صفحة 1 من 6 1 2 3 4 5 6 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 12 من 68

الموضوع: مع رجاء النقاش

  1. #1 مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    1 ) الثلاثة الكبار الذين قدمهم النقاش في حديث عنه
    .................................................. ..............

    أثيرت في هذه الصفحة الثلاثاء الماضي ــ ضمن التحقيق الصحفي الذي تحدث فيه جيل النقاش عن فضله ــ مسألة تقديمه لثلاثة من أكبر المبدعين العرب‏,‏ وهم بالترتيب الزمني لما كتبه النقاش عنهم‏:‏ أحمد عبد المعطي حجازي‏(1959)‏ ثم الطيب صالح ومحمود درويش في الستينيات‏.‏
    وهذا الأسبوع تنشر أدب كلمات هؤلاء الكبار الثلاثة الذين اكتشفهم النقاش عنه‏,‏ بعد ان استكتبتهم من القاهرة ولندن وعمان‏.‏
    شعري ومقدمة رجاء مشروع مشترك
    أحمد عبدالمعطي حجازي
    من المؤكد أن مقدمة رجاء النقاش لديواني الأول مدينة بلا قلب هي التي قدمتني لقراء الشعر‏,‏ فأنا مدين لها بالكثير‏,‏ لكن بوسعي أيضا أن أقول إن رجاء النقاش مدين لهذه المقدمة بما يساوي ديني لها‏.‏ فهي التي قدمته لقراء الشعر وقراء الأدب كناقد مثقف قادر علي التقاط الملامح الجوهرية المميزة وتفسير ما فيها من جمال وكسب ثقة القارئ وإقناعه بما يقول‏.‏
    نعم‏,‏ رجاء النقاش ناقد حقيقي‏.‏ والناقد الحقيقي هو الذي يستطيع أن يتسلل إلي داخل النص ويعرف كيف تشكل‏.‏ الناقد الحقيقي هو الذي يتقمص شخصية الكاتب أو الشاعر ويتمثله لحظة إبداعه ليعرف كيف أنشأ ما كتب أو ما نظم‏,‏ ومن المؤسف حقا أن يختفي هذا الصنف من النقاد وأن يتكأكأ علينا من يعجزون عن الاقتراب من الشعر والانفعال به والتغلغل في متاهاته‏.‏
    لكن رجاء النقاش لم يقتصر دوره في ديواني الأول علي كتابة مقدمة له‏.‏ لقد نظمت معظم قصائد الديوان بعد أن تعرفت عليه وتوثقت صلتي به‏.‏ قصيدة واحدة في الديوان أو قصيدتان نظمتا قبل أن ألقاه أول مرة في أواخر عام‏1955,‏ يوم ذهبت إلي قهوة عبدالله في ميدان الجيزة لأقدم نفسي للناقد أنور المعداوي‏,‏ الذي كانت ندوته في القهوة تنعقد كل مساء بحضور مجموعة من أصدقائه ومريديه‏,‏ منهم رجاء الذي لم أكن قرأت له أو سمعت عنه من قبل‏,‏ وبقدر ما ظلت علاقتي بمعظم أعضاء الندوة محصورة في الندوة‏,‏ تحولت علاقتي برجاء فتجاوزت حدود الندوة وأصبح لقاؤنا اليومي أساسا في تلك المرحلة الحاسمة من حياتي‏.‏
    كنت في العشرين من عمري قادما لتوي من ريف الوجه البحري أبحث عن عمل في صحافة القاهرة‏,‏ بعد أن نشرت لي بعض المجلات عددا من قصائدي الأولي‏,‏ وكان هو في الحادية والعشرين يطلب اللغة العربية وآدابها في جامعة القاهرة ويراسل مجلة الآداب البيروتية‏.‏
    ولاشك أن مواهب رجاء لفتت إليه بعض الأنظار‏,‏ لكنه حين التقينا كان لايزال بعيدا عن دائرة الضوء‏.‏ وكنت أكثر بعدا وإن كانت قصائدي الأولي قد لفتت إلي أنا الآخر بعض الأنظار‏.‏ في تلك اللحظة صرنا صديقين حميمين‏,‏ أكتب القصيدة فيكون أول قارئ لها‏,‏ ويكتب الرسالة فأقرأها وأقرأ ما بين السطور‏.‏
    لقد كتبت إذن ديواني الأول في دفء هذه الصداقة‏.‏ وفي هذا الديوان قصيدة عنه‏,‏ وأخري مهداة إليه‏.‏ وهو إذن لم يكن مجرد كاتب مقدمة لهذا الديوان‏,‏ وتلك حقيقة يلمسها قارئ المقدمة‏,‏ إذ يجد أن الناقد قد تقمص روح الشاعر وتكلم بلسانه‏.‏ من هنا أقول إن ديواني الأول بمقدمته كان مشروعا مشتركا للشاعر والناقد معا‏.‏ كان شعرا جديدا‏,‏ وكان بيانا شعريا جديدا‏.‏
    في هذه المقدمة التي تقع في أكثر من ثمانين صفحة شخص رجاء عالمي الشعري بوصفه تعبيرا رمزيا عن مرحلة فاصلة في تاريخنا الحديث‏.‏ ويمكنني أن أشبه الدور الذي لعبته هذه المقدمة في حركة تجديد الشعر العربي‏,‏ بالدور الذي لعبته مقدمة وردزورث لديوانه الأقاصيص الشعرية في الحركة الرومانتيكية الانجليزية‏,‏ ومقدمة فيكتور هيجو لمسرحية كرومويل في المسرح الفرنسي الرومانتيكي‏.‏
    محمود درويش
    من الحب القاسي إلي نقيضه القاسي
    محمود درويش
    تحتفظ الذاكرة بما تنتقي‏,‏ وكالنقش في الحجر تبقي مجموعة الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي الشعرية الأولي مدينة بلا قلب جزءا من ذاكرتي الشعرية فيها تعرفت إلي شعر جديد طازج لا يشبه شعرا آخر‏.‏ وفيها ايضا تعرفت إلي قراءة نقدية سخية الاحتفاء بهذا الشعر الجديد المبهر‏:‏ هي المقدمة الاحتفالية التي كتبها ناقد جديد هو رجاء النقاش‏.‏
    من هذه المقدمة العلامة في العلاقة بين حركة الشعر العربي الحديث وقراءته الحديثة‏,‏ بدأت علاقتي برجاء النقاش‏.‏ عن بعد شفاف أتابع كتاباته بشغف المتعطش إلي الاطلاع علي مشهد الأدب العربي الجديد‏,‏ حيث أقام رجاء النقاش مرصدا للتبشير والاحتفاء بالمواهب الشابة‏,‏ وكصياد لؤلؤ ثاقب‏,‏ احتفل رجاء برائعة الطيب صالح موسم الهجرة إلي الشمال التي شغلت جزءا من ذاكرتي الروائية‏.‏
    قبل أربعين عاما‏,‏ عندما كنت شابا خاضعا للاقامة الاجبارية في مدينة حيفا‏..‏ لم أتخيل أن شبكة رجاء النقاش ستعثر علي وعلي زملائي‏,‏ وتنتشلنا من عتمة العزلة والحصار‏.‏ كان يمكن لي أن أفرح بمقالة تنبئ القارئ العزيز بأن هناك خلف الأسوار شعبا أسيرا فيه شباب يكتبون شعرا مختلفا عما سببته هزيمة يونيو‏1967‏ من احباط عام للشعر والشعراء في العالم العربي الجريح‏.‏
    لكن رجاء النقاش فاجأني بأنه كرس لي كتابا كاملا ابهجني وأحرجني‏,‏ ابهجني لانه أسهم مع غسان كنفاني ويوسف الخطيب في فك الحصار عن اسمي الشعري المبتدئ‏.‏
    وأحرجني لأنه لم يخضع محاولاتي الشعرية الأولي لمعايير النقد العامة‏,‏ ومنحني من الكرم الأدبي ما قد يعيقني عن تطوير موهبة الشك الذاتي فيما أكتب‏.‏
    آنئذ صارت لظاهرة شعر المقاومة حصانة أخلاقية تضفي علي الشعر الفلسطيني وبلا تمييز احدي صفات القداسة‏,‏ وتحرم النقد من التعامل مع مستواه الجمالي‏.‏ كان ذلك حبا‏.‏ فان الكثيرين من العرب قد وجدوا في الظاهرة الفلسطينية الصاعدة تعويضا معنويا عن هزيمة يونيو‏.‏
    وآنئذ كتبت‏:‏ أنقذونا من هذا الحب القاسي‏.‏ لكن هذا الحب القاسي كان في حاجة إلي وقت أطول ليشفي من عاطفته المتأججة‏,‏ فامتد بي الأجل لأري أن الشاعر الفلسطيني الذي تحرر من الحب القاسي‏,‏ قد تعرض للمقدار ذاته من الكره القاسي‏,‏ ربما لأن علي الفلسطيني أن يبقي موضوعا للشفقة لا ذاتا تنتج وتبدع‏,‏ وصار ينظر إلي الشاعر الفلسطيني من ثقب جغرافيته الضيقة فما دامت بلاده صغيرة فان أفقه الشعري ضيق‏.‏
    لكن رجاء النقاش كان من أكبر المدافعين عن حقنا في النمو‏,‏ حتي لو كانت بلادنا أصغر من حارة في مدينة كبيرة‏.‏
    الطيب الصالح
    في رثاء رجاء النقاش
    الطيب صالح
    الخسارة في غياب رجاء النقاش‏,‏ لم تكن لمصر وحدها‏.‏ إنها خسارة عظيمة للعالم العربي كله‏,‏ ذلك لأن رجاء النقاش ـ رحمه الله ـ كان من الكتاب العرب القلائل الذين لم ينظروا إلي الأمور من زاوية ضيقة‏.‏
    كان يتوخي في كل ما يكتب ايجاد ركائز فكرية ووجدانية مشتركة تدعم قيام روابط أوسع من‏(‏ الوطن‏)‏ بحدوده السياسية أو الجغرافية‏.‏
    كان ذلك أمرا مهما جدا لديه‏,‏ يحفزه علي ذلك أيضا طبع من السماحة والمروءة والأريحية‏.‏ وقد ازدادت أهمية هذا الأمر‏.‏ بعد ما بدا من هزيمة الطموحات السياسية‏.‏ وهي هزيمة بلغ من قسوتها أنها زعزعت القناعات الوجدانية العميقة الكامنة في ضمير الأمة‏.‏
    كان رجاء النقاش رحمه الله من أكثر المصريين إدراكا لأهمية دور مصر في تشييد هذه الرابطة الوجدانية الفكرية‏.‏
    إذا كان دور مصر السياسي كما يبدو قد تعرض للضعف والانحسار‏,‏ فإن دورها الروحي والفكري قد زاد تماسكا وقوة‏,‏ وهو دور أجدر بالاستمرار والبقاء‏.‏
    وقد كان رجاء النقاش يدرك إدراكا عظيما أن قدرة مصر في الاستمرار في دورها الذي حباها به الله في زعامة رابطة الشعوب التي تلتف حولها‏,‏ أن ذلك يعتمد علي عمق إدراك مصر لأحوال تلك الشعوب‏.‏
    لذلك كان هو نفسه مهتما بالفعل بأحوال كل بلد عربي‏.‏ زار أغلب تلك الأقطار‏,‏ وعاش فترات طويلة في بعضها‏,‏ وكان يعرف المفكرين والكتاب من سائر البلاد العربية‏.‏ وقد صار عن جدارة مفكرا‏(‏ عربيا‏),‏ لم يعد مفكرا مصريا فحسب‏.‏
    ولاشك أن أناسا كثيرين سوف يحزنون علي فقده في سوريا والسودان واليمن والمملكة العربية السعودية وتونس والمغرب وموريتانيا وقطر والكويت ولبنان وسائر البلاد العربية‏.‏
    سوف يحزن الناس علي فقده في هذه البلاد‏,‏ ليس أقل مما يحزنون في مصر‏.‏
    وكان من حسنات رجاء النقاش التي يندر وجودها عند سواه‏,‏ أن الصلات الفكرية لديه كانت تتحول دائما إلي علاقات شخصية‏,‏ وكأنه بذلك يضيف عمليا إلي تماسك ذلك البنيان الفكري والروحي الذي يؤمن به‏.‏
    رحم الله الأخ العزيز والصديق الكريم والإنسان النبيل والمفكر الصادق الحدس الواسع الإدراك‏,‏ واسأل الله سبحانه وتعالي أن يحسن عزاء زوجته الفاضلة الدكتورة هانية التي كانت له نعم المعين في حياته وفي مساعيه النبيلة وإلي بقية أفراد أسرته‏.‏
    ..........................................
    *الأهرام ـ في 18/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    (2) تلميذ السيدة زينب

    بقلم : رجاء النقاش
    ............................

    في الشهور الأخيرة من حياة يحيي حقي‏1905‏ ـ‏1992‏ اشتد المرض علي الأديب الكبير‏,‏ وأصدر رئيس الوزراء في ذلك الوقت الدكتور عاطف صدقي ـ رحمه الله ـ قرارا بعلاجه علي نفقة الدولة‏,‏ ودخل يحيي حقي المستشفي بناء علي هذا القرار‏,‏ وبعد أيام قليلة وقع زلزال مصر الشهير في‏12‏ أكتوبر سنة‏1992,‏ فأصر يحيي حقي علي الخروج من المستشفي وقال‏:‏ إن السرير الذي أشغله أولي به أحد المصابين في الزلزال‏,‏ ولم تطل حياة يحيي حقي بعد ذلك كثيرا‏,‏ فقد عاد إلي المستشفي وتوفي في يوم‏9‏ ديسمبر‏1992.‏
    لم يكن موقف يحيي حقي عندما أصر علي ترك سريره في المستشفي لأحد المصابين في الزلزال نوعا من التمثيل لإثارة العطف أو لفت الأنظار‏,‏ بل كان موقفا حقيقيا صادقا من جانب أديب انسان عاش حياته كلها ملتزما بالصدق والأمانة من البداية إلي النهاية‏.‏
    ولد يحيي حقي الذي نحتفل بذكري ميلاده المئوية هذا العام في حارة الميضة بحي السيدة زينب في‏7‏ يناير سنة‏1905,‏ وقد سافر يحيي حقي بعد إتمام تعليمه في كلية الحقوق سنة‏1925‏ إلي كثير من بلدان العالم‏,‏ وتعلم لغات عديدة‏,‏ وعرف العواصم الكبري وعلي رأسها باريس وروما‏,‏ وتزوج من السيدة جان الفرنسية‏,‏ بعد أن ماتت زوجته الأولي التي أنجبت له ابنته الوحيدة السيدة نهي ومع هذه التجارب كلها ظل حي السيدة زينب في قلبه علي الدوام‏,‏ لاينساه ولايبتعد عنه روحيا ولو بخطوة واحدة‏.‏ ويكاد يحيي حقي يقول لنا في كل ما يكتبه إن هذا الحي الشعبي العريق هو الجامعة التي تعلم فيها أحسن العلم‏,‏ وأحسن الأدب‏,‏ وأحسن الأخلاق‏,‏
    وأحسن الألفاظ والعبارات‏,‏ ولاينافس يحيي حقي في عشق المكان إلا عبقري آخر هو نجيب محفوظ الذي عشق حي الجمالية بنفس الدرجة التي عشق بها يحيي حقي حي السيدة زينب‏,‏ ويكفي أن نلقي نظرة سريعة علي عناوين كتب يحيي حقي حتي نعرف أن قاموسه الأدبي مستمد من هذا الحي‏,‏ أو من هذه الجامعة الشعبية الكبيرة‏,‏ فمن عناوين كتب يحيي حقي نقرأ أم العواجز وهي لقب يطلقه الناس علي السيدة زينب نفسها‏,‏ وهناك ايضا قنديل أم هاشم وأم هاشم هو لقب آخر يطلقه الناس علي السيدة زينب‏,‏ ثم نقرأ من عناوين يحيي حقي الأخري خليها علي الله ومن فيض الكريم وعطر الأحباب ومن باب العشم وكناسة الدكان وكل هذه العناوين وثيقة الصلة بلغة حي السيدة زينب‏,‏ وهي لغة التواضع والتسامح‏,‏ والفرح بالحياة‏,‏ والتأدب في مخاطبة الناس‏,‏ وفتح الباب بالمحبة والمشاعر الطيبة للتعامل الكريم مع الآخرين‏.‏
    إن تأثير أجواء السيدة زينب واضح جدا علي يحيي حقي وأدبه‏,‏ وشخصية يحيي حقي نفسها منعكسة تماما علي لغته الأدبية‏,‏ أي علي أسلوبه وهنا نجد تطبيقا حيا صادقا للقول الفرنسي المشهور بأن الأسلوب هو الرجل‏,‏ ونستطيع أن نقول بناء علي هذه القاعدة الصحيحة إن لغة يحيي حقي‏,‏ هي يحيي حقي نفسه‏,‏ وفي هذه اللغة نجد نوعا من الخشوع والتقوي والتدين‏,‏ وهو شعور نخرج به دائما من كتابات يحيي حقي‏,‏ ولا أظن أبدا أن الذين يحبون هذه الكتابات يخطئون حين يشعرون بأنهم يقرأون كتابة فيها روح دينية صوفية‏,‏ بالاضافة إلي ذلك فنحن نجد أننا مع يحيي حقي أمام لغة دقيقة ليس فيها طرطشة‏,‏ ولاثرثرة‏,‏ وليس فيها ذيول يجرها كاتبها وراءه دون أي ضرورة فكرية أو لغوية‏,‏ ومن أقوال يحيي حقي عن نفسه أنه دائما يلتزم بدقة اختيار اللفظ ووضعه في مكانه ثم يضيف إلي ذلك قوله إنني عاشق متيم باللغة العربية فهي من أغني لغات العالم‏,‏ وقواعدها بسيطة‏,‏ ومن الممكن معرفتها بسهولة‏.‏
    هذا هو إحساس يحيي حقي باللغة العربية التي يعبر بها عن أفكاره ومشاعره‏,‏ فهو من ناحية يحرص علي الدقة في اختيار ألفاظه‏,‏ بحيث تبدو اللغة في كتابته لغة هندسية ومنضبطة‏,‏ ومن ناحية أخري فإن عشقه للغة العربية يجعله قادرا علي اكتشاف مافي هذه اللغة من جمال‏,‏ لانك لاتستطيع أبدا اكتشاف جمال شيء إلا إذا أحببته باخلاص وصدق واستمتاع‏.‏
    وقد اندفع يحيي حقي من خلال حبه للغة العربية إلي قراءة الأصول الأدبية الأساسية في هذه اللغة‏,‏ فقرأ روائع الشعر العربي في عصوره المختلفة‏,‏ من الجاهلية إلي العصر الحديث‏,‏ وعندما نقول انه قرأ هذا التراث الشعري‏,‏ فينبغي أن نعرف انه قرأه قراءة متأآنية دقيقة متذوقة‏,‏ وقرأه بفهم عميق واحساس صادق أصيل‏,‏ ولم يقرأ هذا الشعر قراءة سريعة خاطفة‏,‏ وهذه نقطة ينبغي أن تلتفت إليها أنظار الأجيال الأدبية الجديدة‏,‏ حيث يظن البعض أن القصة لا علاقة لها بالشعر‏,‏ وهذا خطأ كبير‏,‏ يحذرنا منه يحيي حقي‏,‏
    فهذا الأديب الكبير لم يصل إلي لغته النقية المكثفة الدقيقة إلا من خلال جهد واسع في قراءة التراث الشعري العربي‏,‏ وجهد آخر في استيعابه ودراسته وتذوقه‏,‏ بل لقد وضع يحيي حقي أمامنا معني بالغ الأهمية من خلال حبه للغة العربية وتراثها الشعري‏,‏ وقد عبر عن هذا المعني بقوله إنني أشترط أن يكون في أي قصة نفس شعري‏,‏ وتلك فكرة دقيقة ومهمة‏,‏ فالقصة إذا خلت من روح الشعر فقدت الكثير من أهميتها وقدرتها علي التأثير العميق‏,‏ وهذا مانحسه بوضوح في أدب يحيي حقي‏,‏ فإلي جانب إحساسه الصوفي الديني بالناس والاشياء‏,‏ وأفكاره العميقة في النظر إلي ال حياة والمجتمع‏,‏ فإننا نحس بروح الشعر وهي ترفرف علي أدب يحيي حقي كله فترفعه إلي مستوي فني وانساني بالغ القيمة والمتعة والجمال‏,‏ وتوفر له نوعا من الموسيقي الرقيقة الخفية التي لايخطئها القلب علي الإطلاق‏.‏
    وفي أدب يحيي حقي نلتقي بظاهرة أخري شديدة التميز‏,‏ فهو أدب يخلو تماما من الصراخ والخطابة والوعظ والإرشاد والمناقشات الطويلة المملة‏,‏ وهو أدب شديد التركيز والكثافة دون أن يقوده ذلك إلي أي نوع من الغموض المرفوض‏,‏ وفي عبارة بديعة ليحيي حقي نسمعه يقول‏:‏ حين تكتب أغلق فمك‏,‏ وإياك أن تفتحه وهذه عبارة رائعة تستحق أن يضعها كل كاتب حقيقي صادق أمام عينيه‏,‏ وأن يقرأها كل يوم‏,‏ مرة واحدة علي الأقل‏,‏ فالكتابة المهمة غير الصاخبة والبعيدة عن الضوضاء والخالية من الزخارف الشكلية هي التي تصنع الناس وتؤثر في المجتمعات وتقود الحياة إلي الأمام وفي عبارة جميلة أخري عن الأدب المثالي في نظره يقول يحيي حقي‏:‏ إنني حين أقرأ هذا الأدب‏,‏ لا أشعر أنني أقرأ‏.‏
    وهكذا يقدم لنا يحيي حقي مقياسا دقيقا للأدب الجميل المؤثر‏,‏ فقمة النجاح الأدبي تكون عندما يشعر قاريء الأدب انه لا يعاني من أي إرهاق روحي أو ذهني‏,‏ وأنه يقرأ كلاما قريبا إلي القلب‏,‏ وليس أدبا فضفاضا زاعقا مليئا بالضجيج والصخب‏,‏ فالأدب الجميل المؤثر هو الذي نقرؤه ونحس كأننا لانقرأ من فرط السهولة واليسر والتجاوب بيننا وبين مانقرؤه‏,‏ وليس ذلك لأن هذا الأدب سطحي يتناول الحياة والتجارب الانسانية بخفة وسهولة‏,‏ بل علي العكس تماما‏,‏ لأنه يكون أدبا صادقا يتسلل إلي النفوس دون تعقيد أو افتعال‏.‏
    تلك بعض اللمحات من حياة يحيي حقي الخصبة التي تستحق أن نتوقف أمامها طويلا بمناسبة ذكري ميلاده المئوية‏,‏ والهدف من ذلك هو تجديد الاهتمام به‏,‏ والإشارة بوضوح إلي أن الذين يريدون أن يدخلوا عالما من الافكار الرائعة والفن الجميل ويريدون أن يلتقوا بشخصية انسانية ساحرة في حديثها إلينا عن طريق القصص أو المقالات من يريدون شيئا من ذلك‏,‏ فعليهم بالعودة إلي يحيي حقي وكتاباته الممتعة التي تفيض بالفكر والحكمة والجمال والتنوع غير المحدود فقد كان يحيي حقي إلي جانب موهبته الأدبية الرائعة صاحب ثقافة واسعة جدا‏,‏ كما أنه كان من أصحاب التجارب الكبري التي اتاحت له أن يعرف الكثير عن الدنيا والناس‏.‏ كل ذلك جعل منه شخصية فريدة‏,‏ وقد انعكست مواهبه وتجاربه وثقافته علي كتاباته‏,‏ فأنت مع هذه الكتابات تعيش في عالم ممتع متنوع الفكر والثقافة والتجربة‏.‏
    كل ذلك في إطار من طيبة القلب والأمانة والدقة‏,‏ مع الإحساس الدائم بأن يحيي حقي يكتب كأنه يصلي‏.‏
    ولاعجب في ذلك‏,‏ فهو تلميذ السيدة زينب‏,‏ وقد بقي تلميذا لها حتي بعد أن دار ولف في أنحاء العالم وعرف أهم لغات الدنيا‏,‏ وقد تعود‏,‏ مهما ابتعد‏,‏ أن يعود من جديد إلي رحاب الست الطاهرة أم هاشم‏,‏ فهناك فتح عينيه علي الحياة‏,‏ وهناك أقام بوجدانه وقلبه وروحه إلي النهاية‏,‏ وهناك استحق أن نقول عنه انه تلميذ السيدة زينب وياليت الذين يقرأون هذا الكلام‏,‏ ممن لهم كلام أن يطلقوا اسم يحيي حقي ولو علي حارة الميضة التي ولد فيها‏,‏ فلاشك أن ذلك سوف يكون خير نبأ تسعد به وتطرب له روح هذا الأديب العظيم‏.‏
    .................................
    الأهرام 22/5/2005م.
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 3 ) رجاء النقاش يروى ذكريات العمر (1)

    بقلم: فريدة الشوباشي
    ........................

    أدباء "ملائكة".. وأدباء "وحوش"

    لا أبالغ إذا قلت إن أقوى ما يمكن أن يصيب الإنسان هو استخدام كلمة "كان" للتحدث عن عزيز فقده.. وهذا هو حالي وأنا أتكلم عن أحد الجواهر الأصيلة في مصر، الوطن الذي أحبه ووهب حياته في سبيل إعلاء شأنه بإعلاء شأن ثقافته..
    يحتل "رجاء النقاش" مكانا أساسيا في حياتي وأجمل ما في الأمر أنني وزوجي الكاتب الراحل على الشوباشي وابني الإعلامي نبيل الشوباشي نعتبر أن “رجاء" وقرينته الجميلة والنبيلة الدكتور هانية وأولادهما لميس وسميح أفراد في أسرتنا الصغيرة، وقد نشأت ظروف أدت إلى أن نتقارب تقاربا وثيقا، وأن نجلس معا لمدة ساعات في حوارات وذكريات في باريس، وهو ما يصعب أن يتاح لنا الآن في القاهرة التي تقسو علينا يوما بعد يوم..
    وذات يوم قلت لـ "رجاء" إنني أريد أن أغوص في قلبه وعقله.. سألني بسرعة.. أين سأنشر.. أجبت: "العربي".. فكان قراره بلا تردد واتفقنا أن أترك له ما أشاء من أسئلة وهو يجيب عنها كتابة وبخط يده وقد عبر عن مكانة "العربي" لديه ومكانة رئيس تحريرها الكاتب عبدالله السناوي عندما قال في إحدى حلقات "ذكريات العمر": من هنا كنت قد أغلقت باب الذكريات والمذكرات حتى أتفرغ لما أنا فيه الآن، ولكنك يا عزيزتي فريدة الشوباشي فتحت هذا الباب من جديد ولاحقتني بتليفونات أخي الذي لم تلده أمي عبدالله السناوي رئيس تحرير "العربي" بعواطفه الكريمة وصوته المتحمس الصادق ليقول لي إن باب الذكريات الذي فتحته فريدة الشوباشي يجب أن يظل مفتوحا حتى تنتهي فريدة من عملية "الجرد" الكاملة لحجرة الذكريات هذه.
    وللأسف الشديد لم يستطع "رجاء" مواصلة عملية الجرد بسب المرض الذي تمكن منه وكان يزيد من آلامه شهرا بعد شهر ثم يوما بعد يوم.. لكن عبدالله السناوي وأنا وكثيرين من الأعزاء من كبار المثقفين، نعتبر أن ما أفضى به "رجاء النقاش" لـ "العربي" جدير بإعادة قراءته والعمل بنصائحه بصدد إعادة بعض الكتب وإلقاء مزيدا من الضوء على شهادة رجل أجمع الأصدقاء والخصوم على نزاهته وأمانته وبصيرته وشفافيته.. فبالرغم من عدم اكتمال "الجرد" فإن ما قاله "رجاء" في ست حلقات شديد الثراء وفيه دروس وعبر للأجيال المصرية الحالية والقادمة.. إن "رجاء النقاش" هو "مايسترو" في حب مصر.. دون زعيق ودون خطب طنانة.. بل بكلمات بسيطة عميقة، صادقة سيبقى ضوءه باهرا.. لأنه اختار طريق النور الحقيقي.
    ما من مرة قرأت لـ "رجاء النقاش" إلا وثار في ذهني ذات السؤال كيف يجمع هذا الرجل النادر بين صلابة الفولاذ والقوة الخارقة في الدفاع عن الحق وعن كل القيم المتصلة به وبين رقة النسيم وهشاشة الغصن الغض الذي لا يتحمل أي إيذاء كان بل ولا يتحمل الآخرون الأسوياء ـ إيذاءه.. كيف يعيش في "رجاء النقاش" مقاتل شرس لا يثنيه عن قناعاته تهديد أو وعيد أيا كان "السلطان" وكتلة من الرقة والحياء يستبد به القلق والخجل إذا نمت إلى أذنيه عبارة مديح أو بالأحرى عرفان بجميل عطائه لنا.
    أعتقد أن سر قوة "رجاء النقاش" وصلابته هو زهده العجيب في كل مغريات الدنيا، إنه يقول كلمته ويمضى دون انتظار لشكر أو جزاء وأيضا.. دونما خوف أو رهبة.. مادام يعتقد فيما يكتبه.. ومن هنا لم يكن غريبا أن يثور البعض وما أكثر المتشدقين بالديمقراطية منهم ـ لنقد "النقاش" ـ لأنه يعلم أن قلمه يحظى بمصداقية نادرة.. وأنه.. علم من أعلام حياتنا الثقافية والأدبية وإذا قلنا "رجاء النقاش" فنحن نقول حياة حافلة بالعطاء وكأنه نهر كريم يمنح ولا يأخذ.. لذلك كانت فرحتي عميقة وشديدة بحصوله على جائزة الدولة التقديرية والتي أعتقد أنها تأخرت كثيرا وكانت مناسبة ليفتح "النقاش" قلبه لـ "العربي" وأن نغوص في حياته الحافلة الثرية وما تخللها من محطات ومعارك.
    وعن كيفية تحقيق “رجاء النقاش” هذا القدر الهائل من الموضوعية في نقده وتقييمه للمبدعين أدباء وشعراء بالرغم من أن بعض أصحاب المواهب الفنية فيهم لا يتمتع بالمعايير الأخلاقية المتفق عليها. يقول الناقد الكبير: عندما جئت إلى القاهرة لأول مرة سنة 1951 لكي أدخل الجامعة، كانت صورة الأدباء والمثقفين في ذهني لا تختلف كثيرا عن صورة “الملائكة”. فقد كنت أتصور أن الذين يكتبون أدبا جميلا ويقدمون فنا رفيعا ويتحدثون إلى الناس بأفكار كبيرة لابد أن يكونوا هم أكثر الناس مثالية في أخلاقهم وسلوكهم وتعاملهم مع الناس أو مع بعضهم البعض، ولكنني بعد أن اقتربت بصورة واقعية من الحياة الأدبية والفنية والثقافية أخذت التجربة تعلمني أن ما كان في ذهني عن “ملائكية” الأدباء والمفكرين والفنانين هو لون من ألوان الوهم والخيال، واتضح بعد التجربة أن الثقافة هي مهنة من المهن، فيها الطيبون وفيها الأشرار. وأن المسرح الثقافي مليء بما في الحياة نفسها من الصراعات القاسية، وأن “التنافس” بين الأدباء والمفكرين والفنانين يلعب نفس الدور الذي يلعبه في مجالات الحياة الأخرى.
    وأذكر بهذه المناسبة أن أستاذنا الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين كتب في الثمانينيات مقالا لا أنساه قال فيه إن زوجته السيدة “ديزي” وهى سيدة عالية الثقافة والتعليم، قالت له يوما ما معناه إن زواجي منك قد جعلني أتعرف على كثير من الأدباء والفنانين. وقد نتج عن ذلك أنني “مصدومة” فيهم صدمة كبيرة. فقد كانت صورتهم في ذهني قبل الزواج منك صورة رائعة وبديعة، أما بعد أن عرفتهم عن قرب فقد وجدت فيهم كثيرا من الجوانب السلبية التي أحزنتني وأزعجتني.
    وقد علق أحمد بهاء الدين على كلام زوجته بما كان معروفا عنه من نظرة واقعية نافذة عميقة ودقيقة، فطالب بضرورة التفرقة بين موهبة الفنان وبين الجانب الشخصي فيه، وأن علينا أن نرفع أيدينا إلى السماء وأن نعلن التسليم بأن هناك فرقا بين الإنتاج الفني والفكري والأدبي وبين الأخلاق والسلوك الشخصي، وأن نحاسب الناس على إنتاجهم فهذا هو عملهم العام الذي يصح لنا أن نحاسبهم عليه، أما الجوانب الشخصية فمن حقنا أن نقبلها أو نرفضها.. حسب الحالة التي نراها أمامنا ولكن بعيدا عن الحساب النقدي للأعمال الفنية والفكرية. ليس هذا هو كلام أحمد بهاء الدين بنصه، ولكنه معنى كلامه كما أتذكره، ولعل الذاكرة لا تكون قد خانتني في تلخيصه وأنا لا أختلف كثيرا في مشاعري ومواقفي عما عبرت عنه السيدة “ديزي” زوجة أحمد بهاء الدين. فقد صدمتني ظاهرة التناقض في بعض الحالات بين الموهبة التي تعبر عن نفسها بصورة بديعة وبين السلوك الشخصي الذي فيه سخف وابتذال وميل شديد إلى العدوان وتجريح الآخرين.
    والتفكير في هذا التناقض أحزنني كثيرا، وأنا أحس في شخصيتي استعدادا طبيعيا للحزن بسبب قسوة بعض الظروف التي مررت بها، خاصة في بدايات حياتي، ولا مجال للتعرض لها في حديثي الآن. المهم أنه كانت هناك “قشة” أتعلق بها وهى إيماني بأن الموهبة تعنى الأخلاق الرفيعة في الوقت نفسه. ولكنني فقدت هذه “القشة” تماما وأصبحت واقعيا على طريقة أحمد بهاء الدين، أي أنني دربت نفسي على التفرقة بين الإنتاج الأدبي والفني وبين صاحب هذا الإنتاج، حتى أتمكن من دراسة أي نص أدبي أو فني بعيدا عن تأثير مشاعري الخاصة.
    ومع ذلك فأنا أريد أن أقدم بعض الاعترافات الصريحة، فالأدباء والفنانون عندي ينقسمون إلى ثلاثة نماذج.. النموذج الأول: هو الذي يبدو فيه “انسجام تام” بين إنتاجه وشخصيته الإنسانية مثل: نجيب محفوظ وصلاح جاهين والطيب صالح وسميح القاسم وفؤاد حداد، وهذا هو النموذج الذي أفضله بل وأعشقه وأجد المتعة والراحة كلما أقبلت على دراسته وتحليل أعماله والبحث فيها، والنموذج الثاني: الذي تبدو أعماله الأدبية جميلة وممتعة، ولكنه يعانى من اضطراب في شخصيته له أسبابه الواضحة عندي، وهذا النموذج يثير تعاطفي الشديد، لأن أسباب اضطرابه تكون كما أتصور أسبابا خارجية ضاغطة عليه، فهو ضحية للظروف، وليس فاعلا أصليا للأخطاء.
    وهذا النموذج يمثله الأديب الشاعر نجيب سرور، فقد كان فنانا مبدعا، ولكنه كان يعانى من اضطرابات تؤدى أحيانا إلى إيذاء نفسه وإيذاء غيره. وقد نالني بعض الأذى منه، ولكنني كنت أستطيع أن أتفهم ظروفه والأسباب القاسية التي تقف وراء ما يعانيه من اضطرابات، ولذلك لم أفقد التعاطف معه أبدا.. لا في حياته ولا بعد رحيله.
    أما النموذج الثالث: فيمثله الأدباء والفنانون الذين يتعمدون الإساءة إلى الآخرين وتجريحهم، فهؤلاء لا أستطيع إلا الابتعاد عنهم أدبيا وفنيا وشخصيا بصورة شبه نهائية، وأذكر لك حادثة وقعت في أوائل سنة 1973، فقد كنت ذات يوم أجلس على مقهى “ريش” الشهير، وكنت يومها أشعر بالتعب الشديد، وكنت أعيش في فترة من حياتي مليئة بالإحباط لأنني كنت واحدا من العشرات الذين “رفدتهم” لجنة النظام في الاتحاد الاشتراكي التي كان يترأسها حينذاك محمد عثمان إسماعيل، وقد أصبح هذا الرجل بعد ذلك محافظا لـ “أسيوط” ومستشارا للرئيس السادات، وأثبتت كثير من الوثائق أن هذا الرجل كان من الصانعين الأساسيين لجماعات التطرف الديني، وهو الذي أقنع الرئيس السادات بإنشاء هذه الجماعات لمحاربة الناصريين وسائر اليساريين، وقد انقلبت هذه الجماعات على الرئيس السادات، وكانت وراء اغتياله في نهاية المطاف، وأعود معك إلى القصة الأصلية فقد كنت أجلس على مقهى “ريش” مرفودا ومحبطا، وجاءني أديب شاب من أصحاب المواهب القوية التي لا شك فيها، ودون سبب على الإطلاق وجدته يسبني ويشتمني ويلقى في وجهي بكوب ماء كانت أمامي.
    وقد جرحني هذا التصرف جرحا عميقا ولم أجد سببا يفسره لي على الإطلاق. فلم أغفر له هذا الموقف. وقد حاول بعد ذلك أن يعتذر لي، ولكنني لم أقبل اعتذاره، وحتى الآن لا أستطيع أن أكتب عن هذا الأديب الموهوب حرفا واحدا وأنا ألوم نفسي كثيرا على ذلك، لكنني لم أستطع أبدا أن أغير مشاعري تجاه هذا الأديب فكلما طالعت عملا أدبيا له وأعجبني هذا العمل فنيا وجدت فجوة روحية بيني وبينه لا أستطيع أن أتجاوزها أبدا فقد كان جارحا وشرسا معي ومع الكثيرين غيري دون سبب معقول يبرر له ذلك ويجعلنا نتحمله ونغفر له.
    وقد سمعت أن ذلك الأديب يردد أن الشراسة والسلوك العدواني هما وسيلته الوحيدة لإثبات وجوده، أي أنه “يتعمد” ارتكاب الشر. وهذا ما أكرهه وأنفر منه، ولا أستطيع أن أتعامل مع صاحبه على أي مستوى من المستويات. والخلاصة أنني أحب الفنان الموهوب صاحب الشخصية الإنسانية الجميلة، وأغفر للفنان صاحب الشخصية المضطربة، إذا كان هناك أسباب قوية تبرر هذا الاضطراب وتفسره ولا أعفو بيني وبين نفسي عمن يتعمدون الشر. ولكنني بصورة عامة أصبحت مقتنعا بأن جمال الفن لا علاقة له بالسلوك الشخصي. فالجمال الفني مثل جمال المرأة، هناك امرأة جميلة وفاضلة، وهناك امرأة جميلة أيضا ولكنها غير فاضلة.
    وأنا مع الجمال الفاضل ولا أجد في نفسي قدرة كافية للتعامل مع الجمال الخالي من الفضيلة والذي يتعمد أصحابه في سلوكهم أن يحرجوا الناس ويعتدوا عليهم، بحجة أنهم موهوبون وأن من حقهم أن يفعلوا ما يشاءون ولعلى أكون صريحا لو ضربت مثلا آخر على ما أقول، وهو مثل مستمد من واقعنا الأدبي الراهن فأنا أحب شعر أحمد فؤاد نجم وأحفظ عددا من قصائده، وأجد في هذا الشعر تجارب فنية وإنسانية قوية ومدهشة، ولكنني لم أعد أتحمل شخصية الشاعر العدوانية.
    فقد تعود أن “يعض” الناس ويقوم بتجريحهم ويمارس هذا الأسلوب ضد الكثيرين من الأبرياء والشرفاء، ولا يراجع نفسه أو ضميره في إلقاء التهم العشوائية القاسية ضد الآخرين، ولم أسلم أنا شخصيا من عدوانه الظالم ضدي بأسلوب فج هو أول من يعلم أنه كاذب فيه، فقد وقفت إلى جانبه بقوة وبقدر ما أستطيع وفوق ما أستطيع في كل المحن التي مر بها، وكان يزورني باستمرار عندما كان مختفيا من الشرطة، ولو كنت أحمل له شرا في نفسي لكان من السهل أن أسلمه للأمن، أو أدل على مكان اختفائه، ولكنني لم أفعل شيئا من ذلك وتحملت مسئولية كانت يمكن أن تؤذيني واخترت الوقوف إلى جانبه وساعدته في محنته، ومع ذلك لم “يتمر” فيه شيء من هذا فهو يهاجمني هجوما جارحا باستمرار.
    وهذا الموقف أوجد حاجزا قويا بيني وبين الاقتراب من شعره لدراسته والبحث فيه وتحليله والكشف عما ينطوي عليه من عناصر الجمال الفني والإنساني. وقد يرى البعض أنني مخطئ في الخلط بين الفن وصاحبه في مثل هذه الحالات، ولكنني من جانبي أرى أن مهنة النقد ليست مهنة ملائكة، ولكنها مهنة نفوس يمكن أن تتألم وتضيق بالشراسة والعدوان وسوء الأدب. وأخيرا أحب أن أقول لك إن هناك بعض الوسائل التي تعينني على الوصول إلى أكبر قدر ممكن من الموضوعية والحرص على العدالة والإنصاف في أي حديث عن الأدباء والفنانين، وعلى رأس هذه الوسائل أنني أعيش منذ فترة طويلة في نوع من العزلة بعيدا عن أي علاقات اجتماعية، وقد اخترت هذه العزلة لحاجتي إليها من حيث الوقت الذي أقضيه في المطالعة والعمل، وأفادتني هذه العزلة كثيرا في الاقتراب من الأعمال الأدبية بعيدا عن العلاقات الشخصية التي يمكن أن تؤثر في الأفكار والمشاعر وخلاصة ما أحب أن أقوله هو إنني أبذل جهدا كبيرا للسيطرة على نفسي حتى لا أتأثر بأي مشاعر سلبية وشخصية في أي موضوع.
    فإن عجزت عن السيطرة على نفسي امتنعت عن الاقتراب من الموضوع الذي أحس أنني “مرتبك” من الناحية النفسية أمامه وأنا أفضل في النهاية أن اقترب بالبحث والدراسة ممن أحبهم وأجد مكانا كبيرا لهم في قلبي، ولكنني حريص في الحب، حتى لا يقودني الحب إلى مواقف عشوائية مضطربة، وأنا بكل تواضع من عشاق المنطق الصحيح والصدق في الشعور والتفكير، والإنصاف والعدالة في الأحكام ولا أطيق الكذب على نفسي، أو على الناس، ولا أتحمل مخالفة الضمير الأدبي من أجل إرضاء أحد، وفى المقابل فإنني أتحمل نتيجة آرائي مهما كانت ا
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    (4) علاء الأسواني موهبة روائية جديدة‏

    بقلم : رجاء النقاش
    ...........................

    لا أظن أن هناك مرحلة تتميز بالشوق الشديد لكل ما هو جديد مثل المرحلة التي نعيش فيها الآن‏.‏ فالناس يشعرون بشيء من الملل ويتطلعون إلي سماع مطرب جديد متميز‏,‏ أو رؤية وجه سينمائي قادر علي التعبير بصورة مختلفة عن الصورة المألوفة لنا منذ فترة طويلة‏,‏ وهذا هو نفسه ما ينطبق علي كل مجالات الأدب والفنون المختلفة‏,‏ فالجميع في حالة انتظار وشوق لميلاد مواهب أخري جديدة‏,‏ وحالة الانتظار والشوق هذه هي حالة لها تفسيرها‏,‏ فالدنيا اختلفت‏,‏ وتجارب الناس المادية والروحية اتسعت‏,‏ والأذواق تطورت وتغيرت‏,‏ وقد أصبح ما أنجزناه في الماضي القريب أو الماضي البعيد غير كاف للتعبير عن أحوالنا الجديدة‏.‏
    ولاشك في أننا في مجال الأدب والفن علي الخصوص قد عشنا طويلا مع إنتاج جميل مؤثر في الغناء والموسيقي والشعر والقصة والمسرح والرواية والتمثيل‏,‏ وأصبحت نفوسنا ممتلئة بما تم تقديمه في هذه المجالات من ألوان رائعة في الفنون والآداب‏,‏ وأصبحنا نشعر برغبة كبيرة وشوق حار إلي ما هو جديد ومختلف‏.‏ فلا يستطيع عقل الناس أو وجدانهم أن يعيش فقط علي ما كنا نعيش عليه منذ خمسين سنة إلي الآن‏,‏ لأنه‏,‏ حتي الجمال‏,‏ إذا عشنا معه طويلا واشتدت مشاعر الألفة له‏,‏ فإنه يصبح جمالا عاديا يحتاج إلي إضافة وإنعاش وتجديد‏.‏ ولعل من الشائع في حياتنا الآن أننا إذا اجتمع عدد منا مع بعضهم البعض فنحن نردد القول بأنه فين أيام زمان‏,‏ ثم نتحدث في شيء من الحب والحسرة معا عن أغاني أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم‏,‏ وعن العصر الذهبي للكوميديا والفن الساخر من نجيب الريحاني إلي إسماعيل ياسين إلي فؤاد المهندس وعادل إمام‏,‏ فنحن نحب هذا الماضي الجميل الذي لا يزال بعضه حيا إلي الآن‏.‏ وهذا الحديث نفسه كثيرا ما يدور حول الفنون الأخري مثل الشعر والقصة والرواية وغير ذلك‏.‏ فنحن نشعر بالحنين إلي الماضي‏,‏ قريبا كان أو بعيدا‏,‏ ونتمني أو يولد بيننا شيء جديد ي
    ختلف عن هذا الماضي ويكون في الوقت نفسه امتدادا له‏.‏ والخلاصة أن حالة الأمة الآن من ناحية الحضارة والثقافة والذوق والعواطف هي حالة من الملل الذي ينطوي علي شوق ملهوف لشيء جديد لابد أن يولد حتي ينكسر هذا الملل وتمضي الحياة في جريانها ولا نبقي في حالة محلك سر‏.‏
    والمتشائمون منا يرون أن حالة الملل والشوق إلي الجديد بهذه الصورة هي حالة أزمة وكساد ينذران بالخطر والشر‏,‏ أما المتفائلون ـوأنا منهمـ فيظنون أن هذه الحالة هي بشارة بنهضة قادمة‏,‏ وأنها حالة استعداد حضاري لإشراق فجر جديد من الإبداع المختلف في كل المجالات‏.‏ فالأزياء المألوفة لم تعد مناسبة ولابد من أزياء أخري تناسب المقاس المختلف‏,‏ وفي ظل هذه الحالة فإن أي جديد وجميل لابد أن يجد فرصته السريعة في الاهتمام به والالتفاف حوله‏,‏ لأننا جميعا متعطشون لهذا الجديد الجميل ومنتظرون له في شوق شديد اللهفة والحرارة‏.‏
    وأرجو أن يكون المتفائلون علي حق‏.‏
    أخرج بعد ذلك من هذا كله بالتعبير عن سعادتي بميلاد موهبة أدبية روائية جديدة‏,‏ هي موهبة الكاتب الفنان علاء الأسواني صاحب الرواية الفاتنة عمارة يعقوبيان‏.‏ ولعل من المصادفات الطريفة أن يكون علاء الأسواني طبيب أسنان‏,‏ وأن يظهر علي الساحة الأدبية في وقت تعرضت فيه سمعة أطباء الأسنان لبعض الشروخ‏,‏ بسبب اتهامات تمس اثنين منهم لا يزال القضاء ينظر فيها‏,‏ وقد ألقت هذه الاتهامات بعض الظلال الداكنة علي أطباء الأسنان‏,‏ ولكن هذه الظلال لابد أن تزول مع الأيام‏,‏ ولعل مما يساعد علي إزالة هذه الظلال أن نكتشف الآن فنانا موهوبا جدا من بين هؤلاء الأطباء وهو علاء الأسواني‏.‏ وهي مصادفة حسنة‏.‏ وعلي العموم فإن من الظلم الشديد أن يحكم أحد علي مهنة فيها عشرات الآلاف من الشرفاء‏,‏ علي أساس تصرفات مازالت منظورة أمام القضاء وقع فيها اثنان من هؤلاء الأطباء‏.‏
    وأعود إلي علاء الأسوانئ وروايته عمارة يعقوبيان‏,‏ وفي حدود علمي ـوأنا لا أعرف كاتب الرواية معرفة شخصيةـ فإن هذه الرواية هي الرواية الأولي للكاتب الفنان‏,‏ وهي رواية فيها الكثير من العناصر الأساسية للنجاح والمتعة والتأثير‏,‏ فأسلوب الكاتب سهل موجز‏,‏ لا تعقيد فيه ولا ثرثرة‏,‏ بل إنه أسلوب يبدو في بعض الأحيان هندسيا بالغ الدقة بعيدا عن أي طرطشة‏,‏ وفي ذلك دليل علي أن هذا الفنان الجديد قد اجتهد اجتهادا كبيرا في تخليص أسلوبه من العيوب الشائعة‏,‏ وهي عيوب يقع فيها كثيرون ممن يدخلون عالم الأدب لأول مرة‏,‏ حيث يظنون‏,‏ وبعض الظن الأدبي إثم‏,‏ أنهم مطالبون بإدهاش الناس‏,‏ وأن هذا الإدهاش لا يتحقق إلا بما هو غريب ومعقد وقادر علي أن يحقق صدمة للذين يقرأون‏,‏ أما علاء الأسوانء فقد اجتهد إلي أبعد حد واستطاع أن يحقق لنفسه العبور الناجح من مرحلة المراهقة الأدبية التي تريد أن تلفت النظر وتدهش الناس ولو بالألاعيب والافتعالات‏,‏ فنحن نقرأ رواية عمارة يعقوبيان في سهولة ويسر ودون عناء‏,‏ وذلك لأن فيها نظافة أسلوبية وصفاء وانضباطا ودقة في التعبير‏,‏ مما يساعدنا علي الوصول دون صعوبة إلي القضايا الجوهرية التي يريد الفنان أن يعبر عنها‏,‏ وهي قضايا أهم وأكرم من أن ينشغل عنها بتفاهات شكلية أو سخافات خارجة علي الموضوع‏.‏
    وعمارة يعقوبيان هي عمارة كبيرة قديمة يسكنها ألوان من الناس‏,‏ وليس من الصعب أن ندرك أن العمارة هنا هي المجتمع‏,‏ وأن الناس فيها هم المواطنون‏,‏ وأن هؤلاء المواطنين يختلفون في طبقاتهم وظروفهم بين الفقر والثراء‏,‏ وبين الضعف والقوة‏,‏ وبين الحظوظ الخائبة والحظوظ الطيبة‏,‏ وفي حكمة شديدة ومقدرة فنية مثيرة للإعجاب استطاع علاء الأسواني في روايته الجميلة أن يصور حالة كاملة لأوضاع المجتمع من وجهة نظره‏,‏ واستطاع أن يرسم لوحة حية للمشكلات التي يعانيها المجتمع ويتطلع إلي حلها‏,‏ وإن كان الروائي الفنان لم يقدم حلولا‏,‏ وإنما اكتفي بالتشريح والتشخيص اللذين يساعدان من يريدون ويقدرون علي أن يضعوا الحلول المناسبة‏.‏ ومن البدهي الذي يتكرر في أقوال النقاد الثابتة أن الفنان الحقيقي لا يقدم حلولا‏,‏ فتلك ليست مهمته‏,‏ وإذا أقدم عليها فإن ذلك يفسد فنه ويؤذيه‏,‏ ولكن مهمة الفنان هي أشبه بمهمة الفلاح الفصيح في الأدب الفرعوني القديم‏,‏ أي أن يعبر في وضوح وانفعال قوي عن الشكوي ثم يضعها أمام الضمير العام أملا في التأثير والتغيير‏.‏
    ومن الصعب تلخيص عمارة يعقوبيان لتعدد أشخاصها وتشابك أحداثها‏,‏ ولكن في الإمكان أن نتوقف أمام بعض الأنغام الرئيسية في هذه الرواية الجميلة‏.‏ وهذه الرواية بصورة عامة هي رواية غضب علي الواقع وحنين إلي تغييره والقضاء علي ما فيه من سلبيات‏.‏ والفنان لا يلام علي الغضب‏,‏ فالغضب هو من أجمل ينابيع الفن الجميل‏,‏ وكل فن‏,‏ خاصة في الأدب‏,‏ لابد أن يكون غاضبا بدرجة من الدرجات‏,‏ لأن الفنان الحقيقي يريد أن ينهض بالإنسان ويرتقي بالواقع‏,‏ وهو يحلم دائما بالمستقبل الذي ينبغي أن يكون أجمل وأكمل مما هو موجود‏.‏ والغضب واضح في هذه الرواية خاصة ضد الفقر والتطرف والفساد‏.‏ ولكن غضب الفنان هنا هو غضب حكيم وليس غضبا أعمي‏,‏ فالغضب الأعمي لا يقدم فنا وإنما يقدم صرخات وتشنجات‏,‏ وليس في الرواية شيء من ذلك‏.‏
    هناك نغمة أخري في هذه الرواية هي نغمة الصراع بين القوة والضعف‏,‏ وبالتحديد بين الأثرياء وأصحاب النفوذ من جانب‏,‏ وبين الفقراء المغلوبين علي أمرهم من جانب آخر‏.‏ وفي هذا الصراع يتحول الفقراء إلي ضحايا لأصحاب المال والنفوذ‏,‏ فحاتم رشيد الثري الشاذ ينشب أظافره في عبدربه الشاب الصعيدي القوي المكافح‏,‏ الذي يعاني الفقر الشديد ويجاهد من أجل الرزق ولقمة العيش‏,‏ ومحمد عزام رجل الأعمال المليونير يستغل الأرملة الجميلة الفقيرة سعاد جابر‏,‏ وطلال شنن صاحب محل الملابس يستغل الفتاة الشابة بثينة السيد التي يتفجر جسمها بالحيوية والنضارة ولكنها فقيرة إلي حد يصعب معه أي تحصل علي قوتها وقوت عائلتها دون أن تخضع للاستغلال الذي تتعرض له من صاحب العمل‏.‏ والطريف والممتع في هذه الرواية أن كل الفقراء أصحاء وأقوياء ويملكون مواهب الحياة الطبيعية من نشاط وجمال وحيوية‏,‏ أما الأثرياء وأصحاب النفوذ فهم مرضي في أجسامهم أو نفوسهم وبهم ضعف في صحة الجسم أو صحة الأرواح والأذواق والأخلاق‏.‏ وهذا الصراع القائم بشكل يكاد يكون هندسيا بين الأقوياء والضعفاء ينتهي إلي الانفجار والاصطدام الشديد‏.‏ ومعني ذلك أن هذا النوع من الصراع الذي يقوم علي الاستغلال ليس أمامه فرصة للحل الهادئ أو التفاهم السليم أو التحالف علي أساس المصالح المشتركة المعقولة بين الطرفين من أجل النجاح والسعادة‏.‏ ومعني ذلك أيضا أن الكاتب الفنان يقول لنا إن رؤيته لهذا الصراع بين الضعفاء والأقوياء لم تجد نقطة يلتقي فيها الطرفان ويتعاونان‏,‏ بدلا من مبدأ الاستغلال الذي ينتهي إلي الحرب والقتال‏.‏
    فالمبدأ السائد في مجتمع الرواية هو مبدأ استغلال الأقوياء للضعفاء‏,‏ فإن قام الضعفاء بالتمرد خسروا حياتهم في سبيل الانتقام من الأقوياء وإلحاق الأذي بهم‏,‏ وهنا نشعر بأن الرواية تقول لنا‏:‏ لابد من حل غير الصراع القائم علي الاستغلال من جانب والانتقام من جانب آخر‏,‏ فهذا الصراع لا يمكنه أن يقدم سوي الأحزان والكوارث وانهيار المعبد فوق رءوس الضعفاء والأقوياء معا‏.‏
    وفي الرواية طفلان‏,‏ ولكن هذين الطفلين يموتان‏,‏ أحدهما يموت وهو جنين وذلك بإرغام الأم علي الإجهاض رغم مقاومتها العنيفة لذلك‏,‏ أما الثاني فيموت من الجفاف الذي لم يستطع الطب أن يعالجه في الوقت المناسب‏.‏ وموت الطفلين الوحيدين في الرواية يوحي إلينا بأن الفنان علاء الأسواني لم يجد في روايته نافذة للأمل يطل منها علي المستقبل‏,‏ فلا يزال هذا الفنان واقفا في قلب الأزمة يبحث عن طريق‏,‏ وحتي الصفحة الأخيرة فإنه لم يعثر عليه‏.‏ ولعل الفنان ينبهنا إلي ذلك‏,‏ ويدعونا ـبالفن الجميلـ إلي البحث عن أسلوب يؤدي بالأطفال إلي أن يولدوا ويعيشوا في سلام لكي يصنعوا المستقبل‏.‏ فلا مستقبل لمجتمع يموت فيه الأطفال‏,‏ بعضهم وهو جنين‏,‏ وبعضهم الآخر قبل أن يتعلم النطق بالكلمات‏.‏
    وفي الرواية دراسة معجونة بالفن الجميل لظاهرتين مقلقتين هما‏:‏ التطرف الديني الذي يقود إلي العنف‏,‏ والفساد الذي يحاربه مجتمعنا ويشكو منه‏.‏ والأضواء التي تلقيها الرواية علي التطرف والفساد أضواء قوية تمتد إلي الجذور وتحاول أن تمسك بها‏,‏ فالظاهرة المنحرفة لها ميلاد وبداية ونمو وذلك قبل أن تتحول إلي مرض فيه خطر علي الجميع‏.‏
    والرواية تنتهي في سطورها الأخيرة بحفلة فرح وزعرودة زواج‏,‏ ولكن الحب في هذا الزواج حب مقهور مكسور الجناح‏,‏ فهو حب حزين‏,‏ ولكنه مع ذلك حب‏.‏ وفي ذلك إشارة خفيفة لطيفة ولكنها حادة جدا تقول‏:‏ إن الحب هو الفرصة الوحيدة للخلاص‏,‏ ولو كان حبا فيه نزيف شديد‏.‏
    هذه بعض الألحان التي تعزفها رواية عمارة يعقوبيان التي تجعلنا نقول عنها إنها رواية جميلة فيها عمق وعذوبة وشمول‏,‏ وأنها رواية تحمل شهادة ميلاد فنان مبدع موهوب اسمه‏:‏ علاء الأسواني‏.‏ فالجمال الفني والفكري في هذه الرواية هو جمال فيه إحكام وانضباط‏,‏ ووراءه جهد أدبي ومعنوي وروحي كبير‏.‏ والفنان هنا يقدم إلينا عملا له مذاق جديد خاص لا يختلط بمذاق آخر‏,‏ وإن كان الفنان بلا شك متأثرا بغيره من أساتذة الفن الروائي‏,‏ ولكنه تأثر ليس فيه ذوبان للشخصية الخاصة والموهبة المستقلة‏.‏
    ولا شك في أن علاء الأسواني قد تأثر بكاتبين كبيرين هما نجيب محفوظ وفتحي غانم‏,‏ ولكن هذا التأثر هو أفضل صورة للطريقة التي يمكن أن يستفيد فيها الفنان بغيره من الكبار الذين سبقوه دون أن يفقد صوته الخاص‏.‏
    علي أن في هذه الرواية الجميلة عيبا لابد أن نشير إليه ونحذر الفنان الجديد الموهوب منه‏,‏ وهذا العيب هو أن بعض مواقفه وشخصياته فيها استسلام غير مقبول لشائعات تتردد‏,‏ وليس هناك ما يشير إلي أن مثل هذه الشائعات معتمدة علي حقائق‏,‏ بل ربما كانت هذه الشائعات ثمرة لمنافسات شخصية وأحقاد خاصة مشكوك في صحتها وأمانتها‏.‏
    ولن يجدي الفنان الموهوب في شيء أن يقال إنه يتحدث عن أحداث محددة أو أشخاص معينين‏.‏ فمثل هذه الترجمة الفوتوغرافية الآلية للشائعات التي يرددها البعض قد يحتاج إليها فنان مفلس ليس عنده ما يقدمه للناس‏,‏ فهو يريد أن يجذب الأنظار ويقول‏:‏ أنا هنا‏.‏ وليس من مصلحة العمل الفني الجميل أن يسقط في مثل هذا المطب‏,‏ فهو مطب رخيص ومبتذل‏.‏ ولا أريد أن أستطرد كثيرا في هذا الحديث‏,‏ لأنه شائك‏,‏ رغم اقتناعي بأنه أمر يحتاج إلي مزيد من الشرح والتفسير‏,‏ وأنه بحاجة أيضا إلي مزيد من اللوم والتأنيب للفنان الجديد الموهوب علاء الأسواني‏,‏ الذي يعنينا هنا هو أن أي محاولة للتصوير الفوتوغرافي للأحداث والناس هي إضعاف للعمل الفني وليست مصدر قوة فيه‏,‏ فإنها من ناحية قد تخالف الصدق والأمانة المطلوبين من الفنان‏,‏ وهي من ناحية أخري قد تؤدي إلي جدل ثانوي يطغي علي القيمة الأصلية للعمل الفني‏.‏ وعلي الفنان الحقيقي أن يسعي بكل ما يملك من قدرة وموهبة إلي القبض علي جمرة النار الموجودة في واقع الحياة وفي الأزمات الجدية التي يعاني فيها الناس‏,‏ وذلك بعيدا عن أي تعبير مباشر يعتمد علي الفرقعات والصواريخ والشائعات والثرثرات‏,‏ وقد أصيبت رواية علاء ا
    لأسواني الجميلة في بعض صفحاتها بشيء من هذه السلبيات‏,‏ والأمل كبير في أن يتخلص الفنان الموهوب من ذلك تماما في أعماله الجديدة‏.‏
    .......................
    *المصدر: الأهرام في 18/8/2002م
    رد مع اقتباس  
     

  5. #5 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 5 ) إنها عقدة الخواجة‏...‏ ياجميل‏!‏

    بقلم: رجاء النقاش
    ......................

    تعودت كثيرا أن أحاول أحيانا الابتعاد عن الواقع الذي أعيش فيه‏,‏ طلبا للراحة والهدوء‏,‏ ولو ليوم أو عدة أيام‏,‏ فالحياة الواقعية مثيرة للتوترات والانفعالات‏,‏ وهي تفرض علي الانسان ان يكون منتبها علي الدوام‏,‏ والانتباه الدائم هو مرض من أمراض الاعصاب له كثير من الخطورة والضرر‏,‏ ومن أجل هذا أحاول ان أغيب قليلا عن الواقع‏,‏ وذلك بأن أمد يدي الي مكتبي وأترك للصدفة ما سوف ينتج عن ذلك‏,‏ وفي الفترة الأخيرة وقع كتاب في يدي بهذه الطريقة العشوائية‏,‏ كتاب صغير للعالم والأديب الكبير الدكتور حسين فوزي‏1900‏ ـ‏1988‏ صديق توفيق الحكيم الدائم وأحد الأدباء والمفكرين الرواد منذ الربع الأول من القرن العشرين وحتي نهاية هذا القرن العشرين‏,‏ وللدكتور فوزي كثير من الكتب المهمة علي رأسها كتابه الشهير سندباد من مصر والذي يروي فيها تاريخ مصر منذ أيام الفراعنة حتي العصور الحديثة بطريقة فاتنة‏,‏ تحتفظ للتاريخ بحقائقه الواضحة ولكنها تقدم ذلك في اسلوب فني ساحر سهل بديع‏.‏
    كان الكتاب الذي وقع في يدي وانا أفتش عن كتاب يخرج معي بالصدفة‏,‏ ويحملني إلي عصر غير عصرنا‏,‏ أملا في أن يبعدني ذلك ساعات أو أياما عن مشاغل الواقع الراهن‏,‏ هو كتاب الدكتور حسين فوزي وعنوانه تأملات في عصر الرينسانس والكتاب لطيف ومليء بالمعلومات الدقيقة‏,‏ وهو كتاب صغير لايجد الانسان تعبا في قراءته‏,‏ ولايستغرق وقتا طويلا في هذه القراءة‏,‏ ولكنني قبل ان أقرأ أي صفحة من الكتاب‏,‏ وجدتني غير مرتاح علي الاطلاق لاستخدام المؤلف كلمة الرينسانس في عنوان كتابه‏,‏ وقد كنت أعذر الدكتور فوزي إذا لجأ إلي ذلك لضرورة لامفر منها‏,‏ والضرورة هنا هي أن تكون اللغة العربية عاجزة عن تقديم لفظة بديلة لكلمة الرينسانس تكون في نفس الوقت معبرة عن المعني بمنتهي الدقة‏,‏ وقد وجدت الدكتور فوزي في صفحات كتابه يفعل ما فعله في العنوان‏,‏ فيستخدم كلمات أجنبية أخري في فصول كتابه المختلفة مثل الهيومانزم والهيومانيين‏.‏
    لا أريد هنا أن أتحدث عن الكتاب نفسه‏,‏ فالكتاب كما أشرت من قبل هو كتاب بسيط وممتع ومفيد وشديد التركيز في تقديم المعلومات الرئيسية عن عصر الإحياء أو عصر النهضة الأوروبية‏,‏ وكاتبه من هذه الناحية يعرف موضوعه حق المعرفة‏,‏ وهو موثوق به وجدير بالاحترام والتقدير‏,‏ ولكنني رغم ذلك وجدتني أنظر الي هذا الكتاب بعد أن انتهيت من قراءته للمرة الثانية علي انه نوع من الأدب الحرام‏,‏ ولو كان الدكتور فوزي حيا لقلت له ولكتابه الممتع بلغة أولاد البلد‏:‏
    إن ما يعيبك يادكتور هو عقدة الخواجة‏...‏ ياجميل‏!!,‏ فليست اللغة العربية عاجزة عن أن تجعل من عنوان الكتاب تأملات في عصر الإحياء أو النهضة بدلا من تأملات في عصر الرينسانس‏,‏ ولاهي عاجزة عن أن تقول النزعة الانسانية بدلا من الهيومانزم‏,‏ وأصحاب النزعة الانسانية بدلا من الهيومانيين‏,‏ ولابأس بعد ذلك من وضع المصطلح الأوروبي الي جانب العبارة العربية داخل الكتاب وليس في عنوانه‏,‏ وذلك إذا أراد المؤلف ان يحتفظ بالمصطلح الأوروبي طلبا للدقة العلمية‏.‏
    إن هناك حقيقة تاريخية مؤكدة‏,‏ والذين قاموا بتأكيدها قبل غيرهم هم المؤرخون الغربيون قبل المؤرخين العرب‏,‏ وهذه الحقيقة تقول إن الأوروبيين قد أخذوا من العرب كثيرا من الأشياء التي أسهمت في مقدمات عصر النهضة الأوروبية‏,‏ ويمكن في هذا المجال مراجعة موسوعة قصة الحضارة للمؤرخ الأمريكي ويل ديورانت في الجزءين‏19‏ و‏20‏ من الموسوعة وعنوانهما النهضة وفي الجزءين‏41‏ و‏42‏ وعنوانهما الاسلام والشرق الاسلامي وبعض المؤرخين الغربيين يقولون ان معظم مقدمات النهضة هي عربية بالكامل‏,‏ وقد استمد الأوروبيون العناصر العربية في نهضتهم من مصدرين هما‏:‏ الأندلس وحضارتها المزدهرة‏,‏ ثم ما نقله الأوروبيون في أثناء الحروب الصليبية من المشرق العربي الي بلادهم بعد ارتدادهم اليها مطرودين مهزومين علي يد صلاح الدين‏,‏ وللأسف الشديد فإنني لم أجد في كتاب الدكتور حسين فوزي عن النهضة الأوروبية سوي اشارات خفيفة متفرقة طفيفة عن الاثر العربي في هذه النهضة‏,‏ وفي الوقت الذي يعترف فيه الأوروبيون بذلك اعترافا صريحا نجد الدكتور فوزي مهتما في كتابه بالتأثيرات اللاتينية واليونانية في النهضة الأوروبية‏,‏ ونجده غافلا أو متغافلا عن عمق التأثير العربي في نهضة أوروبا‏.‏
    علي أن هناك حقيقة يجب ان يلتفت اليها‏,‏ فقد كان الأوروبيون لايترددون في أن يأخذوا من العرب ما يفيدهم‏,‏ ولكنهم كانوا في مجال اللغة ـ يحرصون علي كتابة الأشياء المأخوذة منا بلغتهم ويلبسونها ثيابهم‏,‏ حتي أسماء الأعلام العرب‏,‏ وهم الذين كانوا أساتذة للأوروبيين‏,‏ ألبسها هؤلاء الأوروبيون القبعة قبل أن ينطقوا بها‏,‏ حيث نجد أن ابن سينا عند الأوروبيين هو آفي سيني وابن رشد عندهم هو افيروس وكذلك أسماء المدن التي عرفوها فانهم حرفوها لتكون ملائمة للنطق بها‏,‏ في لغاتهم‏,‏ فالقاهرة هي كايرو ودمشق هي داماسكس وطرابلس هي تريبولي‏,‏ وماكان عندهم ابدا ما يمكن ان نسميه باسم العقدة العربية أو العقدة الشرقية مما قد يفرض عليهم ان يستخدموا الألفاظ العربية كما هي دون مبرر حتي يثبتوا انهم من العلماء الذين يأخذون العلم من العرب وغيرهم‏,‏ لقد كان الأوروبيون يهضمون كل شيء أولا‏,‏ ثم ينطقون به ويتعاملون معه بعد ذلك‏,‏ وكانوا لايخجلون من أن يقولوا انهم أخذوا من العرب‏,‏ ولكنهم كانوا يحرصون علي الا يكونوا نسخة طبق الأصل من أساتذتهم العرب‏,‏ بل كانوا يعبرون عن انفسهم بطريقتهم المستقلة وأسلوبهم المناسب لهم‏,‏ مع الحرص في جميع الأحوال علي
    لغتهم الوطنية‏,‏ ولكننا نصل الي العصر الحديث فنجد أمامنا تيارا واسعا من الذين يفضلون استخدام الكلمات الأجنبية‏,‏ حتي لو كان هناك بديل لها واضح ودقيق في اللغة العربية‏,‏ وهؤلاء جميعا لايعلمون أن اللغة العربية عمرها الان أكثر من ألفي سنة‏,‏ ولعلها تكون أقدم لغة حية في العالم كله‏.‏
    هذه الظاهرة هي ما أسميه باسم الأدب الحرام‏,‏ وهذا التعبير ليس من عندي بل هو تعبير حي جميل ساخر لصاحب العبارة الموسيقية‏,‏ وصاحب الضمير الوطني والقومي النقي‏,‏ أستاذ الأساتذة أحمد حسن الزيات‏1885‏ ـ‏1968,‏ فقد أشار الي هذه الظاهرة في مقال بديع له نشره في مجلته الرسالة القديمة‏1933‏ ـ‏1953‏ بتاريخ‏7‏ مارس سنة‏1937,‏ وعندما قرأت هذا المقال احسست كأنه مكتوب اليوم‏,‏ وكأنه مكتوب للدكتور فوزي وأمثاله‏,‏ ومن هم امتداد له من أصحاب عقدة الخواجة أو أصحاب الأدب الحرام‏.‏
    يقول الزيات في مقاله وعنوانه في حفلة أدبية‏:‏
    دعت السيدة أ‏.‏خ‏.‏ الي مأدبة لرجال الأعمال ونسائه‏,‏ كانت علي رأي من شهدها مظهرا لذلك الأدب النغل أي اللقيط الذي يصعب عليك ان تعزوه الي وطن أو تنسبه الي أمة‏.‏
    ثم يروي الزيات حادثة طريفة وقعت في هذه الحفلة فيقول‏:‏ أقبلت صاحبة الحفلة علي الاستاذ المازني وقدمت له سيدة يقولون إنها من الأديبات النابغات‏,‏ ونوهت ـ وهي تقدم السيدة ـ الي الأستاذ المازني بأثر المازني في الأدب ومكانه في النهضة‏,‏ ثم تركتهما معا‏,‏ وانتظر المازني ان تتحدث اليه السيدة الأديبة في قصة من قصصه أو رأي من آرائه‏,‏ فيكون ذلك بعض الترضية لأدبنا العربي المهان في بلده وبين قومه‏,‏ ولكن السيدة الأديبة بدأت الحديث مع المازني بهذا السؤال‏:‏ حضرتك من مصر ولا من الشام؟ ولا أدري أقامت السيدة بإلقاء كلام علي المازني أم بإلقاء دلو من الماء؟ وقد تخلص المازني منها بلباقة وأقبل علينا يقول‏:‏ واضيعتاه‏!‏ أبعد ثلاثين عاما قضيتها في الأدب‏,‏ أكتب في كل يوم مقالا‏,‏ والقي في كل اسبوع محاضرة‏,‏ وأخرج في كل سنة كتابا‏..‏ اجد في المتعلمات بالقاهرة من يسأل‏:‏ أمن الشام أنا أم من مصر؟‏.‏
    ويختم الزيات مقاله البديع معلقا علي ما رآه في الحفلة الأدبية من حرص الحاضرين ـ وفيهم أسماء كبيرة علي الحديث ـ طول الوقت ـ بلغة غير العربية وهو ما يسميه الزيات باسم الأدب الحرام يقول الزيات‏:‏
    إذا جاز لهؤلاء السيدات الأديبات ان يتكلمن بغير لغتهن بحكم نشأتهن وطبيعة ثقافتهن‏,‏ فكيف يجوز لأساتذة اللغة وزعماء الأدب ان يديروا في أفواههم ذلك اللسان الأجنبي‏,‏ وما كانت قيمتهم في الناس‏,‏ ولا دعوتهم في هذا الحفل إلا لأنهم يتقنون العربية ويتزعمون الثقافة العربية؟ ان من هوان نفسك عليك وإهانة جنسك في الناس‏,‏ ان تتكلم غير لغتك في بلدك وبين قومك من غير ضرورة ولامناسبة‏,‏ فإن ذلك ان دل علي شيء فانه يدل علي عدم استقلالك في شخصيتك وعقيدتك ونوع تفكيريك واسلوب حياتك‏.‏
    ثم يتحدث الزيات عن ظاهرة كانت شائعة في مصر وفي لبنان في تلك الفترة‏,‏ أي سنة‏1937‏ وما قبلها وما بعدها فيقول‏:‏
    هل تستطيع ان تدلني علي بقعة من بقاع الارض غير مصر ولبنان يجتمع في دار من دورها مجلس من مجالس الأدب يحضره لفيف من أساتذة الجامعة واعلام الأدب وأقطاب الصحافة‏,‏ ثم لايكون حديثهم إلا بالفرنسية‏,‏ ولايدور نقاشهم الا علي موضوعات أجنبية‏,‏ وأخيرا يقول الزيات فيما يشبه النداء الوطني العام‏:‏
    ياقومنا
    إن لغة المرء هي تاريخه وذاته‏,‏ فالغض منها غض منه‏,‏ والتفضيل عليها تفضيل عليه‏,‏ ولا يرضي لنفسه الضعة والصغار الا من هان علي نفسه وكان من العاجزين‏.‏
    وهكذا اردت ان استريح بقراءة سهلة لطيفة تنسيني الواقع من حولي‏,‏ فانفتحت أمامي كل أبواب الريح‏!‏
    ...........................................
    *الأهرام ـ في 27/5/2007م.
    رد مع اقتباس  
     

  6. #6 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 6 ) في ذاكره‏..‏ المازني أديب كبير

    بقلم: رجاء النقاش
    ...................

    في‏10‏ أغسطس الحالي تكون قد مرت‏58‏ سنة علي رحيل الأديب العربي الكبير إبراهيم عبد القادر المازني‏(1890‏ ـ‏1949)‏ وقد سعدت كثيرا عندما علمت من صديقي الدكتور عماد أبو غازي بصدور الأعمال الكاملة للمازني ضمن مطبوعات المجلس الأعلي للثقافة‏,‏ وهذا عمل جليل‏,‏ لأن كتابات المازني ظلت منذ وفاته يعلوها الغبار ويطويها النسيان ولا يهتم بها ناشر ولا قارئ ولا ناقد‏,‏ وإن كان هناك عدد قليل من الباحثين والأدباء والنقاد لم ينسوا المازني وظلوا يذكرونه ويواصلون صحبته ومحبته ويكتبون عنه برغم جو الاهمال العام الذي احاط به‏,‏ وفي مقدمة هؤلاء الأديب العالم الشاعر الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم والأديب الناقد القانوني احمد السيد عوضين‏,‏ وقد كان من السابقين في الكتابة عن المازني الدكتورة نعمات فؤاد والاستاذ فاروق خورشيد‏.‏ ومع ذلك فإنه منذ وفاة المازني سنة‏1949‏ قد أصابه الإهمال الأدبي فلم يقم احد بنشر اعماله الكاملة‏,‏ ولم تعد الاجيال الجديدة تعلم عنه شيئا والكثير منهم لا يعرفون حتي اسمه‏,‏ كل ذلك برغم ان المازني هو واحد من أكبر الأدباء العرب في كل العصور‏,‏ وقد كان ينبغي علينا أن نتيح قراءة اعماله للاجيال الجديدة حتي يستمتعوا بها وينتفعوا بما فيها من فن وعلم ومعرفة غزيرة‏.‏
    المازني كاتب فريد في أدبنا العربي كله وله قامة عالية تقف الي جانب العقاد وطه حسين وهيكل والزيات واحمد أمين وزكي مبارك‏,‏ وهو ليس من المعروفين بعبقريته الادبيه فقط‏,‏ بل إنه كان من أكثر أدباء جيله في انسانيته وتعامله الكريم مع الناس‏,‏ وهذا هو الجانب الذي اريد أن اقف أمامه اليوم‏,‏ أي الجانب الانساني في شخصية المازني‏,‏ وهو الجانب الذي رفعه الي جانب عبقريته الأدبية الي القمة بين رجال عصره‏,‏ وإن كان بعد رحيله‏,‏ قد لقي كثيرا من الاهمال الذي لا يستحقه ولا يليق بمقامه الأدبي والانساني الرفيع‏.‏
    كان المازني شديد الصدق والحساسية‏,‏ وكانت الاحداث التي تدور حوله تؤثر فيه بقوة وعنف‏,‏ وقد كان شاعرا فتوقف عن الشعر‏,‏ واشتغل بالنقد الأدبي‏,‏ وكان يقول الحق ويضع يده علي الخطأ فلا يسكت عنه ولا يجامل فيه‏,‏ ولقي في ذلك عناء كبيرا‏,‏ وتجمع حوله الاعداء يريدون الاساءة اليه بسبب ما كانوا يسمونه طول اللسان والجرأة علي الادباء الكبار‏,‏ وقد تأثر المازني بالعداء له‏,‏ ولم يكن قادرا علي ان يجعل من نقده مجاملة بعيدة عن الحق والصدق من اجل كسب مودة الناس‏,‏ فتوقف عن الكتابة في النقد‏,‏ وكتب مقالا يعلن فيه عن هذا التوقف والمقال منشور في جريدة‏(‏ البلاغ المصرية سنة‏1934),‏ وكان المازني في نحو الخامسة والاربعين من عمره‏,‏ وهذا المقال كتبه المازني بخفة ظله التي تخفي تحتها احساسا عميقا بالألم والحزن والتأثر بتجارب الحياة السلبية القاسية‏,‏ يقول المازني في مقاله‏:‏ لو أنني بدأت حياتي من جديد لآثرت ان اكون بائع فجل ولا أكون ناقدا‏,‏ لا اتقاء للعداوات‏,‏ فما يستطيع الانسان ان يتقيها ولو عاش في كهف‏,‏ بل لأن النقد الذي ضربت به الآخرين هو جهل وسفاهة وتطاول ذميم وقلة حياء‏,‏ ولماذا لا نحيا وندع غيرنا يحيا‏,‏ ونعمل ونفسح لسوانا ان يعمل‏,‏ ومن الذي يسعه أن يصنع خيرا مما صنع ويحجم عن ذلك‏,‏ وكيف يطالب المرء بأكثر مما يدخل في طوقه‏,‏ والنقد تطفل‏,‏ ثم إن الناقد يقيم من نفسه حكما ومرجعا‏,‏ ويفرض آراءه علي الخلق‏,‏ ويعطي لنفسه حقوق القراء جميعا في وزن ما يقرأون‏,‏ وهذا كله من الغرور والتطاول‏,‏ عفا الله عنا‏.‏
    ثم يواصل المازني نقده القاسي لنفسه فيقول‏:‏ من كرهي للنقد اكره أن اتلقي كتبا فيه‏,‏ لأنها توقظ في نفسي الشر الذي كان شيطانه قد نام‏,‏ وكنت ظننت لجهلي انني قتلت هذا الشيطان‏,‏ فإذا به ينهض وقد استراح من طول الرقاد‏,‏ ويستولي علي‏,‏ ويبعد عيني عن الخير ـ ويدير رأسي فأنقلب كالمجنون في يده سيفا‏,‏ ثم أفيق‏,‏ فتأخذ عيني الاشلاء المتناثرة‏,‏ فينقطع قلبي حسرة‏,‏ واثور علي نفسي‏,‏ فليعقني الكتاب‏,‏ فإني شرير‏,‏ ويهيجو أبالستي الكامنة وليدعوني وما اعالج نفسي واروضها عليه واصرفها اليه‏,‏ لعلي أتطهر‏.‏
    وبعد هذه الكلمات القاسية التي كتبها المازني في نقد نفسه‏,‏ وفي إعلان ندمه علي اشتغاله بالنقد لفترة من الفترات‏,‏ والاعتراف بأخطائه الي الحد الذي جعله يصف نفسه بأنه شرير‏,‏ فإنه ينتقل في المقال نفسه الي الحديث في ندم شديد علي حملته العنيفة ضد صديقه القديم عبد الرحمن شكري‏,‏ وهو يروي ذلك في ندم شديد‏,‏ ويدين نفسه إدانة كاملة في خصومته مع عبد الرحمن شكري ويبرئ شكري من كل عيب او مسئولية عن الخصومة بينهما‏,‏ ولأن موقف المازني في روايته لهذه الخصومة هو نموذج حي كريم للأخلاق التي ترفع الرأس بين الأدباء وغير الادباء فسوف أنقل جزءا كبير من هذه الرواية التي يدين فيها المازني نفسه‏,‏ ويعيد الاعتبار لصديقه الشاعر الأديب المفكر عبدالرحمن شكري‏(1886‏ ـ‏1958)‏ وأستأذن القارئ الكريم في أن نقرأ‏,‏ بل وأن نسمع صوت الضمير الانساني والأدبي في اعلي درجات صدقه وصفائه وإخلاصه‏,‏ وذلك فيما كتبه المازني عن قصته مع عبد الرحمن شكري‏,‏ ففيها ـ كما اشرت ـ تعبير عن اخلاق إنسانية ترفع الرأس‏,‏ وفيها نغمة إنسانية عذبة من الصدق الذي نجده في كتابات المازني عموما ونجده في اعترافاته المتفرقة‏,‏ علي نفسه‏,‏ بصورة خاصة ومصدري في هذا النص للمازني
    هو كتاب رواد الشعر الحديث في مصر للأديب الشاعر مختار الوكيل‏,‏ وهو الكتاب الصادر في طبعته الأولي سنة‏1934.
    يقول المازني عن صداقته ثم خصومته مع الرحمن شكري‏:‏ لقد عرف القراء حكايتي مع عبد الرحمن شكري‏,‏ وكيف كنا صديقين حميمين‏,‏ ثم وقعت الجفوة فتعادينا‏,‏ ومضي خير عمرنا في قطيعة سخيفة‏,‏ ولست اعلم كيف كان بعدي‏,‏ وما أظن إلا إنه بخير‏,‏ وما أعرف رجاء أو دعاء حين اذكره إلا أن يمسح الله علي قلبه وينسيه ما كان مني‏,‏ فما ندمت علي شئ في حياتي ندمي علي فرط مني في حقه‏,‏ ذلك أني أحبه وأكبره ولا استطيع أن أجحد فضله علي من نعم‏,‏ كنا زميلين في مدرسة واحدة‏,‏ ولكنه كان ناضجا وكنت فجا‏,‏ وكان أديبا شاعرا واسع الاطلاع‏,‏ وكنت جاهلا ضعيف التحصيل قليل العقل‏,‏ فتناول يدي وشد عليها‏,‏ وأبت مروءته ان يتركني ضالا حائرا انفق العمر سدي‏,‏ ثم يواصل المازني اعترافاته النادرة فيقول‏:‏ صحح لي عبد الرحمن شكري المقاييس‏,‏ واقام الموازين الدقيقة‏,‏ وفتح عيني علي الدنيا وما فيها‏,‏ وكنت أعمي لا أنظر‏,‏ وإذا نظرت لا أري‏,‏ وكنت فقيرا يعيرني الكتب‏,‏ وكنت غبيا فكان يشرح ويفسر علي نحو لا يجعلني أبدو أمام نفسي صغيرا‏,‏ ولما نفخني واعلاني‏,‏ قلت الشعر‏,‏ وكان يصونني من العبث ويزجرني عن التقليد ولا يرضي لي الضعف‏,‏ اذكر مرة أنني نظمت أبياتا من العتاب أو الغزل وبعثت بها اليه فردها بكتاب قال فيه‏:‏ إنها لا تليق برجولتي‏,‏ فشق علي ذلك‏,‏ وأجبته جوابا مرا‏,‏ فأغضي‏,‏ ومرت الأيام‏,‏ وهدأت نفسي‏,‏ وراجعت الأبيات‏,‏ فلم أجد فيها غير ما رآه‏,‏ فمزقتها‏.‏
    ثم يقول المازني‏:‏ لقد تنمرت لشكري وغدرت به‏,‏ ولكني والله ما كرهته قط‏,‏ ولا انطوت له نفسي في احلك ساعات النقمة إلا علي الحب والإكبار‏,‏ اقول هذا ولا رجاء لي عنده‏,‏ ولا أمل لي فيه‏,‏ ولا خوف بي منه‏,‏ فما يملك لي نفعا أو ضرا‏,‏ وإني لأجرأ منه علي الحياة‏,‏ وأقوي منه عزما‏,‏ و أعظم صبرا‏..‏
    تلك كانت قصة الخصومة بين عبد الرحمن شكري والمازني والتي شن فيها المازني حملة عنيفة علي شكري تحت عنوان صنم الألاعيب ثم هدأت نفس المازني فاعترف بأنه قد اخطأ وأدان نفسه إدانة قاسية وصريحة‏,‏ وهذا الموقف من جانب المازني يقدم نموذجا للأخلاق الأدبية الرفيعة‏,‏ ويكشف عن العبقرية الإنسانية في المازني الذي كانت لديه الشجاعة الدائمة لأن يقول الحق ولو علي نفسه‏.‏
    .......................................
    *الأهرام ـ في 26/8/2007م.
    رد مع اقتباس  
     

  7. #7 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    انظر في المربد:
    وفاة الناقد المصري رجاء النقاش
    للدكنورة: ألق الماضي:
    .................................
    *الرابط:
    http://www.merbad.com/vb/showthread.php?t=8928
    رد مع اقتباس  
     

  8. #8 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 7 ) يــوم من الأيـــام (رجاء النقاش يتحدث عن نفسه)

    بقلم: رجاء النقاش
    ........................

    كان طه حسين هو أول معلم أدبي عظيم يقول لنا‏:‏ إن الحديث عن النفس ليس من الأمور التي يرضاها الذوق الإنساني السليم‏,‏ ولذلك فإن طه حسين عندما كتب كتابه الجميل الخالد الأيام استخدم ضمير الغائب‏,‏ ولم يستخدم كلمة أنا أبدا‏,‏ فكان يتحدث عن نفسه وكأنه يتحدث عن شخص آخر‏,‏ فيسمي نفسه باسم الفتي‏,‏ ويدور الحديث كله في أجزاء الأيام الثلاثة عن هذا الفتي وكأنه شخص مختلف عن طه حسين‏.‏ ومن المعروف أن طه حسين كتب الأيام في فترة من أعنف فترات الأزمة والضيق في حياته‏.‏ وكان ذلك سنة‏1926‏ وطه حسين أيامها في السابعة والثلاثين من عمره‏,‏ أما الأزمة التي كان يعانيها فكانت ناتجة عن الظروف التي أحاطت بكتابه الشهير في الشعر الجاهلي‏.‏فلم يكد هذا الكتاب يظهر حتى اهتزت مصر كلها‏,‏ وثارت بعدها ثورة عنيفة ضد طه حسين تتهمه في وطنيته ودينه وسلامة عقله وثقافته‏.‏
    وخرجت بعض المظاهرات تهتف بسقوط طه حسين الملحد الكافر‏,‏ وقد رأي طه حسين بعد ذلك أن يحذف من كتابه الصفحات التي أثارت كل هذا الغضب عليه‏,‏ وأعاد تأليف كتابه بعد تعديله‏,‏ ولا أشك أبدا في أن طه حسين كان صادقا مع نفسه فيما أقدم عليه من تعديلات‏,‏ ولكن المهم أن الأزمة التي استمرت شهورا‏,‏ وربما سنوات‏,‏ قد دفعت طه حسين إلي الانسحاب من الحياة العامة‏,‏ وإتاحة الفرصة للعاصفة حتي تهدأ‏,‏ كما أنه عكف علي كتابة قصة حياته التي ظهرت في الأيام‏,‏ وكان الكتاب يعزف نغمة حزينة‏,‏ وفيه يحرص طه حسين علي أن يبتعد عن أي غرور بنفسه‏,‏ وبدلا من ذلك فهو يرسم صورة لظروف بيئته ومتاعب عصره‏,‏ ويقدم لوحات بديعة لكفاح إنسان من أجل حياة أفضل في ظل هموم صعبة قاسية‏.‏
    هذا ما فعله طه حسين في الأيام‏,‏ فقد جعل من حديثه عن نفسه حديثا بالغ الروعة والجمال عن مجتمعه وبلاده وأهله‏.‏
    تذكرت طه حسين وأيامه‏,‏ وحاولت أن أتعلم منه وأتأدب بأدبه‏,‏ وإن لم أحلم أبدا بأن أصل إلي مستواه الرفيع‏,‏ فذلك أمر صعب المنال‏,‏ بل حلم مستحيل‏,‏ وقد خطرت علي بالي خواطر عامة متعددة بمناسبة يوم‏23‏ أغسطس‏,‏ أي يوم الجمعة الماضي‏,‏ فهذا اليوم هو يوم ميلادي‏,‏ وأتمنى أن يأذن لي من يتفضلون بقراءة ما أكتبه في الإشارة إلي بعض الخواطر العامة وغير الشخصية مما يتصل بهذا اليوم الخاص‏..‏ يوم‏23‏ أغسطس‏.‏
    كان‏23‏ أغسطس هو اليوم الذي ولدت فيه سنة‏1934,‏ فأنا الآن في الثامنة والستين‏.‏ ولا أدري‏(‏ والله ـ كيف وصلت إلي هذا العمر المتقدم بهذه السرعة‏,‏ فقد كانت سنوات عمري تتلاحق مثل البرق‏.‏ وعندما التفت إلي الوراء قليلا اشعر أنني كنت أجري ولا أمشي‏,‏ وكأنني عشت حياتي خطفا ولم أعشها في أناة وهدوء‏.‏ علي أنني في جميع الأحوال أحمد الله علي كل شيء‏.‏
    كان ميلادي ونشأتي الأولي في ريف المنصورة‏,‏ ومن هنا كانت فكرة الاحتفال بأعياد الميلاد فكرة غريبة بالنسبة لي‏.‏ ففي الريف علي أيامنا ـ في أربعينات القرن الماضي ـ لا يحتفل الناس أبدا بأعياد الميلاد الشخصية‏,‏ وإنما يحتفلون احتفالا كبيرا بأعياد الميلاد العامة وعلي رأسها مولد النبي وموالد الصالحين وأولياء الله مثل السيد البدوي وغيره‏.‏ ومازلت أشعر حتى الآن بأنني لا أتقبل فكرة أعياد الميلاد هذه إذ يبدو لي أن من عجائب الأمور أن يحتفل الإنسان بنفسه‏,‏ وأن يكون هذا الاحتفال بمناسبة انقضاء عام مضي من حياته‏.‏ وعندما تمضي الأعوام فإن الإنسان يقترب من النهاية‏,‏ فكيف يحتفل الإنسان بمثل هذا الاقتراب؟‏.‏
    هذا أمر لم يستطع عقلي أن يقبله‏,‏ وإن كنت في الوقت نفسه لا أحب أن أفسد فرحة أي إنسان بعيد ميلاده‏,‏ فالأفراح في الدنيا قليلة‏,‏ وهي فرصة لنسيان الأحزان والهروب من الهموم فإن كان هناك فرح من أي نوع فمن الأفضل أن نتعلم الترحيب بذلك والمشاركة فيه‏.‏ وتخطر علي بالي هنا عبارة بديعة للأديب العربي السوداني الكبير الطيب صالح يصف فيها ليلة عشوائية رقص فيها الناس واشتركوا في الغناء معا‏.‏ ويقول الطيب‏:‏ لقد كان ذلك فرحا عظيما‏..‏ من أجل لا شيء‏!‏
    فليفرح الإنسان بقدر ما يستطيع‏,‏ حتى وإن كان فرحه من أجل لا شيء‏!‏
    علي أن يوم ميلادي‏,‏ وهو‏23‏ أغسطس‏,‏ يثير في نفسي بعض الذكريات العامة التي لا تتصل بي إلا من بعيد جدا‏,‏ ولعل ذلك هو ما يساعدني في التغلب علي ترددي ويشجعني علي الحديث عن بعض هذه الذكريات والإشارة إليها‏.‏
    ولدت ونشأت في محافظة المنصورة الدقهلية‏.‏ وكان والدي مدرس أولي‏,‏ وهو المدرس الذي كان معروفا في ذلك العصر باسم المدرس الإلزامي‏.‏ وقد كان لهؤلاء المدرسين الإلزاميين فضل كبير في نهضة مصر في الفترة الممتدة من ثورة‏1919‏ إلي ثورة‏1952.‏ ولو أن أحدا كتب تاريخ التعليم الإلزامي في مصر لجاء هذا التاريخ صفحة مشرقة من صفحات الوطنية والتقدم في العصر الحديث‏.‏ ولكن هذا التاريخ للأسف غير مكتوب‏.‏
    وكان الوالد ـ رحمه الله ـ شاعرا محبا للثقافة والأدب‏,‏ وكان أيضا من علماء الدين‏,‏ ولكنه كان شديد الحرص على أن يفصل بين الشئون الدينية والشئون السياسية‏,‏ فكان من الأنصار المتحمسين لحزب الوفد القديم الذي أنشأه الزعيم الوطني سعد زغلول‏,‏ وتولاه من بعده زعيم وطني آخر هو مصطفي النحاس‏.‏
    وقد تربيت تربية راسخة على أفكار والدي الأساسية فأصبحت هذه الأفكار ثابتة عندي إلى الآن‏,‏ وفي مقدمة هذه الأفكار أن الدين أكبر من السياسة‏,‏ وأن الدين ثابت أما السياسة فإنها تتغير مع تغير الظروف‏,‏ ومن هنا فإنه لا مبرر للخلط بين الدين والسياسة‏,‏ لأن في ذلك ما قد يجعل الدين عرضة للدخول في دوامة من التغيرات والتحولات والخلافات‏.‏ وهو أمر لا يجوز‏.‏ وفي النهاية فإن المتدين الصادق مع نفسه لابد أن يكن وطنيا محبا لبلده‏,‏ وأن يكون مجتهدا جادا في عمله‏,‏ وأن يكون أمينا وكريما في معاملاته مع الناس‏.‏ وبذلك تكون التربية الدينية الصحيحة فيها نفع عام‏,‏ ولا تحتاج هذه التربية إلى أن تأخذ شكلا سياسيا بأي صورة من الصور‏.‏ وقد كان لوالدي في هذا الإطار قصائد دينية كثيرة وأذكر من أشعاره بيتا يقول فيه عن القرآن مخاطبا المسلمين‏:‏
    عودوا إليه تعد أيام عزتكم
    محجلات كما كنا ميامينا
    والمحجلات معناها المتبخترات المزهوات بنفسها‏.‏
    والدعوة هنا موجهة إلى التربية الأخلاقية المتينة المستمدة من القرآن وما ينادي به من فضائل إنسانية أساسية‏,‏ وليست الدعوة إلي الخلط بين الدين والسياسة‏.‏
    على أن الوالد على كثرة شعره الديني كان يكتب قصائد في الغزل‏,‏ ومن شعره قصيدة عنوانها من أنت؟ يخاطب فيها امرأة جميلة فيقول‏:‏
    من أنت يا ذات الجمال الساحر
    يا من ملكت علي كل مشاعري؟
    ولقد كان الوالد رحمة الله عليه‏,‏ يعاني ظروفا اقتصادية عسيرة وقد انعكست هذه الظروف علينا نحن أفراد عائلته الكبيرة‏,‏ ذلك لأنه لم يكن يفكر في أمور المال‏,‏ وإنما كان غارقا في الانشغال بأمور الدين والأدب والثقافة‏,‏ ونتج عن ذلك أنه كان معروفا ومحبوبا ومحترما في قريتنا‏,‏ ولكنه كان وكنا معه من فقراء هذه القرية‏.‏ وكنت أسمع منه وأنا صبي صغير حديثا يطرح فيه سؤالا يقول‏:‏ ما هي أكبر محنة يتعرض لها الإنسان؟ وكان يجيب علي السؤال بقوله‏:‏ إنها محنة الإنسان الذي تكون مكانته المعنوية أعلي بكثير من مكانته المادية‏,‏ لأن هذا الوضع يدفع بصاحبه إلي أزمات متصلة لا يجد لها حلا علي الإطلاق‏.‏ ورغم هذا الوعي بالمشكلة فإنه لم يصل إلي أي توفيق ملائم في حياته المادية‏.‏
    وقد ألف والدي في الثلاثينات كتابا عنوانه شرح منهج التعليم الإلزامي ونجح الكتاب نجاحا مدهشا وباع آلاف النسخ‏,‏ كان الوالد يستطيع أن يجني من ورائه ثروة لا بأس بها تساعده في إصلاح أحواله المادية المتردية‏,‏ ولكنه كان يرفض ذلك دون تردد‏,‏ لأنه كان يعتبر الكتاب نوعا من الجهاد العلمي والثقافي والوطني‏,‏ وينبغي توزيعه بسعر منخفض لا يحقق أي ربح من أي نوع‏,‏ بل علي العكس فقد كان أقرب إلي تحقيق الخسائر كلما ازداد توزيعه‏.‏ وكنت حين أشعر بوطأة الأزمة الاقتصادية التي نعانيها كعائلة أحس أن فكرة والدي عن الحياة كانت خاطئة‏,‏ ذلك لأن الاحتياج المادي الشديد يفسد كثيرا من أمور الإنسان الأساسية‏.‏ ولذلك فإن مراعاة هذا الجانب المادي في الحياة والاجتهاد فيه بقدر الإمكان هو من الأمور الضرورية التي ليس من حق أحد أن يتخلي عنها أو يهرب منها‏.‏ وقد أدت المعاناة الاقتصادية بما تجره علي الحياة من مشكلات إلي أن يمتلئ شعر الوالد بكثير من شكوي الدهر والأيام‏,‏ أي الشكوي من سوء الظروف وقسوة الأحوال‏,‏ ومن ذلك قوله في إحدي قصائده‏:‏
    سقاة همومي هاتوا القدح
    فقد ضل قلبي معني الفرح
    ومن ذلك تعبيره عن اليأس من صلاح الأحوال واعتدال أمور الدنيا حيث يقول‏:‏
    هيهات‏,‏ هيهات‏,‏ فالدنيا إذا جمحت
    فلا نجاة لربان ولا سفن
    فكأن الدنيا عنده قد أصبحت حصانا جامحا لم يعد بالإمكان السيطرة عليه‏.‏
    وتتوالي ذكريات أخري عن يوم الميلاد‏,‏ فقد ولدت في قرية غير قريتي اسمها القباب‏,‏ حيث كان والدي يعمل بها‏,‏ ولكن والدي صمم علي استخراج شهادة ميلادي من قريتي منية سمنود ولذلك تأخر تسجيل ميلادي عشرة أيام‏,‏ فميلادي في الشهادة هو‏3‏ سبتمبر‏,‏ أما ميلادي الحقيقي فهو‏23‏ أغسطس‏.‏
    وقد بدا لي‏,‏ وربما كان ذلك من أوهامي‏,‏ أن ميلادي في قرية غير قريتي هو سبب أصيل في شعور قديم لا أستطيع أن أمحوه من نفسي‏,‏ وهو الشعور بالاغتراب الذي ما زلت أعانيه إلي الآن‏.‏ والحقيقة أن هذا الشعور هو شعور سلبي لأنه كثيرا ما يؤدي إلي الارتباك والخجل والرغبة في الانسحاب من الحياة العملية‏.‏ وهو شعور ينبغي أن يقاومه الإنسان لأنه ترف لا يقوي عليه أحد‏.‏
    علي أن والدي كان يعلمني منذ طفولتي أن يوم ميلادي هو‏23‏ أغسطس هو يوم مبارك في تاريخ مصر الوطني‏,‏ وأن من واجبي أن أعتز بهذا التاريخ‏,‏ فهذا اليوم هو ذكري وفاة سعد زغلول الذي رحل عن الدنيا في‏23‏ أغسطس سنة‏1927,‏ وأنا ولدت في الذكري السابعة لسعد‏,‏ أي في‏23‏ أغسطس سنة‏1934.‏ وكان سعد زغلول هو أحب الزعماء الوطنيين وأكثرهم شهرة ورسوخا في قلوب المصريين في جيل أبي‏.‏ وقد تأكد لي هذا المعني عندما أجريت مجموعة من الأحاديث مع أديبنا العظيم نجيب محفوظ سنة‏1990,‏ فوجدت نجيب محفوظ يتحدث عن سعد زغلول كما يتحدث عن قديس‏.‏
    وقد اختار لي أبي اسم رجاء لأنه كان من عشاق الأديب العربي الكبير أحمد حسن الزيات‏,‏ وكان الابن الأكبر للزيات اسمه رجاء‏,‏ فاختار لي أبي نفس الاسم تيمنا به وتعبيرا عن محبته الكبيرة للزيات‏,‏ وقد توفي رجاء الزيات وهو طفل صغير سنة‏1936.‏ وسارع عدد كبير من أدباء مصر بكتابة مقالات بديعة في رثاء ابن الزيات‏,‏ ومن هؤلاء الذين شاركوا في الرثاء الرائع‏:‏ طه حسين وأحمد أمين وعبدالوهاب عزام والزيات نفسه‏.‏ وقد بقي للزيات بعد رحيل ابنه الأول رجاء ابنه الوحيد الثاني علاء‏,‏ وهو الآن الدكتور علاء الزيات الأستاذ في جامعة القاهرة وأحد أنبغ أطباء مصر‏.‏
    وعندما اختار لي أبي اسم رجاء اعترضت والدتي وأصرت علي أن يكون اسمي هو محمد‏,‏ وانتهي الخلاف علي أن يكون اسمي مزدوجا وهو محمد رجاء وهذا هو اسمي في شهادة الميلاد‏.‏ وأتوقف أخيرا عند ظاهرة الصحف الإقليمية التي كانت منتشرة في مصر في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي‏,‏ فقد كان والدي ينشر قصائده في بعض هذه الصحف‏,‏ ومنها صحيفة اسمها البنان كانت تصدر في المنصورة‏.‏ وصحيفة أخري اسمها الإصلاح كانت تصدر في السنبلاوين‏.‏ ومن المؤسف أن حركة الصحافة الإقليمية قد ضعفت الآن بينما كانت منذ ستين أو سبعين سنة في قمة الازدهار‏.‏
    علي أن الوالد كان ينشر بعض أشعاره في صحف قاهرية منها صحيفة الدستور اليومية‏,‏ ورغم أنه كان وفديا وكانت صحيفة الدستور تصدر عن حزب معارض للوفد هو حزب الأحرار الدستوريين إلا أن هذه الصحيفة كانت تفرد صفحة يومية للأدب يشرف عليها الشاعر الأديب الدكتور مختار الوكيل مما كان يشجع والدي ـ رغم الاختلاف السياسي ـ علي نشر قصائده فيها‏,‏ وهذه الظاهرة تمثل روح التسامح الأدبي الكبري في ذلك العصر‏.‏ وكان والدي يردد بيتين رائعين لشاعرنا العربي أبوتمام يقول فيهما عن صديق له‏:‏
    إن يختلف ماء الوداد فماؤنا
    عذب تحدر من غمام واحد
    أو يفترق نسب يوحد بيننا
    أدب أقمناه مقام الوالد
    وما أبدع صورة الأدب الذي يوحد بين الناس فيقيمونه مقام الوالد‏,‏ وفي هذا المعني الكبير إشارة قوية إلي الانتماء الحضاري لثقافة واحدة وذوق جميل واحد‏.‏
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    *الأهرام ـ في 25/8/2002م.
    رد مع اقتباس  
     

  9. #9 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 8 ) الدعوة لتأسيس بيت ثقافة يحمل اسم رجاء النقاش

    بقلم: مي أبوزيد
    .......................

    وسط حشد كبير ضم عدداً من الأدباء والكتاب والسياسيين والعلماء جلس الناقد الكبير رجاء النقاش بجسده الواهن، ليشهد الاحتفالية التي أقامها حزب التجمع لتكريمه بالتعاون مع نقابة الصحفيين وذلك قبل أن يغادر القاهرة ليتلقي العلاج في الخارج.
    وتقدم الحضور الكاتب محمود أمين العالم ورفعت السعيد - رئيس حزب التجمع - والروائي بهاء طاهر والدكتور حامد عمار والناقد عبدالمنعم تليمة ود.محمد أبوالغار وعلي أبوشادي أمين المجلس الأعلي للثقافة والكاتب مكرم محمد أحمد - نقيب الصحفيين - والشاعر فاروق جويدة مدير تحرير جريدة الأهرام.
    وأجمعت كلمات المشاركين علي تأكيد الدور البارز الذي لعبه النقاش كرائد للصحافة الثقافية وناقد علم قدم مبدعين واصلوا طريقهم بفضل دعمه وتشجيعه من أبرزهم محمود درويش والطيب صالح.
    كانت كلمة رجاء النقاش - التي ألقاها الشاعر حلمي سالم نيابة عنه، وهو مقدم الاحتفالية - هي الأخيرة، قبل أن تبدأ الفقرة الغنائية لفرقة الموسيقي العربية، وجاء فيها أن النقاش لم يقبل بإقامة هذه الاحتفالية إلا لإدراكه أنها لن تخص شخصه المتواضع، بل ستمتد إلي قضايا عدة تتصل بحياتنا الثقافية والعامة، وهو ما رأه - النقاش - قد تحقق، فالاحتفالية أثبتت أن الثقافة هي الجامعة الأصيلة للأمة العربية وليس «تلك الجالسة باطمئنان في مبني يطل علي النيل»، وذلك في إشارة إلي الرسائل التي توافدت من بعض الدول العربية لكتاب رغبوا في إلقاء كلمتهم في الاحتفالية كالشاعر الفلسطيني محمود درويش والشاعر اليمني عبدالعزيز المقالح والمفكر اليمني الدكتور أبوبكر السقاف.
    كما أثبتت الاحتفالية لدي رجاء النقاش كذب «الكلام» الذي يدور حول صراع الأجيال الأدبية واستهانة الجيل الجديد بآبائه، لأن هناك أجيالاً أدبية تلت جيله، شاركت في هذه الاحتفالية، التي تمثل تكريماً للصحافة الثقافية، التي طالما ومازالت تنظر إليها بعض الصحف بنوع من الإهمال والتأجيل، وأخيراً فإن الاحتفالية مثلت لدي النقاش نوعاً من الحفل الشعبي الذي يخلو من أي رسميات أو تدخلات تخضع لتقلب الرجال وانعدام الصدق في النوايا.
    وكان الشاعر حلمي سالم قد قدم الاحتفالية مؤكداً أن النقاش قدم للحياة الثقافية المصرية والعربية أجيالاً عدة من المبدعين والمفكرين كمحمود درويش والطيب صالح وسميح القاسم، كما أنه الرجل الذي كلما استلم منبراً ميتاً أو شبه ميت، حوله - بجهده واستدعائه كل التيارات الفكرية - إلي منبر مضيء، وأخيراً هو الرجل الذي يثق بفكره، ويقدم الآخر باحترام دون خوف.
    ونظراً لعدم تمكنهم من الحضور، أرسل كل من الناقد محمد حافظ دياب والشاعر محمود درويش والمفكر الدكتور أبوبكر السقاف برسالة، ألقاها حلمي سالم نيابة عنهم علي الحضور.
    وطالب دياب بإقامة «بيت ثقافة» يحمل اسم النقاش في قريته بسمنود وأعلن مساهمته في المكتبة المقترحة بعشرة آلاف عنوان وفي رسالته إلي الاحتفالية أكد الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، أن هذا التكريم تأخر كثيراً، وأضاف موجهاً الحديث إلي النقاش «لقد جئت إلي القاهرة لأبحث عن أفق جديد، فوجدت فيك حنان البيت والعائلة.. لقد أقنعتنا نحن الشعراء بأن لنا جدوي في زمن شارف علي أن يقتلها، بل إن لك دوراً في تعميق العلاقة بين حرية الشعر وشعر الحرية.. لقد دافعت عن الجديد الإبداعي في مناخ يحارب الحداثة الشعرية، «وأنت ابن الحضارة العربية الذي لم يعتذر عن انتمائه لثقافتها».
    أما المفكر اليمني أبوبكر السقاف فقد أكد في رسالته إيمان النقاش بعروبة مصر الثقافية ورهانه علي أن يتمصر العرب.
    وكان الكاتب مكرم محمد أحمد، قد أشاد بدور النقاش في إثراء عالم الصحافة والأدب بمقالات كتبها قلم كالسيف عند الحق، علي مدي خمسين عاماً ودعا الهيئات الثقافية إلي دعم قرار أكاديمية الفنون بترشيح النقاش لنيل جائزة مبارك في الأدب لهذا العام.
    وأعلن عن انضمام صوت نقابة الصحفيين إلي صوت أكاديمية الفنون في المطالبة بالجائزة للنقاش، وقد أيده في ذلك علي أبوشادي أمين عام المجلس الأعلي للثقافة الذي آثر أن يتحدث عن نفسه وليس نيابة عن المجلس الأعلي للثقافة، وأكد أن ظهور اسمه كناقد لأول مرة في مطبوعة عامة وهي «مجلة الكواكب» ارتبط بدعم رجاء النقاش، الذي ساعده مع بعض الشباب الثائر علي الكتابة في هذه المجلة بلا قيود.
    وكان الدكتور رفعت السعيد، رئيس حزب التجمع، قد سلم درع الحزب إلي النقاش كما ألقي كلمة قال فيها: «إن المحتفي به صحفي تنويري، دافع عن العقل العربي الذي يحاول الكثيرون تغييبه».
    كما تسلم النقاش خلال الاحتفالية درع مؤسسة دار الهلال من عبدالقادر شهيب، رئيس مجلس إدارتها ودرع نقابة الصحفيين.
    وبدوره ألقي الروائي بهاء طاهر كلمة كشف فيه عن علاقة تاريخية مع النقاش، وقال «لقد زاملت النقاش في الدراسة بكلية الآداب جامعة القاهرة في الفترة من 1952 حتي 1956، وكان هو نجم التجمع الأدبي الذي تشكل في تلك الفترة بالكلية، لأنه بدأ مبكراً في الكتابة بمجلة «الآداب البيروتية».. وهو رغم رقته وحساسيته، إلا أنه لا يتردد في الرد علي ما يؤمن بأنه خطأ، وقد فعل ذلك مع تيار أدب الواقعية الاشتراكية الذي بدأ يسود في تلك الآونة، بالإضافة إلي معركته التي قادها ضد أدونيس، شاعر الحداثة الذي رأه يخرج عن سياق الشعر العربي علي الرغم من الصداقة التي جمعت بينهما بعد ذلك.. أما الناقد الدكتور عبدالمنعم تليمة، فقد ذكر أن الجيل الأدبي الذي تشكل مع بداية الخمسينيات قد أثبت أن الإصلاح الثقافي هو القاعدة الأصلية لأي إصلاح آخر، علي عكس ما تؤمن به قوي اليسار أو الوسط أو اليمين الحالية، وقد كان في مقدمة هؤلاء رجاء النقاش، الذي أكد الثقافة العربية الأصلية، بل - دعا إلي تجديد هذا الأصيل، ولن ينسي الدكتور محمد أبوالغار ـ كما ذكر في كلمته ـ أن النقاش كان له الفضل بسبب مقالة كتبها في إنهاء خلاف دار عام 2004 بين بعض الأساتذة ورئيس الجامعة، بسبب رفض الأخير، إقامة أي احتفالية في ذكري تقديم طه حسين استقالته في 9 مارس من عمادة كلية الآداب لجامعة القاهرة، وقد تمكن هؤلاء الأساتذة من إقامة احتفالية ضمت إلي جانب طه حسين، لطفي السيد.
    ورجاء النقاش مثل لدي الشاعر فاروق جويدة ـ كما جاء في كلمته ـ ذلك الناقد الذي نشأ بين تيارين فكريين دون أن ينبهر بالثقافة الغربية، بل إنه لا يمكن من خلال كتاباته تصنيفه فكرياً أو سياسياً ولا يمكن أن نعرف إن كان يسارياً أم يمينياً أم ليبرالياً، لأنه دائماً ما يبحث عن إنسانية الإنسان ومن هنا لا يمكن لأي شخص أن يكرهه، حتي إن اختلف معه في الفكر أو تلقي من ناحيته ـ أي النقاش ـ نقداً لاذعاً.
    أما الكاتبة فريدة النقاش شقيقة المحتفي به ـ ورئيس تحرير صحيفة «الأهالي» ـ فقد آثرت أن تلقي الكلمة التي كتبتها له في عيد ميلاده السبعين، التي تتضمن الخطاب الذي أرسلته لرجاء عام 1952، في بداية التحاقه بالجامعة، وفي كلمتها عبرت فريدة عن امتنانها لأخيها وأستاذها الذي علمها القراءة حينما أعطاها رواية جون شتاينبك، والذي حملها لحلاق الصحة حينما لدغها عقرب، وكذلك الذي كان يعمل بالجامعة ليساعد أباه في تربية الاشقاء الثمانية، وقد ذكرت فريدة كيف كان رجاء يوفر قروش المواصلات ويمشي يومياً من الجامعة إلي شبرا ـ محل الاقامة ـ وكيف كان أول المدافعين عن الشعراء الفلسطينيين في القاهرة، كما ذكرت بحثه الدائد عن القيمة الإنسانية وانحيازه للفلاحين والفقراء، وحبه لجمال عبدالناصر الذي أطل يوماً من قطار كان ذاهباً للصعيد وسأل محدثه متي يمكن للفلاح المصري أن يأكل شيئاً غير البصل والمش؟!
    ..............................
    *البديل ـ في 25/1/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  10. #10 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 9 ) محنة لها تاريخ

    بقلم: رجاء النقاش
    ......................

    عشت في الأسبوع الماضي مع صفحات من مذكرات الراحل العزيز الشاعر الإنسان مصطفي بهجت بدوي‏1921‏ ـ‏2002,‏ وكثيرا ما كنت أعود إلي هذه المذكرات منذ صدورها قبل نحو خمس وعشرين سنة‏,‏ فهي مذكرات صادقة وجميلة‏,‏ وفيها تصوير حي لكفاح إنسان يريد أن يعيش فاضلا ونظيفا وألا يلوث يديه بأي خطأ إلا ما يقع من الناس عن غير قصد‏,‏ والحكمة القديمة تقول إنه ليس من
    الخطأ الخطأ‏,‏ ولكن الخطأ أن تعرف الخطأ وتستمر فيه‏,‏ وقد كان مصطفي بهجت بدوي من الذين لا يقصدون أي نوع من الخطأ أو الشر أو إيذاء الآخرين‏,‏ فإن تصادف أن وقع في خطأ وأدرك ذلك فإنه يسارع راضيا إلي تصحيح ما وقع فيه‏.‏ ومثل هذه الشخصية الطيبة المحبة للخير كان من المفروض أن تلقي من الجميع كل تقدير وتعاطف‏,‏ والحقيقة أن مصطفي بهجت بدوي كان يجد أينما سار ريحا طيبة تصاحبه‏,‏ فقد كان رجلا مطمئن الروح وكان ينشر الاطمئنان حوله عندما يتولي المسئولية‏,‏ ويكون في يديه تصريف أمور الناس في مؤسسة من المؤسسات الكثيرة التي أدارها وأشرف عليها‏.‏
    علي أن اللافت للنظر أن هذا الرجل صاحب القلب النبيل والنوايا الطيبة لم يسلم من الأذى والشر‏,‏ وهذا ما تكشفه لنا مذكراته‏,‏ وهو أيضا ما يؤكد أن الصراع ضد الشر في هذه الدنيا هو معركة لا فرار منها مهما تكن رغبة الإنسان في الابتعاد في مثل هذه المعركة المؤلمة‏,‏ فالحياة تعلمنا أنه مهما يكن الإنسان مثاليا وحريصا علي أن يكون فاضلا وكريما في أخلاقه وتصرفاته ومواقفه فإنه لا يمكن أن ينجو من الشرور‏,‏ فهناك دائما في ركن من أركان الدنيا من يتربصون بالخير ويضيقون به ويعلنون عليه حربا لاهوادة فيها ولارحمة‏.‏
    وتلك هي قصة مصطفي بهجت بدوي مع الحياة‏,‏ فقد كان أبعد ما يكون عن الشر‏,‏ ولكنه تعرض لهجمات الأشرار الذين اتهموه مرة بالشيوعية ومرة أخري بالناصرية ومرة ثالثة بأنه يسعي لإشعال فتنة طائفية في مصر بعد أن تجرأ علي عمل ناجح ونبيل وهو أن يستكتب البابا شنودة في جريدة الجمهورية مرة كل أسبوع‏,‏ وقد انتهي الحال بمصطفي بهجت بدوي في الفترة الأخيرة من حياته إلي نوع من الاعتكاف الكبير‏,‏ حيث وجد في الدين الواعي والتصوف الجميل ما يغنيه عن حروب الدنيا والناس‏,‏ وقد امتدت هذه الفترة في حياته إلي ما يزيد علي ربع قرن‏,‏ ابتداء من سنة‏1975‏ حتى لقي وجه ربه يوم‏28‏ فبراير الماضي‏.‏
    أتوقف هنا أمام واقعة يرويها مصطفي بهجت بدوي في مذكراته وتاريخ هذه الواقعة هو أوائل شهر فبراير سنة‏1973‏ عندما قرر الرئيس الراحل أنور السادات معاقبة عدد كبير جدا من رجال الفكر والأدب والإعلام والصحافة لأنهم كانوا يضغطون من أجل أن تقوم مصر بعمل جدي لتحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي‏,‏ فلم يكن مريحا لضمير أهل الفكر في البلاد أن تقوم عصابة حكام إسرائيل برفع رايتها ذات النجمة السداسية فوق ضفة قناة السويس الشرقية‏,‏ وقد غضب الرئيس السادات من ضغوط المفكرين والمثقفين والصحفيين واعتبرها نوعا من الإرباك له وهو يستعد في هدوء وكتمان لمعركة التحرير‏,‏ وصور البعض للرئيس الراحل بأن الأمر لايتصل بالقضية الوطنية بقدر مايتصل بالتآمر علي زعامته ونظامه‏.‏ وأغلب الظن أن موقف الرئيس السادات كان نتيجة للتحريض من جانب بعض من يسيئون النصح للقادة والزعماء‏,‏ وهو تحريض لم يكن مقصودا به خدمة المصالح العامة‏,‏ بقدر ماكان ينطوي علي الشر والرغبة في الانتقام الشخصي وتحقيق بعض المصالح الخاصة‏,‏ وإلا فكيف نفسر أن الرئيس السادات يقبل في عصره أن يعصف برجال من أمثال توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومحمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ويوسف إدريس وعلي الراعي وغيرهم‏,‏ وذلك بدلا من أن يستمع إلي هؤلاء الرجال ويتحاور معهم ويجعلهم قريبين منه وهم يمثلون خلاصة الضمير العام الراقي المستنير في مصر؟‏!‏
    الواقعة التي يرويها مصطفي بهجت بدوي وردت في مذكراته التي سجلها علي لسانه الزميل الصحفي الاستاذ سليمان الحكيم‏,‏ وكان مصطفي بهجت في أثناء هذه الواقعة رئيسا لتحرير جريدة الجمهورية ورئيسا لمجلس ادارة مؤسسة دار التحرير حيث يقول‏:‏ كانت العلاقة بيني وبين الرئيس السادات علي مايرام‏,‏ إلي أن قامت مظاهرات الطلبة والعمال سنة‏1972‏ وبدأ التذمر يظهر واضحا في أوساط المثقفين والصحفيين والأدباء‏,‏ وذلك في الفترة التي سبقت حرب أكتوبر مباشرة‏,‏ فقد شهدت تلك الفترة حالة من الملل والضيق سادت مصر في تلك الفترة نتيجة لاستمرار حالة اللاسلم واللاحرب وقد رأي الرئيس السادات أنني لم أكن معه تماما في هذه المرحلة‏,‏ وأنني لم أعد أنفعه‏,‏ فقرر التخلص مني ومعي عدد كبير آخر من الأدباء والكتاب والصحفيين وحين ذهب إليه الدكتور محمد عبد القادر حاتم وزير الإعلام في ذلك الوقت‏,‏ ليعرض عليه قائمة الصحفيين والكتاب الذين سوف يشملهم قرار النقل من مجال الصحافة إلي مجالات أخري لمنعهم من الكتابة‏,‏ كانت السيدة جيهان السادات موجودة حين نطق حاتم باسمي ضمن القائمة التي كانت في يده‏,‏ وهنا تدخلت السيدة جيهان مستنكرة وهي تقول‏:‏ لماذا ياريس؟ مصطفي بهجت بدوي راجل كويس‏,‏ داحتي كاتب مقال كويس عنك النهاردة في الجمهورية طلب السادات نسخة من الجمهورية‏,‏ وقرأ فيها مقالي الذي كنت قد كتبته تحت عنوان بماذا يحدثنا ضمير مصر والذي ضمنته عبارات قالها السادات في خطاب له كان يشرح فيه الأوضاع السياسية والاقتصادية التي كانت تمر بها البلاد قبل حرب أكتوبر‏.‏ وطالبت في مقالي أن تهدأ النفوس‏,‏ وأن نتحلي جميعا بالصبر وأن نساعد السادات في العمل علي تحرير الأرض دون أن نثقله أو نربكه بمواقف نحن في غني عنها‏,‏ وقلت في مقالي إن المرحلة تقتضي منا أن نتكاتف جميعا في سبيل هدفنا الكبير قرأ السادات مقالي ويبدو أنه رضي عنه فقرر رفع اسمي من قائمة المرشحين للفصل والإقالة من المؤسسات الصحفية‏.‏ ولم أكن قد رأيت السيدة جيهان السادات أو قابلتها حتي هذه اللحظة‏,‏ وأحمد الله أنها كانت موجودة في هذه اللحظة‏,‏ وأنها تطوعت لإنقاذي من الفصل وإلا لذهبت ضحية المذبحة الشهيرة التي أجراها السادات للصحفيين في‏4‏ فبراير سنة‏1973‏
    علي أن مصطفي بهجت بدوي إذا كان قد نجا من المحنة سنة‏1973,‏ فإن ذلك لم يستمر طويلا‏,‏ فإن الذين كانوا يطاردونه ويطاردون غيره من أصحاب الأقلام الصادقة المخلصة والقلوب الطاهرة الطيبة لم يتوقفوا عن محاربته وكتابة التقارير ضده‏,‏ وانتهي الأمر بعزله من منصبه كرئيس لتحرير الجمهورية ورئيس لمجلس إدارتها سنة‏1975,‏ أي بعد نحو عامين من واقعة انقاذه بمجرد مصادفة بحتة مما حدث للصحفيين والمثقفين والأدباء في أوائل سنة‏1973‏
    وفي القصة الواقعية التي رواها مصطفي بهجت بدوي في مذكراته كثير من المعاني المهمة‏,‏ وفي مقدمة هذه المعاني أن التقارير السرية المقدمة إلي أصحاب القرار من المسئولين ينبغي مراجعتها بدقة وأمانة‏,‏ لأن التسليم السهل والسريع بمثل هذه التقارير بما قد تتضمنه من معلومات خاطئة أو ناقصة أو فيها غرض قد يقود إلي خطأ فادح في القرار الأخير‏,‏ وكثيرا مايؤدي ذلك إلي الفوضي والظلم بالنسبة لمن تتعرض لهم أمثال هذه التقارير المكتوبة في الظلام‏.‏ وفي هذه الواقعة أيضا نلمح قدرة المرأة علي التأثير الإيجابي في قرارات الرجال‏,‏ وربما يعود ذلك إلي أن المرأة تهتم بالتفاصيل الدقيقة أكثر من الرجل الذي يهتم ــ عادة ــ بالعموميات‏,‏ وأي امرأة يقظة متنبهة يمكنها أن تؤثر وتغير‏,‏ ولو من وراء ستار‏,‏ والتأثير من وراء الستار يكون أحيانا أقوي من أي تأثير آخر‏,‏ وهذا كما أظن هو مافعلته السيدة جيهان السادات في القصة التي رواها مصطفي بهجت بدوي في مذكراته‏,‏ وان كانت السيدة جيهان لم تستطع أن تلعب دورا مشابها في محنة أخري أكبر وأشمل‏,‏ حين صدرت قرارات عصفت بالكثيرين من الأدباء والمثقفين والصحفيين وأساتذة الجامعات في‏5‏ سبتمبر سنة‏1981,‏ وكان بين ضحايا هذه المحنة الكبيرة عدد من زملاء السيدة جيهان في كلية الآداب بجامعة القاهرة‏,‏ وهم ممن كانت السيدة جيهان تعرفهم معرفة وثيقة مثل الدكتور جابر عصفور والدكتور عبد المحسن بدر والدكتور عبد عبد المنعم تليمة‏,‏ ولعل السيدة الفاضلة قد حاولت في هذه المرة ايضا‏,‏ ولكنها لم تصل إلي نتيجة ايجابية كانت تسعي إليها‏.‏
    علي أن في القصة التي رواها مصطفي بهجت بدوي معني بالغ الأهمية يتصل بموقف الدكتور عبد القادر حاتم الذي كان وزيرا للاعلام في وقت وقوع هذه القصة أو الحادثة‏.‏ وموقف الدكتور حاتم يستحق أن نشير إليه بشئ من النقد ولاشك أن من واجب وزير الاعلام حماية السلطة التي اختارته ليقوم بهذه الوظيفة الرفيعة‏,‏ ولكن هذه الحماية لايجوز أن يكون معناها اضطهاد الناس والتسرع في قبول الاتهامات ضدهم بناء علي تقارير سرية صادرة عن أجهزة أو أشخاص متطوعين لكتابة مثل هذه التقارير‏,‏ بل إن الوظيفة الأسمي والأرفع للمسئول الإعلامي والثقافي هي السعي إلي كسب الناس والتفاهم معهم وانصافهم من الاتهامات المتسرعة‏,‏ ومثل هذا الموقف يفيد السلطة وينفعها أكثر ألف مرة من أسلوب الضرب علي أيدي الناس وإيذائهم كلما أعلنوا رأيا لايعجب أو فكرة لاتريح‏,‏ فبعض الآراء والأفكار المتعبة يكون فيها من الضوء والهداية أكثر بكثير من كلمات المجاملة والنفاق‏.‏ والدكتور حاتم في هذه القصة التي يرويها مصطفي بهجت بدوي كان يستخدم أسلوب الضغط علي أصحاب الأفكار والآراء بحجة حماية السلطة‏.‏ وكل الذين أصابهم هذا الأسلوب بالأذي كانوا يدخلون في سلطة الدكتور حاتم‏,‏ أي أنهم كانوا من رجال الإعلام والأدب والثقافة والصحافة‏,‏ وقد تعرضوا جميعا للاتهام والعقاب بدلا من أن يكون المسئول الإعلامي والثقافي حاميا ومحاميا لهم أمام السلطة‏,‏ خاصة اذا كانت الشبهات حولهم ضعيفة ومشكوكا فيها‏,‏ أو علي الأقل فإنها قابلة للمراجعة والنظر إليها بميزان دقيق يملك القدرة علي التمييز والفهم والإنصاف‏.‏ والدكتور حاتم كان وزيرا قويا وله انجازات كبري لايمكن لأحد أن ينكرها‏,‏ ويكفي أن نشير إلي ما هو معروف في تاريخه من أنه هو مؤسس التليفزيون المصري‏,‏ بمبناه الضخم وأجهزته الإدارية والفنية المتعددة والمهمة‏,‏ وهذا الإنجاز وحده يشهد للدكتور حاتم بأنه صاحب جهد وفضل وقدرة علي تحمل الأعباء الكبيرة‏,‏ ولكن ذلك لايعفيه من المسئولية عما أصاب المثقفين والأدباء والإعلاميين والصحفيين في فترات توليه لوزارة الإعلام والثقافة‏,‏ فقد كان الدكتور حاتم للأسف من الذين يتقبلون ويستسهلون إيقاع الأذى بأهل الفكر والإعلام والثقافة‏,‏ وكانت نظريته الثابتة هي أن كل مفكر وإعلامي هو كائن مشكوك في أمره حتي يتم إثبات العكس‏.‏ ولا أعتقد أن هناك مفكرا واحدا في مصر قد نجا من شئ أصابه في العهود المختلفة التي تولي فيها الدكتور حاتم وزارة الإعلام والثقافة‏,‏ ولم يحدث أن دافع الدكتور حاتم عن أحد كما كان واجبه وموقعه يمليان عليه فقد كان منتظرا منه أن يستبسل في الدفاع عن الرجال الكبار الذين تعرضوا للاتهام‏,‏ وصدرت ضدهم قرارات متعددة بالفصل والنقل من مواقعهم الصحفية إلي أعمال ادارية أخري وتم منعهم من الكتابة في فترات مختلفة ومتعددة‏.‏ ومثل هذه القرارات تدين من اتخذها‏,‏ وتبقي هذه الإدانة قائمة‏,‏ ولاتسقط بمرور الأيام‏,‏ والتاريخ لايعرف الصمت الأبدي‏,‏ لأن التاريخ لابد أن ينطق بالحق ولو بعد وقت طويل‏,‏ ولذلك فإن موقف الدكتور حاتم يستحق النقد‏,‏ أما موقف السيدة جيهان السادات فيستحق التقدير‏,‏ برغم أنها من الناحية العملية لم تستطع إنقاذ الكثيرين ممن تعرضوا للاتهام والأذي‏,‏ ولكننا هنا نتحدث عن قيمة المحاولة والنية الحسنة‏.‏
    وتعود بي الذاكرة أخيرا إلي حادثة وقعت في فرنسا سنة‏1968,‏ وذلك عندما قام الطلاب الفرنسيون بثورتهم المعروفة في عهد الرئيس ديجول‏1890‏ ــ‏1970‏ فقد كان علي رأس المؤيدين لهذه الثورة والمشاركين فيها الكاتب الفرنسي العالمي جان بول سارتر‏1905‏ ــ‏1980‏ وكان سارتر بالفعل مشاركا في هذه الثورة ومؤيدا لها ومحرضا عليها ومقتنعا أشد الاقتناع بهدفها وهو تجديد فرنسا وإعادة الحيوية إليها بعد سقوط عصر الاستعمار القديم‏,‏ وقد ذهب بعض المنافقين وأهل السوء وأصحاب النظر القصير إلي الرئيس ديجول يقولون له‏:‏ لابد من اعتقال سارتر ومحاكمته عقابا له علي تحريضه للطلاب ومشاركته في ثورتهم بصورة علنية قوية‏,‏ فما كان من ديجول العظيم إلا أن قال علي الفور‏:أنا أعتقل سارتر وأحاكمه؟ مستحيل‏..‏ سارتر هذا هو فرنسا أخري فهل يمكن اعتقال فرنسا؟
    وعرف الجميع كلمات ديجول التي انتشرت بين الناس‏,‏ وأصبحت هذه الكلمات صفحة من صفحات المجد الكبرى في تاريخ الزعيم الفرنسي الذي لم يكن علي وفاق مع سارتر‏,‏ ولم يكن يخفي ألمه من موقفه‏,‏ وقد كانت ثورة الطلاب التي أيدها سارتر هي التي أدت إلي استقالة ديجول من منصبه‏,‏ ولكن ديجول برغم ذلك كله كان رجلا تاريخيا‏,‏ يعرف الحدود ويحسن وزن الأمور‏.‏
    هل يأتي يوم نسمع فيه من يقول في مجال الإعلام والثقافة عندنا‏:‏ ان نجيب محفوظ وأمثاله هم مصر أخري لايصح لأحد أن يستهين بها أو يحرض عليها أو يمسها بسوء؟ هذا مانتمناه لأنه يمثل درجة عالية من الحضارة والتفكير الرفيع‏,‏ ومصر جديرة بذلك‏.‏
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
    *الأهرام ـ في 17/3/2002م.
    رد مع اقتباس  
     

  11. #11 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 10 ) قصة طريفة من أدبنا المعاصر

    بقلم : رجاء النقاش
    ....................

    لم أجد فيما قرأته عن تأثير الآداب الأجنبية في الأدب العربي أصدق ولا أجرأ مما كتبه الأديب العربي الكبير إبراهيم عبد القادر المازني‏1890‏ ـ‏1949‏ تحت عنوان السرقات الأدبية‏,‏ وهو مقال نشرته له مجلة الرسالة القديمة سنة‏1937,‏ وفي هذا المقال يعترف المازني علي نفسه بأنه نقل نقلا حرفيا خمس صفحات من رواية روسية كان قد ترجمها هو نفسه من قبل وضم هذه الصفحات إلي روايته إبراهيم الكاتب ويقول الكاتب الكبير إنه نقل تلك الصفحات بنصها من الرواية الروسية إلي روايته هو‏,‏ وذلك دون أن يدري أن هذه الصفحات ليست له‏,‏ وإنما هي لكاتب آخر‏..‏ وهنا يلتقي اعتراف المازني بالسرقة الأدبية‏,‏ مع تفسيره العجيب لهذه السرقة‏.‏ حيث يقول إنها سرقة غير إرادية‏,‏ وغير متعمدة‏,‏ وإنه لا ذنب له فيها علي الإطلاق‏,‏ وهذا الكلام لا يمكن تصديقه بسهولة‏,‏ ولو أنه صدر عن كاتب آخر لقلنا علي الفور إن هذا الكاتب يحاول أن يعتذر عن السرقة الأدبية بعذر أقبح من هذه السرقة‏,‏ وهو أن ما سرقه إنما كان يظن أنه من تأليفه وليس من تأليف إنسان آخر‏.‏
    كلام لا يمكن تصديقه ولا التسليم به‏..‏ ولكنني هنا أصدقه تماما لأنه صادر عن المازني‏..‏ وأنا له من العشاق والمحبين‏,‏ والمازني في نظر من يحبونه مثلي لا يمكن أن يتعمد الكذب‏,‏ ولا يمكن أن يقع في خطأ كبير أو صغير‏,‏ وهو قاصد إلي ذلك‏,‏ وقد كتب عنه كاتب كبير معاصر له هو زكي مبارك يقول‏:‏ إن المازني الذي عرفته رجل صادق إلي أبعد الحدود‏,‏ صادق في البغض‏,‏ وصادق في الحب‏,‏ صادق في الجد‏,‏ وصادق في المزاح‏,‏ ويقول الدكتور مبارك أيضا‏:‏ إن المازني رجل من أهل الجد والرزانة وله مبادئ أدبية وقومية يحرص عليها حرس الأبطال‏,‏ وأقل ما يوصف به المازني أنه رجل شهم وهو من عناوين المروءة في هذه البلاد‏..‏
    هذه شهادة زكي مبارك في المازني‏,‏ وأظن أنها شهادة صادقة وصحيحة‏.‏
    ونعود إلي القصة الأصلية‏,‏ وهي أن المازني قد سرق كلاما لكاتب آخر ونسبه لنفسه‏..‏ فكيف تمت السرقة وكيف قام المازني بتفسيرها حتى ينفي عن نفسه تهمة كبيرة تقول عنه إنه من لصوص الأدب؟ إن المازني يحكي هذه القصة من وجهة نظره فيقول‏:‏
    علي إثر الثورة المصرية في سنة‏1919‏ ذهبت إلي الإسكندرية لأقضي فيها أياما‏,‏ وأقمت في بيت أحد الأقرباء‏,‏ وكنت لا أزال سقيم الأعصاب جدا‏,‏ وكنا في رمضان فأفطرنا واسترحنا ثم خرجنا لنحيي الليل بالسهر كما هي العادة‏,‏ وكنت منشرح الصدر‏,‏ لكني لم أكد أتجاوز عتبة البيت حتى وقفت وقلت لقريبي إني محموم‏,‏ فأنا راجع‏,‏ فجسني قريبي فلم يجد بي شيئا‏,‏ فأصررت علي أنها الحمى ورقدت‏,‏ وكنت لا أطيق الصهد الذي أحسه‏,‏ وزال عني بعد ساعة أو اثنتين غير أني لزمت الفراش‏,‏ وعادني الطبيب في اليوم التالي فقال‏:‏ إن هذه حمي عصبية‏,‏ فاستغربت‏,‏ لكني عانيت من الأعصاب ما جعلني أصدق كل شيء‏,‏ وبقيت أياما في البيت‏,‏ زارني في خلالها صديقي الأستاذ العقاد‏,‏ وترك لي رواية روسية أتسلي بها‏,‏ فأقبلت عليها وقرأتها في ساعات أحسست بعدها أني صرت أقوي وأصح جسما وأقدر علي المكافحة والنضال في الحياة وأنه صار في وسعي أن أستخف بما يحدث لي من سقم الأعصاب‏,‏ وعدت إلي القاهرة ومضي عام‏,‏ وطلب مني بعضهم أن أترجم له رواية فقلت لنفسي إني مدين لهذه الرواية بشفائي وبالروح الجديدة التي استولت علي‏,‏ فيحسن أن أنقلها إلي العربية‏,‏ عسي أن تنفع غيري كما نفعتني‏,‏
    وكنت وأنا أترجم هذه الرواية كأنني أدون كلاما حفظته من قبل‏,‏ ولست أذكر هذا لأباهي به أو لأقول إني رجل بارع‏,‏ بل لسبب آخر سيأتي ذكره في موضعه‏,‏ وفرغنا من الترجمة والطبع‏,‏ ولم يعتن الناشر بأن يبعث لي بنسخة من الرواية‏,‏ ولم أهتم أنا بأن أطلب الرواية من الناشر أو أن أحتفظ منها بنسخة‏,‏ وقد نسيت أن أقول إنني سميت الرواية ابن الطبيعة وكان اسمها في الأصل سانين وهو اسم بطلها‏.‏
    يتحدث المازني بعد ذلك عن كتابته لروايته المعروفة إبراهيم الكاتب‏,‏ وذلك بعد ترجمته لرواية ابن الطبيعة بفترة فيقول‏:‏ انتهيت من إبراهيم الكاتب ودفعت بها إلي المطبعة‏,‏ وصدرت الرواية وبعد أشهر من صدورها تلقيت نسخة من مجلة الحديث التي تصدر في حلب‏,‏ وإذا فيها فصل يقول فيه كاتبه إني سرقت فصلا كاملا من رواية ابن الطبيعة فدهشت ولي العذر‏,‏ وقد ذكر الناقد أني أنا مترجم رواية ابن الطبيعة وأنا أعرف أن آلاف النسخ من ابن الطبيعة منتشرة في العالم العربي‏,‏ وأني أكون أحمق الحمقى إذا سرقت من هذه الرواية علي الخصوص‏,‏ ومع ذلك وجدت التهمة الموجهة إلي صحيحة‏,‏ فقد اتضح أن أربع أو خمس صفحات منقولة بالحرف الواحد من ابن الطبيعة في روايتي إبراهيم الكاتب أربع أو خمس صفحات سال بها القلم وأنا أحسب هذا كلامي‏,‏ حرف العطف هنا هو حرف العطف هناك‏,‏ أول السطر في إحدى الروايتين هو أوله في الرواية الأخرى‏,‏ لا اختلاف علي الإطلاق في واو أو فاء أو اسم إشارة أو ضمير‏,‏ الصفحات هنا هي بعينها هناك دون أي فرق‏,‏ ومن الذي يصدقني إذا قلت إن رواية ابن الطبيعة لم تكن أمامي ولا في بيتي وأنا أكتب روايتي؟ من الذي يمكن أن يصدقني حين أؤكد له أنني لم أر رواية ابن الطبيعة‏.‏ منذ فرغت من ترجمتها‏,‏ وأني لو كنت أريد اقتباس شيء من معانيها أو مواقفها لما عجزت عن صب ذلك في عبارات أخري‏,‏ لهذا فإني سكت ولم أقل شيئا‏,‏ وتركت الناقد وغيره يظنون بي ما يشاءون‏,‏ فما لي حيلة‏,‏ لكن الواقع مع ذلك أن صفحات أربعا أو خمسا من رواية ابن الطبيعة علقت بذاكرتي ـ وأنا لا أدري ـ لعمق الأثر الذي تركته هذه الرواية في نفسي‏,‏ فجري بها القلم وأنا أحسبها لي‏,‏ حدث ذلك علي الرغم من السرعة التي قرأت بها الرواية والسرعة العظيمة التي ترجمتها بها أيضا‏,‏ ومن شاء أن يصدق فليصدق‏,‏ ومن شاء أن يحسبني مجنونا فإن له ذلك‏.‏ ولست أروي هذه الحادثة لأدافع عن نفسي فما يعنيني هذا‏,‏ وإنما أرويها علي أنها مثال لما يمكن أن تؤدي إليه معايشة الذاكرة للإنسان‏,‏ وليست الذاكرة خزانة مرتبة مبوبة وإنما هي بحر مائج يرسب ما فيه ويطفو بلا ضابط نعرفه‏,‏ من غير أن يكون لنا علي هذا سلطان‏,‏ فالمرء يذكر وينسي ويغيب عنه الشيء ويحضر بغير إرادته وبلا جهد منه‏.‏
    ونخرج من الاعترافات التي قدمها المازني بصورة حية لأديب صادق لا يخشي أن يقول الحق ولو علي نفسه‏,‏ علي أن اللافت للنظر في هذه الاعترافات قوله إن ذاكرته قد احتفظت بالصفحات التي انتقلت إلي روايته في ذهنه‏,‏ وهو يظن أنها له وليست لغيره‏,‏ وهذا طبعا يدل علي أن ذاكرة المازني كانت ذاكرة نادرة وعجيبة‏,‏ وقد اعترف له الكثيرون في عصره بهذه الميزة الخاصة‏,‏ ومن هنا فقد كانت سرقة المازني سرقة بيضاء‏,‏ أي ليس فيها تعمد ولا سوء نية ولا قصد غير شريف‏.‏
    ..........................
    *الأهرام ـ في 2/9/2007م.
    رد مع اقتباس  
     

  12. #12 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 11 ) يحيي حقي وصانع القباقيب‏!‏

    بقلم : رجاء النقاش
    ......................

    كانت ثوره‏1919‏ في مصر ثوره متميزه جدا‏,‏ فقد كانت ثوره شعبيه من الالف الي الياء‏,‏ وكانت هذه الثوره هي التي اوجدت زعماءها ولم يوجدها الزعماء‏,‏ فسعد زغلول ورفاقه ليسوا هم الذين صنعوا ثوره‏1919,‏ بل ان هذه الثوره هي التي صنعتهم‏,‏ لان صناعه الثوره اصلا كانت بيد الشعب‏,‏ وذلك علي العكس مما حدث في الثوره العرابيه سنه‏1882,‏ وفي ثوره يوليو سنه‏1952,‏ حيث ظهر الزعماء اولا ثم جاءت الثوره بعد ذلك‏.‏ وهذه الميزات الاساسيه لثوره‏1919‏ وعلي راسها الشعبيه والاجماع عليها بين طوائف المجتمع وطبقاته كلها والبعد التام علي اي عنصر رسمي فيها جعل لهذه الثوره الفريده انعكاسات واسعه جدا علي الاداب والفنون والافكار وحركات التجديد الاجتماعي‏.‏
    وهاهو توفيق الحكيم في كتابه فن الادب يحدثنا عن جانب من جوانب هذا التاثير الشامل لثوره‏1919‏ فيقول صفحه‏52:‏ لقد انكشفت لعيني وقلبي معجزه مصر عام‏1919‏ ورايت الثوره في كل مراحلها تسفر عن روح خفيه باقيه ابد الدهر‏,‏ نابضه تسعف مصر بين حين وحين‏.‏
    ظل هذا الشعور يلاحقني حتي سجلته في روايه عوده الروح فالمعروف ان الثورات لاينطبع اثرها الا علي قلب جديد ملتهب‏,‏ ولايملك هذا القلب الا الشباب في فوره شبابهم‏,‏ لهذا كان سيد درويش ابن الثوره هو قلبها الجديد الملتهب الذي تاثر بها‏,‏ واخرج فنا قاد به الموسيقي الشرقيه الي افق جديد‏.‏
    هذا بعض ما قاله توفيق الحكيم في تفسيره لعبقريه سيد درويش‏,‏ ويقدم هذا التفسير علي ان سيد درويش كان ابنا لثوره‏1919‏ وثمره من ثمارها‏,‏ والحقيقه ان هذه الثوره كان لها ابناء كثيرون من نفس قماشه سيد درويش منهم توفيق الحكيم نفسه‏,‏ خاصه في روايته الرائعه والرائده عوده الروح ومنهم نجيب محفوظ في هرمه الروائي الاكبر وهو الثلاثيه‏:‏بين القصرين قصرالشوق السكريه‏.‏وانا لا امل ابدامن قراءه عوده الروح والثلاثيه فهما قمتان عاليتان في الروايه العربيه لا تزيدها الايام الا نضاره وعذوبه وصفاء فنيا غير محدود‏,‏ وكثيرا ما ارجع الي قراءه هاتين الروايتين كلما احتجت الي بعض الشفاء لنفسي الوطنيه‏,‏ او لنفسي الاخري التي تحب ان تسمع الموسيقي الصافيه مرارا وتكرارا‏.‏ وفيعوده الروح والثلاثيه كثير من هذه الموسيقي الصافيه‏.‏
    ولقد كان من اكبر واعز ابناء ثوره‏1919‏ اديبنا الفنان الشاعر العازف المورخ المفكر الذي نحتفل هذا العام بالذكري المئويه لميلاده وهو يحيي حقي‏1905‏ ‏1992‏ فقد كان يحيي حقي في تكوينه الاصلي ثمره من ثمرات ثوره‏1919,‏ وهو احد عشاقها الذين عاشوا فيها‏,‏ وقد كان في الرابعه عشره من عمره عند اشتعلت هذه الثوره ولكنه كان يشارك في المظاهرات‏,‏ وكان شغوفا بان يعرف كل شئ عن هذه الثوره‏,‏ وعندما كتب عنها في الذكري الخمسين لها‏,‏ سنه‏1969,‏ وضع يده علي بطلها الاصلي الذي لا يفوقه شخص اخر في بطولته‏,‏ واعني به المواطن الشعبي العادي الفقير صاحب الاسم المجهول والذي دفع من دمه وحياته ثمن هذه الثوره بالكامل‏.‏ ولعلي لم اقرا صوره هزت قلبي هزا عنيفا عن ثوره‏1919‏ مثل هذه الصوره التي رسمها يحيي حقي لاحد الابطال الشعبيين الشهداء في ثوره‏1919,‏ حيث يكتب تحت عنوان ابن القباقيبي من كتابه الرائع صفحات من تاريخ مصر صفحه‏233.‏
    كانت ثوره‏1919‏ ثوره لان الناس بدات تالف لاول مره كلمه الشعب تنطقها بكسر الشين لاباس لم تكن ثوره مثقفين وحدهم او فلاحين وحدهم او عمال وحدهم‏,‏ بل ثوره الشعب كله اتحد في عجيه واحده زالت الفروق‏.‏
    لم تعد كلمه فلاح سبه مع انها كانت كذلك منذ قليل‏,‏ لذلك كان حنقنا شديدا ونحن نسير في المظاهرات ان نجد الصحف الاوروبيه‏,‏ وبالاخص الانجليزيه تصف هذا الشعب الثائر بانه من الغوغاء وانه طغمه من الرعاع‏,‏ هكذا بلا حياء الي اليوم لا ازال اذكر الوقع الاليم لهذه الكلمات في قلبي وانا صبي‏,‏ لاشك ان كل انسان كان حاله مثل حالي‏,‏ شعور متقد يطلب الشفاء‏,‏ يطلب بطلا يخرج من صفوف الشعب‏,‏ ولم يكن يدور بخلدي ان هذا البطل سوف يكون صبيا يقيم بالقرب من داري كان في مثل عمري‏14‏ سنه‏..‏ الفارق انني ببدله فوق قميص وهو بجلابيه علي اللحم‏,‏ وانا البس حذاء وهو حاف‏,‏ رغم ان مهنه ابيه هي صناعه القباقيب‏.‏ من صفوف الرعاع في نظر الصحف البريطانيه خرج البطل الشهيد الذي ثار لكرامتنا ورد الصفعه‏..‏ ردها ايضا عن خدي انا
    ثم يقول يحيي حقي عن هذا البطل الشعبي الصغير المجهول‏:‏ تعال نصل من منزلنا الي دكانه‏.‏ كنت اعرفه وامر به‏,‏ كلما ذهبت لزياره السيده سكينه والسيده نفيسه‏.‏ دكان مظلم طويل عريض‏.‏ هذا هو مصنع قباقيب الحي‏,‏ وسيله طائفه من فقراء المدينه لمقاومه الحفاء‏,‏ وبعض المتيسرين لدخول الحمام‏,‏ وينتقل يحيي حقي بعد ذلك الي لون عذب من الغزل في القبقات‏,‏ فهذا القبقاب هو تفصيله من التفاصيل الشعبيه التي كان يحيي حقي مغرما بها‏,‏ حريصا علي الوقوف امامها وتاملها والعنايه الشديده بوصفها‏.‏ وعن هذا القبقاب يقول يحيي حقي‏:‏ لا تستهن بهذا القبقاب‏..‏ لو لبسته فتاه معجبانيه اصبح في قدميها كالصاجات في يديها‏,‏ اذا مشت به كان لوقعه علي الارض نغمه كلها دلال انه ايضا يكشف الكعب المحني‏,‏ رباني لا اصطناعي‏,‏ ولصاحب الدكان ولد وحيد‏,‏ هو كل امله واعتماده اذا اعجزته الشيخوخه‏,‏ ولد تجمع نظرته بين الخوف والفرعنه‏,‏ بين الذل وحب المعابثه‏,‏ اذ ينتزع لهوه الفارغ من بين براثن وحوش مفترسه‏,‏ هي ابوه وحياه الشقاء والعناء‏.‏
    ثم يصل بنا يحيي حقي الي اللحظه الفاصله في حياه هذ النموذج الشعبي فيقول‏:‏ وقع الاختيار علي هذا الولد الوحيد‏.‏ سقط قتيلا برصاص الانجليز في مظاهره امام الدكان فسار معها يردد هتافاتها‏,‏ فخرجت له جنازه مشهوره في تاريخ الثوره بانها جنازه ابن القباقيبي سار فيها الشعب كله‏,‏ من مستشارين وقضاه ومحامين‏,‏ الي الطلبه الكبار والتلاميذ الصغار‏,‏ الي صفوف غفيره اخري من ابناء الشعب‏.‏ كنا نريد بهذه الجنازه ان نقول لصحافه الانجليز‏:‏ انظري الرعاع يشيعون بطل الرعاع‏.‏ وهذه الجنازه لم تشبهها جنازه اخري طوال الثوره‏.‏
    ثم يقدم الينا يحيي حقي ختام معزوفته الجميله فيقول‏:‏
    ماذا كان اسمه؟ اين قبره؟‏.‏ لا احد يدري‏.‏ كم عدد شهداء ثوره‏1919‏ ؟ لم يجر الي اليوم احصاوهم مع الاسف‏,‏ ولا تخليد اسمائهم في سجل شرف‏,‏ دع عنك اقامه نصب تذكاري يفي بحقهم علينا‏.‏ تمنيت ان يقام هذا التمثال‏,‏ وان يكون تمثالا لصبي بجلابيه يمسك في يده المرتفعه فرده قبقاب‏!‏
    ذلك ما نادي به يحيي حقي سنه‏1969,‏ بمناسبه الذكري الخمسين لثوره‏.1919‏ والان ونحن نحتفل بالذكري المئويه لميلاد يحيي حقي اكاد اسمعه ينادينا ويعرض علينا الفكره نفسها وهي اقامه تمثال في احد الميادين العامه لصبي بجلابيه يمسك في يده المرفوعه فرده قبقاب فهذا الصبي هو رمز حي لابن الشعب المجهول الغلبان الذي لايطلب مجدا ولا شهره ولاثروه‏,‏ ومع ذلك فهو لايتردد عن بذل روحه والتضحيه بنفسه اذا كانت هناك قضيه عادله تناديه وتحتاج اليه‏.‏ وفكره يحيي حقي رائعه‏,‏ وهي تستحق ان نويدها ونتمني تحقيقها علي يد فنان موهوب وطني من احفاد مختار‏1891‏ ‏1934‏ الذي جعل الحجاره ترقص وتغني وتعزف‏,‏ وذلك من خلال تماثيله الشعبيه التي هي سيمفونيات علي الحجاره‏,‏ وتمثال لصانع القباقيب الشهيد لايمكن ان يبدعه الا حفيد من احفاد مختار‏.‏ اليس مختار هو الذي جسد شخصيه مصر في صوره فلاحه تلبس الطرحه وتنظر بوجهها الباسم الصابر الجميل الي المستقبل؟ لو ابدع لنا فنان موهوب ذلك التمثال الذي كان يتمني يحيي حقي ان يراه‏,‏ فلن يكون عجيبا ان يظهر يحيي حقي نفسه بيننا مره اخري‏,‏ وكانه سقراط العربي الذي يحب الناس ويعشق الحوار الهادئ مع الجميع دون ان يفرض رايه عل
    ي احد‏.‏ يومها سوف ينظر يحيي حقي الي تمثال صانع القباقيب ويقول‏:‏ نعم‏..‏ هذا البطل المجهول والمواطن الغلبان هو الذي يمثل مصر فصانع القباقيب عند يحيي حقي هو الاصل‏,‏ والباقي كله عاله علي هذا البطل المجهول‏.‏
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    *عن: صحيفة "الأهرام".
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. أنيس النقاش
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى قبة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11/01/2014, 11:43 PM
  2. رجال واقفون
    بواسطة وردة قاسمي في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 17/05/2010, 12:36 PM
  3. تأملات في الإنسان - من أعمال رجاء النقاش
    بواسطة وليد زين العابدين في المنتدى فسيفساء المربد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 24/07/2009, 11:58 AM
  4. وفاة الناقد المصري رجاء النقاش
    بواسطة د.ألق الماضي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09/02/2008, 10:19 PM
  5. رجال واشباه رجال
    بواسطة وائل في المنتدى قبة المربد
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 01/01/2008, 04:31 PM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •