كن عاقلا يا حبيبي! !

قصة قصيرة، بقلم: طه وادي
...................................

كانا يجلسان- على صخرة في الناحية الشرقية لهرم خفرع- مثل جزيرة نائية في محيط لا ضفاف له. تأمل-في حسرة ولوعة- عينيها الصافيتين.. تشعان بالأمل والحب، وسط وجه أبيض رقيق رشيق، مشوب بحمرة هادئة عند الخدين. نظر إلى الصحراء المترامية والجموع المحتشدة. زحمة يا دنيا زحمة..! ! كانت شاردة مثل ملاك مطارد، هبط فجأة إلى عالم العفاريت الزرق. ضاع الكلام.. وعجز اللسان، وتبادلت العيون النجوى. لغة اللسان لغة مألوفة. البلاغة كلها في سحر العيون.. العيون التي تعرف الطريق. أحسا-معا وفي لحظة واحدة-أنهما لو بقيا أكثر فسوف يصبحان مثل الصخرة التي يجلسان عليها. سارا متشابكي الأيدي.
- كل مرة أقول لك يا حبيبي مكان المرأة دائما على يسار الرجل، لكنك..
- ما دخل اليسار واليمين في علاقتي بك؟ يكفي أن أكون بجوارك.
حينما مشت بجواره، أحس نشوة ملائكية سرت في كيانه. تذكر أمراً يحول بينها وبينه، وبالقدر الذي يوجد فيه أمر، يحول بينه وبينها.
- منى.. ماذا فعلت مع ماما؟
- أحمد..أحبك..أحبك.
استعادت حديث أمها معها بالأمس.
- ما نهاية حكايتك معه؟
- لم تسأليني عن أمر تعرفين رأي فيه؟
- جيل آخر زمن.. تمارسون الحب كما تشاءون بكل استهتار وتطلبون منا في النهاية الموافقة دون قيد أو شرط، كأننا مدعون.. ولسنا الأهل.
- أنا التي سوف أتزوج.. هذه حياتي أنا يا أمي، لم تغضبين، وتنغصين حياتي وحياتك بلا سبب؟.
- لم مات أبوك وتركني وحدي للهم؟ !
الأم تريد أن تزوجني من جارنا المعلم سليمان.. أو الحاج سليمان كما يسمونه هذا الأيام، تاجر قد الدنيا، يملك مصنع أحذية.. ومحلا لبيعها. عنده شقة وعربية.. ورصيد في البنك بالعملة المحلية والحرة. زحمة يا دنيا زحمة..! ! لن أتزوجك يا ابن الحذاء، بل إني لو كنت متزوجة منك لهربت إليه.. إلى أحمد حبيبي.. يهيأ لي أنه لو خرج من حياتي لاهتزت الأرض، وانتقلت القاهرة مكان الإسكندرية، وغاصت الإسكندرية في البحر.. وجاء الطوفان. تجار السوق السوداء والزرقاء شوهوا القيم وخربوا النفس. بالحب وحده يا أحمد ترى الدنيا بعيون بيضاء وقلوب نقية! !
- لماذا لا تجيبين على سؤالي؟
- ألا يكفي أنني معك؟
أدرك سر صمتها. ما فائدة الكلام..؟ ! أمها مثل أبي، فهو أيضا غير موافق، وأقسم بكل الأيمان ألا تدخل منى بيته. يا ابني، لعب الأطفال-هذا الذي تسمونه الحب-شيء.. والزواج شيء آخر. الزواج مسئولية وفتح بيت. ألم تفكر كيف ستفتح بيتا بالخمسة والأربعين جنيها التي تقبضها.
اقترب منهما شرطي من شرطة السياحة. أخذ يحملق فيهما بقدر من الريبة. اقترب الشرطي أكثر.. فاضطر إلى أن يترك يدها، وأن يسيرا في صمت، كأنهما في جنازة. في اللحظة ذاتها التي أولاهما الشرطي ظهره، طبع على خدها قبلة حارة سريعة.
- الناس يا حبيبي.
- ما شأنهم بنا؟
- على الأقل يحسدوننا.
- ألا تؤمنين بالحرية؟
- لا تنس أننا فيمكان عام! !
- أميت نفسي، هذه الدنيا العريضة لا نجد فيها مأوى حتى في الصحراء.! !
الزحام.. تلوث البيئة.. السمن الهولندي.. الفراريج الدينماركية.. لحم الهامبورجر.. اللبن البودرة.. ملابس تايوان.. بضاعة اليابان، كل هذه الأمور جاءت-من الباب المفتوح على آخره-وجاء معها صداع، لا يزيله أي نوع من الإسبرين. صداع هذه الأيام صداع إجباري، تصرفه إدارة القوى العاملة أو العاطلة لكل حامل شهادة يقف في الطابور.
منطقة الأهرام-يوم السبت 26 ديسمبر 1979-احتشدت بناس من كل الدنيا. خيل له لحظة أنهم جاءوا يشهدون أزمته، ويسخرون منه. أحس أنه ثقيل الظل حتى على نفسه.. كيف يفر بخواطره بعيدا.. بعيدا عن منى؟ أشعة الشمس أزالت كل أثر لبرودة طوبة. كانت في نظره مثل يمامة تعبت من السير والسرى في صحراء الحياة. تمنى أن يأخذها ويطير. أمسك يدها بحنان.
- أحبك يا منى.
- الحمد لله.. أبو الهول نطق!
- آسف يا حبيبتي.
- لا تعتذر عن أمر، لست مسئولا عنه.
فجرت ينابيع الأحزان من جديد داخله. تصوري يا منى أبي العزيز يساومني؟ ! إذا تزوجت ابنة رئيسه في العمل فسوف يساعدني في كل شيء.. وإذا تمسكت بك فسوف يحرمني حتى من النصيحة.. ومن رضاه علي..! ! لم أكن أود أن أكون ابنا عاقا، لكنه يدخلني في صراع غير متكافىء. نحن في عصر القهر والكبت يا منى. صعب أن نقول (لا) في هذا الزمن المر. في عصر الآلة مطلوب من الإنسان أن يكون آلة أخرى، لا يفكر.. لا يقول رأيه.. لا يختار ما يريد. الصين اقتربت من أمريكا، والسعودية تعاملت مع روسيا. الإنسان وصل إلى السماء، ونزل إلى أعماق البحار، لكن صعب..صعب جدا يا منى أن يصل إنسان إلى أعماق آخر. عصر الدجاج المجمد.. واللبن البودرة.. والصداع الذي لا يزيله أي مسكن. زحمة يا دنيا زحمة! ! إيه يا مصر.. هذه ليست أول محنة. تخيل النبي يوسف.. والبقرات العجاف.. والبقرات السمان. لكنه أدرك أنه في عصر آخر.. عصر البقرة الضاحكة.. ها ها. زحمة يا دنيا زحمة. ها ها.
أفسد عليهما سحر الصمت والنجوى بائع متجول.
- جعران يا أستاذ من أجل الهانم.. ذكرى. أنظر يا باشمهندس.
- بكم؟
- خمسة جنيهات فقط، من أجل الهانم، ربنا يخليها لك يا دكتور.
- يا بني آدم.. أنا لا أستاذ ولا مهندس ولا دكتور، ابعد عني! !
- لكن الهانم معجبة به.. انظري يا هانم سوف يحرسك من العين بإذن الله.
تخيل البائع في هيئة ذبابة زرقاء. انتزع الجعران من يده، وقذف به بعيدا.. بعيدا. كأنما يريد أن يدخل في معركة معه. تداركت منى الموقف بسرعة، وأخرجت جنيهين كانا في حقيبتها، وأعطتهما للبائع، فمضى في صمت، بينما نظرات عينيه تقول أشياء كثيرة..! !
أحس أنه بعير أجرب وأن الفقر يطارده في كل مكان. ضاقت الدنيا واسودت. لا أمل.. لا فائدة. من يحارب.. وبأي سيف.. وهو ضعيف مسكين! ؟ تجمع صداع الكون كله في رأسه. زحمة يا دنيا زحمة. لا يدري كيف أطلق ساقيه للريح.. وأخذ يجرها معه، كأنما يريد أن يهرب بها من الدنيا . أخذ يجري.. وتجري.. يجري.. وتجري. كلما حذرته من أنها لا تستطيع الجري مثله، لم يتكلم ولم يكف عن الجري، يجري.. ويجري.. ويجري وهي تحاول اللحاق به. غاصت قدماها في الرمال، فوقعت متهالكة بالقرب من هرم منقرع.
انكشفت الغمة عن ناظريه، وبدأ يفيق. لقد تعب كثيرا.. وأتعبها معه أكثر. تأمل وجهها، كأنما يراه لأول مرة. لم يعبأ بالرمل الذي علق بثوبها أو تطاير على وجهها. عاود النظر إليها وهو يساعدها على النهوض والقيام، وإزالة آثار الرمال. ما تزال الريح تعبت بشعرها الأسود المسترسل. وجه منى شع حبا وأملا وثقة. ازداد أمانا بها واحتراما لحبهما. الحب ليس عاطفة مجردة، أنه رغبة عنيدة في الخلق والوجود، من أجل أن تستمر الحياة. لابد أن تكون شجاعا. هذه لحظة تحد من أجل الخلق والوجود. زحمة يا دنيا زحمة. لا بد أن نبحث عن أمل رغم الزحام والصداع والسوق السوداء والزرقاء.
- أتقبليني زوجا يا منى؟
- اتفقنا على هذا منذ سنوات.
- إذن هيا بنا.
نظرت إليه في دهشة: إلى أين؟
أجاب وهو يمسك يدها بقوة: إلى المأذون فورا.
- وكيف نعيش؟
- الحب يصنع المعجزات.. إذا لم نجد مأوى في بيت أبي أو أمك فسوف..
ما زالت تنظر إليه في دهشة، غير مصدقة ذلك التغير الهائل الذي حل به.
- سوف ماذا؟
- سوف نبني عشا على أي سطح.
- والناس؟
- لا دخل لنا بهم، لا دخل لهم بنا.
- هناك أشياء أخرى.
- مثل؟
- الشبكة.. والمهر.. والجهاز.. والفرح..
- الدنيا يجب أن تتغير. كل شيء يمكن تأجيله أو تعديله إلا نداء الحب ! !
قالت وهي تشد يده، كأنما تريد أن توقظه من حلم:
- كن عاقلاً يا حبيبي! !
فردّ، وهو يحكم وضع كفها بين كفيه:
- ولم لا أجرب الجنون؟ !