(( مطالبة الاستعمار بسداد فواتير الاستغلال
======================

هل يمكن للدول المدينة التي ذاقت الاستعمار أن تطالب هذا الأخير بأداء فاتورة استغلاله لها طيلة فترة الاستعمار؟
إن الدول المدينة غالبا ما تم تكبيلها بالديون من أجل السيطرة على اقتصادياتها وسياسياتها، وهذه الدول المستعمرة ـ بكسر الميم ـ تعي جيدا ما تفعله، فقد غيرت أسلوب استعمارها من الاستعمار التقليدي إلى الاستعمار الحديث، فانخدعت له الشعوب لما فيه من مغالطات، أضفت عليه طابع الشرعية من خلال الاستعمار المؤسساتي والسياسي والتعليمي والاقتصادي..
هذا الاستعمار يأخذ مقدرات الشعوب والدول ويضعها رهن إشارته، يستطيع إفقار الناس، يستطيع تأليب القاعدة على القمة، يستطيع إطالة أمده، وفي أواخر القرن العشرين طلع علينا بجديد قديم وقديم جديد يتمحور حول العولمة، وهي عولمة حضارية، وبما أنها كذلك، فهي إذن اقتصادية وسياسية وتعليمية وإعلامية..
والدول التي تعاني من الديون الخارجية وتعاني الحيف والظلم حين تُسيَّر من طرف المؤسسات "الدولية" والدول المؤثرة في الموقف الدولي، حين تنقاد كالبعير للضغوطات الخارجية فتضر بذلك شعوبها، حين تستمرئ العمالة والتبعية بغية إرضاء الاستعمار فقط من أجل الحفاظ على المناصب والكراسي.. حين تفعل هذا وهي مستعدة لفعل ما هو أقبح وأفظع، فإنها تؤكد بذلك عدم رشدها، وعدم أهليتها للقيادة وتحمل المسؤولية، وعليه يجدر بها ولو مرة واحدة أن تقف موقفا مشرفا كأن تفتعل قضية الديون الخارجية من منظور معقول، ومنطق مقبول إلا لدى الاستعمار، فهذا الدائن الذي أقرضها ما هو إلا لص من جهة كونه استعمرها في فترة ما، أو استعمر شعبا مسلما في أي بلد كان من باب إحساسها أنها جزء من كل، ثم مطالبة الدائنين بشرط الاستعمار في الماضي أو الحاضر بعد تهييئ الفواتير بأداء المستحقات عليهم، وهي كبيرة جدا، بل وخيالية، يقوم المدين بعمل حسابي يأخذ أيام الاستغلال إبان الاستعمار بالشهور والسنين ويضع أرقاما ثمنا للاستغلال عن كل يوم، ثم يطالب بأدائها كاملة غير منقوصة..
فإذا كانت الجزائر مثلا قد استُعْمرت 132 سنة، فإن معدل الاستغلال عن كل يوم في ظرف قرن وثلاثة عقود وسنتين يصل إلى ستة وتسعين مليار وثلاثمائة وستين مليون دولار ( 96.360.000000 ) وذلك بنسبة مليونين من الدولارات عن كل يوم استعماري، وهذا المبلغ إذا ما قورن بالدين الخارجي للجزائر والبالغ 26 مليار دولار أو يزيد قليلا، فإنه لا يكاد يظهر مع المستحقات التي للجزائر على فرنسا مثلا.
وإذا كان المغرب قد استعمر من فترة 1912م إلى غاية 1956م أي ما معدله 44 سنة، فإن الحساب يعطي اثنان وثلاثون مليار ومائة وعشرين مليون دولار ( 32.120.000000 )، وهذا الرقم يفوق ديون المغرب الخارجية بأكثر من عشرة مليارات من الدولارات..
هذا من جهة مع ضرورة اللجوء إلى الخبراء لتقييم مبالغ الاستغلال الحقيقية.
وأما من جهة أخرى، جهة قفز فصيح ومطالبته بتغيير وجه التاريخ، وذلك كأن يقول بأن المسلمين حين فتحوا البلدان كانوا ممارسين لشكل من أشكال الاستعمار مما يترتب عليهم هم أنفسهم المطالبة من طرف الغير بأداء فواتير الاستغلال وهي بالقرون الطوال وليس السنين أو العقود، حين يقال ذلك يُردُّ عليه بأن الشعوب التي تم فتحها واستقطابها للمبدأ الإسلامي صارت مسلمة حين اعتنقت عقيدة التوحيد وصدقت نبي الهدى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه، كما أنها لم تعرف رجوعا عن الإسلام، فلم يثبت تاريخا أن ارتد شعب عن الإسلام، وعليه لا خوف ولا ضجر حتى من الاستجابة لمثل هذا القول، يبقى شيئ واحد هو عدم الاستجابة لإجراء استفتاء بشأن ذلك لأنه مضيعة للوقت، وتضليل سياسي..
إذن على الدول والشعوب المدينة أن ترفض أداء الديون المستحقة عليها، لأنها ليست ديونا أولا، وإن كان ولا بد وجب إسقاطها رأسا والمطالبة بأثمنة الاستغلال التي مارسها الاستعمار ثانيا.
إذا سار العالم على سياسات سليمة ومفاهيم نظيفة لا يخطئ الطريق المؤدي إلى السعادة، ولكنها سعادة أو طمأنينة دائمة في جزئية واحدة أو اثنتان أو أكثر، ولكن السعادة الحقيقية والتحرر الحقيقي يجب أن يكون في الاقتصاد والسياسة والتعليم والحكم والقضاء والداخلية والحارجية..
إن تحرير المستقبل من الماضي ولو أنه ممكن التحقيق في الجزئيات التي ناقشناها، في الاقتصاد مثلا، إلا أنه يظل تحريرا منقوصا ما لم يأخذ الحياة كلها، يأخذ العقائد والمفاهيم والأنظمة حتى يتغر وجه العالم البغيض هذا.. )).
---------
نقلا عن كتاب: وجه العالم في القرن الحادي والعشرين ( دراسة مستقبلية للمؤسسات الدولية المالية والاقتصادية والسياسية ) صفحة: 80 ـ 81 ـ 82 ـ 83. المؤلف: محمد محمد البقاش. الطبعة الأولى جمادى الثانية 1420 هجرية شتنبر 1999 م. الإيداع القانوني 462/98. السحب: مصلحة الطباعة، طنجة.