفنى وأية عوامل أخرى أساسية أو مساعدة ، مادامت لا تتصل ببنية العمل نفسه . وبالنسبة لى ، فأنا حين أقرأ عملاً ما لا أدعى أن ما كتبته عنه هو تقويم بقدر ما هو تعبير عما فى خاطرى . وأستعير التعبير من " ليمز " .
    والحق أن قراءة النقد الذى يعرض للأعمال الأدبية ، ويناقشها ، ليست بديلة عن قراءة الأعمال الأدبية نفسها . ومع أن الناقد هو قارئ فى الدرجة الأولى ، فإن مهمته هى تحويل القراءة إلى كتابة ، أى أنه يهبنا فى كتابته ما لم يفصح عنه العمل الإبداعى . وفى أسرار البلاغة يقول الجرجانى إن الباحث عن المعانى كالغائص فى الدر . الكتابة السردية كنز ، والتأويل فعل اكتشاف ذلك الكنز .
    ثمة رأى أنه " ليس هناك قراء يتشوقون إلى متابعة أحكام النقد أكثر من المؤلفين أنفسهم " . وفى تقديرى أنه إذا كان النص ـ حين يبدأ الناقد فى قراءته ـ يتحول إلى علاقة بين وعيين : وعى المبدع ، ووعى الناقد ، فإن النقد فى أفضل صوره ـ والتعبير لفورد مادوكس ـ يتعامل مع العمل الفنى كنقطة بداية فى عملية خلق جديدة . أما أبشع أنواع النقد ، فهى تلك المبنية على معرفة مسبقة خارجة عن العمل الفنى . الرومانسية ـ على سبيل المثال ـ تنظر إلى العمل الأدبى على أساس " أنه تعبير عن العالم الداخلى للفنان ، ومواز له . وصارت مهمة الناقد أو المفسر هى أن يفهم الفنان بهدف فهم العمل نفسه ، وذلك عن طريق الاستعانة بكل المعلومات التى يمكن له تحصيلها عن حياة الفنان وسيرته الذاتية " ( فصول ـ إبريل 1981 ) . ولعلى أميل إلى قول بيير ماشرى Pierre Macherey إن مهمة الناقد أن يركز اهتمامه على " لا شعور " النص " أى ما لا يقال ، وما هو مكبوت بالضرورة ( ت . جابر عصفور ) .
    يقول همنجواى : " كثيراً ما أشعر بأن هناك اليوم منافسة بين الأدباء والنقاد ، بدلاً من الشعور بضرورة مساعدة كل جانب للآخر " . لا ينبغى ـ والقول لأميرسون ـ أن يكون النقد باحثاً عن الشجار ، داعياً إلى هدر الطاقات ، يمسك بالسكين ، وينتزع الجذور . عليه أن يكون هادياً ، معلماً ، ملهماً . عليه أن يكون ريحاً منعشة وليس ريحاً باردة تجمّد الأطراف " . أما بوب فإنه يرى ان " الناقد الكامل يقرأ كل عمل بالروح نفسها التى كتب بها المبدع عمله . عليه أن ينظر إلى العمل فى شموله ، ولا يسعى إلى أن يتصيد الهنات ، مادامت العاطفة الحقة قد حفزت الكاتب ، والنشوة قد أوقدت عقله " ..
    أذكر قول تشستر فيلد : " لنترك الناقد الغبى يعيش على جثث الأعمال . أعطونى أنا روح العمل ورواءه " ..
    أما الفنان الذى يمارس النقد ، فلعلى أذكر قول أستاذنا يحيى حقى إن " الفنان الذى يشتغل بالنقد ، إما أن يكون تدفقه غنياً جداً ، وموهبته كبيرة جداً ، بحيث لا يؤثر اشتغاله بالنقد على فنه ، وإما أن تكون قدرته على الفيض الفنى محدودة ولا ترضيه ، فيحاول التعبير عن أفكاره بكتابة المقالات النقدية مادام لم يشملها تدفقه الفنى " .
    ***
    إذا تحدثت عن موقف النقد من حيث الكم النقدى الذى تناول أعمالى الإبداعية ، فلعلى أعترف أنه كثير للغاية إلى حد أن جماعة " أصوات " الأدبية ضمت بعض المقالات والدراسات والحوارات التى ناقشت أعمالى حتى عام 1984 فى كتابين ، وثمة أعمال أخرى سابقة وتالية ، تفوق ما ضمه كتابا جماعة أصوات ، وهما " محمد جبريل وعالمه القصصى " و " قراءات فى أدب محمد جبريل " . أذكرك بكتاب حسين على محمد " البطل المطارد فى روايات محمد جبريل " ، وكتاب ماهر شفيق فريد " فسيفساء نقدية ـ تأملات فى العالم الروائى لمحمد جبريل " ، وكتاب سعيد الطواب " استلهام التراث فى روايات محمد جبريل " وكتاب نعيمة فرطاس " فلسفة الحياة والموت فى رواية محمد جبريل الحياة ثانية " ، وكتاب حسن حامد " مصر التى فى خاطره " ، وكتاب سمية الشوابكة " التراث والبناء الفنى فى روايات محمد جبريل ، وكتاب محمد زيدان " المنظور الحكائى فى روايات محمد جبريل " إلخ ..
    مع ذلك ، فإنى ـ حتى الآن ـ لست مدرجاً فى قوائم ـ وبتعبير أدق : لست مدرجاً فى تصنيفات السادة الأعزاء من أدباء الأيديولوجية والشللية ونقادها . إذا أرادوا أن يتحدثوا عن كتاب القصة والرواية ، فإنهم يعلنون القائمة التى تضم ممثلى الأيديولوجية أو الشلة فى أقل تقدير .. ولأنى أتصور الكاتب أكبر من أى منصب أو تنظيم حزبى أو أيديولوجى ، لأنى أرفض مبدأ الشللية فى إطلاقه ، ولأنى لا أتردد على المقاهى والجلسات الخاصة ، وأفضل المشاركة فى المؤتمرات الثقافية ، والحياة مع الناس العاديين ، وقضاء غالبية الوقت فى بيتى أقرأ وأكتب .. لذلك كله فإن قوائم الشلل والأيديولوجيات تخلو من اسمى ، وإن وجدت تعويضاً حقيقياً ، وجميلاً ، فى الكثير من الكتب والدراسات والموسوعات المتخصصة والحوارات التى تناولت سيرتى الإبداعية وأعمالى ، وفى العديد من الرسائل الجامعية التى كان قرار أصحابها بإعدادها أول تعرفى إليهم .
    أزمة النقد ـ التى يتجدد حديثها فى الصحف والدوريات ـ اصطنعتها تلك التقسيمات الجائرة ، والمنحازة .. حتى أنه يمكن القول : قل لى من هم نقادك ، أقل لك من أنت !
    ...............
    1987 بإضافات.
    Reply With Quote  
     

  2. #14  
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    ملاحظات في فن الرواية
    ....................

    " العمل الفنى شأنه شأن العالم ، شكل حى ، كائن ، لا حاجة إلى تبريره "
    ألان روب جرييه

    إذا كان الأسبانى خوان أنطونيو دى ثونتو نيغى يصف بالبؤس من يبدأ روايته دون أن يجهل كيف يتمها ، فلعلى أعترف أنى ذلك البائس . مدخل الرواية عندى يبدأ خطوطاً عريضة ، اسكتشات ، أجساداً بلا ملامح ولا تفاصيل ، ثم تبين الرواية عن ملامحها وتفصيلاتها فى أثناء عملية الكتابة . لحظات تخلق فكرة العمل الإبداعى ، مناوشتها لى ، توضح الملامح والقسمات ، واختفائها ، لتحل ملامح وقسمات أخرى ، تحاول أن تأخذ تصوراً أدبياً ، ولو فى صورة أولية تبدأ بها عملية الكتابة . وقد تتغير الصورة ـ فى أثناء الكتابة ـ تماماً . ولعلى أشير إلى قول فورستر ، إن الروائى ـ بدلاً من أن يقف خارج عمله ليسيطر عليه ـ يلقى بنفسه فيه ، ليحمله إلى هدف لم يكن يتنبأ به ..
    الرواية ـ فى تقديرى ـ مشروع إبداعى ، تتحدد ملامحه وقسماته أثناء الكتابة . أرفض التصور المعمارى للعمل الإبداعى على نحو يطلب النهاية وهو فى مرحلة البداية ، ولا يترك النهاية تغيب عن أفق نظراته . وكما تقول إيزابيل الليندى : " لست أنا التى أحدد الموضوع ، وإنما الموضوع هو الذى يختارنى ، ويتلخص عملى ببساطة فى تكريس وقت كاف وعزلة وانضباط لكى أكتب وأحسب " . الكاتب يعرف قدراً كبيراً عن قصته مسبقاً ، فقد أنضجها فى ذهنه بعناية ، وفى الوقت نفسه لا يعرف بشكل مطلق ما يحدث فيها بالتفصيل . والسبب فى ذلك هو أنه متى بدأ كتابة قصته ، فإن أفكاراً جديدة تأتى فى أثناء انهماكه فى الكتابة . ويروى كاميليو خوسيه ثيلا تجربته : " تأتينى الرواية تلقائياً . إنها ليست بالشىء الذى أتهيأ له بتأن . عندما أظفر برواية داخلى ـ يمكن أن تظل داخلى عدة سنوات ـ فإننى لا أفكر بكيفية تطويرى لها . عند نقطة ما تبدأ بالتشكل من تلقائها ، وبخطوة ثابتة ، بعد فترة ثمانية إلى عشرة شهور . أنا لا أومن ـ الكلام لثيلا ـ بكتابة سيناريوهات تمهيدية . إذا كانت الشخصيات حية ، فما عليك إلاّ أن تفتح لها الباب وانظر ماذا تفعل . إن قصة فعل الشخصيات هى الرواية " .
    وبالنسبة لى فثمة ومضات ، أو صور متكاملة ، تلح . أتشاغل عنها حتى يصبح الإلحاح سيطرة كاملة ، فأجلس لكتابتها . لا أنهى الجلسة حتى أتمها . لا يشغلنى أن يكون النص مفتوحاً أو مغلقاً ، ما يشغلنى أن تقلع الطائرة فى موعدها المناسب ، أن أضع نقطة الختام ، فى اللحظة التى يجب أن توضع فيها ، فلا اختصار مخل ، ولا ترهلات . ربما أهملت سذاجة بعض المواضع أو ركاكتها ، وربما جاوزت عصيان السرد فى مواضع أخرى ، لكننى أعود إلى العمل جميعاً بين فترة وأخرى ، أضيف وأحذف وأعدّل وأبدّل ، حتى تكتمل صورته فى عينى الناقد الذى هو أنا . وتتجدد صورة المشروع الإبداعى ، بل وتأخذ صوراً متعددة ، ودلالات متعددة بالتالى ، أثناء القراءة . وكما يقول ريموند فيدرمان Raymond Federman : فإن الكتابة تعنى إنتاج معنى لم يكن موجوداً من قبل . إنها تتخلق وتنمو ، دون أن تخضع لمعان مسبقة . لا تتمثل الواقع ولا تحاكيه ، ولا تحاول حتى إعادة خلق الواقع . إن لها واقعها الخاص بها ، مكانها الروائى الذى قد يشتمل على إمكانية حقيقية ، وأخرى غير حقيقية [ قرية جارثيا ماركيث " ماكوندو " ـ على سبيل المثال ] ، وقد تلجأ إلى زمن حقيقى ، لكن زمن الرواية يظل هو زمن الرواية . إن مفهوم الزمن الروائى يختلف بالتأكيد عن المفهوم المنطقى للزمن . انه زمن الرواية ، الزمن السميولوجى الذى يختلف عن الزمن الواقعى الذى يحيا فيه ، وبه ..
    من هنا ، فإنى أرفض إخضاع الزمكانية الروائية للتذكر . أرفض : وتذكر فلاناً ، أو تذكر المكان الفلانى .. فالبديهى أن الشخصيات والأمكنة والأحداث تنثال إلى الذهن دون ترتيب ، ربما انعكاساً لمواقف عابرة ، أو كلمات يصلها الذهن بما سبق . لا يفصل الكاتب بين الآنى والسابق ، إنما تتداخل اللحظات دون حدود فاصلة . ثمة عشرات ، وربما مئات ، وربما آلاف التعبيرات والأمثال والمواقف والمجازات مودعة فى حافظة الذاكرة ، وهى تغادر مواضعها فى أثناء عملية الإبداع . تظهر على الورق فى لحظة قد تفاجئ المبدع نفسه .
    وعلى الرغم من عدم اجتماعيتى المعلنة ، فإنى حريص على أن أتلمس التجربة وألامسها ، بدءاً بالقراءة ، وانتهاء بالمعايشة ، أو الممارسة الفعلية ، مروراً بالسفر ، والتعرف إلى الخبرات ، والارتماء فى المغامرة ما أمكن . وبتعبير آخر ، أن أحيا الحياة ، أخوض بحرها ، ولا أكتفى بالوقوف على الشاطئ ..
    قد ينشأ الحدث الروائى من مجرد لحظات عابرة فى حياة الفنان . كتب جارثيا ماركيث قصته قيلولة الثلاثاء ـ التى يعتبرها أفضل قصصه القصيرة ـ بعد أن شاهد سيدة وطفلها يرتديان الثياب السوداء ، ويستظلان بمظلة من شمس الصيف الحارقة فى طريق صحراوى . أما رواية الورقة الساقطة فقد تخلقت من لحظة عجوز يحمل حفيده إلى القبر . وأما رائعته الكولونيل لا يجد من يراسله فقد جاءت بتأثير رؤيته رجلاً يعانى انتظار قارب فى أحد الأسواق . كذلك فقد استمد فوكنر شخصيته الرئيسة فى رائعته الصخب والعنف من فتاة ، كان يقود سيارته ، حين رآها تلهو بأجوحة أمام بيتها فى الجنوب الأمريكى [ أذكرك بقول تولستوى : إن الكاتب الجيد هو الذى يستطيع أن يكتب قصة كاملة من شجار عابر رآه فى الطريق ] . أما شخصية إمام مدنى السمرة فى روايتى مواسم للحنين فإنها ثمرة رؤية متكررة لذلك الرجل الذى كان يسير فى شوارع الإسكندرية ، وهو يرفع إصبعيه بعلامة النصر .
    ***
    عقل الشاعر يدأب أثناء عملية الإبداع ـ فى رأى أ . إم . فورستر ـ على دمج تجارب منفصلة ومتفاوتة ، وظنى أن ذلك أيضاً دأب الروائى والقاص والمسرحى ، المبدع بعامة . لقد جاءت كل تجربة إبداعية لى مختلفة عن التجارب السابقة ، تتخلق الشخصيات والأحداث والمصائر فى أثناء العملية الإبداعية ، وتتخلق الصورة الفنية كذلك . حين أبدأ فى كتابة قصة أو رواية ، فإن الصورة هى التى تفرض الإطار ، أو ـ بالتعبير النقدى ـ يفرض المضمون الشكل . لا أتخذ قراراً مسبقاً بالتكنيك الذى تختاره القصة أو الرواية ـ هى التى تختار ! ـ السرد العادى ، الاتجاه إلى المخاطب المشارك ، الاتجاه إلى المخاطب المتلقى غير المشارك ، الراوى العليم بكل شئ ، طريقة الاسترجاع [ الفلاش باك ] ، أسلوب التقطيع ، تصاعد الأحداث هارمونياً ، طريقة التبقيع ، القص واللصق [ الكولاج ] إلخ ..
    الراوى ـ فى اللون الذى كتبت به روايتى النظر إلى أسفل ـ لا يتجه إلى القارئ وحده ، لكنه قد يتجه إلى متلق آخر فى داخل العمل ، متلق مشارك ، أو غير مشارك ، فى الحدث القصصى ، لا يراه القارئ وان تخيله . يتجه إليه الراوى بما يقول ، فهو قارئ مفترض ، متلق اخترعه الكاتب وتصوره القارئ . المتلقى الحقيقى للعمل ، وإن اختلف عنه المتلقى داخل العمل فى أنه جزء من العمل بالمشاركة ، أو أنه يتحدد فى إطار السلبية ، لا يسهم فى تجسيد الحدث القصصى ولا نموه . ملامحه ضائعة أو باهتة لأنه غير موجود بالفعل داخل العمل . لا أحد على مستوى النقد المتخصص ، أو القراءة العادية تعرف إلى ذلك المتلقى : هل هو صديق لشاكر المغربى ؟ هل هو وكيل النيابة " هل هو محقق الشرطة ؟ هل هو شاكر المغربى نفسه ؟.. صعب القول بتعريف محدد ، لأن المتلقى الذى تتجه إليه الرواية ـ فى داخلها ـ غير مشارك ، فهو غير موجود فعلاً ، وتغيب من ثم ملامحه الجسمية والنفسية .
    ولأنى من غلاة المؤمنين بوحدة الفنون ، فقد شغلت على مستوى التجريب ـ منذ روايتى الأولى الأسوار بالتجريب الشكلى ، بالتكنيك ، مثل التقطيع والفلاش باك والمونولوج الداخلى وتيار الوعى وأسلوب التحقيق ، إلى غير ذلك من الخصائص الشكلية . ولعلى أسرف فى التجريب أحياناً ، فأتوقع عدم الفهم ، أو الرفض ، لدواع فنية أو دينية أو سياسية ، وأحتفظ ـ من ثم ـ بما كتبت فى داخل الأدراج [ التجريب كلمة لها العديد من المعانى والدلالات ، بل إنها لا تجد نفسها لغوياً ، بمعنى أنه لا يوجد لها المقابل اللغوى الدقيق . هل هو الاختلاف ؟ هل هو الخروج عن التقليدى ؟ هل هى المغايرة ؟ هل هى المجاوزة ؟ هل هى محاولة الإضافة ؟ هل هى محاولة التفرد والتعبير عن الخصوصية الفنية ؟ . يظل التجريب كلمة حمالة أوجه ، بمعنى أن معناها ودلالتها تختلف من مبدع إلى آخر ، فضلاً عن أن البعض يرفض الكلمة إطلاقاً . وعموماً ، فإنى أرفض التجريب الذى يطيل الوقوف أمام الإبداعات الأوروبية ، فهو ـ فى حقيقته ـ تقليد ، وليس تجريباً . التجريب هضم لقراءات وتجارب وخبرات ، ومحاولة إفراز ذلك من خلال خصوصية مؤكدة ] . فى ضوء ذلك ـ أو فى ظله ـ كتبت مجموعتى الأولى تلك اللحظة ، ودفعت بها إلى المطبعة . ولأنى حرصت على التجريب فيما كتبت ، فقد غلبت الذهنية أحياناً ، والمباشرة أحياناً أخرى ، فى بعض المواقف . وثمة العديد من قصصى القصيرة هى إسكتشات ، أو إرهاصات ، بأعمال روائية . أشير إلى روايتى بوح الأسرار التى نشرت قصة قصيرة ـ منذ عشرين عاماً ـ فى " الآداب " البيروتية . ثم شغلتنى ، وناوشتنى ، كإبداع روائى . وقد بدأت روايتى من أوراق أبى الطيب المتنبى باعتبارها قصة قصيرة ، ثم طالت فصارت رواية ، لا من حيث عدد صفحاتها فحسب [ أكثر من 150 صفحة ] وإنما من حيث تعدد شخصياتها وأحداثها ، وتوالى تلك الأحداث موجة إثر موجة ، وهى خاصية روائية بعكس القصة القصيرة التى تشبه الدوامة ..
    وبالطبع ، فإنه من الصعب تصور أن يجلس المبدع ليكتب دون تصور ما ـ ولو تصور هلامى ، أو اسكتش بلغة الفن التشكيلى ـ لما يعتزم إبداعه . حاول أستاذنا نجيب محفوظ ذلك فى أعقاب نكسة 1967 ، وكان الذهن مشغولاً ، والنفس تعانى ، لكنه حرص على الجلسة اليومية ما بين السادسة والثامنة مساء . لم يكن فى ذهنه ما ينقله على الورق ، واحتذى حذو بعض الكتاب الأوروبيين ، وترك القلم ـ دون فكرة مسابقة ـ يسود بياض الصفحات ، فلخص ـ بتناول جديد ـ روايته القديمة عبث الأقدار . وكتب قصصاً قصيرة أخرى ، لا ترقى إلى مستوى إبداعاته بعامة ، فهى ـ أحياناً ـ تسرف فى التلغيز ، وتبدو ـ أحياناً ثانية ـ أقرب إلى المعادلات التى تهب شفرة تطلب الحل !
    وإذا كان رأى مالارميه " إن الآلهة توحى لنا بالأبيات الأولى من القصيدة ، أما بقية القصيدة فينبغى أن نعتمد فيه على أنفسنا " ، فإن تشيخوف يرى أن الفنان لا يختار موضوعاته ، إنما هى التى تختار الفنان . الآلهة قد توحى بالسطور الأولى ، لكن بقية النص الإبداعى هى من صنع النص نفسه ، فهى تتخلق ـ فى أثناء عملية الكتابة ـ من داخله . لقد أعلن تورجنيف دهشته حين رأى ما حل ببطله " بازاروف " فى روايته الآباء والأبناء . وحين بدأ تولستوى كتابة روايته أنا كارنينا ، كانت المرأة باردة العاطفة ، وكانت تستحق المصير الذى واجهته ، لكنه اكتشف ـ بعد أن أنهى الرواية ـ أن صوت الرواية ـ الذى يختلف بالتأكيد عن صوت الروائى . وقد أشار سهيل إدريس فى تقديمه لروايته الحى اللاتينى إلى أن بطلى روايته أصابعنا التى تحترق فرضت مقتضيات الحدث الروائى ـ عكس ما كان يتوقع ! ـ أن يخون الرجل زوجته ، وتوشك الزوجة على الخيانة كذلك ، وخضع الفنان ـ على حد تعبيره ـ لتصرفات بطليه . حتى كلود سيمنون الذى كان يحرص على أن يعد ملفاً بأسماء شخصيات رواياته ، وأعمارهم ، ووظائفهم , وعاداتهم ، ونوعية الأمراض التى أصابتهم ، أو ستصيبهم ، وما إذا كانوا متزوجين ولهم أبناء . حتى كلود سيمون لم يكن يعرف ـ باعترافه ـ إلى أين تمضى الرواية التى يكتبها ، ولا النهاية التى سيضع عندها نقطة الختام .
    ثمة مبدعون كبار يحرصون على التعرف إلى العمل الإبداعى ـ قبل الجلوس لكتابته ـ من ألفه إلى يائه . جابرييل جارثيا ماركيث يشير إلى أنه يمعن التفكير فى القصة ـ قبل كتابتها ـ سنوات طويلة ، حتى يستطيع حكايتها مرات كثيرة " من أمام ، ومن خلف ، وكأنها كتاب انتهيت من قراءته " . ونجيب محفوظ يعد ملفات بالملامح الظاهرة والجوانية لكل شخصاته ، حتى الشخصيات الهامشية ، أو التى تبدو كذلك . وقد وافق يوسف الشارونى على ملاحظتى بأنه يعرف موضع الكلمة فى داخل الجملة ، فى داخل السطر ، فى داخل النص . ويؤكد ماريو بارجاس يوسا إنه يحسب كل شىء بإحكام قبل أن يبدأ فى الكتابة . وعلى الرغم من إلحاح السؤال : كيف يفكر كاتب السيناريو ، وأن ذلك الأسلوب فى التفكير يتناقض مع التلقائية فى كتابة الرواية أو القصة . إنه أنسب بتقنية السيناريو الذى يعرف جيداً ـ قبل أن يبدأ التصوير ـ دور كل شخصية وموضع كل مشهد وكلمة .
    الإبداع عندى لحظة اكتشاف ، تساوى معناها عند المتلقى . تفاجئنى الشخصيات والأحداث ، مثلما تفاجئ القارئ تماماً ، وتفاجئنا ـ القارئ والكاتب ـ النهاية التى ربما لم يتوقعها كلانا . أنا لا أعرف شيئاً مسبقاً . أعرف البداية فقط . أما النهاية ، فلست كاتباً للسيناريو حتى أحددهـا قبل أن أخلو إلى العمل . ليس عندى نتائج مقررة أحددها سلفاً .
    على الرغم من ذلك ، فإن اختلاف وسيلة الكتابة بين القصد والعفوية ، لا تعنى التقليل من شأن الكتابة القصدية ، بقدر ما تعنى اختلافاً مزاجياً ، وفى طريقة الكتابة بين مبدع وآخر .
    أنا لا أختار النهاية التى قد تفاجئ الفنان نفسه . لا أعرف حاضر شخصياتى ولا مستقبلهم ، لا أعرف كل شئ سلفاً ، فهى ليست مجرد خيوط أحركها . أفضل أن أبدأ خالى الذهن إلاّ من البداية ، وصور بلا ملامح محددة ، كالهلاميات ، ثم تكتسب الصورة ـ أثناء الكتابة ـ ملامحها . أذكر قول كلود سيمون : " قبل أن أكتب على الورق ، لا يوجد شئ إلاّ حشد غير محدد من الأحاسيس التى تكاد تكون غامضة ، ومن الذكريات التى تعانى غياب الوضوح ، فضلاً عن أن مشروع الكتابة نفسه يكون ضبابيا " . قد تكون البداية مجرد ومضة ، مشهداً عابراً ، عبارة قيلت عفواً . وعلى حد تعبير فورد مادوكس ، فإن الحياة توحى للفنان بمادة فنه ، لكن هذا الاستيحاء يقتصر على بذرة العمل الفنى ، على صورته الهلامية ، قبل أن يجد تجسيداً له فى أثناء عملية الإبداع .
    ثمة اختلاط بين لحظات الماضى والحاضر واستشرافات المستقبل ، بين الفكرة التى تلح على نحو ما ، والقراءات ، والخبرات ، ومشاهدة أو سماع الأعمال الإبداعية . بل إنه أثناء فعل الكتابة تتوالى الصور والعبارات التى نسيتها تماماً ، لكنها تفد إلى الذاكرة . فالقلم ، فى لحظة غير متوقعة ، لحظة تختار نفسها ولا نختارها نحن ، نستعيدها واضحة أو شاحبة الملامح ، وقد تختلط الأزمنة والتفصيلات ، وان شكلت لبنات فى بنية العمل . وانحياز إبداعى لقيم محددة ، أو لقضايا بعينها ، أو لجماعة ما ، لا يأتى بقرار ، لا ألوى عنق العمل الإبداعى من أجل توصيل مقولتى ، وإنما التعبير عن ذلك يأتى من خلال العمل نفسه . قد تكون المقولة قديمة ، وقد يرفضها الحداثيون ، لكننى أومن أن كل مضمون يفرض الشكل الخاص به . وكما تقول ناتالى ساروت :" لا أظن أنه بوسع إبداع ما ، رواية أو لوحة فنية أو مقطوعة موسيقية ، أن يتحول إلى مجرد تطبيق لفكرة مسبقة . إنه بحث يبدع نفسه ، فهو يقرر بنفسه مسائله الخاصة به " . ولعلى أضيف قول نورمان ميلر إنه يبدأ فعل الكتابة دون أن يعرف ما الخطوة ـ أو الخطوات ـ التالية . إنه يعتمد على اكتشاف العمل لنفسه ، واكتشاف المبدع للعمل أثناء الكتابة ، ويعتمد ـ فى كل الأحوال ـ على الحياة التى يثيرها العمل " أشعر دائماً كأنى لست أنا الذى أكتب القصة ، وإنما أنا مدفوع للكتابة ، فلا أملك إلاّ أن أكتب " . البداية ـ دائماً ـ هى أصعب ما فى الأمر . السطر الأول فى عمل ما هو الأهم . أحيا الشعور بأن النهاية فى مدى الأفق .
    ولم يكن مورافيا يعد إبداعاته مقدماً بأية صورة ، ولم يكن يفكر فيها عندما يكون مشغولاً بالكتابة . وكانت فرانسواز ساجان تبدأ الكتابة لكى تأتيها الأفكار ، وربما تغير أثناء الكتابة كل انتوت تسجيله من أحداث . وقد وصف الشاعر جورج راسل أوفلاهرتى بأنه أوزة حين يفكر ، وعبقرى حين يكتب الشعر . والمعنى الذى يقصده هو القيمة التى يكتسبها العمل إذا انطلق من العفوية ، وعبر بها ..
    وشخصياً ، فإنى أبدأ بكتابة القصة القصيرة على أنها كذلك ، ثم ما تلبث ـ بتوالى الأمواج ـ أن تتحول إلى رواية . تتعدد الشخصيات ، وتتعدد الأحداث ، وتتسع المساحة ، ويزيد عدد الصفحات ، ليطالعنى ما كتبته ـ ختاماً ـ فى صورة رواية . ذلك ما حدث فى روايتى من أوراق أبى الطيب المتنبى . بدأت فى كتابتها قصة قصيرة ، لكن كثرة المصادر والمراجع ، وتبين الكثير مما يستحق التوقف بدّل ملامح القصة القصيرة ، فأصبحت رواية ، ليس فى مجرد زيادة عدد الصفحات ، وإنما فى اكتسابها لخصائص الرواية بعامة ..
    وفى تقديرى أن انتهاء العمل الإبداعى عند نقطة محددة ينطوى على تعسّف مطلق فى التعامل مع حيوات كان يجب أن تظل مستمرة ، وهى تلك التى كانت لشخصيات الرواية قبل أن تختفى بالنهاية المغلقة . القصة قد تنتهى عند نقطة ما تختارها ، لكنها ليست النقطة التى تنتهى عندها حياة الشخصية ـ أو الشخصيات ـ فى الرواية ..
    ***
    (يتبع)
    Reply With Quote  
     

  3. #15  
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    الشخصية الروائية تنتمى إلى مبدعها من حيث وضع البذرة فى الأرض ، النطفة فى الرحم ، لكنها تكتسب ملامحها من عملية التخلق . وإذا كان ميشيل بوتور يذهب إلى أن الروائى يبنى أشخاصه ، شاء أم أبى ، علم ذلك أو جهله ، انطلاقاً من عناصر مأخوذة من حياته الخاصة ، وأن أبطاله ما هم إلا أقنعة يروى من ورائها قصة ، ويحلم من خلالها بنفسه ، فإن القصة تكتب نفسها ، تستمد مقوماتها ، حياتها ، خصوصياتها ، من داخلى ، من ثقافتى وتأملاتى وخبراتى وخبرات الآخرين ، من التفصيلات والمنمنمات التى تشكل ـ فى مجموعها ـ نظرة الفنان الشاملة ، فلسفة حياته . لم يبدأ بيكاسو من اللحظة ، ولا من المطلق ، لكنه استوعب تاريخ الفن التشكيلى جيداً ، قبل أن تجرى ريشته بالخط الأول . درس مبادئ التصوير ، وتعرف إلى التقاليد الفنية منذ ما قبل عصر النهضة وإلى الفن الإغريقى والرومانى المسيحى . وتعرف أيضاً إلى تقنيات متحف السلالات البشرية ، وعلى أعمال السكان الأصليين لقارة استراليا وعلى أعمال الهنود الحمر والفن الفرعونى والهيلينى والقبطى والإسلامى إلخ .
    وأحياناً ، فإنى أتقمص الشخصية بالتوغل فى العمل الإبداعى . تصبح هى أنا ، أو أصبح أنا هى . وبالتأكيد ، فقد كنت ـ على سبيل المثال ـ منصور سطوحى فى الصهبة ، ومحمد قاضى البهار فى قاضى البهار ينزل البحر ، وعماد عبد الحميد فى النظر الى أسفل ، ورءوف العشرى فى الخليج ، وحاتم رضوان فى الشاطئ الآخر ، وصلاح بكر فى صيد العصارى ، والراوى فى زوينة ، وهاشم السعدنى فى زمان الوصل ، والراوى شاباً فى مواسم للحنين ، بل إنى لم أضمن شخصية إسماعيل صبرى روايتى أهل البحر إلا لأن اسمه أطلق على الشارع الذى ولدت ، ونشأت فيه .
    ولعلى أتوقف أمام الشخصية المسماة ـ بلغة السينمائيين ـ " الكاراكتر " ، الشخصية غير المألوفة ، والصامتة أحياناً ، سواء على المستوى الجسدى أو النفسى . الشخصيات العادية لا تلفت انتباهى ، لا أتوقف أمامها ، أعبرها بالعين وبالتأمل فى آن . أتذكر قول جين مالاكويه لنورمان ميلر : " الكتابة هى السبيل الوحيد لمعرفة الحقيقة . والوقت الوحيد الذى أعرف فيه أن شيئاً ما حقيقي ، هى اللحظة التى يعلن فيها عن وجوده أثناء فعل الكتابة . أنا أكتب لأكتشف ما أفكر فيه ، وما أنظر إليه ، وما أشاهده ، وما يعنيه ذلك كله ، ما أتطلع إليه وما أخافه ، وما الذى يدور فى توالى الصور داخل ذهنى " ..
    وطبيعى أن الحرص على أن تكتب القصة نفسها قد أثمر بعض النتائج السلبية ، وأخطرها الوقوع فى " مطب " السهو . فأنا أسمى الشخصية ، ثم أختار ـ لسبب أو لغير سبب ـ اسماً آخر ، ويختلط الاسمان فى لحظات الكتابة ، فلا أنتبه إلى التداخل المعيب إلا فى لحظات القراءة . هذا ما حدث فى روايتى ياقوت العرش ، حين اختلط اسما المنزلاوى والتميمى ، وفى روايتى بوح الأسرار عندما أصبح اسم سليمان عبد الواحد ـ فى بعض الأحيان ـ سلامة عبد الواحد !. وفى زمان الوصل تسلل اسم الشخصية الحقيقى إلى إحدى الفقرات .
    ***
    أصارحك بأنى لا أميل إلى القصة التى تراعى القواعد الفنية التقليدية : البداية ، والذروة ، والحل ، وهو مايسمى بالقصة القوس Arcstory، لكننى أوافق رامان سيلدن على أن : " الحبكة Mythos هى التنظيم الفنى لأحداث القصة " . لا أتصور قصة بدون حبكة . الحبكة هى الفنية . ومن الصعب تصور فن بدون فن . القصة تظل حكاية ، حتى تحيلها الحبكة الى قصة ، تهبها الخاصية الفنية . والقصة تكتب نفسها إطلاقاً ، حتى التكنيك ، الصورة الفنية تختارها القصة ، أسلوب الراوى الذى يعرف كل شئ ، أسلوب الراوى الذى يخاطب المشارك ، أسلوب الراوى الذى يخاطب غير المشارك . وقد لاحظ أنتونى ترولوب أنه لم يعرف على الإطلاق كيف ستنتهى قصته ، فضلاً عن أن الحبكة تبدو غائبة التفاصيل عندما يبدأ الكتابة . أتذكر قول ميشيل بوتور : " هنالك مادة ما ترغب فى الظهور ، وبمعنى آخر : ليس الروائى هو الذى يضع الرواية ، بل الرواية هى التى تضع نفسها بنفسها ، وما الروائى سوى أداة إخراجها ، ومولّدها . ونحن نعرف مقدار ما يتطلبه ذلك من علم ومعرفة وصبر وأناة " ( ت فريد أنطونيوس )
    من عادتى أن أقرأ ما أكتب ، ثم أعيد القراءة ، ثم أضيف وأحذف وأبدّل ، وربما مزّقت أوراقاً مما كتبت ، وربما مزّقت الأوراق كلها ، لا أطمئن إلى انتهاء العمل إلاّ إذا اطمأن الناقد فى داخلى إلى تلك النهاية ..
    وإذا كان ابن عميرة يرى أن قواعد الإعراب لا تفيد فى الكشف عن معانى الكلام وجماله ، أو أنها ليست من مسببات جمال الكلام ، فإن اللغة ـ تحديداً ـ ليست هامشاً فى العملية الإبداعية ، ليست مجرد أداة ، ولكنها جزء مهم فى نسيج العمل . ولعلى ـ مع ذلك ـ أحذّر من إغراء اللغة بما يسئ إلى العملية الإبداعية ، ويحيلها إلى كلمات ، أو عبارات ، جميلة ، مرصوصة ، لكنها تفتقد الروح . لا أقصد بأن تكتب القصة نفسها أن يبدع القلم الفكرة . ربما انساق القلم وراء سحر الكلمة المكتوبة ، فهو يبحث عن جماليات اللغة ، ولا ينظر إلى اللغة على أنها فحسب أداة تعبير ، أداة توصيل . اللغة ليست مجرد إطار . ليست مجرد توشية أوحلية . إنها لا تنفصل عن الحدث فى العمل الإبداعى ، فهى ـ فى أقل تقدير ـ وعاء الإبداع ، وسيلة الصياغة ، وإهمال الوعاء أو الوسيلة أشبه بتغليف جوهرة ثمينة بورقة ممزقة متسخة . وبالتأكيد فإن الرواية التى توظف التراث الفرعونى تختلف عن الرواية التى توظف التراث العربى ، وعن الرواية التى تصور واقعنا الآنى . لا أعنى التقليد أو المحاكاة أو ارتداء الأثواب المتعددة . قد يفيد الفنان من مفردات الفترة ، أو العصر ، يحيلها خيوطاً يضفر منها نسيج عمله الفنى . إذا أراد المبدع أن تكون له شخصيته الخاصة ، فلابد أن يكون له أسلوبه الخاص . الكلمات التى نستخدمها يجب أن تعبر عن موهبتنا الخاصة ، عن قاموسنا اللغوى الخاص ، عن طريقتنا فى صياغة الجملة . اللغة ليست مجرد كلمات ، ولكن بنى مركّبة ، وعبارات مؤلفة ، ونسق من الكلمات التى تحتفظ بفاعليتها الخاصة . ما أعنيه ليس مجرد الصياغة الأسلوبية ، أو بمجرد الحرص على موازين النحو والصرف وأصول البيان والبلاغة التراثية ـ وهى مهمة مطلقاً ـ وإنما العناية بالإيقاع والمفردات والتعبيرات ، ميلها إلى القصر أو الطول ، إفادتها من التشبيهات والاستعارات والكنايات وغيرها من " الحيل " البلاغية ، وغيرها . فإذا وضعت نقطة النهاية ، عدت الى " النص " أحذف كل مايمكن الاستغناء عنه ، فبديهى أن يبرأ من الأحداث الزائدة أو غير المبررة ، ومن الحشو والنتوءات . ولعل فى مقدمة ما أحرص عليه أن أجدد قاموسى اللغوى ، سواء بتطعيم اللغة بموروث مهجور ، أو بمفردات عادية ، تمليها الضرورة الفنية ، لا تسئ إلى جماليات اللغة ، ولا إلى السياق ، أو بخلق مفردات وتعبيرات تضيف إلى العمل ، وإلى اللغة بعامة . ولعلى أذكر قول الطيب صالح : " إننى على معرفة جيدة بالإنجليزية ، وعندى بالفرنسية معرفة لا بأس بها ، وأستطيع أن أجزم أنه ليس من لغة تضاهى جمال العربية " .
    لقد وصف هارولد بنتر الجملة عند همنجواى بأنها كتلة واحدة ، يستطيع أن يحملها بيده ، ويقول إنها تستحق أن تبقى ، فهى أساسية . إن قلم المبدع يجب أن يؤدى دوره فى حذف كل ما يشكل نتوءاً فى عمله ، أو أن العمل فى غير حاجة إليه ، مهما تبدو الكلمة ، أو العبارة ـ فى ذاتها ـ جميلة . أكره الكلمة النشاز أو المجافية للسياق . أذكرك بما فعله تولستوى فى الحرب والسلام ، فقد بلغت أصولها ـ عقب الكتابة الأولى ـ أكثر من أربعين ألف صفحة ، فحذف الفنان تسعة أعشارها !..
    وثمة أدباء كبار لا يعنون بعلامات الوقف والترقيم ، لا يلتفتون اليها . ما يشغلهم هو الكتابة وحدها ، السرد وحده . لا يستوقفهم اتصال الجمل ، وتغيّر اللحظات بما يستدعى وضع نقطة أو فصلة أو بدء جملة جديدة . وفى رأيى أن علامات الوقف والترقيم مهمة جداً . إنها ليست زخرفاً ولا وشياً ، وإنما هى تضيف إلى العمل بصورة مؤكدة . وإذا كنت قد لجأت إلى ترك فراغ أبيض فى النظر الى أسفل و الشاطئ الآخر ، فلم يكن ذلك لتصوير مرور الزمن ، وإنما لتصوير حالة مغايرة ، بصرف النظر عن استمرارية الزمان أم انقطاعها . أتذكر قول هنرى جيمس إن تصوير مرور الزمن يجب أن يتم بطريقة تختلف عن مجرد ترك فراغ أبيض ، أو الفصل بين الفقرات بصف من النجوم ..
    ***
    يقول أرسكين كالدويل : " الكتابة عادة ، تتكون فى أنفسنا مثل التدخين " . أى فرد يريد أن يصبح كاتباً ـ كما يقول بول جاليكو Paul Gallico " ـ لا يوجد أمامه سوى ممارسة الكتابة باستمرار ، لا أن يحلم بأن يكتب ، ويفكر فى الكتابة ، ولا يخرج بأفكاره إلى حيز التنفيذ . فالكتابة أشبه بعضلة من العضلات ، كلما قمت باستعمالها وتمرينها ، كلما ازدادت مرونتها ، واستطعت استعمالها بسهولة تامة " . وثمة نصيحة يقدمها معظم المبدعين ـ وهى نصيحتى أيضاً ـ هى ألا يتحدث المبدع عن عمله قبل أن يبدأ فى كتابته ، ذلك لأنه عندما يتحدث عن العمل الذى يعد نفسه له ، سيكتفى بالكلمات الشفاهية ، ولن يجلس إلى الورق والقلم ـ لكتابته ـ يوماً . مع ذلك ، فإنى أحرص على أن أدفع بمسودات كتاباتى ـ بعد أن أضع نقطة الختام ـ إلى أصدقاء ، قد لا يكون لبعضهم بالأدب صلة حقيقية : أثق فيما كتبت ، وأعرف أن آراء الآخرين لن تدفعنى إلى إعادة كتابته ، أو إجراء تعديلات فى البنية أو السرد . ما أريده من قراءاتهم هو تنبيهى إلى مواضع القصور المعلوماتى . اسم شخصية ثانوية أكتبه فى فقرة تالية باسم آخر ، الاعتماد على الذاكرة المتعبة فى ذكر تاريخ قد لا يكون صحيحاً إلخ ..
    ***
    يبقى أنه إذا لم تحقق القصة ما أرجوه منها ، ولها ، فإنى أفضل التخلص منها ، واعتبارها كأنها لم تكن ، ولا أحاول كتابتها ثانية . إنها أشبه بالطلقة التى خرجت من فوهة المسدس ، يصعب أن تستخدم ثانية .
    .............................
    الثقافة الجديدة ـ فبراير 2008م.
    Reply With Quote  
     

  4. #16  
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    دلالات الكتابة
    ...........

    الكلمات تدوم أكثر من الأحجار كثيراً
    كاميلو خوسيه ثيلا

    أتفق مع تشيخوف فى قوله " إن الفنان يكتب قصة عندما يريد التعبير عن فكرة " . أختلف ـ فى المقابل ـ مع ألان روب جرييه فى أن الحدوتة لم يعد لها قيمة فى رواية اليوم ، وألح فى رفض الرأى بأن رواية القرن العشرين قد انعدم فيها المغزى . إن أهم المشكلات التى تعنى بها البنيوية ـ مع تحفظى المعلن على إمكانية تعبيرها عن مشروعنا الإبداعى أو النقدى ـ هى معنى النص ، أو قدرته على الدلالة . المعنى ، أو الدلالة ، هى كذلك المشكلة الأهم للمشروعات النقدية النى ظهرت عن الحداثة . وإذا كان رامان سلدن يذهب إلى أن مهمة الفن هى أن يعيد الينا الوعى بالأشياء التى أصبحت موضوعات مألوفة لوعينا اليومى المعتاد ( ت . جابر عصفور ) فإن الحدوتة ، الحكاية ، الفكرة ـ المسميات كثيرة ـ تظل هى نواة العمل الروائى ، بعداً رئيساً لها . اذا حاول المبدع أن يستغنى عنها ، فإنه يستغنى عن عمود مهم فى أساسات عمارته الروائية . أرفض قول فورد مادوكس بأنه على الفنان أن يحتفظ برأسه ، فلا يمنح تعاطفه لأحد من البشر ، ولا لقضية من القضايا ، وإنما عليه أن يظل ملاحظاً بلا مشاعر فياضة ولا شفقة . الفنان ينتهى ـ كما يقول مادوكس ـ إذا تحول إلى داعية . وهو قول صحيح تماماً . فللداعية وسيلته ، ولعالم الاجتماع وسيلته ، وللفنان وسيلته كذلك ، وهى ـ ببساطة ـ وسيلة الفن . وإذا كان تشيخوف يرفض أن يكون الكاتب قاضياً يحكم على شخصيات عمله الإبداعى ، ويطالب الكاتب بأن يكون شاهداً غير متحيز ، فإنى أجد انحياز الكاتب لقضية ما ، لوجهة نظر معينة ، لموقف أو مجموعة مواقف ، مسألة مهمة ومطلوبة ، ولعلى أتصورها ـ للفنان الحقيقى ـ بديهية . الفنان لا يجدف فى الفراغ ، ولكن يجب أن تكون له وجهة نظر ، رؤية معينة ، أو ما يسمى ـ بالنسبة للفنان المتكامل الثقافة والموهبة والخبرة ـ " فلسفة حياة " . ولعلى أذكرك بقول كازنتزاكس إن الكتابة ربما كانت ممتعة فى وقت التوازن واعتدال الأمزجة . أما الآن ، فالكتابة واجب حزين لتحفيز الآخرين على أن يتخطوا الوحش الكامن فى داخل الإنسان .
    ***
    ثمة رأى أنه يجب أن تقدم القصة القصيرة فكرة فى الدرجة الأولى ، ثم وجهة نظر مخلصة فى الطبيعة الإنسانية ، ثم يأتى الأسلوب فى النهاية . بل إن وت بيرنت الذى يرى أن قصة بلا وجهة نظر مع فنية متفوقة لا تساوى شيئاً ، يفضل أن يكون للمبدع مقولة دون بناء فنى ، على أن يكون لديه بناء فنى دون مقولة . النص المغلق ودعناه فى قصص أمين يوسف غراب ، النهاية الباترة الحاسمة التى تحرص أن تهب المتلقى دلالة واحدة ، وحيدة . والحق أنه لا يشغلنى شخصياً إن كان تعدد الدلالة مما يذهب إليه النقاد الجدد أم لا ، لكننى أومن بتعدد دلالة العمل الإبداعى . كلما تفوقت فنية العمل الإبداعى تعددت دلالاته ، والعكس ـ بالطبع ـ صحيح . الاختلاف بين النص العلمى والنص الأدبى أن النص العلمى يعنى بتحقيق معنى محدد ، دلالة واضحة لا مجال فيها للمجاز أو البلاغة . أما النص الأدبى فهو يرفض ـ فى دلالته أو دلالاته ـ المعنى المحدد . إن قيمته ـ فى تقديرى ـ فى تعدد معانيه ، فى تعدد دلالاته ، وبتعبير آخر : فى تعدد مستويات القراءة . ولعلى أضيف إن النص الإبداعى ليس نصاً واحداً ، ولكنه نصوص متعددة بتعدد القراءات والتأويلات . لا أقصد التفكيكية ، وإنما أقصد ما يجب أن تكون عليه النهاية الجيدة للنص الجيد . إساءة القراءة كما يذهب التفكيك ، معنى لا أفهمه ، ولا يهمنى ، بل أعنى القراءة الواعية الفاهمة التى تتعدد بها مستويات التلقى . ولعل الاختلافات النقدية حول روايتى " الصهبة " ما يبين عن تعدد الدلالات . ثمة من اعتبرها تصويراً للعلاقات الأسرية فى تشابكاتها المحيرة ، ومن وجد فيها تناولاً لضغوط الواقع الاقتصادى وتأثيراتها ، وثمة من اعتبرها رواية واقعية ، ومن اعتبرها فانتازيا يختلط فيها الواقع بالحلم .. واجتهادات أخرى كثيرة ، تنتهى إلى دلالات عابرة تصل ـ فى تباينها ـ إلى حد التضاد !
    الرواية ـ فى رأى روجر ب. هينكلى ـ يمكن أن تكون وسيلة ادراك معرفى ، بمقدورها أن تزودنا برؤية صحيحة عن عالم الحياة والأحياء والعلاقات الإنسانية تفوق فى قدرتها على التأثير فينا مايمكن أن نحصّله من علم الاجتماع والتاريخ والنفس والإنسان ( قراءة الرواية ) . وأتذكر قول ميشيل بوتور : " أنا لا أكتب الروايات لأبيعها ، بل لأحصل على وحدة فى حياتى . إن الكتابة بالنسبة لى هى العمود الفقرى " .
    ***
    تقول سيمون دى بوفوار : " ان الرواية الفلسفية إذا ماقرئت بشرف ، وكتبت بشرف ، أتت بكشف للوجود لا يمكن لأى نمط آخر فى التعبير أن يكون معادلاً له . انها وحدها التى تنجح فى احياء ذلك المصير الذى هو مصيرنا ، والمدون فى الزمن والأبدية فى آن واحد ، بكل ما فيه من وحدة حية وتناقض جوهرى " .. مع ذلك فإن الرواية التى أعنيها هى التى تعبر عن فلسفة الحياة ، وليست الفلسفة بالمعنى الميتافيزيقى . للمبدع وجهات نظر فى الدين والفلسفة وما وراء الطبيعة والتاريخ والسياسة والعلم والفن . وهو يضمن إبداعاته ذلك كله ، أو جوانب منه . أرفض تحول الروائى إلى مفكر جدلى ، كما أرفض أن يتحول المفكر الجدلى الى روائى . ذلك نوع من الخلط يسئ الى الفلسفة والى الرواية فى آن . أعرف أن تولستوى يواجه اللوم ـ حتى الآن ـ للفقرات الفلسفية المقحمة على رواياته . إن أعمال كاتب ما يجب أن تشكل وحدة عضوية ترتبط جزئياتها بأكثر من وشيجة ، لأن رؤية الفنان لقضايا الإنسان الأساسية تتردد كالنغم عبر أعماله جميعاً ، وتربطها كلها فى وحدة عضوية متماسكة " ( صبرى حافظ : المجلة ـ مارس 1964 ) على الرغم من ـ أو مع الإشارة إلى ـ تحفظ فورد مادوكس أن تعقد الحياة المعاصرة ، قد يتيح لنا تأمل الحياة طويلاً ، ولكن من المستحيل أن نراها فى صورتها الكلية . ولعلى أشير كذلك إلى قول ألان روب جرييه " الفن ليس فيه شئ معروف قبلاً ، فقبل العمل الأدبى لا يوجد شئ ما ، لا يقين ولا دعوى ولا رسالة . والزعم بأن الروائى لديه شئ يقوله ، وأنه يبحث بعد ذلك عن كيفية قوله . زعم فاحش الخطأ ، فإن هذه الكيفية ، أو طريقة القول ، هى ـ بالتحديد ـ التى تكون مشروعه بوصفه كاتباً ( ت . شكرى عياد ) .
    ***
    الأدب هو الأسبق دائماً فى النظرة ، فى محاولة استشراف آفاق المستقبل . إنه يسبق فى ذلك حتى العلم نفسه . وكما يقول كافكا : " فإن رسالة الكاتب هى أن يحول كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت إلى حياة لا نهائية . أن يحول ما هو مجرد مصادفة إلى ماهو متفق مع القانون العام . ان رسالة الكاتب نبوية " . كانت القيمة الأهم لإبداعات تولستوى هى الترديد المستمر للأفكار العامة ، للنظرة الشاملة ، لفلسفة الحياة ، فى مجموع تلك الأعمال . وكان ذلك هو الذى أعطى أعمال تولستوى ـ كما يقول أدينكوف ـ " تكاملاً وتماسكاً داخلياً " . وعلى حد تعبير تولستوى ، فإن الكاتب الذى لا يمتلك نظرة واضحة ، محددة وجديدة للعالم ، ويعتقد أن ذلك بلا ضرورة ، لن يستطيع تقديم عمل فنى حقيقى . وإذا كان الموت هو المصير الإنسانى ، فإن العمل هو سلاح الإنسان ضد الموت " بالعمل وحده سيبزغ الفجر ، ولو فى القبر " . وقد حاول كل من تولستوى وديستويفسكى أن يجيب عن السؤال : هل الحياة جديرة بأن تحيا ؟. وكان تقديرهما أن الحياة التى نحياها ليست مجرد جسر إلى حياة أخرى ، أو أنها تنتهى بالعدم . ثمة ما ينبغى أن نتطلع إليه ، وأن نحاول صنعه حتى ننتزع للإنسانية أملاً من ظلمة المستقبل . وكان الإيمان بالعمل هو البعد الأهم فى الفلسفة الحياتية لأنطون تشيخوف . كان الطب مهنة تشيخوف ، وكان الأدب هوايته ، لكنه أخلص فى العناية بحديقته الصغيرة ، كأنه يحترف الزراعة ، وكان رأيه أنه لو أن كل إنسان فى العالم فعل كل ما بوسعه فى الرقعة التى تخصه ، فسيكون العالم جميلاً . يقول : " إن ما يحتاجه الإنسان هو العمل المستمر ليل نهار ، والقراءة الدؤوبة ، والدراسة ، والسيطرة على الإرادة ، فكل ساعة من الحياة ثمينة " . ويذهب إيتالو كالفينو إلى أننا كلما تقدمنا فى قراءة تشيخوف ، التقينا بشخصيات تقرر ـ فى نهاية الأمر ـ أن تعمل بجدية ، أو تتكلم عن تلك الحياة الرائعة التى ستقوم على لأرض بعد مائة عام ، أو بعد مائتين ، أو عن تلك الزوبعة التى سوف تجتاح كل شيء " . ويقول الدكتور أستروف بطل مسرحية " الخال فانيا " : " كل ما فى الإنسان يجب أن يكون جميلاً ، وجهه ، ملابسه ، روحه ، أفكاره ، ما أمتع لذة احترام الإنسان وتقديره " . والقيمة الأهم فى روايات الروسى إيفان جونتشاروف هى " الدعوة الموضوعية إلى العمل الذى تمليه الأفكار الأخلاقية الكبرى : التحرر من العبودية الروحية والاجتماعية عن طريق كل ما هو إنسانى وروحى " . أما رؤية د . هـ . لورنس المتكاملة فتعنى بعزلة الإنسان فى العالم الحديث ، والانفصام الحاد بينه وبين الطبيعة ، فى مقابل تشويه الثورة الصناعية ، وتأثيرها بالسلب على المدينة والقرية فى آن . والحرية هى النبع الذى تنهل منه أفكار سارتر وكتاباته الفلسفية ، وإبداعاته . إنها المحور فى فلسفة حياته ، حرية الفرد والجماعة والوطن . أما همنجواى فقد تمحورت رؤيته الحياتية فى أن العالم قادر على تحطيم أى انسان ، لكن كثيرين يستعيدون قواهم ، وينهضون . الحياة ـ فى نظر شخصيات همنجواى ـ معركة خاسرة ، لكن الهزيمة تصبح نصراً إذا واجهها المرء بنفس شجاعة ومقاومة ، أبطال همنجواى يدركون أن الموت هو الواقع الذى لا مفر منه . إنه اليقين الوحيد فى حياة الإنسان . وبتعبير آخر ، فإن الإنسان ـ فى فلسفة همنجواى الحياتية ـ قد يتحطم ، لكنه لا ينهزم . أبطال همنجواى يدركون أن الموت هو الواقع الذى لا مفر منه . إنه اليقين الوحيد فى حياة الإنسان ، ولعل ممارسة الجنس فى أتون المعارك الحربية ، والتلذذ بمصارعة الثيران ، وبالصيد .. لعل ذلك يمثل تحدياً ـ ولو عبثياً ـ لحتمية الموت . وعلى حد تعبير جارثيا ماركيث فإن شخصيات همنجواى لم يكن لها الحق فى الموت قبل أن يعانوا ـ لبعض الوقت ـ مرارة الانتصار . الإنسان ـ عند كامى ـ يكتشف عبثية الحياة ، لا معقوليتها ، وليس بوسعه الاّ أن يتحدى كل شئ فى هذا العالم . شجاعة الإنسان ـ فى تقدير كامى ـ ليست فى غياب اليأس ، وإنما فى القدرة على التحرك ضد اليأس ، ضد عبثية الحياة . إن العادلين فى مسرحية كامى يحملون رسالة تعطى لحياتهم معنى ، فهم يحيون من أجل أدائها ، ويجعلونها قضيتهم . وباختصار ، فإنه لكى يحيا الإنسان يجب عليه أن يبقى على شعور العبث فى داخله كى يستمد منه طاقة التحدى اللازمة للبقاء .
    ***
    (يتبع)
    Reply With Quote  
     

  5. #17  
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    إن ما يغيب عن ابداعاتنا هو الفلسفة المتكاملة ، فلسفة الحياة التى تستطيع أن تربط الأفكار بالانطباعات . فمعظم روائيينا يرون أن العمل الإبداعى يجب أن يقتصر على المتعة ، على تحقيقها ، واستثارة اهتمام القارئ ومتابعته ، ومشاعره . أذكر قول أستاذنا زكى نجيب محمود : " ان الكاتب فى مصر ، انما يكتب فى غير قضية أساسية تكون فى حياتنا الفكرية والأدبية بمثابة القطب من الرحى " . حيادية الإبداع مسألة يصعب تقبّلها . بعض الأصدقاء المبدعين يعتز بحيادية ابداعاته . وهـو قول ينطوى على قدر من المبالغة ، أو من النية الحسنة . المبدع ـ فى تقديرى ـ يجب أن يكـون منحازاً لقيمة ، أو لقضية ، أو لقيم ، أو لجماعة . هذا الانحياز يبين عن نفسه على نحو ما فى مجموع أعمال المبدع ، وهو ماسميته بفلسفة الحياة ، تلك الفلسفة التى تطالعنا ـ بصورة مؤكدة ـ فى أعمال نجيب محفوظ ، بينما تغيب ـ أو تكاد ـ فى أعمال غالبية مبدعينا
    يوماً ، سألت يوسف السباعى عن فلسفته فى أعماله . وتطرقت المناقشة إلى توفيق الحكيم . قلت : عبّر الحكيم عن فلسفته نظرياً فى كتابه " التعادلية " ، وعبر عنها تطبيقياً فى الإبداعات التى أصدرها ، ونحن نجد فارقاً كبيراً بين النظرية والتطبيق عندما نفتقد التعادلية فيما قرأناه للحكيم . إنه يتحدث عن فلسفة أخرى يمكن تسميتها " الزمانية " ، الزمن فى حياة الإنسان المصرى ، وانعكاسه على قيمه ومعاملاته ونظرته إلى الأمور . قال السباعى فى تحيّر : الواقع أننى لم أفكر فى الزمنية هذه فى أعمال الحكيم ، ولم أبحث عنها . ولعلى أستعيد قول أحمد بهاء الدين إننا إذا جمعنا أعمال الحكيم الفكرية والآراء التى عبر عنها ، فسنجد أنه عبر عن كل رأى ، ودعا الى الشئ ونقيضه .
    واللافت أن الزمن هو نبض العديد من الأعمال الإبداعية العالمية ، مثل عوليس لجيمس جويس ، والبحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست ، والجبل السحرى لتوماس مان إلخ .. وبالطبع ، فإن الفكرة الفلسفية تصبح ـ فى اللحظة التى تدخل فيها إلى العمل الفنى ـ خاضعة لقوانينه ، وليس لقوانين العمل الفلسفى .
    ***
    بالنسبة لى ، فإنى أكاد أتصور أن الكتابة خلقت من أجلى ، قبل أن أخلق أنا للكتابة . لا أتصور نفسى فى غير الكتابة ، وفى غير القراءة والتأمل وتسجيل الملاحظات والإبداع . الكتابة عندى جزء من حياتى اليومية . جزء من تكوينى الجسدى والنفسى ، وهى مثل احتياجات الإنسان الضرورية ، مثل الطعام والجنس والنوم والحرية . أذكر قول رايومونى Rayaumoni " لقد أصبحت روائياً بالضرورة ، وما استطعت تجنب ذلك " .
    لقد بدأت فى المعايشة والملاحظة والاختزان من سن باكرة للغاية ، ربما لأنى كنت مهموماً بكتابة القصة فى تلك السن . لم أتعمد أى شئ ، لكن ما أختزنه ـ دون تعمد ـ من قراءات ، وتجارب لى ، وتجارب للآخرين ، ورؤى ، وخبرات ، وملاحظات ، يظهر فى لحظة لا أتوقعها أثناء فعل الكتابة . ثمة مشكلة ، أو مشكلات ، تلح على وجدان الكاتب ، وتبين عن ملامحها فى مجموع أعماله ، هذه المشكلة أو المشكلات ، هى محصلة خبرات شخصية ، وتعرف إلى خبرات الآخرين ، وقراءات وتأملات يحاول التعبير عنها من خلال قدرة إبداعية حقيقية . وحتى الآن ، فإنى أستعير من توماس هاردى قوله ، فى إجابته عن السؤال ، عن فلسفة الحياة فى أعماله ، بأنه ليس له فلسفة بعد ، وإنما هى كومة مختلطة من الانطباعات ، مثل انطباعات طفل حائراً أمام عرض سحرى . أنا أحاول أن أفيد من قراءاتى ، وخبراتى ، وخبرات الآخرين ، صوغ وجهة نظر متكاملة . ولعلى أزعم أن عالمى الإبداعى يتألف من " تيمات " أساسية يدور حولها ما أكتبه من رواية وقصة . من يريد تناول أعمالى ، أو حتى يكتفى بقراءتها ، أن يقرأ كل هذه الأعمال ، مجموع ما كتبت . ثمة وجهات نظر ، نظرة شمولية ، إطار عام ، أحاول أن أعبر ـ من خلاله ـ عن فلسفة حياة مكتملة ، بالإضافة إلى محاولات التجريب تقنياً ، ربما أعدت تناول التيمة الواحدة فى أكثر من عمل . لا يشغلنى التكرار بقدر ما يشغلنى التعبير عما أتصوره من أبعاد فلسفية حياتية .
    وطبيعى أن نظرة الكاتب الى الهموم التى تشغله ، موقفه الكامل منها ، يصعب أن تعبر عنـه قصة واحدة أو قصتان ، لكننا نستطيع أن نجد بانورامية نظرة الفنان فى مجموع أعماله ، وفى كتاباته وحواراته التى تناقش تلك الأعمال . لذلك فإن الكثير من أعمالى تنويع على لحن سبق لى عزفه فى أعمال سابقة ، وربما مهدت لعمل ما بعملين أو ثلاثة ، أعتبرها إرهاصاً لذلك العمل ، أو أنها استكمال له . إنى أفضل أن أُقْرأ كعمل كلى ، وليس كأعمال منفصلة . أن يقرأ الناقد مجموع أعمالى ، ويتأمل دلالاتها المنفصلة ، ودلالاتها الكلية ، يحاول أن يتعرف فيها إلى فلسفة حياتى ، إلى نظرتى الشاملة . للمبدع وجهات نظر فى الدين والفلسفة وما وراء الطبيعة والتاريخ والسياسة والعلم والفن . وهو يضمّن إبداعاته ذلك كله ، أو جوانب منه . وقد حاولت ـ فى مجموع كتاباتى ـ أن أعبر عن القضايا الأساسية التى تلح على ذهنى ، وأعتبرها قضية حياة . لست الكاتب البريطانى أنتونى باول الذى يؤكد أن هدفه من الكتابة ، هو إعادة تشكيل العالم ، أو تحقيق النظام فيه .. ولا أريد ـ مثل الألمانى ستيفن هيرمان ـ أن أترك أثراً ، بل ولا أريد ـ بقصد ـ تغيير العالم اليومى للمتلقى ، الذى هو واحد ممن تتجه إليهم إبداعاتى . ما أريده أن أتخطى حواجز المكان ، بل وحواجز الزمان ، فأتخذ من الإنسان موضوعاً ، ومن العالم موضعاً ، وأجعل وقتى هو العصر الآنى . أتفهم قول أندريه موروا إنه ليس على الرواية أن تبرهن على شيء ما ، فالعمل الفنى ليس جدلاً ، ولا برهاناً ، وخصيصته ـ بالعكس ـ هى أن يبعث على الإقناع ، بمجرد التأمل " إنه هناك ، هذا كل شيء " .
    إن تجربتى الإبداعية ـ على تعدد أبعادها وتنوعها ـ تحاول الخضوع لوجهة نظر شاملة ، لفلسفة حياة تحاول التكامل ، وإن استخدمت فى كل عمل ـ الأدق : يستخدم كل عمل ـ ما يناسبه من تقنية . إن القارئ المتأمل يستطيع أن يتعرف إلى المبدع ، فى مجموع ما كتب .
    ظنى أن القضية الأساسية فى خلفية كل القضايا هى الوجود الإنسانى : الحياة ، المصير ، الموت ، ما بعد الموت ، وما قد يخلفه الإنسان من أثر فى هذا العالم . ثمة الحب ، والموت ، والإحساس بالمطاردة ، والوحدة ، والحنين إلى الماضى ، والعزلة عن الجماعة ، وصلة المثقف بالسلطة ، والقهر فى الداخل ، والغزو من الخارج . لكن العنوان العريض الذى أتناول ـ من خلاله ـ تلك القضايا هو المقاومة ، مقاومة كل مظاهر القهر والمطاردة والتسلط والعبث .
    من المؤكد أنى لا أميل ، بل أرفض دعائية الفن وجهارته وتقريريته ومباشرته ، لكننى لا أنفى القيمة ، لا أرفضها . أجد فيها بعداً مهماً فى العمل الإبداعى ، وإلاّ تحول إلى ثرثرة لا معنى لها ، لا قيمة فيها ولها . ربما أكون محمّلاً بفكرة ، أو مقتنعا بها ، وربما حاولت أن أعبّر عن ذلك فى كتاباتى ، لكنى أفضّل أن يتم على نحو فنى ، فلا تقريرية ، ولا جهارة ، و لامباشرة ، وإنما حرص مؤكد على فنية العمل الإبداعى من حيث هو كذلك ..
    ***
    كانت الأسوار هى روايتى الأولى . كتبتها بعد إنهاء الأجزاء الثلاثة من كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " [ أفردت لذلك مقالة مستقلة ] . ثم شغلتنى إمام آخر الزمان . حاورت فيها أصدقاء ، أذكر منهم سامى خشبة الذى سألنى وهو يودعنى فى رحلة عمل الى منطقة الخليج : لماذا تشغلك دائماً فكرة المخلص ؟..
    تقول أسطورة يونانية ان الآلهة تهجر المدن المهجورة . ويقول مالرو : " إننا نعلم أننا لم نختر أن نولد ، وإننا لن نموت باختيارنا ، وأننا لم نختر أبوينا ، وأننا لا نستطيع أن نفعل شيئا ضد الزمان " . الموت هو الحقيقة التى تواجهنا ، تصدمنا ، منذ بواكير حياتنا . يموت الأب أو الأم ، فنبدأ بالقول الكاذب : لقد سافر . ثم نعلم الإبن السائل بالحقيقة ـ فيما بعد ـ فيبدأ فى إلقاء الأسئلة : ما الموت ؟ ما الآخرة ؟ ما الجنة والنار ؟ إلخ . نحن نمضى فى الطريق إلى الموت دون أن تكون لنا إرادة . إنه ـ كما يقول مالرو ـ يحيل الحياة إلى مصير . من الأصوب أن نواجه الموت باسم غاية نحيا من أجلها . يتساءل مالرو : ماقيمة حياة لا يقبل المرء أن يموت فى سبيلها ؟ . إن الإنسان يقامر بحياته فى سبيل ما يؤمن به من قيم ، ويتحدى الموت بوصفه التأكيد النهائى لشخصيته الحقة . سيكون للبذل ، للتضحية ، معنى : لو أنه اكتفى بما قدمه دون أن ينتظر جزاء إيجابياً ، ولا يفاجأ بأن الجزاء سلبى . وقد فضّل الحسين ـ كما تعلم ـ أن يستشهد ، على أن يتنازل عن الفكرة التى يؤمن بها . المثقف الحقيقى مطالب ـ دوماً ـ بأن يغلب الموضوعى على الذاتى . إنه يرضى بالمنطق الذى ترفضه العلاقة بين حبيبين ، فهو يحب من طرف واحد ، لا ينتظر من المحبوب اعترافاً بالجميل ولا مساندة ، وربما انتظر جزاءً سلبياً . إنه قد يموت وهو يهتف باسم من دفع حياته ثمناً لخذلانه ، لخذلان المثقف !
    ***
    القهر فى الداخل ...
    أتذكر كلمات خوان جويتيسولو ـ بعد وفاة فرانكو ـ " لقد عشنا احتلالاّ طويل الأمد وغير ملحوظ من الخارج ، احتلالاً بلا خوذ ولا بنادق ودبابات ، وليس احتلالاً للأراضى ، بل احتلال للعقول " . الإنسان مطارد منذ الميلاد إلى الموت . إنه ـ كما يقول سارتر ـ مخلوق يطارده الزمن ، لكن المطارد فى رواياتى ليس الزمن وحده . إنه قد يكون السلطة ، أو قيم الجماعة ، أو غيرها مما قد يضيع حياته فى محاولة الفرار منه . قد يكون البطل مطارِداً ، وقد يكون ـ فى الوقت نفسه ـ مطارَداَ . ذلك ما يسهل تبينه فى شخصية منصور سطوحى فى الصهبة ، أو شخصية السلطان خليل بن الحاج أحمد فى قلعة الجبل ، أو أبى الطيب المتنبى فى أوراقه ، أو زهرة الصباح ، أو رءوف العشرى فى الخليج ، أو الحاكم بأمر الله فى سيرته الروائية ، إلخ.
    وإذا كان المصريون القدماء يسمّون الموت " النزول من البحر " ، فإن محمد قاضى البهار نزل الى البحر ، ولم ينزل منه ، فهو اذن قد نزل الى الحياة . وبالإضافة الى محاولة قاضى البهار الفرار من القهر ، فإنى أتصور حياته قد أظهرت الهوة التى تفصل بين عالم المثالية الذى كان يحيا فيه ، والواقع القاسى الذى يريد أن يفرض عليه طقوسه وقوانينه وأحكامه ، وهو واقع لا يستند إلى قيم نبيلة ، ويلجأ الى الزيف والخداع ونكران الحقيقة ..
    والآن ، فإن التيمة الأساسية التى تلح فى غالبية أعمالى ، هى مواجهة الآخر ، سواء بالمقاومة الجسدية ، أو بتفعيل التحدى الحضارى ..
    إن الصراع العربى الإسرائيلى ليس مجرد مواجهات سياسية وعسكرية ، إنما هو صراع ذو إبعاد تاريخية وحضارية وثقافية . إنه تواصل واستمرارية حياة ، وتناول الإبداع لجوانب من ذلك الصراع لا يعنى السقوط فى هوة المباشرة أو الجهارة ، بل إن الإعمال الكبيرة هى التى تناولت قضايا كبيرة . المثل : خريف البطريرك " لجارثيا ماركيث ، والحرب والسلام لتولستوى والطاعون لكامى ، والحرافيش لمحفوظ ، والحرام لإدريس ، وسمرقند لمعلوف ، وغيرها . وبالنسبة للصراع العربى الصهيونى ـ تحديداً ـ فمن الصعب إغفال أعمال غسان كنفانى المهمة ، مثل رجال فى الشمس ، وعائد إلى حيفا ، و " ما تبقى لكم " وغيرها . ذوى إعجابى القديم بعبقرية زفايج ، وروايات كافكاا ، واجتهادات فرويد ، ونظرية إينشتين ، ولوحات شاجال . شحبت الملامح الجميلة فى مرآة الصهيونية . فرض التوجس نفسه حتى فيما لم يعد يحتمل ذلك .
    ***
    ماذا يبقى من ذلك كله ؟..
    بالطبع فإن المتلقى قد ينشد الدلالة فى العمل الإبداعى . وقد يكتفى فحسب بمتعة التلقى ، بمتعة القراءة أو السماع أو المشاهدة . لكن الكتابة بقصد التسلية ـ على حد تعبير جورج مور ـ سوف تنتهى بالفن إلى لا شىء .
    أوافق على الرأى بأن الإنسان إذا تعلم أن ينظر إلى الفن على أنه شىء لا ينتمى إلى الجمال والحق ، بل إلى الرأى وحده ، فإنه ـ كما قيل ـ سيفقد بصيرته ، ويصبح كما يريده رجال العصابات ، حيواناً ينتمى إلى قطعان "
    وإذا كان رامان سلدن يرى أن العمل الإبداعى الجيد هو الذى يخبرنا بالحقيقة عن الحياة الإنسانية ، بالكيفية التى تكون عليها الأشياء ، فإنى أستعير قول بورخيس : " المهم أن يبقى أربع أو خمس صفحات من كل ما يكتبه الكاتب " .
    ...........................
    الأسبوع الأدبى ـ 13/5/2006م.
    Reply With Quote  
     

  6. #18  
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    القـــــراءة
    .............

    إن المرء هو حصيلة ما يقرأه . وكما يقول كارلوس فوينتس : " أنت تتكون من الشىء الذى تأكله ، كما أنك المجلات المصورة التى تمعنت فيها وأنت طفل " ..
    كانت مكتبة أبى ، التى تعلمت فيها القراءة ـ بالإضافة إلى الكتاب المدرسى ـ باعثاً لأن أقرأ كتب " الكبار " قبل أن أقرأ كتب " الأطفال " . قرأت طه حسين والحكيم والجبرتى والأصفهانى والمقريزى والماوردى وأجاثا كريستى وألكسندر دوماس ، قبل أن أقرأ كتب سعيد العريان وفريد أبو حديد وكامل كيلانى . أقصد كتبهم التى صدرت للأطفال . أتاح لى زميلى فى الفرنسية الابتدائية ممدوح الطوبجى ، قراءة كل تلك الأعمال . قام بدور مكتبة الإعارة ، فهو يعيرنى رواية ، أعيدها فى اليوم التالى ، وأحصل على رواية أخرى ، وهكذا ..
    والحق أن مكتبة الطوبجى لم تقتصر على كتب الأطفال ، فقد تعرفت فيها ـ للمرة الأولى ـ إلى صلاح جاهين . طالعنى عالمه الإبداعى الجميل فى قصائده الأولى . ولازلت أذكر ـ حتى الآن ـ ترديدى لأسطر القصيدة : القمح مش زى الدهب .. القمح زى الفلاحين .. عيدان نحيله .. جدرها مغروس فى طين ..
    المؤكد أن القراءة صرفتنى عن شواغل وهوايات كثيرة . استولت على كل وقتى ، فانصرفت عما عداها . فتحت أمامى نوافذ وأبواباً ، وسلطت الضوء على فضاءات متسعة ، امتدت آفاقها بتنوع القراءة وخصوبتها وجدواها ، وتعبيرها عن الأنا والهو والوطن والعالم . أذكر وصف هنرى ميلر لرامبو بأنه كان يقرأ وهو واقف ، ويقرأ وهو فى طريقه إلى العمل . حتى كرة القدم والجمباز وتنس الطاولة وغيرها من الألعاب التى أحببتها ، ما لبثت أن انصرفت عنها لاعباً ، واكتفيت بالفرجة على مبارياتها إن أتيح لى ذلك ..
    وفى مطالع الستينيات ، فى الأيام الأولى لعملى بالصحافة ، كنت أركب الترام أو الأوتوبيس إلى ميدان القلعة . أصعد فى شارع المحجر . يطل ـ فى أسفل ـ على أحواش المقابر ، وفى امتداد النظر على أحياء القاهرة . أصل إلى دار المحفوظات ، فأضغط على الجرس المثبت بالباب . يعلو الرنين فى المكان بكامله . هذا زائر ربما يكون لصاً ، فاحذروا !. أرقى السلالم إلى القاعة العلوية . فسيحة ، فى جوانبها كتب ومجلدات . أطلب ما يعن لى قراءته . يجتذبنى اسم الصحيفة ، وقِدم تاريخ صدورها ، فأطلبها . زادت تلك الفترة من حبى القديم للتراث . بدأت بقراءة ما كانت تضمه مكتبة أبى من كتب تراثية ، ثم بدت لى صحف دار المحفوظات عالماً ينتسب إلى العالم الذى كنت أحياه ..
    النسيان هو ما أعانيه فى القراءة . أتبين ـ فى فقرة ما ـ قد تتضمنها الصفحات الأخيرة ـ أن هذا الكتاب قد سبق لى قراءته ، وأقبل عليه كأنى أقرأه للمرة الأولى . ما يثبت فى الذاكرة مما أقرأه قليل ، لا أتمتع بالذاكرة الحافظية التى كان يمتلكها العقاد وكامل الشناوى . ثباته فى الذاكرة لأنه يهمنى ، أو لأنه عمق من فهمى لقضية ما .
    أمضيت معظم حياتى فى ثنايا الكتب . ثمة كتب أقرأها فلا أذكر أنى قرأتها إلا عندما أصل إلى معلومة ما ـ ربما فى نهاية الكتاب ـ بما يذكرنى أنى قرأته من قبل . وثمة ـ فى المقابل ـ كتب تظل فى داخلى ـ الذهن والوجدان معاً ـ تناوشنى ، وأستعيد ما بها من شخصيات ومواقف وأحداث . القيمة الأهم عندى هى معايشة آلاف الشخصيات والأحداث والتواريخ والمعالم والأفكار . الوجود الإنسانى منذ بداياته : عهود ما قبل التاريخ . أيام الإسلام الأولى . مؤامرات القصور . حكايات الحب العذرى . اكتشافات المناطق المجهولة . نشأة الزراعة . عصر البخار . أعماق المحيطات والبحار وضفاف الأنهار . الأسواق العتيقة والقيساريات . لحظات التاريخ الحرجة . محاكم التفتيش . حضارات الفراعنة . عقود العرب فى الأندلس . معاناة المقيدين فى الأقبية والزنازين . شخصيات شكسبير . حكايات شهرزاد . رحلة الإسراء والمعراج . رسالة الغفران . الكوميديا الإلهية . إبداعات الواقعية الطبيعية . سير الملوك والقاصرة والأكاسرة وقطاع الطرق والجوارى والزهاد وقادة الجيوش ، وبنو هلال والخليفة الزناتى والظاهر بيبرس وأبو الحسن الشاذلى والسيد البدوى وإبراهيم الدسوقى وكليوباترة وشجر الدر . غزوات الإسكندر . الفايكنج . الغزوات الصليبية . الثورة الفرنسية . الانقلابات العسكرية .. إلخ .
    ومع أنه قد أتيح لى قراءة الكثير من الكتب ، فإن الكثير من الكتب لم يتح لى قراءتها . أوزع ساعات اليوم ـ بصرامة ـ بين القراءة والكتابة وأمور الحياة اليومية . وإن كان أغلب الوقت للقراءة ، لكن مشروعى القرائى لم يتحقق على النحو الذى كنت أتطلع إليه . ما كنت أتصور أنى سأقرأه فى يوم واحد ، ربما استغرقت قراءته أسبوعاً أو أكثر . وثمة كتب أعيد قراءتها مرة ثانية ، وثالثة ، وفى كل مرة يبين الكتاب عن جوانب لم أكن قد تنبهت إليها . وأحياناً فإنى أقرأ النص الإبداعى ـ فى المرة الأولى ـ لمجرد المتعة ، ثم أناقش ـ فى المرة أو المرات التالية ـ ما يحمله النص من دلالات . فى النص الواحد قابلية لبضع دلالات ، وليس ثمة قراءة يمكن أن تستنفد أبداً كل المعانى المطروحة فيه . ما يشغلنى هو النص . لا شأن لى بحياة المؤلف ولا بموته ، ولا بأن إزاحة المؤلف تؤدى إلى القراءة " التى هى فى الأثر الأدبى قراءة استهلاكية تقيّد القارئ بالمعنى الحرفى للنص " ، ولا لتقريب القراءة من الكتابة بحيث يصبح القارئ كاتباً . النص هو الكتابة التى أقرأها ، العالم الذى يلح الكاتب فى اجتذابى إليه ، أو تنفيرى منه ..
    أعترف إنى أفضل أن أقتنى الكتاب . أشتريه ، أو أحصل عليه بالإهداء ، ولا أستعيره ، الكتاب الذى أبدأ فى قراءته ـ إن كان يستحق القراءة بالفعل ـ أبدأ معه ـ فى الوقت نفسه ـ علاقة صداقة . وقد يتحول إلى صديق جميل ، فأنا لا أتصور أنى أستغنى عن صداقته ، لا أستطيع أن أستغنى عنه !. وحين أقرأ عملاً إبداعياً ، فإن قراءتى له تختلط باستعادة ذكريات شخصية ، وتخيل ، وتأمل . أحب الكتاب الذى يحتفظ برونقه . يضايقنى اتساخ الصفحات أو تمزقها . أرمقها ـ فى لحظات القراءة ـ بنظرة مستاءة ، متكررة . والحق أنى أحب الكتب بعامة . أحبها مصفوفة فى داخل الأرفف ، أو على طاولة ، أو فى واجهات المكتبات ، أو عند باعة الصحف . تجتذبنى فأتأمل العناوين ، وربما قلبت الصفحات بسرعة قبل أن يراجعنى البائع فيما أفعل ، أو يبدى تذمره . أجد نفسى بين الكتب كالمتصوف فى الحضرة . تجتذبنى حتى الرائحة . تمنيت أن أعمل فى مكتبة . أقضى الوقت فى مهنة تتصل بالقراءة . أقلب الكتب بيدى ، أبيعها ، أشتريها ، أقرأها .
    إن رواية جيدة قد تصرفنى عن أشياء كثيرة . لا أتابع المناقشات ، ولا أشاهد التليفزيون ، ولا أتناول الطعام فى موعده ، ولا أذهب إلى النوم . أسلم نفسى لسحر القراءة الجميل . القلم الرصاص فى يدى ، أخط به تحت التعبيرات التى تستلفت نظرى ، فهى تحتاج إلى التأمل ، أو إلى المناقشة . لا أميل إلى الحرف الكبير ، لأنه قد يصلح للكتب المدرسية ، ولا أميل إلى الحرف الصغير لأنه يجهد العين . الحرف المتوسط لا يزيد صفحات الكتاب أكثر مما ينبغى ، ويريح العين فى القراءة . وأفضل أن تكون فقرات النص متصلة ، منفصلة ، بمعنى أن يظل السياق متصلاً ، تقطعه ـ لتسهيل القراءة ـ فواصل ، كالعناوين الفرعية ، أو الموتيفات الصغيرة ..
    ولاشك أن الكلمات التى تكتب للقارئ ، تختلف عن الكلمات التى تطالع مشاهد المسرح ، وعن الكلمات التى تخاطب الأذن المستمعة . والحق إنى لا أحسن الإصغاء ، ولا أحسن الاستماع عموماً . أهب سمعى لمحدثى لحظات ، ثم أطير إلى جزر بعيدة وقريبة ، تعزلنى عن محدثى وعن كل ما حولى . أنسى مجرد وجوده . أكتفى بهزة من رأسى بما يعنى المتابعة . المصيبة لو أنه قطع حديثه وسألنى فى أجزاء مما قال . يعرونى ارتباك ، وأغمغم بما لا يعبّر عن معنى محدد . حتى الإبداعات التى أستمع إليها ، أغمض عينى ، وأحاول التركيز حتى لا أشرد ، فأفقد القدرة على المتابعة ..
    النص ـ كما نعرف ـ ما هو مكتوب . ويقول والتر سلاف : " إن الأعمال الأدبية تكتب لكى تقرأ " . ومع أن مصطفى ناصف يشدد على أن كل نص مقدس يراعى فيه قراءة الجهر لا قراءة العين ، وأن إهدار القراءة الجهرية إهدار لمعنى الرسالة أو البلاغ أو البطولة أو الخطاب الحى البرىء ، فإن طريقتى الوحيدة فى القراءة هى الصمت . القراءة سراً . لا أتصور أن القراءة بصوت مرتفع تساعد على التركيز ، ومن ثم على الاستيعاب . [ ثمة رأى يقول : من المهم أن تسرع فى القراءة لكى تتفادى الملل ] . قيل إن " القراءة فى الصمت الذى يرافقها ليست إلاّ امتداداً للعمل الأدبى نفسه " . وعندما أستغرق فى القراءة ، فإنى أمارس فعل الاستغراق ، لا أقرأ لمجرد أن أتعرف إلى تفصيلات الحدث ، ولا حتى إلى الملامح الظاهرة أو النفسية للشخصيات ، إنما أحاول التعرف إلى جماليات العمل الإبداعى : اللغة ، الفنية ، السرد ، الحوار ، الدلالة .. كل ما يتصل ببنية العمل الإبداعى . وبالتحديد ، فإنى أبحث فى العمل الإبداعى ـ ربما لأنى أحاول الإبداع ـ عن كل ما يهبه ـ أو لا يهبه ـ من خصوصية . وبالطبع ، فإن المروى عليه ، أو المخاطب ، يختلف عن القارئ . المخاطب جزء فى العملية الإبداعية . أما القارئ فهو جزء فى عملية التلقى . القارئ متابع للحدث الذى يشارك فيه الراوى والمروى عليه . القارئ مخاطب غير مشارك ، بمعنى أنه لا يسهم فى صياغة الأحداث ولا تنميتها . يتخيل ، ويناقش ، ويوافق ، ويرفض ، وإن تحدد دوره فى متابعة ما يقوله النص . أما المخاطب فى داخل العمل الإبداعى فهو قد يكون مشاركاً أو غير مشارك ، لكنه يتصل على نحو ما بصميم العمل . المخاطب المشارك يملك الفعل ، مثل شهريار الذى لم يلغ إنصاته لحكايات شهرزاد توقع إنهائه للعبة الحكى . كانت شهرزاد راوية ، وكان شهريار مروياً عليه ، أو مخاطباً مشاركاً . أما القارئ فهو يتابع ما يدور بين الراوى والمروى عليه . مشاركته تتحدد فى المتابعة ، وانعكاس الأحداث على وجدانه . قد يكون المروى عليه مشاركاً ، فالراوى يتحدث عن مواقف شاركا ـ الراوى والمروى عليه ـ فى صنعها ، أو فى تلقيها . وقد يكون المخاطب ، أو المروى عليه ، غير مسمى . لا يعرف القارئ اسمه ، ولا مهنته ، بل ولا دوره فى أحداث العمل الإبداعى . هو أشبه بالموضع الذى يعيد إلى القارئ صدى الحدث . إنها قراءة ـ كما يصفها رولان بارت " لا تترك شيئاً يمر ، تزن النص وتتشبث به " . إن القراءة ـ بما تحمله من معلومات وخيال وآراء ـ تحرّك مخزون الذاكرة ، تستدعى ما كان غائباً ، أو مفتقداً . وكما يقول أندريه موروا ، فإن القراءة فن يستطيع المرء عن طريقه أن يلتقى من جديد بالحياة نفسها لكى يتفهمها على غير حقيقتها عبر الكتاب نفسه .
    ***
    الإنسان ـ فى تقدير أفلاطون ـ يحول ما يقرأ إلى صورة منطوقة . الكلام هو الصورة الأصلية للغة . ويقول جمال الدين بن الشيخ إن القراءة لا تنحرف بالحكاية [ القصة ] لكنها تتولد فيها . إنها ترتكز على اختيار دلالة معينة ، توجه مجموع النص فى اتجاه منظوره الخاص ، وفى اتجاهه فقط . إن القارئ هو الذى ينتج النص من خلال فعل القراءة ، يسقط عليه وعيه وفهمه وخبراته وثقافته ، وربما حالته النفسية فى لحظات القراءة . ومن جماع ذلك كله ينتج أبعاد النص الشكلية والمضمونية ، ويسقط دلالته أو دلالاته . إن قراءة أى نص هى ـ على نحو ما ـ قراءة ثقافة القارئ وفهمه ووعيه وخبراته . طبيعى أن تختلف دلالة العمل الإبداعى باختلاف قرائه ، باختلاف ثقافتهم ومستواهم التعليمى وأمزجتهم وحالتهم النفسية وانتمائهم الطبقى . قد أجد فى القصة دلالة ما ، تختلف عن الدلالة التى تتحقق فى لحظة أخرى مغايرة ، بل إن النص قد لا يتكيف مع كل قارئ يدخل فى اتصال معه . القارئ الذى يطرح دلالة يتصورها للعمل ، يختلف فى ثقافته ووعيه وحسه الفنى والجمالى عن القارئ الذى يكتفى بالبحث عن الدلالة فى ثنايا العمل ، أو فى نهايته . قد يفاجأ القارئ غير المتخصص ، أو الذى ألف قراءة الجريدة اليومية ، يصده عن المتابعة أو المواصلة . القارئ الحقيقى هو القارئ المبدع . إنه يقرأ بجماع الحواس ، وليس بالعينين وحدهما . يقرأ بعينيه ، ويقرأ كذلك بذهنه ووجدانه ومخزونه المعرفى وتأملاته . يحيا فى داخل النص ، ولا يكتفى بالحياة على هامشه . القراءة التى تعى خصائص العمل الإبداعى ، تختلف ـ بالتأكيد ـ عن القراءة التى لا تدرك تلك الخصائص ، فهى تقرأ النص الأدبى بالكيفية نفسها التى تقرأ بها التحقيقات الصحفية ، أو أخبار الحوادث ..
    وبالنسبة لى ، فإن قراءتى لنص ما ، ترافقها ـ بالضرورة ـ قراءات سابقة فى نصوص أخرى . تنقّل غير محسوب بين تجارب وخبرات ورؤى ، قد لا تتصل بالموضوع الذى يتناوله النص ، لكنها تستدعى نصوصاً غائبة ، تختلط وتتقاطع وتتشابك ، فيغيب بعضها حالاً ، ويناوشنى بعضها لحظات ، وربما استقر بعضها فى الذاكرة ، أفيد منه ـ فيما بعد ـ فى عمل أكتبه . وفى تقديرى أن القارئ المبدع هو قارئ إيجابى . إنه يقرأ بعينيه ، ويقرأ بعينيه ، ويقرأ كذلك بذهنه ووجدانه ومخزونه المعرفى وتأملاته . ويصف جورج أورويل محاولاته النقدية بأنها مجرد هواية . ويضيف ـ بنص كلماته ـ " القراءة هى النشاط الطبيعى لأى إنسان مهتم بالعالم الذى يحيا فيه . وحين يمارس المرء القراءة ، فلا بد له من أن يفضل بعض الكتب على غيرها ، وأن يكره بعض الكتب أكثر من غيرها . وبديهى ـ فى هذه الحالة ـ أن يكتب وجهة نظره فى تلك القراءات " .
    (يتبع)
    Reply With Quote  
     

  7. #19  
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    النص لا يتحقق إلا إذا وجد من يقرأه . ثمة نصوص لا تهب نفسها من القراءة الأولى . تظل مغلقة ، لا تسلم مفاتيحها إلاّ بعد تعدد القراءات . وثمة كتب أبذل وقتاً طويلاً فى قراءتها ، ثم أتبين ـ وأنا أطوى الكتاب ـ أنى كنت كالذى دخل حجرة خالية ، تضم جدرانها الفراغ ، وأنى لم أفد منها بشئ ، لا فى المعلومة ، ولا فى إثارة الذهن أو الوجدان . مجرد سطور توالت ، فلم تخلف ـ فى النهاية ـ شيئاً . لا تهبنى الشعور بأنى قرأتها . وربما تجتذبنى كلمات لكاتب لم أقرأ له من قبل . تستفزنى بالكثير من الأسئلة والإجوبة والفكر المتوهج والإبداع الجميل . أتذكر القول : " النص الأدبى يساعد قراءه على تجاوز حدود موقفهم فى الحياة الحقيقية " . لازلت أحيا تلك اللحظات التى تعرفت إليها ـ للمرة الأولى ـ إلى دنيا نجيب محفوظ . كيف بدا لى أحمد عاكف فى خان الخليلى بجسده المكدود وصلعته التى تفصد العرق منها بحرارة شمس الظهيرة ، وتبدّل طريقه من السكاكينى إلى حى الحسين ، لتبدأ قصة حبه الاستثناء للصغيرة نوال .
    من المهم أن يجارى القارئ خيال المؤلف . يتخيل ملامح الشخصيات والأحداث . وكما يقول شتيرن فإن النص الأدبى أشبه بالميدان الذى يشترك فيه المؤلف والقارئ فى لعبة التخيل . تغيظنى الإبداعات التى تبين عن ملامحها منذ الصفحات الأولى . النص الذى يبين عن كل أبعاده ، ربما أهمل القارئ استكمال قراءته ، لشعوره بأنه قد تحول فى عملية التلقى إلى عنصر سلبى وليس عنصراَ مشاركاً . الإسراف فى وضوح النص يساوى الإسراف فى غموضه ، لأنه ـ فى الحالين ـ قد يصرف القارئ عن لعبة التواصل والمتابعة . النص والقارئ شريكان فى عملية تواصل ، هى عملية الإبداع والتلقى التى تقوم على مشاركة المبدع بالكلمات ، فى حين يشارك القارئ باستنباط المعنى أو الدلالة . لا أميل إلى التلقى السلبى من قارئ العمل . ما يهمنى أن يتحول القارئ إلى صديق يتحاور مع ما أكتب ، ولا يكتفى بمجرد التلقى السلبى . وكما يقول ديفيد بليتش فإن القارئ يحول ـ فى أثناء عملية القراءة ـ إدراكه الحسى للكلمات إلى سياق أو نظام تخيّلى ضمن نظام ذاتيته الخاصة . إن تراثنا القصصى ـ على المستويين العربى والعالمى ـ له جذوره القديمة ، وامتداداته ، وتواصله . لذلك فأنا أرفض الأعمال التى لا تحترم هذا التراث ، ولا تحترم ذكاء القارئ . ما كان يطالع قارئ بدايات القرن العشرين يجب أن يختلف ـ بالتأكيد ـ عما يطالعه قارئ بدايات القرن الحادى والعشرين . الفن إضمار ..
    كاميلو ثيلا يرى أن العمل الأدبى يكتب من جديد فى كل قراءة له . من الصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ فى تقديرى ـ أن تتطابق قراءتان لكتاب واحد . ولعلى لا أتعاون فى إعادة الإبداع ـ كما يقول اللاتينى أندريس أمورس ـ لكننى أتخيله ، أتخيل الشخصيات والأحداث ، توصلاً إلى المعنى والدلالة . القصة المنفلوطية التى لا تكاد تترك للقارئ شيئاً يتخيله ، القصة التى يحرص الكاتب على تمامها . لم تعد مما يتقبله القارئ الحالى . إنه يميل إلى القراءة الإبداعية ، القراءة التى تتخيل . القراءة تساوى النص الإبداعى + خيال القارئ . العلاقة بين المبدع والمتلقى طرفاها نص إبداعى من ناحية المبدع ، ومحاولة للاكتشاف والتعرف واستكناه الدلالات من ناحية المتلقى .
    أوافق على القول إنه إذا كان الأدب هو ما يحدث فى أثناء القراءة ، فإن قيمته تعتمد على قيمة عملية القراءة . وحين أبدأ فى قراءة نص ما ، فأنا لا أمارس عملية القراءة وأنا خالى الذهن من المخزون المعرفى ، ومن وجهة النظر ، ومن الحس الجمالى ، ومن الذكريات الشخصية التى ربما استدعاها الذهن فى أثناء عملية القراءة . قراءة عمل إبداعى ما ، لا تستطيع أن تفصله عن قراءات أعمال إبداعية أخرى ، سبقته ، واتفقت ، أو اختلفت ، معه ، من حيث التجربة التى تعبر عنها ، أو التقنية ، أو الدلالة التى تستهدفها . حتى ما قد يبدو أنه فراغات فى السرد القصصى أو الروائى ، على القارئ أن يملأه بخياله وثقافته وخبراته وتجاربه ورؤيته لطبيعة ما ينبغى أن تمضى إليه الأحداث .
    أحببت وصف خوليو كورتاثر لقارئ إبداعه بأنه رفيق سفر . القارئ هنا فى لحظة مشاركة ، طرفاها هما الكاتب والقارئ . أرفض زعم البعض أن القارئ لا يعنيه ، والناقد بالتالى . أتذكر قول ميشيل بوتور : " أنا أكتب لكى أقرأ ، وما قصدى من الكلمات التى أكتبها إلا أن يقع عليها النظر ، حتى لو كان نظرى " . الثقة هى العلاقة الضرورية بين الكاتب والقارئ . وإذا لم يتصل بينهما جسر الثقة ، فإن ذلك ينعكس بالضرورة على نظرة القارئ الى معطيات الكاتب ، وأغلب الظن انه سيرفضها . أذكرك بشتاينبك الذى أعلن ـ يوماً ـ فى استوكهلم ان الكاتب الذى لا يؤمن ايماناً حازماً بقدرة الإنسان على الكمال غير جدير بعضوية الأدب وتفانيه . ثم أعلن ـ فيما بعد ـ تأييده للعدوان الأمريكى فيتنام ، فزال احترامه من نفوس الملايين الذين قرءوا له عناقيد الغضب واللؤلؤة وشارع السردين المعلب وغيرها..
    وبصرف النظر عن اتفاق المبدع والمتلقى ، أم اختلافهما ، عن إعجاب القارئ بالعمل الذى قرأه أو رفضه له ، فلعلى أذكّر المبدع بقول هالى بيرث : " قد تعيش حياة جيدة ، حتى لو لم تصل كتبك لمعدل أفضل المبيعات ، وحتى لو لم ير زملاؤك النقد الجيد الذى كتب عنك ، بل النقد الذى يسئ اليك . وحتى لو سألك أعز أصدقائك أو زوجتك : لماذا لا تكتب الروائع فى ساعة أو أكثر قليلاً ، بدلاً من أن تمكث شهراً أو سنة فى كتابة ماتكتبه . ضع قناعاًَ صلباً على وجهك فى مواجهة الأصدقاء والأقارب المنتقدين . خذ التجربة كما تأتى ، واستمر فى عملك " (ت . أحمد عمر هاشم )



    ***
    النسيان هو أخطر ما أعانيه فى عملية القراءة . أقرأ الكتاب ، فأتصور أنه لم يسبق لى قراءته من قبل . أثبّت ملاحظات على الهوامش . أتفق وأختلف ، ثم أتبين ـ قبل أن أتم قراءة الكتاب ـ من خلال سطر أو بضعة أسطر ـ أنه قد سبق لى قراءته . لذلك فإنى أحاول التغلب على مشكلة النسيان بمعاودة القرءة . أتحقق من الأسماء ، والأرقام ، ومواقع الأحداث ، والصلة بين كل حدث وآخر . العامل الأهم فى عبقرية العقاد ـ فى تقديرى ـ ذاكرته الحافظية . العديد من كتبه قراءات : الله .. فى بيتى .. مراجعات فى الآداب والفنون .. إبليس .. ساعات بين الكتب .. فلسفة الثورة فى الميزان .. هو لا يقدم قائمة بالمصادر والمراجع ، لأنه قرأ جيداً ، وثبّت ـ بتشديد الباء ـ ما قرأه فى ذهنه . تحول إلى رف فى الذاكرة يستخرجه فى توقيته المحدد ..
    قد يحمل المبدع بعض التأثيرات من تنوع قراءاته ، لكنه لابد أن يذيب تلك القراءات فى بوتقته ، يصهرها فى ذاتيته الفنية ، فتعبّر عنها .


    ***
    الفن هو عالمى الذى أحبه . ولأنى ـ منذ سنوات ـ أحيا فى عزلة اجتماعية ، لا أغادر البيت ـ كل يوم ـ إلاّ بضع ساعات ، ثم أعود لأخلو إلى كتبى وأوراقى وقلمى ،
    ولأن الكتابة الإبداعية مما يصعب ممارسته طيلة يوم العمل ، فإنى أحاول الإفادة من قراءاتى بملاحظات . نوع من القراءة الإيجابية ، على حد تعبير صديقى يوسف الشارونى . الفنان ـ فى نصيحة جورج مور ـ يجب أن يمارس الكتابة كل يوم . حين يواتيه الإلهام ، وحين يبتعد عنه ، عليه ألا ينتظر الإلهام ، بل يستدعيه ، ويلح عليه . وهذا ما أفعله حين أسرف فى القراءة ، لا أقرأ فى الفن وحده ، وإنما أقرأ فى كل ما تصادفه يداى . حتى العلوم البحتة والرياضيات ، ربما أجد ـ فى مواضع منها ـ ما يستفز ملكة الإبداع فى داخلى .
    العمل الإبداعى يصنع علاقة ما بين المبدع والمتلقى . وكما تقول هالى بيرنت ، فإن المبدع لا يكتب لنفسه مع أن الكتابة تحقق له اشباعاً ذاتيا يصعب التهوين منه ، ولا تكتمل القصة الاّ اذا خاطبت ـ على نحو ما ـ عقل المتلقى . يرى ولفجانج ايزر Wollfgang Iser ان تجربة القارئ فى القراءة هى مركز العملية الأدبية ، فالقارئ يأخذ النص الى وعيه ، يحوله الى تجربة خاصة به ، فهو يوفق بين التناقضات فى وجهات النظر التى تظهر فى النص ، ويشارك فى ذلك مخزون التجربة الذى يملكه القارئ . وكما يقول ايزر فإن القراءة تمنحنا الفرصة لصياغة ماليس مصوغاً ( ت . جابر عصفور )
    أذكر ـ فى قراءاتى الباكرة ـ أنى لم أكن أصبر على توالى أحداث الكثير من الروايات ، بل كنت أقفز الى الصفحة الأخيرة لأعرف ماذا انتهت اليه الأحداث . هل كان ذلك لتعثرى فى قراءات البداية ، أو لتشويق فى الرواية ، أو لملل أغرانى بالتعرف الى النهاية ، خلاصاً من بطء الأحداث وتلكؤها ؟.. لكننى بعد أوافق روجر ب . هينكلى على أن الروايات التى لا تمدنا بالشعور بالحياة ، ولا نتجاوب معها بشحذ مكاتنا ، قد تستحق بعض البحث ، لكنها ـ بالتأكيد ـ لا تستحق طبعة ثانية ، وان كنت أختلف مع هينكلى فى أن تحليل الرواية بإعادة تقديم أحداثها بعبارات الناقد الخاصة ، عمل ليس له أدنى قيمة ، فإعادة رواية الأحداث ـ بذكاء وتفهم ـ وسيلة لحمل أفكار الناقد ، وتحليله للعمل الإبداعى . ولعلنا نذكر وصف بيرسى لوبوك "للقارئ الجيد بأنه فنان . ولايخلو من دلالة قول سارتر : " لا وجود للفن الاّ من أجل الغير ، وعن طريق الغير " ..
    ان بداية النقد ـ والقول لبيرسى لوبوك ـ هى القراءة السليمة ، أو بعبارة أخرى : الدخول الى الكتاب قدر المستطاع . إن التقاط الملاحظات ، وتسجيلها ، يخلق نوعاً من الحوار المؤكد بين الكاتب وقارئه . لذلك فإنى أوافق أنور المعداوى على أن " النقد يعتمد على الذوق المرهف قبل أن يعتمد على أداة أخرى من أدوات الناقد " .
    واذا كان بوب يطالب القارئ بأن ينظر الى مايريد الكاتب أن يعبر عنه ، لا يطلب المزيد ، فإن أحداً لا يبلغ بالتعبير شيئاً لم يقصد الوصول اليه ، فإنى أوافق على أن يكون مشاركاً بالقراءة ، على ألا تبلغ هذه المشاركة ـ بالطبع ـ حد تدخل المبدع فى النص ليقدم أحكاماً شخصية من عندياته ، ويتباهى بأن النص هو من عندياته ، وعلى القارئ أن يتابع أو ينصرف عن القراءة ، مما يسئ الى العملية الإبداعية ويحيلها الى تظرف مرفوض ، كما فعل طه حسين فى " المعذبون فى الأرض " ، كما يجب ألاّ تبلغ حد القاء المبدع للأسئلة على المتلقى مثلما فعل ترولوب حين اتجه الى القارئ فى نهاية رواية له : والآن أيها القارئ .. هل نجعل القسيس يتزوج الآنسة جونز ، أو ترفض أن تتزوجه ؟ ..
    أما الملاحظات التى أسجلها فى هيئة دراسات ، فمن الصعب أن أسميها كذلك ، ولا هى ترقى إلى مستوى النقد بما يجب أن تحرص عليه من علمية أكاديمية ، فإن لقيت قبولاً لدى القارئ ، اعتبرت ذلك من قبيل المصادفة الحسنة ، ليس إلاّ ..


    ***
    من ملاحظاتى القرائية ، أن العديد من الأدباء يكتبون فى كشكول أو كراسة ذات أسطر ، لا يبدّلون ما يكتبونه ، بل ولا يعودون إليه [ محمود البدوى وعبد الحميد السحار ، مثلاً ] . رحلة تمضى إلى الأمام ، لا يشغلها التلفت . وبالنسبة لى ، فإن عملية الكتابة الإبداعية قد تستغرق وقتاً قصيراً أو طويلاً ، معايشة وتأملاً واختماراً واحتشاداً واستعداداً ، ثم تفرض لحظة الكتابة نفسها . الزمن الفعلى لعملية الكتابة تستغرق ما بين الساعتين والساعات الثلاث . تتصل منذ الحرف الأول ، فى الكلمة الأولى ، فى الجملة الأولى ، إلى الحرف الأخير فى القصة ، أو الفصل من الرواية . ثم أعيد قراءة ما كتبت . أنا أكتب العمل الإبداعى ، وأنا أول من يقرأه ، وهى قراءة نقدية وليست للمتعة . متعتى ـ إن كان التعبير دقيقاً ـ فى عملية الكتابة . القراءة عندى جزء متمم للعملة الإبداعية . إنها تلى عملية الكتابة . يخلى المبدع موضعه للناقد فى داخلى ، يطيل التأمل إلى العمل فى مجمله ، وفى اللغة والأسلوب والتكنيك . حتى الجملة والكلمة والحرف ، أتأملها ، وأجرى فيها بالحذف والإضافة حتى أطمئن إلى أنه بوسعى أن أدفع بها إلى المطبعة . عموماً ، فإن الذهن هو جسر التعامل مع النص الإبداعى . إنه يشير بما ينبغى أن يظل فى موضعه ، وما ينبغى أن يحذف ، وينصح بالإضافة والحذف حتى يضع القلم فى النهاية ، فيدفع ـ من ثم ـ بعمله الإبداعى إلى المطبعة . ربما أعدت قراءة بعض الفقرات حتى أحفظها ، وربما حذفتها ، أو حذفت منها ، أو أضفت إليها . وقد أبدّل حرفاً أو كلمة أو عبارة ، مثل وضع الرسام للمسات الأخيرة بالريشة ، فى لوحة بعد أن يتمّها . باختصار ، فإنى أصبح القارئ المثالى لما كتبت ، وإن كنت أوافق على رأى ميشيل بوتور : " الروائى هو قارئ نفسه ، لكنه قارئ غير كاف ، يتألم من عدم كفايته ، ويرغب كثيراً فى العثور على قارئ آخر يكمله ، حتى لو كان قارئاً مجهولاً "
    ولعل جزءاً من حرصى على أن أنقل ما أكتبه على الكمبيوتر ، مبعثه الإفادة من علامات الترقيم : الفاصلة ، النقطة ، نقطتى الكلام ، الشرطة ، القوس ، علامة الاستفهام ، علامة التعجب .. أحرص فأضع كل علامة فى موضعها . أثق أن ذلك ما تتطلبه فنية القصة ..
    وتختلف أبناط الطباعة فى الكمبيوتر بما يعيننى ـ بصورة مؤكدة ـ فى فنية القصة : الحجم الأصغر ، أوالأكبر ، الفراغات ، إمالة الحروف [ أذكرك بروايتى زمان الوصل ] ، اللون الأسود .. ذلك كله لم يكن بوسعى الإفادة منه فى فنية القصة أو الرواية ، لولا الكمبيوتر .. ذلك كله لم يكن بوسعى الإفادة منه فى فنية القصة أو الرواية لولا الكمبيوتر . صنعته فى الأسوار وفى النظر إلى أسفل و من أوراق أبى الطيب المتنبى و رباعية بحرى ، بالإضافة إلى العديد من القصص القصيرة ..
    مراجعة ما أكتب مهمة لا تنتهى ، مادام فى موضعه على الكومبيوتر . أراجعه ، فأضيف إليه ، وأحذف منه . مهمة ـ كما قلت ـ لا تنتهى إلا بعد أن أنقل المادة المكتوبة على الطابعة . خطوة نهائية قبل أن تدور بها المطبعة . لا أعود إلى العمل المطبوع ثانية ، ولو من قبيل مراجعة ما فات .
    ................
    1993 بإضافات
    Reply With Quote  
     

  8. #20  
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    الفن إضمار .. ولكن ..
    ......................

    " إذا كان المعنى شريفاً ، واللفظ بليغاً ، وكان صحيح الطبع ، بعيداً عن الاستكراه ، ومنزّهاً عن الاختلال ، مصوناً عن التكلف ، صنع فى القلب صنيع الغيث فى التربة الكريمة "


    الجاحظ


    " الفن ليس طريقة معقدة لقول أشياء بسيطة ، بل طريقة بسيطة لقول أشياء معقدة "


    جان كوكتو


    " كلما كان الإنسان أقل ثقافة .. كانت كتابته أكثر غموضاً "


    كونتليان Quintilian
    " فليكن الروائيون صادقين مع ضمائرهم الفنية ، وسيتبعهم الذوق الجماهيرى فيما بعد "


    الروائى الإنجليزى جورج جيسينج

    أوافق ألان روب جرييه فى أن " الحديث عن مضمون القصة وكأنه شئ مستقل عنها ، يعنى محو هذا اللون الأدبى كله من عالم الفن " . وأثق أيضاً أن مضمون العمل الإبداعى هو الذى يفرض صورته الفنية . وكما يقول كيتور فإن " الصلة بين الشكل والمضمون فى أى عمل فنى عظيم ـ سواء أكان مسرحية أو لوحة تصوير أو قطعة موسيقية ـ صلة حيوية جداً ، حتى ليمكن القول بأنهما متوحدان توحداً كليا " ..
    وفى المقابل ، فإنى أخالف الرأى بأن تعقيد التقنية هو العامل الكبير فى كتابة القصة القصيرة . يخطئ البعض حين يتصور أن وظيفة التقنية جمالية أو زخرفية ، وأنها تدليل على موهبة الفنان ، وإجادته ترتيب الأحداث ، بما يحدث فى نفسية المتلقى أكبر قدر من الانبهار أو الدهشة أو التوتر . التقنية تختلف عن ذلك تماماً ، بل إنها فى النقيض من ذلك تماماً . العمل الإبداعى يفرض تقنيته ، يحددها . التقنية تتخلق فى داخل العمل لحظة بدء ، وأثناء الكتابة ، بحيث يمكن القول إن التقنية تكمل المادة ، مثلما إن المادة تكمل التقنية . وبمعنى آخر ، فإن المضمون والشكل وجها عملة واحدة ..
    لقد واجه ت . إس . إليوت اتهام النقاد له بالغموض بأنه ليس عليه أن يكون واضحاً ، وأن عليه أن يقدم أفكاره ومشاعره وتخيلاته ، وعلى المتلقى أن يبذل جهده ، ويتعب ذهنه ، فى فهم المادة الإبداعية . ومع ذلك فإن إليوت قد حذر من " ذلك الغموض الذى لا يعدو نوعاً من الادعاء ، فالكاتب يحاول أن يخدع نفسه ، ويحاول أن يقنعها بأن عنده أشياء يريد أن يقولها أعمق مما قاله بالفعل ..
    المشكلة التى يعانيها بعض " المؤلفين " ـ فى تقدير إليوت ـ هى أن يحاول إقناع نفسه بأن عنده أشياء يريد أن يقولها أعمق مما كتبه . وربما جاء الغموض تعبيراً عن صعوبة الكتابة ، أى أن الأفكار أكبر من القدرة على صياغتها ، وقد يأتى الغموض من طبيعة الموضوع فيسيطر على ما كتبه المؤلف !
    أتفهم السؤال الذى طرحه سارتر : هل تعتقد أن قارئاً من بلد فقير يستطيع أن يقرأ ألان روب جرييه ؟..
    نحن نعجب بكافكا وجويس وساروت وجرييه ، لكننا ـ فى الوقت نفسه ـ قرأنا ـ وسنظل نقرأ ـ لتشيكوف وادريس وتولستوى ومحفوظ وديستويفسكى وبلزاك وزولا .. هؤلاء العظماء أصحاب الإبداعات الكلاسيكية !. بل إن كارل راداك ينصح من يكتب روايات ، أن يتعلم كتابتها من تولستوى وبلزاك وليس من جيمس جويس .
    إن طلبك من الشاعر ـ والقول لهنرى ميلر ـ أن يتحدث بلغة رجل الشارع ، يماثل انتظارك من النبى أن يوضح نبوءاته . إن ما يبلغنا من من ممالك سابقة ، بعيدة ، يأتى مسربلاً بالسر والغموض " . وفى المقابل ـ والقول لميلر أيضاً ـ فإن " عبادة الشعر تبلغ نهايتها حين لا توجد إلاّ لحفنة ثمينة من الرجال والنساء ، فلن يعود الشعر فناً ، وإنما لغة شفرة لجمعية سرية مهمتها الدعوة إلى الفردية الفارغة " ( ت . سعدى يوسف ) .
    وعلى الرغم من أن طبيعة الشعر تجعله أميل إلى الغموض ، بل إن القصيدة الجديدة هى غامضة من حيث شاعريتها ، وطبيعة لغتها التى تختلف بالضرورة عن لغة حياتنا اليومية ، فإن رأى الصديق الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى ـ وهو شاعر متفوق ـ أن " القصيدة التى يعجز القارئ المثقف عن أن يجد دلالاتها أو معناها هى قصيدة رديئة " .
    وبالطبع ، فإن الوضوح يختلف عن السطحية تماماً ..
    أما إحالة الغموض إلى الرمز ، فإن كل فن حقيقى هو ـ فى الدرجة الأولى ـ فن رمزى . وإن كان العمل الإبداعى ـ كما يقول جارودى ـ لا يتخذ شكل الرمز إلا لأن الكاتب لا يستطيع أن يعبر بطريقة أخرى عما يريد أن يقول . إن مضون الرمز هو الواقع نفسه ، ذلك لأن الرمز تشغله مناوأة السلطة . قد تكون سلطة قبلية أو سياسية أو دينية أو اجتماعية إلخ . وهو لا يتجه إليها بالخطاب المباشر ، وإنما يجعل الخطاب على لسان الطير أو الحيوان ، أو حتى النبات . ويستعمل الصور البلاغية والمجازية . وإذا كانت الرواية الرمزية قد برزت ـ كما يقول روجر ب . هينكلى ـ نتيجة لارتقاء التفكير الأدبى فى الشكل الروائى ، فإن العمل الإبداعى يفقد الكثير من مقوماته إن تحول إلى معادلة رياضية .
    إذا كان الكاتب الراحل مصطفى لطفى المنفلوطى قد بدأ ريادته فى القصة والرواية بأعمال تستهدف وجدان القارئ بما تتضمنه من عبارات رومانسية ، وتناول لأحوال المحبين ، ومواقف تبرز التناقض فى الأوضاع الطبقية داخل المجتمع .. فإن جيل طه حسين والحكيم والمازنى وغيرهم لم يلجأوا إلى التعريب مثلما فعل المنفلوطى ، وإنما حاولوا أن يتناولوا مظاهر الحياة فى البيئة المصرية من خلال أعمال يسهل نسبتها إلى سوسولوجيا الأدب ، مثل شجرة البؤس ، والأيام ، وزينب ، وهكذا خلقت ، وإبراهيم الكاتب ، وعودة الروح إلخ ..
    ثم جاء جيل الوسط الذى أصّل فن الرواية والقصة القصيرة فى حياتنا ، وأهم ممثليه : نجيب محفوظ والسحار وعبد الحليم عبد الله والبدوى وغراب وصلاح ذهنى . تعرفنا إلى الفن الروائى والقصصى فى صورته العالمية من خلال أعمال تقف على أرضية المحلية . ثم توالت الأجيال بدءاً بجيل يوسف إدريس إلى جيل التسعينيات الذى يحاول الآن أن يرسم ملامحه فى الخارطة ا[داعية المصرية ..
    وبالتأكيد ، فإن التناول القصصى للمنفلوطى يختلف بالضرورة عن التناول الذى أبدعته الأجيال التالية ، وإلى الآن ..
    ثمة تراث متراكم من الأعمال القصصية والروائية ، منذ تحققت للقصة القصيرة صورتها الفنية فى ما تراه العيون لمحمد تيمور ، وللرواية صورتها الفنية فى عذراء دنشواى لمحمود طاهر حقى . وهذا التراث يعنى أن المبدع يتجه الآن إلى قارئ جديد ، أشد تمرسا بفنية القصة والرواية ، فهو يصدم بالشروح والتبسيطات التى تلغى ذكاءه ، وتحاول مساعدته على تلقى العمل
    فما فائدة مئات القصص وعشرات الروايات التى سبق له قراءتها ؟..
    الفن إضمار مقولة صحيحة ، ويجب أن نؤكد عليها ، وإن كنت أتحفظ كذلك ، فأوكد ـ فى الوقت نفسه ـ أنه على المبدع أن يحترم ثقافة القارئ ووعيه .. وأبشع الأعمال الأدبية تلك التى قد لا يفهمها كاتبها ، لكنه يدفع بها إلى المطبعة تصوراً أن القارئ ربما وجد فيها ما غمض عنه هو .. مثل تلك الأعمال يجب أن يعاقب كاتبها باعتباره مدلساًً أو مزيفاً ، وأن يواجه الحكم الذى يواجه به هؤلاء !..


    ***
    أوافق أستاذنا الدكتور الطاهر مكى فى أن " المبدعين الحقيقيين يجب أن يسبقوا عصرهم ، وأن يكونوا بالضرورة غير مفهومين من معاصريهم " .
    الفن اضمار .
    أنا أعنى بتصوير الأحاسيس الغامضة ، أو التى لم تتبلور بعد ، بحيث يبذل المتلقى جهداً مسواياً لما قد تنطوى عليه من اضمار حتى يميزها أو يدركها ..
    الإضمار ، أو حتى الغموض ليس عيباً ، بل إنه قد يضيف إلى العمل الفنى ، بل إن أبا أسحاق الصابى يرى أن أفخر الشعر ما غمض " . ومع ذلك ، فإنه من المفروض أن يتضمن العمل مفاتيحه الداخلية ، التى تعين على الفهم واستكناه الدلالات .
    والحق أنه إذا لم يكن ثمة ما يوجب على الفنان أن يكون غامضاً ، فإن المتلقى ـ بالتالى ـ غير مطالب بأن يسرف فى الجهد كى يستبين المعانى التى يقصدها الكاتب . أذكر قول روبرت فروست لأحد الشعراء الشباب ، اتسمت قصيدة له بالغموض : " إن كانت قصيدتك سراً من أسرارك ، فأولى بك أن تحتفظ بها لنفسك " .
    البعض يعانى افتقاد الموهبة ، أو فقر اللغة ، أو نقص الإمكانات ، فهو " يضطر " ـ أعنى التعبير ـ إلى الغموض . أذكر قول سومرست موم : " أن يكون الكاتب نفسه غير متأكد من معناه ، فهو يشعر شعوراً غامضاً بما يريد أن يقوله ، لكنه لم يكوّن له صورة واضحة فى ذهنه ، إما لنقص فى قواه عقلية ، أو من الكسل ، ومن الطبيعى فى هذه الحالة ، ألا يجد التعبير الدقيق للفكرة المشوشة " . ويضيف شوبنهاور إلى هذه الكلمات قوله : " إن أسلوب التعبير المسرف فى الغموض ، يأتى فى تسع وتسعين حالة من مائة حالة ، نتيجة لغموض الفكرة عند المبدع " .
    إن المبدع يواصل الكتابة دون أن تتضح أمامه ملامح العمل الذى يكتبه ، يكتفى بالشعور الغامض ، أو غير المحقق . يريد أن يعبر عن أشياء محددة ، لكنها تشحب وتتضاءل ، وتتحول إلى هلاميات عند محاولة الفنان لأن يسطرها على الورق ، فهو يترك ما عجز عن التعبير عنه لذكاء القارئ ، يفسّره على النحو الذى يراه . ولأنه هو نفسه لم يفهم ، فإن القارئ بالتالى لن يفهم . لقد تصور أنه لجأ إلى ذكاء القارئ ، لكنه ـ فى الحقيقة ـ لجأ إلى نقيض ذلك ، أو ما تصور أنه كذلك ، لأنه من المستحيل أن أطالب الآخرين بفهم العمل ، الذى لم يفهمه كاتبه !. وكما يقول سومرست موم ، فإن من أسباب الغموض أن يكون الكاتب نفسه غير متأكد من معناه ، فهو يشعر شعوراً غامضاً بما يريد أن يقوله ، لكنه لم يكوّن له صورة واضحة فى أذنه ، إما لنقص فى قواه الذهنية ، أو من الكسل " .
    وباختصار ، فإنه لا يمكن ـ بمشاعر كاذبة ـ أن أنتج فنا صادقاً . ولعلى أضيف قول كونتليان " إن الأشياء التى يقولها الرجل المثقف ثقافة عالية ، فى الأغلب الأعم ، أيسر فهما وأكثر وضوحاً . وكلما كان الإنسان أقل ثقافة ، كانت كتابته أكثر وضوحاً " ..


    ***
    العمل الإبداعى علاقة بين المبدع والمتلقى . إنه لا ينطلق فى فراغ ، وإنما هو يتجه إلى قارئ أو مشاهد أو مستمع ، يشغله الاستمتاع ـ فى الأقل ـ بهذا العمل .. لكن معظم الأعمال الأدبية الحديثة تتجه إلى الغموض بلا سبب ، وبغير ضرورة فنية . وهو ما انعكس على قاعدة المتلقين ، فتقلصت بصورة واضحة ، حتى أن المجلات الأسبوعية التى كانت تخصص ـ على سبيل المثال ـ مساحة ثابتة للقصة ، ملأت هذه المساحة بمواد صحفية أخرى ، يسهل على القارئ فهمها وتقبّلها ، بدلاً من اللوغاريتمات الذى يحفل به الكثير من إبداعاتنا القصصية المعاصرة . ولقد كنت ـ أعترف ـ واحداً من الذين انساقوا ـ دون استعداد نفسى ولا فنى ـ لذلك التيار . بدأت فى الماهية ، ويا سلام ، والصورة ، وموقف ـ قصصى القصيرة الأولى ـ بما يقرب من اللقطة التسجيلية التى تشى بدلالات . ثم صرفنى ـ وهذا هو خطئى الأعظم ـ تيار الغموض الذى جرف العديد من أبناء جيلى ..
    وأذكر أن مجلة " سنابل " التى كانت تصدرها محافظة كفر الشيخ بإشراف الصديقين محمد عفيفى مطر ومحمود بقشيش قد أثارت نقاشاً حول قضية الغموض ، أيد فيه معظم المشاركين وجود الظاهرة ، وإن اختلفوا فى تبين بواعثها . وكان رأيى ـ كما أوردته المجلة ـ أن العمل الفنى لا يتسم بالغموض لذاته " حتى اللامعقول لابد أن يصدر فى الدرجة الأولى عن رؤية معقولة ، وإلاّ تحولت الكلمات إلى شئ آخر لا يمت إلى الفن بصلة ، لكن المعاناة التى يتطلبها العمل من كاتبه ، تريد معاناة مقابلة من قارئ العمل . وأحياناً يساوى الغموض عدم فهم القارئ ، أو قراءته للعمل الإبداعى بنفس طريقة قراءة الجريدة اليومية . وأحياناً أخرى ، يعانى البعض افتقاد الكلمة التى يريد أن يقولها ، لكنه يصر أن يكتب ، والبعض تعجز حصيلته اللغوية عن صوغ كلماته ، فلجأ إلى الهلاميات اللغوية ( سنابل 15/4/1971 ) .


    ***
    ثمة رأى يذهب إلى أن الفهم عند القارئ ، والوضوح عند المبدع ، هما شيئان أساسيان للأدب ، ويتضمنان التزامات من كل منهما . ولعل المثل الذى يحضرنى ، أن المبدع أشبه بجهاز إرسال ، وواجبه دائماً أن يطمئن إلى سلامة توصيلاته ، التى تتحدد فى حرصه على الصدق مع نفسه ، ومع فنه ، فلا يتعمد شيئاً ، لكن يترك العمل الفنى هو الذى يكتب نفسه ، لا يلوى ذراع القصيدة أو القصة سعياً وراء الإبهار أو التلغيز ، وإنما يترك للعمل الإبداعى اكتساب ملامحه وقسماته أثناء عملية الإبداع . أما المتلقى فهو أشبه بجهاز استقبال ، عليه هو أيضاً أن يطمئن إلى سلامة توصيلاته ، وتتمثل فى تسلّحه بالثقافة والوعى والفهم ، بحيث يمكنه استقبال العمل الفنى بصورة جديدة . لا أفهم أن يكون الغموض هدفاً فى ذاته ، من أجل أن يثار النقاش حول المعنى الذى يقصده الكاتب ، ثم لا يصل النقاش إلى أى شئ . ذلك أقرب إلى مسابقة الكلمات المتقاطعة التى تزجى بها الصحف اليومية فراغ وقت قرائها ..
    إن الغموض الذى يصدر عن عمق الفكرة وطرافتها ، والتأبّى على التعبير الأوضح ، يختلف عن الغموض الذى لا يعدو تعبيراً عن قصور الأدوات ، وعدم تمكن الكاتب من الجنس الأدبى الذى حاول إبداعه . وكما يقول إليوت فهناك غموض هو فى الواقع نوع من الادعاء ، فالمؤلف يحاول أن يخدع نفسه ، ويعمل على أن يقنع نفسه بأن عنده أشياء يريد أن يقولها أعمق مما عنده ..
    حتى أعمال بيكيت التى نسب لمؤلفها انه يستطيع فهمها تماماً .. هذه الأعمال لا يمكن أن تكون بلا معنى ، لأننا قد نطلق على مثل هذا العمل أى شئ ، إلاّ أن نسميه فناً !.. وأذكر عندما قدم مسرح الجيب مسرحية بيكيت لعبة النهاية ، أن أقلام النقاد استراحت إلى الرأى القائل باستحالة فهمها ـ ألم يعلن ذلك الفنان نفسه ؟! ـ وطالبت بأن تكون نظرة المشاهد إليها مثل نظرته إلى اللوحة التجريدية . لكن نجيب محفوظ رفض ذلك التفسير ، وأصر على أن مسرحية بيكيت عمل فنى ، لابد أن يكون للفن معنى . ثم قدم تفسيراً رائعاً ، وذكياً ، للعبة النهاية


    ***
    إذا كان من عمل الناقد ـ كما يقول ستانلى هايمان ـ " عندما تتسع الهوة بين الأدب الجاد وذوق القراء ، هو أن يكون همزة وصل بين العمل الغامض ، أو الصعب ، وبين المتلقى " فإن للمباشرة عيوبها ، والغموض ـ إذا كان وليد الضعف ، أو الضحالة ـ عيوبه أيضاً . يغيظنى أن يكون الغموض بلا ضرورة فنية ، يفرضه الكاتب من خارج العمل ، ولا يأتى من داخله . فإذا حاول الناقد تفسير العمل الفنى ، فإن عليه أن يكشف المباشرة الزاعقة ، أو الوعظية ، أو يوضح دلالات الغموض إن كان مما يفرضه العمل الفنى ويتحمله . أضيف : أنى لا أميل إلى التقنية التى تبلغ ـ على حد تعبير كارل راداك Karl Radak درجة التعقيد المتشنج ، ولا أميل ـ فى الوقت نفسه ـ إلى التقنية المتفوقة التى تؤطر عملاً تافهاً ..
    المقولة الشهيرة تعلن أنه إذا طالب المتلقى المبدع أن يكتب ما يفهم ، فإن على المتلقى أن يفهم ما يكتب . وفى المقابل ، فثمة من يرفضون ـ رغم ثقافتهم المرتفعة ـ تلك الأعمال التى تكلّف القارئ جهداً لتفهّمها ، وهو ما يعبر عنه كلثوم بن عمرو العتابى " إن كل من أفهمك حاجة من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة ، فهو بليغ "
    لقد كان رأى ت . إس . اليوت أنه ليس هناك ما يوجب على الفنان أن يكون واضحاً . إن الإبداع مهمته ، وبذل الجهد فى الفهم واستبانة المعانى مهمة المتلقى . إيفور براون يرفض هذا الرأى ، يرى فيه دليلاً على الكسل أو التكلف ، وتنازلاً من الفنان عن رسالة الفن . يضيف : " إن الشائع فى هذه الأيام فى عالم الأدب هو أن لا تعرف ماذا تعنى . فإذا تحداك إنسان ، فما عليك إلاّ أن تهز كتفك غير حافل ، وتقول إنك كتبت ما كتبت ، وأن على القارئ أن يتبين المعنى ، وأن ما يبديه المؤلف من الملحوظات يحمل الكثير من المعانى ، والقارئ يقوم مقام القابلة التى تستولد هذه المعانى ، وليس من عمل العبقرى أن يجعل كلامه واضحاً مفهوماً " ( ت . على أدهم ) .
    والواقع أن الغموض ـ أو البساطة ـ مسألة لا تصدر عن الأديب بقرار ، بمعنى أنى لا أتصور أن أديباً يتعمد التلغيز أو التبسيط الزائد ، لكن العمل الفنى ـ بما ينبغى أن ينبض به من تلقائية ـ هو الذى يفرض الصورة التى تطالع القارئ . وكما يقول همنجواى : فقد " تبدأ فى كتابة القصة دون أن تكون لديك أية فكرة مسبقة عن الطريقة التى ستنتهى بها ، فكل شئ يتبدّل ويتغير ، كلما تقدمت القصة . وهكذا نجد أن الحركة قد تبدو بطيئة للغاية فى بعض الأحيان ، حتى ليصعب على الإنسان أن يصدّق أن هناك حركة على الإطلاق "..
    الغموض ـ أو العكس ـ مسألة نسبية . فما يراه البعض غموضاً ، يراه البعض الآخر عملاً سهل التلقى . والقضية أساساً فى جدّية الفنان وصدقه من ناحية ، ووعى المتلقى وثقافته ، بل وفهمه لخصائص العمل الفنى من ناحية ثانية . وكما يقول يحيى بن حمزة العلوى فإن " المقصود إذا ورد فى الكلام مبهماً ، فإنه يفيده ببلاغة ، ويكسبه إعجاباً وفخامة ، وذلك إذا قرع السمع على وجهة الإبهام ، فإن السامع له يذهب فى إبهامه كل مذهب " .
    الفن إضمار ، والفن تكثيف وإيماء بدلالات [ يقول جين ب . تومبكنز إنه تكفى كلمات قليلة لتيسير تأويل حالة معقدة ] لكنه يفقد صفة الفن إذا بلغ حد الغموض ، وللغموض ـ فى تقديرى ـ أكثر من سبب ، فقد يصدر عن ادعاء ساذج ، أو قصور فى التعبير ، أو عدم استطاعة للوسيلة الفنية ـ وهو ما يعانيه الكثير من الأدباء الشباب فى أعمالهم الأولى ـ وقد يكون السبب عمق المقولة بما يهمل وضوح التعبير ..


    ***
    يضايقنى قول البعض : هذا كاتب صعب ..
    أنا لا أتعمد الغموض ولا التلغيز . أبدأ الكتابة وليس فى داخلى سوى فكرة ، هى ـ فى الأغلب ـ غير مكتملة .. لكن العمل الأدبى الجيد ـ والقول ليحيى بن حمزة العلوى ـ يتطلب قراءات عديدة . فأنت كلما قرأته اكتشفت فيه معان جديدة ، فهو إذن يتطلب جهداً موازياً لجهد المبدع ، جهداً لا حد له . من المهم أن تكون قراءة المتلقى خلاّقة ، بمعنى أن يتصور الأحداث والشخوص التى يتضمنها العمل الفنى . بغير هذه المشاركة الفعالة فإن المتلقى لن يخرج بشيء.
    ...............
    1988 ـ بإضافات
    Reply With Quote  
     

  9. #21  
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    المثقف والمجتمع والسلطة
    ...................................

    لا تحلموا بعالم سعيد ..
    فخلف كل قيصر يموت ..
    قيصر جديد .

    أمل دنقل


    " الذئب ما كان ذئباً ، لو لم تكن الخراف خرافاً "
    مثل أيرلندى

    " إن الروايات العظيمة لا يكتبها أناس خائفون "
    جورج أوريل


    ننحن فى عصر أصبح من واجب الأعمال الفنية فيه أن تطلق الرصاص
    مشكلة بعض النقاد مع روايتى " من أوراق أبى الطيب المتنبى " أنهم توقفوا أمام ما تصوروه انعكاسات أحداث قريبة ، مثل فترة السادات وما صحبها من تطورات . والحق إنى لم أكتب الرواية لمناسبة وقتها ، لم أقصد أن أتناول قضية ذات أهمية بالغة ، لكن الحل ـ على أى نحو ـ ماثل فى مدى الأفق ..
    إذا كان المبدع يكتب من أجل عصره ، من أجل الآنية ، فإنه يكتب من أجل الإضافة والتطوير والتقدم . إنه لا يكتب للمجتمع الآنى وحده ، وإنما يكتب لكل الأزمنة ، وللإنسان بعامة . الإبداع الحقيقى هو الذى يمتلك حيوية المواصلة والتأثير والحس الإنسانى ، حتى بعد انتهاء المناسبة التى كتبت فيها ، أو ـ ربما ـ عبّر عنها . يهمنى أن تخترق شخصيات أعمالى زمانها ، فلا تستقر فى زمان محدد ، وتتلاشى من ثم بتلاشيه . أرفض شخصية المناسبة ، مثلما أرفض ـ فى الشعر ـ قصيدة المناسبة . نحن نقرأ ديكنز ، لا لأن أعماله تناولت إصلاح السجون ، ونقرأ تورجنيف لا لأنه كتب عن قضايا التحرر فى روسيا ، وهوجو لا لأنه انتقد نابليون الثالث . تلك مهام المؤرخين أو المصلحين الاجتماعيين . إن هؤلاء الأدباء ـ وغيرهم ـ وظفوا تلك " التيمات " الاجتماعية أو السياسية ـ إن جاز التعبير ـ فى أعمال إبداعية ، بعدها الإنسانى يتيح لها الحياة بعيداًُ عن الأحداث التى تناولتها ، بعيداً عن الآنية الطارئة التى يزول تأثيرها بزوال الحدث ..
    ثمة قضايا محددة تشكل الرؤية الشاملة ، فلسفة الحياة ، لعالمى الإبداعى . ومن بين تلك القضايا : المطاردة ، الغزو من الخارج ، القهر فى الداخل ، صلة المثقف بالسلطة ، وبمجتمعه ، وما يتصل بها من قضايا الحرية والعدل ..
    من أوراق أبى الطيب المتنبى ـ فى تصور كاتبها ـ لا تناقش قضايا آنية ، لكن القضية المحور هى علاقة المثقف بالسلطة من ناحية ، وعلاقته بجماهير شعبه من ناحية ثانية ، وهى قضية تلح فى الكثير من أعمالى الروائية والقصصية ، مثل " الأسوار " و " من أوراق أبى الطيب المتنبى " و " النظر إلى أسفل " و " قاضى البهار ينزل البحر " و " زهرة الصباح " وغيرها ..
    العاشق الحق ـ فى رأى أبى الطيب المتنبى ـ هو الذى لا يطمع ، لا يريد مقابلاً من معشوقه ، وإنما هو يضحى فحسب ، ولا يتوقع المقابل .


    ***
    كان إلهامى [ رواية البوسنى رشاد قاضيتش رحلة إلهامى إلى الموت ] يعرف المصير الذى ستنتهى إليه رحلته . بعث الحاكم الجلالى فى طلبه ، ومن يطلبه الجلالى فهو لابد أن يموت . وأهمل إلهامى ـ فى طريقه إلى قصر الجلالى ـ كل النصائح التى دعته إلى الاختفاء بعيداً عن أعين الجلالى " إذا كان كأس الموت ينتظرنى ، فأنا على استعداد " . ولم يكن إلهامى يقبل على الموت لذاته . لم يتقبل فكرة الموت باعتبارها انتحاراً ، لكن كان لديه ما يقوله للجلالى قبل أن يأمر بإعدامه . كان يدرك فداحة الثمن الذى يجب أن يدفعه مقابلاً للفكرة التى يحملها ، للكلمات التى يريد أن يوجهها إلى الحاكم . كان يستطيع الاعتذار عن كلماته ـ كما أسرف الجلالى فى مطالبته بذلك ـ والعودة إلى مألوف حياته ، لكنه رفض أن يعتذر عن القصيدة التى عرّضته للموت . وزاد فنصح بما جعل من الحتم إعدامه . ويهمس إلهامى بينه وبين نفسه : يا رب !.. أنت أفضل من يعرف لماذا يستدعوننى ، وماذا ينتظرنى هناك . إذا كان هذا بسبب ما قلته ، فلا تجعل الخوف يهزنى ، فيدفعنى إلى أن أنكر أو أندم على ما صنعته ، ولا تسمح بأن يتسلل الخوف إلى عينى ، وبأن يتم الإحساس بالرجفة فى صوتى . ساعدنى على أن أظل صلباً ، ثابتاً ، على طريق الحقيقة ، وأن أغمض عينى واسنمك فى قلبى . ويحلم إلهامى بمن يسأله : من هم أولئك الأبرياء الذين قتلوا على طريق الحقيقة ؟ . يجيب : الشهداء ..
    ـ وأين مثواهم ؟
    ـ فى الجنة !
    ويقف إلهامى أمام الجلالى . يقول له : إن الإمبراطورية ـ العثمانية ـ مديدة شاسعة ، بحيث لا يمكن رؤية نهايتها . والماء صاف فى منبعه . ولكن إلى أن يصل إلى أولئك الذين ينتظرونه فى عطش ، فلا يمكن ـ فى بعض الأحيان ـ غسل الأقدام فيه . ويتحدث إلهامى عن أولئك الذين يجب أن يكونوا فى المقدمة ، وأن يحددوا ماهية العدالة ، ويوزعوها ، بدءاً من رجال الإمبراطور والأعيان ، وانتهاء بالعلماء . إنهم يتحدثون عن شئ ، ويفعلون شيئاً آخر . إنهم يفكرون فى أنفسهم فحسب . ويضيف إلهامى قوله : يا باشا ، إن الناس أهم من السلطان ، من الإمبراطورية . ولم ينبت شئ طيب من الدماء . إن الإنسان هو أكمل ما خلقه الله ، وويل لمن يمتهنه !
    ويدفع إلهامى حياته ثمناً لهذه الكلمات !


    ***
    إنسان " ، رواية للإيطالية أوريانا فالاتشى ، صدرت بعد روايتى الأسوار بعدة سنوات . فقد صدرت الأسوار فى 1973 ، بينما صدرت إنسان بالإيطالية ـ للمرة الأولى ـ فى 1983 [ فى الروايتين موقف واحد عن التمثال الذى ينطقه رجال السلطة . فى الأسوار أنطقوا تماثيل أبو سمبل ، وفى إنسان أنطقوا تمثالاً يونانياً قديما . توارد خواطر كما ترى ] . شدنى فى رواية فالاتشى إنها تعبّر ـ من خلال تجربة حقيقية ـ عن الدور الذى أتصوره للمثقف / المناضل فى مجتمعه . مثقف ليس ـ بالضرورة ـ فى حجم الحسين وجيفارا والليندى وغيرهم ، لكنه لابد أن يكون مؤمناً ـ بالضرورة ـ بأن التضحية هى ما يجب أن يبذله دون أن يتلقى مقابلاً من إعجاب ، أو ثناء ، أو حتى مساندة . بل إنه قد يلقى جزاء سلبياً من هؤلاء الذين بذل عمره فدية عنهم ! [ زال تقديرى للكاتبة بعد أن أعلنت مناصرتها للصهيونية ، وأنكرت على الفلسطينيين حقهم فى الحرية ! ] . يقول باناجوليس للكاتبة : " الناس فى الحقيقة هم القلائل الذين يكافحون ويأبون الخضوع . أما الآخرون فليسوا ناساً . إنهم قطيع " (ت محمود مسعود ) . يقول باناجوليس ـ مصدوماً ـ " ما الفائدة من المعاناة والكفاح ، إذا كان الناس لا يفهمون ، إذا كان الناس لا يهتمون ؟.. كل ما فعلته كان غلط فى غلط " . وتقول أوريانا لحبيبها بعد أن تحيفه اليأس : " إذا قضيت نحبك ، فإنهم ـ مواطنوه ـ سوف يجلونك ، وربما يحاكونك ، ولن تبقى وحدك بعد ذلك"
    لقد بذل باناجوليس حياته من أجل أن تسترد بلاده ـ اليونان ـ حريتها من الحكم الديكتاتورى ، لكن الرصاصة التى أردته تأخرت طويلاً ، بحيث أتاحت له الظروف أن يخطط ، ويقاوم ، ويعتقل ، ويعانى التعذيب ، ويدخل البرلمان ممثلاً للملايين من البسطاء ، حياة خصبة ، وعميقة ، على الرغم من أنه اغتيل قبل أن يبلغ الأربعين ..
    ويدرك باناجوليس ـ قبل أن يلقى مصرعه على أيدى أعوان الديكتاتورية ـ إن " أغنية التحية للمقاتل الحقيقى هى حشرجة الموت التى يصدرها عندما تطلق النار من قبل فريق الإعدام فى حكم الطغيان " ، وإنه يتوجه إلى عالم يلحق فيه بأبطال آخرين ، بدونهم لا يكون للحياة معنى ، ويثقون أن التوقف عن النضال هو الجنون بعينه ، وأن البذرة التى غرسوها فى الهباء سوف تذكو وتتشكل فى أوانها المقسوم " ..
    ***
    (يتبع)
    Reply With Quote  
     

  10. #22  
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    يقول أرسطو : " كل من كان غير قادر على العيش فى المجتمع ، أو لا حاجة له بذلك لأنه مكتف بنفسه ، فإنه إما وحش أو إله " . وفى كليلة ودمنة : ثلاثة مهلكات : القرب من السلطان ، وإفشاء السر للنساء ، وتذوق السم على سبيل التجربة . لذلك فإن المثقف يحرص ـ عادة ـ على أن يضع مسافة بينه وبين السلطة ، ربما لكى يتاح له الرؤية جيداً ، ويتاح له التحليل والتقويم بالتالى . ولعلى أضيف أن البديهى قيام نفور ـ أو عداء ـ بين السلطة والمثقف . السلطة تعبر عن الفوق ، أما المثقف فهو يعبر ـ أو هذا هو المفروض ـ عن التحت ، عن القاعة الأوسع من المواطنين . أدين ذلك المثقف الذى وصفه باناجوليس بأنه ينحنى أمام أية قوة ، أية سلطة ، أى عات مستبد . يحيا كل من يحكم بشرط ألا تقع متاعب ، والديكتاتوريات تولد منه ، والأنظمة الشمولية يدعمها ويؤازرها .
    وإذا كان جيتان بيكون قد عاب على أندريه مالرو أنه لم ينضم إلا إلى الثورات التى كانت على وشك النجاح ، وأن مالرو لم يكن على استعداد لأن يظل مخلصاً لوضع سياسى تغيب عنه الفرصة الحقيقية ، فإن الكاتب النيجيرى كين سارو ويوا ـ فى المقابل ـ حقق أرباحاً طائلة من مؤلفاته ، شجعته على الهجرة إلى بريطانيا ، وشراء بيت ريفى فاخر فى إحدى المقاطعات هناك ، لكنه عاد إلى وطنه ليقف إلى جانب مواطنيه من قبيلة " أوجونى " ذات الأقلية العددية ، وأسهم سارو فى تأسيس حركة " من أجل بقاء الشعب الأوجونى " . وبصرف النظر عن صواب النزعة الانفصالية من عدمه فى إنشاء تلك الحركة ، فقد دفع سارو حياته ـ وكانت حياة مرفهة بكل المقاييس ـ مقابلاً لإيمانه بما يرى أنه حق لأبناء قبيلته ..



    ***
    والحق أنه من الصعب تصنيف المثقفين باعتبارهم طبقة . إنهم نسيج متداخل فى كل طبقات المجتمع . ثمة المثقف المبدع ، والمثقف العامل ، والمثقف الموظف ، والمثقف العالم ، والمثقف الفلاح ، إلخ .. المثقف مواطن يمتلك المعرفة والوعى ، ويحاول من ثم أن يدافع ـ بمعرفته ووعيه ـ عن مجتمعه الذى قد يعانى الكثير من السلبيات ، فى مقدمتها ـ غالباً ـ قهر السلطة !
    وعادة ، فإن البسطاء يتعاطفون مع آراء المثقفين التى يجدون فيها تعبيراً عن واقعهم ، ومناصرة لقضاياهم ، وإن كان ذلك لا يحدث فى كل الأحوال . يقول تشيكوف على لسان أحد أبطاله " إن أقسى الأمور على المرء هو أن يعمل دون أن يلقى الود والتعاطف من أى إنسان " ، كم تأثرت ، وقهرنى الحزن ، حين قرأت كلمات مصطفى كامل اليائسة التى كتبها إلى جولييت آدم عن " هذه الأمة التى بلانى الله بأن أكون واحداً من أبنائها " . وفى المقابل ، فقد وجدت ما يستحق التقدير فى قول القاضى الهولندى فان بملن " يخطئ من يظن أن المصريين المثقفين لا يهتمون إلا بمصالحهم الخاصة ومصالح عائلاتهم ، فإنهم ـ على العكس ـ يكرهون الحكم التركى والحكم الأروبى على السواء ، ويريدون حكومة وطنية بكل معنى الكلمة ، وهم يحبون مصر الحديثة ، ومصر التاريخية ، ويهتمون بمصير الشعب ، ويتألمون لمصائبه التى لانهاية لها " ( نقلاً عن الرافعى : عصر إسماعيل ص 123 )
    يقول الفنان فى قصة محمود تيمور السماء لا تغفل أبداً : " نحن الآن نعمل وكلنا يسعى لغرض أسمى ، ولإسعاد البشرية ، ولكن : هل تحس البشرية بعملنا ، وما نلاقيه من صعاب ؟ أبداً ! أبداً ! . ويسأل الراوى فى قصة رفعت السعيد السكن فى الأدوار العليا : ماذا يجدى الأمر كله ؟ الشعب نائم ، بل هو صوت يتظاهر ضدنا ، ضدنا نحن الذين نهب نسمات حياتنا من أجله . تبدو الأمور جميعاً بغير معنى . نحن نضحى من أجل من لا يريد ... لو أن الناس تحس بعذاباتنا لهان الأمر ، لهانت كل العذابات ، لكن الناس بعيدون عنا ، وكلماتنا : ماذا تجدى ؟ هل تقنع أحداً ؟ ( رفعت السعيد : السكن فى الأدوار العليا ) . أما باناجوليس فإنه يعيد النظر إلى ما حوله : " فى الخارج الحياة ، والفضاء ، والناس ، والحب ، والغد . ما أشق أن تكون بطلاً ! ما أقسى هذا وأبعده عن الكينونة البشرية ، وما أشد بلادته وأقل جدواه ! هل يتهيأ لأحد قط أن يثنى عليك لأنك برهنت على أنك بطل ؟ هل يمكن أن يقيموا لك نصباً ، ويطلقوا اسمك على الشوارع والميادين ؟ وإذا هم فعلوا ذلك ، فما الذى يجدى عليك شبابك المضيّع ؟ وحياتك التى لم تعشها ؟ كلا! كف عن هذا . إنه لكفران ! فأنت لا تؤدى واجبك لمجرد أن يلقاك إنسان بالحمد والشكران ، وإنما تؤديه بدافع العقيدة ، لنفسك ، ولكرامتك الذاتية ! من يدرى كم من الكائنات البشرية من الشرق والغرب فى غياهب السجون ، فى المعتقلات الانفرادية ، مدفونين أحياء بسبب كرامتهم الذاتية ، ودون ارتقاب لأى شكر ؟!.. منهم أناس لا تعرف حتى أسماؤهم ، ولن تعرف أبداً ! أبطال مجهولون ، لا يشاد بهم ، وهم أيضاً متعطشون للشمس والسماء والحب ورفقة الناس ، مضطهدون كذلك ، محرومون من الفضاء والضياء ، معذبون أيضاً بزبانية من أمثال زاكاكيس ، يعاقبونهم بتجريدهم من الأحذية والسجائر والكتب والصحف والأقلام والورق ، ويصادرون قصائدهم الشعرية ، ويلبسونهم قمصان المجانين : هو مجنون ! هو مجنون ! " .
    لكن المثقف هو الحقيقى هو الذى يعمل دون أن ينتظر المقابل . وعلى الرغم من الإحباط الذى تملك الراوى فى رواية رفعت السعيد ، فإن المثقف ـ المهموم بمشكلات الوطن ـ لا ينتظر المقابل لما يبذله ، حتى لو كان تضحية جسدية .
    المثقف الحقيقى لديه رؤية نقدية للمجتمع الذى ينتمى إليه ، وللمجتمع الإنسانى الأوسع ، بحيث لا ينغلق على العالم ، ويأخذ من التجارب المتنوعة بلا عقد ولا حساسيات ، ومن منطلق الفهم والتفهم والثقة بالذات والقدرة على الفعل . لن يمارس المثقفون / الصفوة دورهم المطلوب ، ما لم يدركوا أن هذا الدور لصالح المجموع ، وليس ضد الحاكمين فى الوقت نفسه ، وكما يقول بولاك Polak فإن ما يؤدى إلى تقدم مجتمع ما ، هو الصور المستقبلية التى يكونها الصفوة من مواطنيه . فإذا تباينت المصالح بين الحاكم والمحكوم فإن قيمة المثقف فى ابتعاده عن السلطة الحاكمة بقدر اقترابه من مواطنيه المحكومين . دور المثقف الإيجابى ـ فى كل الأحوال ـ هو الإضافة والتطوير والتقدم . والحديث عن مشروع ثقافى عربى يبدو حلماً وردياً وصعب المنال ، ما لم تتحقق ديمقراطيات ـ أو حتى شبه ديمقراطيات ـ تتيح للثقافة الحقيقية أن تتنفس ، وتؤدى دورها المأمول لصالح الجماعة . وكما تقول أوريانا فالاتشى فإن الجناة الحقيقيين فى الأنظمة الديكتاتورية هم أولئك الذين يختفون خلف ستار من المسئولية " هم السادة الأجلاء الذين يستغلون أى إنسان ، ويبرزون دائماً إلى القمة ، مهما تكن نظم الحكم التى ترتقى إلى السلطة ، ومهما تكن نظم الحكم التى تهوى " . وقد دخل أبو نصر الطائى على سليمان بن عبد الملك ، فقال : تكلم يا أعرابى . قال : يا أمير المؤمنين ، إنى مكلمك بكلام ، فاحتمله ، وإن كرهته فإن وراءه ما تحب ، إن قبلته . قال : يا أعرابى ، إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه ، ولا نأمن غشّه ، فكيف بمن نأمن غشّه ، ونرجو نصحه ؟. قال الأعرابى : يا أمير المؤمنين ، إنه قد تكنّفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم ، واتبعوا دنياهم بدينهم ، ورضاك بسخط ربهم ، خافوك فى الله تعالى ، ولم يخافوا الله فيك ، حرب الآخرة ، سلم الدنيا ، فلا تأتمنهم على مائتمنك الله تعالى عليه ، فإنهم لم يألوا فى الأمانة تضييعاً ، وفى الأمة خسفاً وعسفاً ، وأنت مسئول عما اجترحوا ، وليسوا بمسئولين عما اجترحت ، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك ، فإن أعظم الناس غباء من باع آخرته بدنيا غيره . قال سليمان : يا أعرابى ، أما إنك قد سللت لسانك ، وهو أقطع سيفيك . قال الرجل : أجل يا أمير المؤمنين ، ولكن لك لا عليك . وفى مسرحية على أحمد باكثير " مأساة أوديب " يقول أوديب لترزياس : " لا تؤاخذنى بجريرة دبرها غيرى وأحكم تدبيره ، فلم يكن لى من الوقوع فيها بد . أتريد يا تزرياس أن تحمّلنى تبعة هذا الجرم الشنيع ، دون أولئك الذين دفعونى دفعاً إليه " .


    ***
    المثقف ـ فى رأى سارتر ـ ليس مسئولاً عن نفسه فحسب ، وإنما هو مسئول عن كل البشر . والإنسان الذى يرك قيمة الاختيار ، لا يستطيع الاّ أن يختار الخير ، والخير لا يكون كذلك الاّ إذا كان للجميع . المثقف قائد للجماعة ، والثوار بعض الجماعة التى يقودها بأفكاره . إنه يوجه ، وينصح ، ويحذر ، وبقدر وعى مواطنيه تأتى استجاباتهم لأقواله ، وهى استجابات تذكرنا بحديث الرسول ( ص ) الذى يطلب من الناس أن يغيّروا ما فسد ، بدءاً بالسيف ، وانتهاء بالقلب ، وهو أضعف الإيمان ..
    ولعل أخطر ما يعانيه المثقف هو الانفصام بين الفكر والفعل ، بين الرأى والمبادرة إلى نقيضه . الحكمة اليونانية تقول : " إذا أراد الله بقوم سوءاً ، جعل عشقهم الأول للسلطة السياسية " . وهذا هو المرض الذى يعانى تأثيراته معظم مثقفى الوطن العربى . السلطة شاغلهم ، وربما توسلوا إليها بمغازلتها ، بمداهنة الحاكم وتملقه ، ومعاونته ـ فى أحيان كثيرة ـ على القيام بأدوار سلبية فى حياة شعوبهم . وكما يقول بوردو ، فإن السلطة لا تحكم ولا تأمر إلا بمساعدة من تحكمهم ..
    إن المثقفين ـ فى تقدير ميشيل فوكو ـ طرف من السلطة ، مجرد كونهم عناصر وعى وخطاب يجعل منهم طرفاً فى لعبة السلطة . دور المثقف الحقيقى ـ المطلوب ـ هو النضال ضد أشكال السلطة . لكن المثقفين ـ فى أحيان كثيرة ـ يمثلون القوة الخفية ، الحقيقية ، فى مواقع السلطة . تبدو السلطة لملك أو سلطان أو رئيس جمهورية ، لكن السلطة الفعلية تظل فى أيديهم ، يمسكون بكل خيوط اللعبة ، ويتحول الحاكم إلى مجرد واجهة . يصفهم عبد النبى المتبولى فى " زهرة الصباح " : " لا أحد يعرف وظائفهم ، ولعلهم بلا وظائف محددة ، لكنهم أخطر من خاصة الملك " .
    لقد أظهر عبد الرحمن الجبرتى حيرته ، عندما قارن بين أى مملوك محسوب على الإسلام ، يقطع رقاب أخوته فى الدين ، دون جريرة حقيقية ، وبين قيادة الاحتلال الفرنسى التى حرصت على تقديم سليمان الحلبى إلى المحاكمة ، بعد أن قتل كليبر ، واعترف بما فعل . وانتدب له محام ، وأجريت المحاكمة فى العلن ، قبل أن يصدر الحكم بالإعدام ..
    فأى فارق ؟!


    ***
    الصفوة هى التى تمسك فى يدها بمقاليد الأمور فى المجتمع من خلال إمساكها بمقاليد الأمور فى مراكز البحث العلمى والجامعات ووسائل الإعلام ودور النشر واستديوهات السينما والمسارح . الصفوة هى القيادة الحقيقية للرأى العام ، هى التى تشير وتوجه وتؤثر وتحرك . أذكر قول توفيق الحكيم : " إن انقراض طائفة الخاصة التى تفكر بعقلها الممتاز ، وتقود الشعب ، وتبصّره وتنهضه وتهديه ، معناه زوال الرأس من جسم الأمة . هل رأيت جسماً يسير بلا رأس ؟! " .
    يطالب صلاح الدين حافظ " الصفوة " المثقفة ، أو " النخبة " بأن تجيب عن السؤال : أى مصر تريد ، وأية صورة تتخيل وتعمل من أجلها ، الآن ، وفى المستقبل ؟..
    هذا هو ـ فى تقدير صلاح الدين حافظ ـ دور النخبة المثقفة ، بدلاً من الدور الذى تتزاحم عليه الآن بتهالك شديد ونفاق قبيح ، طلباً لمنصب زائل ، أو طمعاً فى مال سائب " ، فهى " تعزف لحن الانهيار ، وترقص على أنغام الفرقة ، وتبيع المحرمات الوطنية والقومية فى سوق النخاسة بأبخس الأسعار " .
    أخطر الأمور حين تصبح الأحزاب والمؤسسات الدستورية مجرد واجهة ، كومبارس ، لحاكم فرد ، ديكتاتور ، يملى إرادته فلا راد لها ، ولا معقب على ما يصدر عنها من قرارات . وحسب التعبير الشائع ، فإن الطاعة تؤمن النظام . أما المقاومة فهى تؤمن الحرية .
    لقد ورثت أيام الاحتلال قوى " وطنية " ركبت الموجة ، أو أفادت من تاريخها النضالى فى الحصول على مكاسب طارئة ودائمة ، بصرف النظر عن عدم مشروعية الوسائل . خرج الوطن من سلطة الاحتلال الأجنبى ، ليقع فى قبضة سلطة أخرى ، تنتمى إلى الوطن نفسه ، باعتبار أن قادتها هم من أبناء الوطن ، لكن ممارسات هذه السلطة ـ فى الحقيقة ـ أشد قسوة من سلطة الاحتلال . وإذا كان عسف سلطة الاحتلال يسهم فى تجميع كل القوى سعياً لاستقلال الوطن ، فإن تفتت القوى الوطنية ما بين معارض لسلطة الحاكمين من أبناء الوطن ، ومؤيد لهذه السلطة ، يعنى ـ ببساطة ـ تفتت الوطن جميعاً ، غياب الوحدة التى يفرضها وجود محتل أجنبى ..


    ***
    الحكمة العربية تقول : " خير الأمراء الذين يأتون العلماء ، وشر العلماء الذين يأتون الأمراء " ..
    والحق أنه من الظلم للمثقف إهمال محاولات السلطة لاحتوائه ، إدماجه داخل جهازها الحكمى ، يتحول إلى مجرد حاشية ، بطانة ، بوق دعاية أو أداة تسلط ، يتحول ـ باختصار ـ إلى خصم مناوئ للجماعة ، وليس جزءاً منها ، ومتفاعلاً معها . دوره ـ ببساطة ـ يقتصر على تجميل الأحداث ، وليس المشاركة فى صنعها . تبرير الشرعية ، وليس الحكم عليها . أذكرك بدور بعض المثقفين فى من أوراق أبى الطيب المتنبى و النظر إلى أسفل و زهرة الصباح وقلعة الجبل وغيرها . كان دورهم أشبه بدور المحلل . والمعنى الذى أقصده ، دور المثقف فى وصل ما ينقطع بين السلطة والمواطنين ..
    من الصعب ـ على سبيل المثال ـ إغفال الدور السلبى الذى قامت به الصفوة العربية فى إسقاط تجربة دولة الوحدة . تغاضى مثقفو مصر وسوريا عن سلبيات القيادة فى الممارسة . لم يرتفع الصوت الشجاع بالنقد ، أو حتى بالملاحظة ، فبدأت عناكب التآمر ـ وهى محسوبة ـ للأسف ـ على الصفوة ـ فى نسج خيوطها ، حتى فاجأت القيادة والعالم العربى بتقويض التجربة . والطريف ـ والمؤسف ـ أنها احتفظت بعلم الوحدة ، وذرفت الدمع ـ فيما بعد ـ على ما واجهته التجربة الوحدية ، بل إن الوقفات تتجدد كل عام فى مناسبة إعلان قيام دولة الوحدة !


    ***
    إن ديمقراطية الانتخابات فى عالمنا العربى ، وفى معظم دول العالم الثالث ، تصطدم ـ غالباً ـ بثلاث عقبات :
    ـ غياب الوعى الجماهيرى ، وهو ما ينعكس على صندوق الانتخاب . فالأكثر شهرة أو تأثيراً مادياً أو اجتماعياً ، هو الأشد إمكانية فى الفوز بأصوات الناخبين ..
    ـ تزييف الانتخابات بواسطة الحكومة ، خاصة إذا كانت هذه الحكومة تابعة للحزب الحاكم ..
    ـ اللامبالاة الجماهيرية ، وبالذات ـ وللأسف ـ بين الفئات المثقفة ، وهو ما يتبدى فى عزوف أفرادها عن الإدلاء بأصواتهم ..
    وغالباً ، فإن الحاكم فى عالمنا العربى يأتى بالقوة المسلحة ، ولا يذهب إلاّ بالقوة المسلحة ، وقد اكتسبت قصة الجواتيمالى أوجستو مونتوسو " الديناصور " شهرتها كواحدة من أهم القصص القصيرة فى أمريكا اللاتينية فى القرن العشرين ، ليس لمجرد أنها أقصر قصة قصيرة فى العالم ، فهى لا تزيد عن جملة واحدة ، وإنما لأن الديناصور الذى استيقظ بطل القصة ، فوجده ممدداً إلى جانبه ، هو السلطة التى تحرص أن تظل فى موضعها . بالإضافة إلى ذلك ، فإن معظم الحكام العرب ذوو نزعة كارزمية ، بمعنى أنهم هبة أرسلتها العناية الإلهية لإنقاذ الأمة ، والصفات الخارقة التى يتحلون بها إنما تفجرت من نبع إلهى ..
    وقد أعلن أحمد بهاء الدين ـ يوماً ـ بصراحته الذكية ـ أنه كان أقل الصحفيين نفاقاً للسلطة الحاكمة ، فهو يدرك جيداً أن السلطة لن تظل صامتة ، مقابلاً للإصرار على مناقشة تصرفاتها ، فضلاً عن رفض تلك التصرفات . إنه قد يلجأ إلى وضع " الدسم فى العسل " ، يغلف الدواء بالقليل من السكر ، حتى يسهل على السلطة ابتلاع النصيحة !.. لكن أحمد بهاء الدين لم يكن يشغل ـ مع من يماثلونه فى الفهم ـ إلاّ حيزاً محدداً ومحدوداً . فثمة من رفضوا حتى إعلان رأس السلطة انه يرفض النفاق وأغنيات الإشادة به . اعتبروا رفض رأس السلطة نفاقاً للجماهير . وزادوا من إيقاع النفاق بما تعجز الكلمات عن وصفه !..


    ***
    إن الإبداع ـ بطبيعته ـ انحياز . فهو ينحاز إلى مبدأ ، أو إلى فكرة أو قضية ، والمبدع لابد أن ينحاز إلى مواطنيه ، وإلى الإنسان بعامة ، فى تعامله مع القيادات التى تحكمه . هذه بديهية لا تقتصر على شعبنا العربى وحده ، وإنما تشمل كل شعوب الدنيا فى علاقاتها بأنظمتها ..
    من هنا ، فإن تصور استمرارية الوفاق بين المبدع العربى ، والمثقف العربى عموماً ، وبين السلطة ، هو ضرب من التمنى المستحيل ، لأن المثقف يطلب المطلق فى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والرفاهية لكل المواطنين . أما السلطة ، فإنها تضع القوانين والقواعد التى ترى أنها لازمة للحفاظ على كيان المجتمع . وتصور العلاقة المثلى بين المثقف العربى والسلطة فى المستقبل ، يجب أن يستند إلى الموضوعية ما أمكن ، بحيث يدرك كل طرف طبيعة هذه العلاقة منذ تشكلت بين حاكم ومحكوم ، وبحيث ينشأ الفهم والتفهم ، ومحاولة الاقتراب ، والسعى إلى الغاية المشتركة ، وهى صالح الوطن والمواطن ..
    إن علاقة المثقف والسلطة يحكمها ـ فى الأغلب ـ الشك والتوجس وعدم الثقة . وهى نظرة متبادلة بالطبع . فإذا أسرفت العلاقة فى اتجاهها السلبى ، ربما خضعت للعداء والعنف من كلا الطرفين كذلك !
    ومن المؤكد أن الثمن لا يدفعه الحاكم وحده ، ولا المثقف فحسب ، وإنما يدفعه المواطن العادى فى كل الأحوال . بل إن الثمن الذى يدفعه المواطن العادى يكون ـ بالضرورة ـ أكثر فداحة على المستوى الاقتصادى فى أقل تقدير .
    المصيبة أن المثقف يتحول بصورة مأساوية إذا التحم بالسلطة ، إذا أصبح قيادياً فى السلطة ، رئيساً أو وزيراً ، أو مسئولاً على أى مستوى . وكما تقول إيزابيل الليندى ، فإن المشكلة فى الثوريين هى أنهم ـ بعد نجاحهم ـ يصبحون متصلبين ، ومن ثم يصبحون هم السلطة . وعند ذلك نواجه المشكلة نفسها مع السلطة " .
    ولعله يجدر بنا أن نشير إلى أن المثقفين الذين اقتربوا من السلطة ـ على نحو أو آخر ـ فى امتداد تاريخنا العربى ، قد واجهوا محناً كانوا فى غنى عنها ، لو أنهم أدركوا التباس العلاقة بين السلطة وبينهم ، وأن الإطار الذى ينبغى أن تصدر ـ من خلاله ـ آراؤهم ، هو الإعجاب بقرارات صدرت فلا شأن له بها ، وتبريرها ، وليس إبداء الملاحظات مهما تسربلت بالرقة . ونتذكر المئات ، بداية من ابن خلدون وانتهاء بمحمد مزالى [ الظاهرة عربية ، والجنسية التونسية مجرد مصادفة ! ]
    إن حق المثقف ، وواجبه ـ ومسئوليته فى كل الأحيان ـ أن يرفض ما يراه خطأ ، ويقاومه ، فلا يلجأ إلى إيثار السلامة ، حتى لو أخذ صورة تصفية الذات . وهو ما فعله سقراط ، وأدانه عليه نيتشة عندما خضع لقهر الدولة ، فتجرع كأس السلم ، وأنهى حياته ليظل ـ بعد موته ـ مواطناً صالحاً .


    ***
    تبقى حقيقة يجدر بى تأكيدها : ثمة فارق بين السلطة والتسلط . وممارسات الحكام العرب فى أمور بلادهم هى مجرد تسلط ، من مظاهره القهر والسعى إلى المصالح الفردية والمحسوبية . الصوت الوحيد الذى يستطيع أن يسمعه الخطاب السلطوى / التسلطى هو صوت القوة ، وعندما يسمع هذا الصوت فى النهاية ، فإن صوت السلطة يلوذ بالصمت . قد تفلح السلطة فى السيطرة على المثقف ، بالترغيب الذى يتطلع إلى المظهرية ، ووجاهة الادعاء بأنه ينتمى إلى قبيلة المثقفين بكل ما لديها من تأثير على المواطن العادى . وقد تفلح السلطة فى السيطرة على المثقف بالترهيب الذى يصل إلى حد التصفية الجسدية ..
    ولأن السلطة حين تصاب بالرعب فإنها تتبنى الرعب ، فإن على المثقف أن يصمد ، وأن يناضل . أذكرك بمقولة غاندى " أفضل للإنسان أن يناضل بدلاً من أن يخاف " ..
    ......................................
    أدب ونقد ـ إبريل 2001 بإضافات .
    Reply With Quote  
     

  11. #23  
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    الصحافة .. والأدب
    .......................

    " ليتنى أجعلك تحب الكتب أكثر مما تحب أمك ، وليت فى استطاعتى أن أظهر جمالها أمام وجهك ، فالكتابة أعظم حرفة فى الوجود "
    من تعاليم الحكيم الفرعونى خيتى داووف

    ـ 1 ـ
    ربما اعتبر بعض الأدباء من الصحفيين وصف أساليبهم بأنها صحفية ، نوعاً من تهوين القيمة الأدبية . والحق أن همنجواى كان يعتز بهذه الصفة ، فأسلوبه بسيط . وكان يعتز بأنه تعلم من الصحافة : الموضوعية ، والإيجاز ، والوضوح . مع ذلك ، فإن قارئ الأدب يختلف عن قارئ الجريدة . قارئ القصيدة والقصة والرواية يختلف عن قارئ الحادثة والتحقيق الصحفى . وإذا كان قارئ الأدب يقرأ ـ غالباً ـ معظم ما تحويه الجريدة من مواد ، فإن قارئ الجريدة يكتفى بالنظرة العابرة إلى المواد الأدبية ، أو لا يلتفت إليها .
    سئل أرسكين كالدويل : هل العمل فى الصحافة يساعد أو يعوق كتابة القصة القصيرة ؟..
    أجاب : لا أعرف شخصاً واحداً أضرّ به التمرين على الكتابة من أى نوع . ان الصحافة ، فضلاً عن أنها تفيد فى التمرين الدائب على الكتابة ، فإنها تساعد أيضاً على تكوين عادة الكتابة كل يوم . إن انتظار الوحى عذر قلّما تجده لدى المؤلفين الذين تمرّسوا بالصحافة .
    وحتى الآن ، فإن جارثيا ماركيث يحرص على العمل فى الصحافة ، ذلك لأن الصحافة ـ فى تقديره ـ تحميه ، وتحرسه ، وتجعله متصلاً بالعالم الحقيقى . كانت الخبرات الصحفية ـ باعتراف ماركيث ـ وراء العديد من أعماله الروائية ، مثل قصة غريق ، حكاية موت معلن ، نبأ اختطاف . بل إن رائعته خريف البطريرك استلهمها من تغطيته لوقائع محاكمة شعبية لجنرال أمريكى لاتينى اتهم فى جرائم حرب ..
    تمنيت ـ منذ الصبا ـ أن تقتصر حياتى على كتابة القصة . لا تشغلنى شواغل أخرى من أى نوع . لكن الأمنية ظلت فى إطارها لم تجاوزه . لابد ـ لكى أكتب ـ أن آكل وأقرأ وأسكن فى شقة ، وأمتلك قلماً وورقاً ، ولابد ـ لتحقيق ذلك كله ـ أن أحصل على مال ، وحتى أحصل على مال ، فإنه يجب أن أعمل . وكان وقت العمل ـ الذى لم أحبه دائماً ـ هو المتهم دوماً فى السطو على الوقت الذى تمنيت أن يكون خالصاً للإبداع .
    تبلورت خططى القريبة فى ضرورة أن أظل فى عملى بالصحافة ، باعتبارها المهنة الأقرب إلى الكتابة الأدبية ، وأن أحصل منها على مورد يتيح لى تلبية احتياجات العيش ، فلا أنشغل بأعمال أخرى تنتسب إلى الكتابة ، لكنها قد تصرفنى عن القراءة والكتابة ، وأن ألزم نفسى بنظام صارم ـ مثلى فيه أستاذنا نجيب محفوظ ـ يحرص على الجهد والوقت . وأخيراً ، أن يكون لى بيت زوجية ، فلا تواجه مشاعرى العاطفية ولا الحسية ما يمكن أن أسميه بالتسيب . وهو الأمر الذى كاد يضيع مستقبلى جميعاً ، فى الفترة القصيرة التى أمضيتها فى بنسيون شارع فهمى ، أول قدومى إلى القاهرة . وهو ما سأحدثك عنه فى أوراق أخرى ..
    أذكر أنى مارست فى العمل الصحفى جميع أنواع الكتابة . كتبت الخبر والتحقيق والمقال والدراسة . أهب كل نوع ما يحتاجه من مفردات لغوية وصياغة وتقنية ، باعتبار القارئ الذى أتجه إليه فيما أكتب . وبالتأكيد ، فإن قارئ التحقيق الصحفى يختلف عن كاتب المقال الأدبى ، واللغة القصصية تختلف عن لغة الصحافة . أتاحت لى الصحافة أن أكتب فى كل الظروف ، لا أطلب الإضاءة الباهرة ، أو الخافتة ، ولا الموسيقا الخافتة ، وعلمتنى إلقاء الأسئلة ، واتصال التقليب فى المصادر والمراجع ، وإهمال التعبيرات التى لا معنى لها ، ومخاطبة قراء ينتمون إلى مستويات ثقافية مختلفة . كما يسّرت لى الصحافة سبل اقتناء الكتب التى تعجز مواردى عن شرائها جميعاً . فأنا أكتب فى صفحة أدبية . فى هذه الصفحة باب للكتب ، فأنا أكتب عن كل كتاب يهديه صاحبه ـ أو ناشره ـ للجريدة ، ثم أحتفظ به لنفسى ، وفى بريدى اليومى نصوص أدبية ما بين شعر وقصة ودراسات ، تطلب النشر فى الجريدة ، وهو ما يجعلنى فى حالة تواصل مع الكتابات الجديدة . وأتاحت لى الصحافة مجالات ربما لم أكن أستطيع أن أقترب منها فى الوظيفة العادية . سافرت إلى مدن وقرى داخل مصر وخارجها ، والتقيت بشخصيات تمتد من قاعدة الهرم الاجتماعى إلى قمته ، وبثقافات متباينة ، وإن لم يتح لى عملى فى الصحافة امتيازاً من أى نوع . كانت جيرتى للشيخ بيصار شيخ الأزهر الأسبق ، ولوزير سابق لا أذكر اسمه ، مبعث اعتزازى بأنى أجاور ناساً مهمين فى غياب أصدقاء من السلطة . وحتى لا أبدو فى موضع سىء الحظ ، فإنى أعترف بحرصى على الوقوف فى الطابور ، فضلاً عن عدم ميلى إلى مصادقة السلطة ، حتى لو تمثلت فى اكتفائى باجترار صداقات أتيح لطرفها المقابل بلوغ مراكز متفوقة فى السلطة . وكان عملى الصحفى ، الحياة فى الصحافة ، الأحداث والشخصيات التى تعرفت ـ بواسطتها ـ إليها ، وراء العديد من أعمالى الروائية ، بداية من الأسوار ـ روايتى الأولى ـ وانتهاء بزوينة ، مروراً بالنظر إلى أسفل وبوح الأسرار والخليج وغيرها . بل إن الصحفى هو الشخصية الرئيسة فى هذه الأعمال ..
    ـ 2 ـ
    قد ترضى الصحافة بالكاتب قاصاً أو روائياً أو شاعراً فى بعض الأحيان ، لكنها تريده صحفياً فى كل الأحيان . إنها تريده كاتب مقال أو تحقيق أو خبر إلخ .. مما يتفق مع وطبيعة العمل الصحفى الذى يعد الأدب ـ فى تقدير القيادات الصحفية ـ جزءاً هامشياً فيه . أصارحك بأنى نشرت روايتى " قلعة الجبل " فى الجريدة التى أعمل بها . نقلت المسودات على الآلة الكاتبة ، وصورتها ، ونشرتها فى جريدتى ، فلم أتقاض فى ذلك كله مليماً واحداً ، فى حين أن الزميل الذى يسبق الآخرين بخبر فى بضعة أسطر ، يتقاضى مكافأة تبلغ عشرات الجنيهات !.. انعكاساً واضحاً ، ومفزعاً ، للنظرة إلى العمل الأدبى ، قيمته ضمن مواد العمل الصحفى ..
    وكما يقول كونديرا ، فإن التفكير الصحفى تفكير سريع ، ولا يسمح بالتفكير الحقيقى . كما أن تصوره للعالم فى غاية التبسيط .
    أما تشيخوف ـ الذى عمل بالكتابة الصحفية زمناً ، فهو يقول : " أن يكون المرء صحفياً ، معناه على أحسن تقدير أن يكون وغداً " . وقيل إن الصحفى يكتب للنسيان ، أما الأديب فيكتب للذكرى .
    ـ 3 ـ
    الفن ـ الرواية والقصة على وجه التحديد ـ عالمى الذى أوثره بكل الود . أتمنى أن أخلص لهما ـ تجربة وقراءة ومحاولات للإبداع ـ دون أن تشغلنى اهتمامات مغايرة . لكن الإبداع فى بلادنا لا يؤكل عيشاً . ربما أتاحت رواية وحيدة فى الغرب لكاتبها أن يقضى بقية حياته " مستوراً " ، أن يسافر ويعايش ويتأمل ويقرأ ويخلو إلى قلمه وأوراقه دون خشية من الغد ، وما يضمره من احتمالات ، لكن المقابل المحدد والمحدود الذى يتقاضاه المبدع فى بلادنا ثمنا لعمله الأدبى يجعل التفرغ فنياً أمنية مستحيلة !.. من هنا كان اختيارى ـ الأدق : لجوئى ـ إلى الصحافة ، فهى الأقرب إلى قدرات الأديب واهتماماته ، وهمومه أيضاً .
    كانت قيمة الخبر ـ أذكرك بأن الفترة هى مطالع الستينيات ـ خمسة قروش . أما التحقيق أو الحوار فيصل إلى خمسين قرشاً . تسجّل المواد المنشورة فى دفاتر ضخمة ، أشبه بدفاتر الصادر والوارد ، وتجمع فى نهاية كل شهر ، ليتقرر ـ من مجموعها ـ مبلغ المكافأة الذى يتقاضاه كل محرر . وكان يتولى عبء التسجيل فى " الجمهورية " الزميل الراحل جلال السيد . أما كمال الجويلى فى " المساء " فإنه كان يسجل المواد المنشورة يوماً ، ويهمل التسجيل أياماً . ويعتمد فى نهاية كل شهر على تقديره الشخصى ، وكان على الدوام تقديراً متسامحاً وسخياً ..
    ومع أن من لا حقوق له ، لا مسئوليات عليه ، فإنى تحملت الكثير من المسئوليات دون أن أتمتع بحق واحد !
    كنت أعمل بنصيحة أرسكين كالدويل : " ليس كل الكتاب الذين تنشر أعمالهم محترفين . أعمال كثيرة جيدة كتبها كتّاب تحيط بهم ظروف قاسية ، كالعمل البيتى كل يوم ، أو الذهاب إلى العمل خمسة أو ستة أيام فى الأسبوع . الكتابة ، كهواية جمع الطوابع أو الصيد ، من الممكن أن تكون هواية ممتعة ، وقليل من جامعى الطوابع أو هواة الصيد يتركون أعمالهم "
    ومع تحفظى على " الصورة " فإنى أوافق على المعنى . فليست الكتابة مجرد هواية ممتعة كجمع الطوابع أو الصيد . إنها أمر يجاوز ذلك تماماً فى أهميته وخطورته ..
    كنت أتذكر المازنى العظيم وهو يجد فى كل ما يصادفه مادة صحفية ، بينما الفن ـ وحده ـ شاغله . كتبت فيما أعرفه ، واستعنت بالقراءة ومحاولة الفهم والاقتراب المباشر فى ما لم أكن أعرفه ، ووجدت فى حياتى الصحفية ـ أحياناً ـ ما يغرى بعمل أدبى ـ روايتى " الأسوار " ـ مثلاً ـ وروايتى " بوح الأسرار " لكن الأدب ـ على الرغم منى ـ ظل تزجية فراغ . أحاول الكتابة إذا وجدت فى أسوار الصحافة منفذاً ..
    أذكر كذلك قول المازنى لأحد الأدباء الذين عابوا عليه وفرة كتاباته : " ستقول إن المازنى كان بالأمس خيراً منه اليوم ، وإنه ترك زمرة الأدباء ، وانضم الى زمرة الصحفيين ، وإنه يكتب فى كل مكان ، ويكتب فى كل شئ ، حتى أصبح تاجر مقالات ، تهمّه ملاحقة السوق أكثر مما تهمّه جودة البضاعة .. أليس كذلك ؟.. ولكن لا تنس أن الأديب فى بلدكم مجبر على أن يسلك هذا السبيل ليكسب عيشه وعيش أولاده ، وليستطيع أن يحيا حياة كريمة تشعره بأنه انسان " ( الرسالة ـ العدد 842 ) .
    لذلك منيت النفس وأنا أرحب ـ متحسراً ـ بالسفر إلى سلطنة عمان للإشراف على إصدار جريدة أسبوعية ـ تحولت إلى يومية فيما بعد ـ بأن أدّخر فى الغربة ما يعيننى على الإخلاص للفن وحده ، لكن الأمنية ظلت فى إطارها ، لا تجاوزه . وكان لابد أن أكتب فى موضوعات تقترب من الفن أو تبعد عنه . وحتى لا أفقد ذاتى فى سراديب مجهولة النهاية ، فقد فضلت أن تكون محاولاتى أقرب إلى ما يشغلنى فى الفن ، وفى الحياة عموماً . وبصوت هامس ما أمكن فإن مصر ـ الموطن واللحظة والماضى والمستقبل ـ هى الشخصية الأهم فى كل محاولاتى الإبداعية . ذلك ما أحرص عليه ، وما لاحظه حتى القارئ العادى . تعمدت أن تكون مصر : تاريخها ، وطبيعتها ، وناسها ، ومعاناتها ، وطموحاتها ، نبض كتاباتى جميعاً . ما اتصل منها بالصحافة ، وما لم يتصل ، ما اقترب من الأدب وما لم يقترب . وكانت حصيلة ذلك كله ـ كما تعرف ـ عشرات الدراسات والمقالات التى تتناول شئوناً وشجوناً مصرية بدءاً من كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " مروراً بـ " مصر من يريدها بسوء " و " قراءة فى شخصيات مصرية " و " مصر المكان " إلخ .. وانتهاء بما قد يسعفنى العمر بإنجازه
    ـ 4 ـ
    أذكر السؤال الذى وجهه أحد تلامذة ريلكه إليه . قال التلميذ : ماذا يمثل الفن لديك ؟.. قال ريلكه : قم من نومك ليلاً ، والق على نفسك السؤال : هل إذا حجبت عنى فرصة الإبداع أموت ؟.. فإذا جاءت الإجابة نعم ، اعلم أنه ليس أمامك إلاّ السير فى طريق الفن ، ولا تعبأ بشئ !..
    وقد أعلن بيكسيريكور ( 1773 ـ 1844 ) يوماً " إنما أكتب لمن لا يقرأون " ، ذلك لأن ميلودراماته الفاقعة كانت تهدف إلى مخاطبة نوعيات تكتفى بالمشاهدة ، ولا تقرأ . أما أنا فقد كنت موقنا بأنى أكتب لغير أحد على الإطلاق .. فجريدتى كانت بلا قارئ . حتى الآلاف الذين كانت تسجلهم أرقام مبيعاتها لم يكنوا قراء منتظمين . كانوا " طيارى " ينادون على بائع الصحف إذا صعد إلى الأوتوبيس أو الترام أو المترو ، أو إذا دفع بالجريدة من نافذة السيارة .. ولكن هؤلاء القراء لم يكونوا يشعرون بغياب " المساء " إن لم ينشره البائع أمام أعينهم !.. تلك كانت مشكلة " المساء " . جريدة بلا قارئ . ومع هذا ، فقد ظللت أعانى ـ لأعوام ـ قلة فرص النشر فيها !..
    ـ 5 ـ
    ذلك الوضع الغريب الذى يجعل من الصحافة تابعة ، فهى لابد أن تصدر بتصريح ، وأن يصدرها أحد الأحزاب القائمة ، أو من خلال شركة مساهمة وفق قواعد تصعّب الأمور ، إلى حد الاستحالة ، أو تحصل على ترخيص من خارج مصر ، فهى تعامل معاملة الصحف الأدنبية ، وقد لا يسمح لها بدخول البلاد ..
    كان عام 1951 أزهى الأعوام فى تاريخ الصحافة المصرية ، حين صدر العديد من الصحف التى تعبر عن وجهات نظر متباينة ، وتخاطب القراء فى اهتماماتهم ومستوياتهم الثقافية . ولم يكن الأمر يحتاج إلا إلى أفكار وكتابات ومطبعة ..
    الإعلام فى توجهاته الصحيحة يحمل الثقافة إلى المجتمع الذى يخاطبه . هذه نقطة اشتباك مهمة ، وضرورية ..
    فإذا تحولت الصحافة إلى نشرات دعائية أو مبتزة ، فإنها تتحول إلى شئ لا صلة له بالثقافة ، إنما هى أقرب إلى أنشطة المافيا التى يبرأ منها المثقف والإنسان العادى فى آن ..
    المفروض أن العاملين فى الصحافة هم من المثقفين . لذلك فإنى أتصور أنه لو حدث توتر من أى نوع ، فسيكون بين الصحافة التى يحررها مثقفون ـ وبين السلطة . ولأن الثقافة سلوك وليست مجرد معرفة ، فإنى لا أعتبر هؤلاء الذين لا يعبّرون عن الضمير الجمعى للوطن الذى يحيون فيه . وأرجو أن يكون المعنى واضحاً ..
    إن محررى الصحف هم من المثقفين . وإذا كان البعض قد انشغل بقضايا لا تهم الجماعة المصرية ، فذلك استثناء وليس قاعدة ..
    أنا لا أتصور أن الممارسة الاستبدادية تأتى من المثقفين ضد أنفسهم فى الصحف التى يتولون تحريرها ..
    والحق أن الصحافة بالنسبة لمجتمعات العالم الثالث ـ ونحن ننتمى إليه ـ تستطيع ـ بل يجدر بها ـ أداء دور تثقيفى مهم فى ظل ارتفاع أسعار الكتاب ، وتدنى مبيعاته بالتالى ، وغلبة التفاهة على برامج الإعلام .. لكن الجوقة الإعلامية ـ فيما أرى ـ تقوّض الأسهل . وإذا كانت السينما ترفع شعار الجمهور عاوز كده ، فإنى أخشى أن هذا هو شعار الإعلام أيضاً .. ولا يخفى أن الكثير من صحفنا تلعب على الثالوث المثير : الدين ، الجنس ، السياسة ، باعتباره الوسيلة المؤكدة لتحقيق أفضل توزيع ..
    ـ 6 ـ
    ثمة عوامل قد تحول بين الصحافة الأدبية ، والدور الذى ينبغى أن تنهض به .. فهى لابد أن تراعى الغالبية من قرائها ، بالاقتصار على مقالات التعريف النقدى ، القليلة الصفحات ، أو القليلة الأسطر ، وعلى التحقيقات الساخنة وأخبار الأدب والأدباء ..
    وبالنسبة للصحف المتخصصة ، فعددها أقل من أن يستوعب الحركة الثقافية فى بلادنا ، بكل ما فيها من مواهب إبداعية ونقدية ودراسات للإنسانيات المختلفة ـ بارك الله فى مسئولى النشر الذين تدين لهم حياتنا الثقافية بفضل الإيقاف المتواصل لكل المجلات المتخصصة .. وليرحم الله الفكر المعاصر وعالم الكتاب والمجلة والكاتب وتراث الإنسانية ، ومجلات أخرى كثيرة تعجز الذاكرة عن حصرها ..
    ـ 7 ـ
    الشللية !.. الشللية !.. الشللية !..
    إنها المرض الذى استفحل فى حياتنا الأدبية فى الأعوام الأخيرة . أنت تنشر لى ، وأنا أنشر لك .. أنت تكتب عنى ، وأنا أكتب عنك .. لا يهم المستوى ، ولا الحصول على فرص فى النشر وفى التقويم النقدى ربما سواه أجدر بها منه . المهم هو تبادل المنافع والمصالح المشتركة والتربيط وجبر الخواطر . وللأسف ، فإن العدوى قد شملت مؤسسات ثقافية عديدة ، ومنها الجامعات ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية .. وليرحمنا الله !..
    ـ 8 ـ
    الآن ، فإنى أنظر ورائى أحياناً ـ وأسأل نفسى : كيف استطعت أن أحيا ، ولا أفقد نفسى خلال أعوام طويلة قضيتها فى تلك الغابة الجميلة القاسية المتوحشة المسمّاة : الحياة الصحفية ؟!.. كيف استطعت الحفاظ على تماسكى ومثلى العليا ؟.. كيف أفلحت فى الابتعاد عن المعارك الشريرة ، والإفلات بخسائر ـ أحمد الله أنها لم تكن فادحة ـ من " الزنب " و " المهاميز " والمؤامرات التى لا تنتهى ؟
    ............
    2002
    Reply With Quote  
     

  12. #24  
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    الواقــع .. والخيال
    ......................

    " الخيال .. ياله من شئ عجيب "
    بركن فى رواية " الطريق الملكى " لمالرو

    " إن أعظم مايمتلكه الإنسان هو الخيال "
    بورخس

    تعد مشكلة الفن والواقع قديمة متجددة ، سبق إلى تناولها ليسنج وديدرو وبيلينسكى وغيرهم ، وما تزال تجد اهتماماً لافتاً عند النقاد المعاصرين ..
    يجيب جيورجى جاتشيف على السؤال : ما الفن ؟ أهو تفكير فنى ، أو معرفة ، أم هو نشاط وإنتاج ؟.. يجيب بالقول : " إن جوهر المسألة كلها يكمن فى أن الفن يحوى فى ذاته هذين الشكلين من أشكال الوجود الإنسانى فى وقت واحد ، ولكن من البديهى أن الفن ـ فى مختلف مراحل تطوره ، وفى شتى أنواعه وأجناسه ـ يعطى المقام الأول لجانبه التربوى التغييرى تارة ، ولجانبه المعرفى الانعكاسى تارة أخرى " .. الفن يقدم للناس مرآة يستطيعون بواسطتها أن يروا أنفسهم فى الآخرين ، والآخرين فى أنفسهم ( ت . نوفل نيوف ) . ويقول أرنولد كيتل : " إن لب أية رواية هو ما تقوله عن الحياة " ، أو أنه " خلاصة رؤيته لما يحاول معالجته من الحياة " ( ت . لطيفة عاشور )
    مع أن الفن ـ على حد تعبير جاتشيف ـ لا يحتاج للاعتراف بمواده على أنها واقع ، فإن القارئ ـ فى العمل الإبداعى ـ يتوقع صورة للحياة ، أن يكون العمل مطابقاً للواقع ، والمبدع ـ فى المقابل ـ مطالب بأن يهب القارئ ما يمكن تسميته بالإيهام بالواقع . وكما يقول الأسبانى ثونثو نيغى فلكى تكون روائياً ، فإن عليك امتلاك القدرة على التخيل " . ويضيف كونراد إن حرية الخيال يجب أن تكون أقرب ما يملكه الفنان إلى نفسه . واللافت أن جائزة بلانتيا الأسبانية تعنى بالجانب الخيالى فى الإبداع ..
    إن الصدق الفنى لا يعنى النقل من الواقع ، فالخيال يضيف ويحذف ويقتطع ويشوه ، ليهبنا فى النهاية ما وراء الحقائق الظاهرة . الإبداع يهبنا الواقع ، لكنه ـ بقدر تميزه ـ يشعرنا أن ما قرأناه هو الواقع . وبتعبير آخر ، فإن الإبداع يضاهى الواقع ، وإن لم يكن هو الواقع . عناصر الخيال ليست ـ بالتأكيد ـ عناصر الواقع ، وعالم الفن ـ مهما يسرف فى استلهام الواقع ـ ينتمى ـ فى الدرجة الأولى ـ إلى الخيال . ثمة فارق بين الحقيقى فى الحياة ، والحقيقى فى الأدب . الكتابة لا تنقل الواقع بحذافيره ، بقدر ما تنقل اختيارها ، القسمات والملامح والأماكن والشخصيات والأحداث التى تجسد العمل الإبداعى وتثريه وتضيف عليه ، واقعها الخاص بها . الواقع الحياتى تصنعه الأقدار ، أو المصادفة . أما الواقع الفنى فهو ينتقى ويختار ما يتطلبه العمل الإبداعى ، دون زيادات ولا نتوءات ولا إضافة غير مبررة ، أو حذف غير مبرر . العمل الأدبى ليس هو الواقع ، ليس تقليداً ولا محاكاة للواقع ، وإنما هو إعادة صياغة للواقع ، وبتعبير أشد تحديداً هو خلق واقع جديد . أوافق جمال الدين بن الشيخ على أن " الواقعية لا تعنى أن يحاكى أثر أدبى ما ، الواقعى ، بل تعنى أن يصيّره " ( ت : محمد برادة وآخرين ) . الفنان الفنان هو الذى يستطيع تحويل الأشياء العادية ، الأحداث اليومية التافهة ، المشاهد التى نعبرها ، الثرثرات الحياتية البسيطة .. الفنان الفنان هو الذى يستطيع أن يخلق من ذلك كله إبداعاً حقيقياً . الفنان الفنان هو الذى يعتمد على موهبته ، وليس على المادة التى يطوعّها لعمله الإبداعى ، هو الذى يحيل الواقعة التافهة عملاً ينبض بالحيوية والفنية العالية . الفنان الفنان هو الذى يلتقط أية مادة ـ مهما تكن تافهة ـ فيحيلها إبداعاً يستحق القراءة ..
    مع ذلك ، فإنى أرفض أن يعتمد الفنان على موهبته ليغطى مادة تافهة . وكما يقول جوجول " كلما كان الشئ عاديا ، تطلّب من الكاتب موهبة أكبر ليستخرج منه غير العادى . أما باتوه Batteux [ 1713 ـ 1780 ] فهو يذهب إلى أن ما يجب محاكاته ليس حقيقة ما هو موجود ، بل حقيقة ما يمكن أن يوجد . أذكر أيضاً قول موريس باريس إن الفن هو " أن تنصت إلى ذاتك ، وأن تعبر بالتصوير ، أو القلم ، أو الموسيقا ، عما يضوع فى أعماقك . أما القديم والجديد فلا أدرى ماذا يعنيان " ..
    ***
    قيمة الخيال أنه حر . يحلق ، ويهبط ، ويسير ، ويقيم العلاقات ، ويصادق الإنس والجان والحيوان والطير ومخلوقات البحر ، ويتحدى المستحيل . إن حركته بلا آفاق ، بلا سدود من أى نوع . ما يبدو مناقضاً للواقع هو فى الخيال غير ذلك . هو واقع يتقبله المتلقى ، ويتفاعل معه ، ويحاوره ، ويستكنه منه الدلالات . بل إن التكنولوجيا ـ مهما تتقدم معطياتها ـ لن تجعل من كل خيال حقيقة ، ولا جميع أشكال اليوتوبيا ممكنة الحدوث . معنى ذلك ـ كما يقول الأسبانى كونكيرو ـ أن العالم سيوصد أمام صوت الخيال ، مما يفقده إلهامه ، فيظل جاهلاً بسحر الأشياء . حتى أينشتاين يؤكد فى كلمات حاسمة إن الخيال أهم من العلم .
    ظللت أحلم ـ وأتمنى ـ أن أكتب حكايات مشابهة لما كنت أستمع إليه من جدى وأمى ، ولا زلت أذكر معجزة الإسراء والمعراج كما قرأتها فى مجلة " الإسلام " التى كانت تضمها مكتبة أبى ، وأغنية أم كلثوم عن النيل ، من شعر شوقى وموسيقا السنباطى . كان الخيال يذهب بى إلى جزر بعيدة ، مأهولة بالسحر والفانتازيا والأسطورة . العفاريت والساحرات والجنيات والمعجزات والشياطين والنفوس التى تسعى لتبين عالم الغيب وطلاسم الآفاق التى تغلفها الضبابية . ولازلت أذكر حكايات جدى وأمى عن الرجل الذى " حمل " فى سمانة رجله ، والست ستنا اللى قصرها أعلى من قصرنا ، ومطالبتها بعنقود عنب لشفاء مريضنا الذى يعانى داء عضالاً ، وحكايات صندوق الدنيا المرافقة لتوالى الصور الثابتة .. ثم أطلقت العنان للخيال فى إمام آخر الزمان وما تلاها من إبداعات وظفت التراث ..
    ***
    كان يقين أينشتين أن الخيال أهم من العلم ، ومن قبله قال فيكتور هوجو إن الخيال هو العبقرية . ويعتبر إنريكى أندرسون إمبرت الأدب " أحد أنماط الخيال الإبداعى " ( ت . على إبراهيم منوفى ) . وثمة من يعتبر الرواية " قصة خيالية ، نثرية ، ذات اتساع معين " . بل إن الأدب هو الخيال فى تقدير البعض ( القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية 9 ) . وكما يقول المفكر الأسبانى خوسيه أورتيجا جاسيت Jose OrtegaYgasset : " إننا مهما بذلنا من جهد مضن فى معرفة الواقع بشكل موضوعى . لم نفعل شيئاً إلاّ أننا تخيلناه " . ويقول ألفونسو رييس Alfonso Reyes : " الأمر هو خيال لغوى يعبر عنه خيال عقلى ، خيال فى خيال : ذلك هو الأدب " . لكن الأعمال التى أستلهمها من الخيال يصعب إلا أن أضمّنها وقائع من سيرتى الذاتية ، ومن خبرات الآخرين ، ومن العصر الذى أحياه . العالم الإبداعى ـ قصة أو رواية أو أجناس أدبية أخرى ـ فيه الكثير من الخيال ، والكثير من الواقع أيضاً . يصعب أن يكون العمل الإبداعى خيالاً مطلقاً ، ويصعب كذلك أن يكون واقعاً مطلقاً . قد يتغلب الخيال ، أو يكتفى الفنان برصد الواقع . لكن الخيال يتدخل بصورة وبأخرى ، ربما لاعتبارات الفن فى ذاتها . ولعلى أضيف أن النظر إلى السيرة الذاتية باعتبارها كذلك ، لا يخلو من مثالية ، فالخيال قد يكون واضحاً ، أو مستتراً ، لكنه هناك ، وهو موجود فى كل الأحوال . وعلى حد تعبير همنجواى فإنه من الطبيعى أن يكون أفضل الكتاب كذابين ، جزء كبير من حرفتهم أن يكذبوا ، أن يخترعوا . إنه كثيراً ما يكذبون دون وعى ، ثم ـ فيما بعد ـ يتذكرون كذبهم بندم شديد . لكن الخطأ ـ فى تقديرى ـ فى تصور أن الخطأ هو الزيف ، أو الاختلاق ، أو انعدام الحقيقة ..
    العمل الأدبى عمل محاكاة بالمعنى الموسع . إنه يحاكى فعلاً ، وأيضاً يحاكى موقعاً متخيلاً . عالم الخيال الأدبى ـ كما يقول إنريكى أندرسون ـ هو العالم الوحيد الذى يمكن أن نقول عن الراوى فيه إنه قادر على معرفة كل شئ " ( القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية ـ 80 ) . ويقول هنرى جيمس : " إن بيت العمل الخيالى ليس له نافذة واحدة ، بل مليون نافذة ، وعدد لا حصر له من النوافذ الممكنة " ( ت . حامد أبو احمد ) .
    (يتبع)
    Reply With Quote  
     

Similar Threads

  1. Replies: 0
    Last Post: 31/05/2012, 01:09 PM
  2. Replies: 0
    Last Post: 07/07/2011, 11:01 PM
  3. Replies: 0
    Last Post: 04/05/2011, 10:38 PM
  4. مع الروائي محمد جبريل
    By د. حسين علي محمد in forum قضايا أدبية
    Replies: 54
    Last Post: 21/08/2008, 09:02 PM
  5. كتاب .. "زواهر الفكر وجواهر الفقر" .. لابن المرابط ...
    By أبو شامة المغربي in forum مكتبة المربد
    Replies: 0
    Last Post: 01/02/2007, 12:45 PM
Posting Permissions
  • You may post new threads
  • You may post replies
  • You may not post attachments
  • You may not edit your posts
  •