مقدمة في شعر حسين علي محمد (1)

بقلم: أ.د. طه وادي
........................

من الظواهر الصحية لدى الشباب المثقف اليوم أن هموم الحياة لا تؤثر في عزائمهم، ولا تجعلهم يستسلمون أمام الضغوط الهائلة التي تحول دون التحام الفرد بالجماعة، والتي تسلبه ـ أحياناً ـ كل قدرة على التوافق حتى مع ذاته، ومن ثم تتحوّل هموم كثير من هؤلاء إلى توتر خلاق في محاولة لشجب الاغتراب، ونفي كل عوامل القهر والسلب التي تحول دون سعادة البشر على المستوى العام والمستوى الخاص.
وتعكس المجموعة الشعرية "انتظار التي لا تجيء" لحسين علي محمد هذه الحقيقة بصدق ووضوح، تقرؤها فتحس أنك أمام شاب يستقطب أزمة جيل في الإحساس بتكاثف كل عوامل القهر المادي والمعنوي أمامه، وبسبب من هذا التكـاثف الأسود للضغوط تكاد تُحس ـ وهذا ما لا نُوافق شاعرنا عليه ـ أنه بـدأ يستسلم، ويُلقي السلاح .. أكثر من هذا لقد بدأ يحس الموت يسري في أوصاله وهو حي:
لا قمر في حدائق الشتاء
لا حبة من ضوء
فلتغلقوا الأبواب
فلتغلقوا الأبواب
أشعر أنني
أموت في العراء
وإذا ما تساءلنا عن سر اغتراب الشاعر واستسلامه هذا لقوى القهر المحيطة به، فإننا يمكن أن نرد هذا إلى عاملين كبيرين، أحدهما عام، والآخر خاص مترتب عليه.
العامل الأول المسبب لاغتراب الشاعر ـ كما تعكس ذلك هذه المجموعة ـ هو: عدم الإحساس بالأمان والعدل، يُضاعفه الشعور بالعجز عن استرداد كل الحقوق المغتصبة، وهذا ما تؤكده قصيدة "دموع من أورشليم":
كرامتنا أريقت في أكفهمو
وهمْ يلهون
يبيعونَ القضيةَ بالجنيْهاتِ
فقُمْ معنا
ففي أُذنيَّ صوتُكَ منْ وراءِ الغيبْ
يُناديني ،
يُفتِّتُ في جراحاتي:
أضاعوني
وضاع دمي
أضاعوني
وفي أعناقهمْ ثاري
والشاعر في معرض التعبير عن هذه الفكرة يستلهم أرواح أصحاب المآسي الحزينة في تراثنا مثل يوسف الصديق، وياسين الصريع ـ حبيب بهية ـ وأبي فراس الحمداني، وابن الرومي. والشاعر يُحاول أن يُنطق كل شخصية من هذه الشخصيات بجانب من جوانب المأساة العامة التي تعتصر شباب جيله، لترسم في النهاية صورة لكل ما يُعاني منه.
العامل الثاني الذي سبّب اغتراب الشاعر في هذه المجموعة، أنه أمام كل هذه الضغوط بدأ لا يتعاطف مع أمه التي أنجبته إلى هذا العالم الكئيب:
أأنتِ التي ..
نذرتني للشمس منذ الولادهْ
وأنتِ التي ..
عرَّيْتني في طرق الصمتِ والبلادهْ
وأنتِ التي
ذبحتِني
وبعْتِ لحمي في القرى ..
وفي النجوعِ والدَّساكرْ؟!
أكثر من هذا، لقد أصبحت هذه السلبيات كلُّها تحول دون استمتاعه بالحب، وتُعجزه عن أن يسعد بالحبيبة:
فلا تنسَوْا حكايتَنا .. أحبائي
وليلةَ عُرسِنا المأمولْ
فياكمْ قدْ سهرتُ أعانِقُ المجهولْ
وأبذُرُ حبَّنا في أولِ الفجرِ
فيُنبِتُ في الأصيلِ لنا ـ ويا للهوْلِ ـ
خفقَ شُعاعْ !!
أموتُ هناكْ
وأغمسُ أصبعي في الدَّمْ
وأكتُبُ فوْقَ هامِ الموْجِ:
"ذاتَ صباحْ
رأيتُ الحبَّ مشنوقاً
على بابي" !
أمام هذا الاغتراب العام والخاص كان من المحتَّم أن نجد الموسيقى عند حسين علي محمد جنائزية خفيضة رقيقة مُوقَّعة، كأنها موكب خلف نعش ميت!
ولعل ما يؤكِّد هذا أيضاً كثرة مراثيه في هذه المجموعة الصغيرة، وهذا ما يُفضي بنا إلى القول إن موسيقى شعر حسين علي محمد تنبع أساساً من مضمونه الفكري.
أحياناً قليلة ونادرة نحس أننا أمام شاعر تشع من قصائده روح التفاؤل والأمل المضيء، وهذا ما نتمنّى أن يكون سمة عامة له في شعره القادم، فالشاعر شاب ريفي يحمل عراقة أرض مصر التي لا تعرف اليأس والاستسلام، ومن هذه الومضات المشعة بالأمل المقطع الأخير من قصيدة "طائر الرعد":
.. ويُنادي طيرُ الرّعدِ بصوْتٍ باك:
لا تقلقْ
فالبابُ هو البابْ
وغداً
يتركهُ الحجّابْ
وغداً
سيعودُ الأحبابْ
وأخيراً؛ فإن هذه هي بعض السمات العامة لشعر شاعر شاب جاد في أول الطريق، ونتمنّى أن يكون وتراً فنيا يُضاف إلى قيثارة الشعر العربي الحديث، كما نتمنّى أن تكون أشعاره طاقات أمل، وإشعاعات هدى تُضيء الطريق للغد المشرق.
طه وادي
...........................................
(1) ألقاها الدكتور طه وادي في الجمعية الأدبية لطلاب جامعة القاهرة (يونيو 1972م)، ونشرت في "الثقافة الأسبوعية" الدمشقية العدد 9 في (4/3/1978م) كما نشرت في "أخبار الأسبوع" الأردنية، في 25/5/1978م.