الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: قراءة في رواية «نفق المنيرة» لحسني سيد لبيب

  1. #1 قراءة في رواية «نفق المنيرة» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    قراءة في رواية «نفق المنيرة» لحسني سيد لبيب

    بقلم: إبراهيم سعفان
    ـــــــــــــــــــــــــــــ

    الأستاذ حسني سيد لبيب أديب ملتزم بالقضايا الاجتماعية والسياسية، وهو منحاز للطبقة المتوسطة والفقراء، ويعتني أيضا بالأسرة باعتبارها النواة الأساسية التي يرتكز عليها المجتمع. إنهم يعيشون في الأرض، ويسعون في مناكبها بحثا عن الرزق، ولتحقيق أحلامهم البسيطة، كأحلام "حمزة" صاحب الغرزة الذي "يدعو الله أن يصلح الأحوال، ويحقق الآمال، كانت آماله محدودة متواضعة، لا تتعدّى أن يعينه الله على مواجهة ما تأتي به الأيام، وأن يحقق "لحميدة" حلمها في ولد تفرح به".
    الرواية صورة واقعية حقيقية، لأناس يكافحون من أجل توفير أدنى متطلبات الحياة، فالنفق يمثل قوة من قوى الضغط النفسي، فالخوف ساكن في قلوبهم خشية انهيار النفق في أي لحظة، أصبح يمثل كابوسا يهدد حياتهم في يقظتهم، وفي أحلامهم، وهناك أيضا "سيد سبرتو" الفتوة يمثل قوة ضغط وخوف وتهديد.
    ويبين الكاتب الروح الشعبية المتألقة بشكل واضح. ولذا يمكن القول: إن الشعب يحركه أمران هامان هما:
    1. الوجدان الديني،
    2. الروح الشعبية.
    فالوجدان الديني يحرك فيه الصدق والأمانة والعدل، والروح الشعبية تحرك في الإنسان الشهامة. وهذان الأمران يسريان في الشخصيات، ونتبين ذلك في سلوكهم.
    هذه الروح جعلت والد فتحي يتراجع عن الهروب من كمساري الأتوبيس حتى لا يدفع ثمن التذكرة، ثم يفيق إلى نفسه فينادي على الكمساري ويعطيه ثمن التذكرة في إباء. لننظر إلى كلمة "في إباء" وما تكشفه عن اعتزازه بنفسه. وعند عودة "فتحي" من الخارج سمع حديث والده مع والدته. ماذا فعل؟ أخذ يعاقب نفسه بتأنيب الضمير، فيقول الكاتب "أنّب نفسه لمجرد التفكير في قضاء ليلة في المولد يلهو فيها ويعبث، باحثا عن اللذة.. بدأ يفيق على صورة الأب المكافح الذي هزمته الحياة في مواقع عديدة، لكنه يواجهها برباطة جأش، وتحمّل. بدأ يتنبه إلى أنه ينتمي للأسرة الفقيرة، وابتأس لحاله".
    يبين الكاتب أن الإنسان يحمل الشر والخير، فشخصية "سيد سبرتو" الفتوة وما عرف به من قوة شريرة نجده يسارع فورا في إنقاذ غرقى الأتوبيس في النيل، وكذلك والد فتحي يتراجع عن الهروب من الكمساري حتى لا يدفع ثمن التذكرة. لم يمنع فتحي إحساسه بفقره من محاولة تحقيق حلمه وحلم الأسرة بدخوله كلية الهندسة.. يعيد الثانوية العامة بعد حصوله على مجموع 56 % لا يؤهله لدخول كلية الهندسة، فقدم أوراقه إلى معهد الخدمة الاجتماعية، فلما طلبوا منه كتابة بحث اجتماعي، اختار موضوع "التسول كظاهرة اجتماعية".
    وافق الوالد دون تردد على تحقيق رغبة ابنه. لم يتردد في بيع طقم الصالون، ودفع الرسوم المقررة.
    تحول النفق إلى كابوس يجثم على الأهالي في اليقظة، وفي النوم، يضج مضاجعهم، ويؤثر في أعصابهم، فها هو "حمزة"، يرى في منامه حلما مزعجا فيقول:
    " لم ينم هذه الليلة. إن غفلت عيناه، حلت كوابيس أفزعته من نومه في حالة لم يعهد لها مثيلا. أتاه حلم مرعب لعمال بأفرولات زرقاء، وجوههم غير محددة المعالم، يحفرون مقبرة بعمق لا نهاية له. وهو مستكين ينتظر حتفه في هذا الجب العميق. ولما حان أجله أحس بقوة تحاول دفعه للسقوط، فصرخ صراخا عاليا، لكن الصراخ لا صوت له، تردد صداه في المقبرة التي لا قرار لها، ينهض هلعا.
    أما الحلم الثاني لحمزة بن محمد، فقد استغرق في نومه وسبح في دنيا الأحلام، ورأى فيما يرى النائم نفق المنيرة قد تشققت أحجاره، فإذا به يجري وهو جزع، يتحسس الجدران.. يمرّر سبابته على شق من شقوقه، تجزع نفسه.. يصيح.. أبي.. حلم أو علم.. يقرص فخذه حتى يتنبه، يصيح.. يتردد صدى الصيحة في فضاء لا نهاية له.. يا هُو.. يا خلق الله.. النفق ينهار.. انقذوا النفق.. أهو زلزال مفاجئ، أم انهيار كامل.. لا يدري.. لا أحد يجيب.. يجري كالمجنون.. الناس في بيوت مغلقة، لا تسمع، أو أنها تتجاهل الصرخات".. وهذه إشارة إلى لا مبالاة الأهالي. ويصف الكاتب الحلم بأنه "إشارة لما سيحدث في المستقبل، فيقول: "الحلم إرهاصات الغافل عن الدنيا السابح في ملكوت الله. عجيبة هي الأحلام، ترينا فانتازيا تخلط بين الواقع والخيال.. قد تنبئ عما هو آت في مقتبل الأيام، وقد تكون الحاسة السادسة تري المرء بشفافية تخترق كالأشعة حجب الغيب.. تريه ما لا يراه بعينيه، وما لا يطوف بخياله".
    أما حلم اليقظة: فهو القدرة على استحضار صور شتى، تخدع العقل، وتخضع الإرادة الشخصية، وحسها الانتقائي، فالتخيل هنا إرادي، مجاله لا وعي لليقظة. وفق الكاتب في تصوير معاناة أهل الحي، نتيجة لما مرّ من حروب في الماضي، وما يتحملونه من أزمات اقتصادية شديدة. إنه شعب لديه إرادة على تحمل الصعاب. لقد ربط الحزام ولم يفكه.. ورغم ذلك يدبر حياته متحديا ظروفه القاسية مستعينا بالله سبحانه وتعالى.
    أما اللغة فالكاتب يحسن اختيار ألفاظه السهلة الحميمية، كما يتميز بالأسلوب والصور الفنية غير المعقدة، ليحدث التواصل بين المتلقي وبين النص. لذلك نراه يحرص على تنقية اللغة من أي إغراب، لذلك يمكن القول: "إن الأسلوب هو المبدع"، وإن "اللغة العربية هي التي تحدد خصوصية المبدع وهويته الحضارية".
    اللغة الإبداعية نسج بديع يبهر ويسحر، وعلى الأديب أن يعرف كيف يتعامل مع لغته، كما يقول الدكتور عبد الملك مرتاض في كتابه "في نظرية الرواية": "حتى يجعلها تتنوع على مستويات، دون أن يشعر القارئ باختلال المستويات في نسج اللغة". فالأستاذ حسني واع لمهمة اللغة وأهميتها في تحديد المستويات، كما يولي أيضا لغة الحوار اهتماما كبيرا، فهو يحرص أن تكون لغته عربية فصيحة بسيطة سلسة، يفهمها المتلقي بمستوياته المختلفة، فهو لا يستخدم العامية حتى في الأمثال الشعبية.
    واختلف في ذلك النقاد، فمنهم من يرى بقاء الأمثال بلهجتها العامية مثل الدكتور علي الراعي ـ رحمه الله ـ الذي قال إن الأمثال الشعبية تكتب بلهجتها لتحتفظ بزخمها.
    وسبب تمسك حسني سيد لبيب باللغة العربية الفصيحة يرجع إلى أن العامية لا تقدر على التعبير عن العواطف والأفكار والواقع اليومي مثل اللغة العربية.
    الكتابة الروائية عمل فني جميل يقوم على نشاط اللغة الداخلي، ولا شئ يوجد خارج تلك اللغة، وإذا كانت غاية بعض الروائيين العرب المعاصرين هي أن يؤذوا اللغة ( ليس بالمفهوم الفني ولكن بالمفهوم الواقعي للإيذاء)، بتسويد وجهها، وتلطيخ جلدها، وإهانتها بجعل العامية لها ضُرّة في الكتابة.. فلم يبق للغة العربية إلا أن تُحزّم حقائبها، وتمتطي ركائبها، وتمضي على وجهها سائرة في الأرض لعلها تصادف كتّابا يحبونها من غير بني جلدتها.
    أمام كل هذا فإننا لا نقبل اتخاذ العامية لغة في كتابة الحوار.. ونؤثر أن تكون للغة الحرية المطلقة لتعمل بنفسها عبْر العمل الإبداعي، فلا واقعية، ولا تاريخ، ولا مجتمع، ولا هم يحزنون، إن هي إلا أساطير النقاد الآخرين.
    استعان الأستاذ حسني سيد لبيب بوسائل فنية تعمق الحدث، وتنشط ذاكرة المتلقي، فيسترجع ذكرياته ويحل رموزها، ويصل إلى مفاتيحها، ودلالاتها، ونتبين ذلك في: الحديث النفسي، والمناجاة، وحمزة صاحب الغرزة الذي يتذكر أحداث عصره، ومذكرات فتحي الذي يسجل وقائع زمنه، وأحوال الشخصيات. وكذلك الأحلام سواء الأحلام التي نراها في النوم، أم في أحلام اليقظة.
    لقد قدم الأستاذ حسني سيد لبيب بانوراما لمدينة إمبابة، وسجل الحركة الدقيقة لسكان الحي، حالتهم النفسية، والاجتماعية. كما اهتم بإبراز شخصية ابن البلد عن إيمان عميق يسري في وجدانه، ولا يظهر ذلك إلا في الملمات، كما أبرز أن الإنسان فيه الخير وفيه الشر، ولكن الخير هو المقدم عنده، ويتضح ذلك في سلوك "سيد سبرتو" الفتوة الذي يهب لنجدة أبناء حيّه ومساعدتهم. فشخصيات الرواية سوية إيجابية، لذا نراها متكاتفة، متعاونة في أي ظرف من الظروف.
    ونورد أخيرا الكلمة التي ختم بها الكاتب الرواية: "عكف فتحي يسطر في مذكراته مأساة أمة نكبت في أعز أمانيها. بللت الدموع الصفحة التي يكتب فيها.. تطلع إلى السماء، عساه يهتدي إلى نجم ما، لعل أملا جديدا يضئ الأفق".. وهذا الأمل هو الذي يعيش له أهالي حي المنيرة.
    الجوانب الفنية:
    1. بدأ الكاتب ببيان جغرافية المكان ووصفه وصفا دقيقا. الأماكن الجديدة والأماكن القديمة، ذاكرا كل الأماكن المشهورة، التي لها ذكريات في حياته، وفي حياة سكان إمبابة، التي تحرك أشجان الإنسان وتعيده إلى مراتع الصبا.
    2. بيّن الأزمات والمعاناة من الآثار النفسية المتراكمة نتيجة الحروب في الماضي، ونتيجة الأزمات الاقتصادية التي يعيشونها دون أمل في حل الحزام الذي ربطوه منذ سنين.
    3. من يقرأ الرواية قراءة سريعة يعتقد أنها رواية تعالج مشاكل اجتماعية ومشاكل الشباب فقط، ولكنها رواية تعالج قضايا سياسية، لم يشأ أن يعرضها بالتفصيل، ولكنه عرضها كأسماء شخصيات، أو أماكن، أو مواقف سياسية مثل الحديث عن عبد الناصر، واعتقال الشيخ محمود خطيب المسجد، غير الإشارات والتلميحات التي استخدمها.
    4. وفق الكاتب في توزيع الأسماء في فصول حتى لا يقع الإنسان في لبس لكثرة ذكر الأسماء.
    5. كما أنه وفق أيضا في تقسيم الفصول فهي تتتابع حينا وتتبادل حينا آخر.
    6. لم يذكر الكاتب بعض أسماء الشخصيات في بداية الفصول لإحداث شئ من الإبهام ليستثير القارئ ليتابع أحداث الرواية.
    7. الرواية واقعية اجتماعية سياسية، أي أن أحداثها مستمدة من الواقع المعيش لسكان الحي. والواقعية التي استخدمها الكاتب واقعية نظيفة ليس فيها هبوط أو استخدام ألفاظ رديئة تجرح مشاعر المتلقي، كما نرى في إبداع بعض الأدباء من إسفاف وخروج عن الذوق مما يفسد الجانب الفني والخلقي. أما حسني لبيب، فقد استخدم الواقعية النظيفة التي تفيد المتلقي فنيا وخلقيا.
    8. نلاحظ أن الكاتب حسني لبيب يضع نصب عينيه المتلقي، فهو ملتزم، فلا نجد في الرواية وصفا خارجا جارحا، ويبدو ذلك في التالي: "يدخل فتحي المسرح، ويرى الراقصة العارية، عندما وصل إلى بيته، ماذا فعل؟ هل سلك سلوك الشباب الطائش؟ لم يفعل ذلك، بل تصرف تصرفا عاديا، "حضن المخدة كما فعل عبد الحليم حافظ في فيلم "الوسادة الخالية". كما أن الكاتب لم يستغل هذا الموقف في وصف جنسي يداعب به غرائز الشباب، ويرجع ذلك إلى رفضه هذا حماية للشباب واحتراما لأمانة الكلمة، والتزاما بالخط الخلقي الذي التزم به..
    9. لم يحقق أهل الحي أحلامهم أو بعضا منها، ولكن لم يسدّ الطريق عليهم، فهو كعادته يؤمن بالمستقبل الذي سيحمل تفاؤلا وأملا جديدا يضئ الأفق.
    إبراهيم سعفان
    ....................................
    *ألقيت هذه الدراسة في ندوة رابطة الأدب الحديث بمناسبة احتفالها بصدور الرواية.
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد: قراءة في رواية «نفق المنيرة» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ندوتان لمناقشة رواية حسني سيد لبيب «نفق المنيرة»
    .................................................. ...............

    انتظمت ندوتان لمناقشة رواية حسني سيد لبيب، الأولى برابطة الأدب الحديث في 15 يناير 2008، والثانية برابطة الأدب الإسلامي في 18 فبراير 2008.
    أدار الندوة الأولى محمد علي عبد العال. قال في كلمة الاستهلال: هذه النخبة من القمم الأدبية والنقدية قد جاءت إلى هنا، لتدل على أهمية ما يكتب حسني سيد لبيب، وعلى مدى الحب لهذا الكاتب الكبير. وهي مفاجأة سارة لنا أن يكتب حسني الرواية عن نفق المنيرة بإمبابة. وتدور أحداثها قبل وبعد نكسة 1967.
    ثم تحدث حسني سيد لبيب، فرحب بالسادة الحضور وشكرهم على الاشتراك في فعاليات الندوة: " أرحب بالسادة الحضور وأشكرهم على هذه الاستجابة لحضور الندوة. أما تلخيص الرواية فهو يخل بالعمل الروائي الذي تتعدد فيه مستويات السرد. هذه الرواية قد لا تقبل التلخيص. غاية ما أستطيع قوله إنها تعبر عن مجتمع الستينيات، واتخذت إمبابة مسرحا لأحداثها. وإمبابة رمز لمكان ما في مصر. وبالرواية واقع ومعلومة وخيال، وكلها عناصر ترتبط بعضها ببعض، وتتداخل الأحداث والشخصيات".
    وتحدث القاص الروائي جمعة محمد جمعة عن الرواية عارضا لأهم أحداثها وشخصياتها.
    وركز الدكتور زكي البحيري على تعدد الأحداث وكثرة الشخصيات، وتتعرض الرواية لفترة مهمة من تاريخنا. وأبدى ملاحظته حول بعض الشخصيات التي تظهر وتختفي، أو تتبادل الظهور فيما بينها. أحيانا يأتي الحوار دون ذكر اسم الشخصية التي تتحاور. الرواية مفيدة حيث أنها تتعرض لقطاع مهم من المجتمع المصري.
    استهل الدكتور إبراهيم محمد كلمته معبرا عن سعادته لوجوده مع نخبة من الأدباء، الذين نتمنى على أيديهم صلاح الأحوال. بداية أشكر حسني على إهداء الرواية لوالده، مما يدل على صلة الرحم وبر الوالدين، والإهداء من أجمل الإهداءات. وأشكره على اختياره لاسم الرواية (نفق المنيرة)، وهي رواية رائعة. وقد شعرت شخصيا أنني دخلت نفقا وأنا أقرأ الرواية، والنفق عبارة عن طريق ضيق تحت الأرض يمكن التخبط فيه يسارا ويمينا. والمؤلف عليم بالمنطقة متعايش معها. حيث أنه عايشها صغيرا بدليل درايته الواسعة بالشوارع والبيوت والمساجد وأضرحة الأولياء، والمعالم البارزة، وقد ألبسها ثوبا فضفاضا. شب المؤلف وترعرع في منطقة إمبابة، في فترة الستينيات، لذا استطاع أن يتحدث عنها بشكل قصصي جيد، أوضح فيها تقاليد ولغة العصر، وأيضا عادات الناس مثل زيارة أضرحة الأولياء، والموالد، وما يفتخر به الشباب مثل الجانب الجنسي.
    وقال رائد أدب الرحلات الأستاذ حسين قدري: شدتني الرواية لروايتها الأحداث في منطقة إمبابة الشعبية، وهو حي قريب الشبه بحي السيدة زينب الذي تربيت وعشت فيه.
    أما الأستاذ وديع فلسطين فقد تحدث عن الأحداث المتعاقبة والشخصيات الكثيرة، التي ازدحمت الرواية بها. وقد سار الكاتب في فلك الروائيين المعاصرين في اختيارهم المكان عنوانا لرواياتهم، ومنهم نجيب محفوظ في اختيار المكان (زقاق المدق) عنوانا لإحدى رواياته. تبدأ رواية حسني سيد لبيب في الواقع من حادث سقوط التروللي في نهر النيل، وما ترتب عليه من أحداث تواصلت في أنحاء الرواية.
    أما الدكتور الناقد شريف الجيار، فقد تحدث عن طبقة البسطاء من شخصيات الرواية. وتحدث بإفاضة عن الخطاب السردي بكل تشكيلاته. هذه الرواية برمتها ترصد لنا شريحة محددة مثل حمزة الذي اعتبر نفسه بطلا. حمزة هذا، يرمز اسمه للقوة والصمود والاستمرار. أنجب حمزة حميدة التي تزوجت من بائع خضار. كل ما يملكه غرزة ملاصقة لجدار النفق. يحلم حمزة بشكل دائم بأن هناك زلزالا. ويرمز النفق للصمود في الماضي.
    ترمز عزيزة لقاع مصر التي جاءت بخيرها ووجهها الريفي الجميل، وإذا بثروت يغتصبها. وعزيزة أيضا ترمز للنكسة.
    والغرزة في اللغة الدارجة مكان صغير لشرب الشاي وأمور أخرى، ويجتمع فيه بسطاء القوم. لكن الغرزة عند حمزة لها بعد آخر، فهي ملتصقة بجدار النفق. يريد السارد العليم هنا أن يقول إن النفق يحمل المفارقة، ويحمل أيضا عبق التاريخ المصري في تلك الأيام.
    استعان السارد هنا بعدة تقنيات كالاسترجاع. تكرر الحلم عند حمزة خمس مرات، وفي كل مرة يحلم بتصدع النفق أو انهياره. نستبين تقنية الحوار الداخلي حين راودت فتحي خواطر حول علاقته بمارسيل، وما ستسفر عنه في الأيام المقبلة.
    حمزة هو الركيزة الأساسية في تشكيل جماليات النص. الحلم يبدو لنا في قوله "رأى في المنام"، ثم يستيقظ فيفيق إلى الواقع في قوله "نهض من نومه". وما بين النوم واليقظة يمكن أن نفسر الحلم، بما يعني أن الحلم يمكن تفسيره فيفصح ويكشف عما يمور داخل الشخصية. هذا النفق الذي يحلم بتصدعه يعكس خوف حمزة من المستقبل، كما أنه يحمل تاريخ أمة.
    ويعبر الكاتب عن ديمومة الحياة في موت حميدة وولادة حمزة الصغير.
    وقد اضطرت كثرة المشاهد الحوارية الكاتب إلى جعل الإيقاع أميل إلى التوسط في السرعة الإيقاعية، أي اعتدال الإيقاع.
    ولنأخذ مثالا في قول السارد (ص 129): "سبقته الفرحة إلى بيتها. اصطحب والديه في مسيرة قصيرة عبر شوارع المنيرة الضيقة، مرورا بمسجد زيدان، حاملا معه "زيارة" من الحلوى والملبس والشيكولاتة والشربات. راجع أمه، ربما نسي نوعا آخر". بعد هذا الاستهلال، ينتقل بنا إلى غرفة الجلوس. ثلاثة أسطر استطاع السارد أن يصف لنا المكان، والاهتمام هنا بالحدث، وهو الزيجة.
    من التشكيلات الجمالية في الرواية استخدامه فكرة اليوميات، فيما يخص فتحي. والأهمية الأولى لهذه اليوميات الإيهام بواقعية الحدث. يقول في (ص163): "ذات مرة جمعه وأباه وأمه لقاء. وما أندر اللقاءات التي تجمعهم. كانوا ملتفين هو وأخواته حول الطبلية يتناولون الغداء. قالت زينب: "إن فتحي يرى صعوبة في اللغة الفرنسية".. وهكذا تتعدد الانطلاقات السردية. أيضا نجد السارد هو عين الكاميرا وبلغة السينما camera eye ، هو يراها من بعيد ولا يشارك أو ينغمس فيها. وفي (ص 133): نلحظ السارد يستعين بتكنيك السينما في قوله: "انخلع قلب مصطفى لهذا الاستدعاء غير المألوف..".
    وقد عقد الناقد مقارنة ذكية بين هذا الفتوة سيد سبرتو وفتوة نجيب محفوظ. فتوة رواية نفق المنيرة سيد سبرتو، لاحظ هنا دلالة الاسم: سيد أي يسود بعضلاته، وسبرتو تحدد لحظة اللاوعي. أما فتوة نجيب محفوظ فيأخذ الإتاوة ويوزعها على الفقراء. هنا فتوة لبيب يجمع الإتاوات ويضعها في جيبه أو ينفقها على صبيانه. نمى إلى علم الفتوة حكاية عزيزة بعد أن اشتكى له عويس ومصطفى. اتهمت عزيزة وهي بريئة.
    وتحدثت الدكتورة زينب العسال قائلة: "أنا سعيدة بحضور هذه الندوة وإن كنت لم أقرأ الرواية. ولي ملاحظة على قوله: إن الرواية لا تقبل التلخيص. مطلوب من حسني أن يحدثنا عن شخصية هذا المكان".
    وقال الروائي الكبير محمد جبريل: "قرأت العمل كمخطوط وكتبت عنه في أحد مؤلفاتي. أنا سعيد بالروائي حسني لبيب، وقد أكدت على سيادة المكان في رواية "نفق المنيرة". وهو عمل جميل كتب بتقنية عالية. هناك تعامل مع الفانتازيا ومع التاريخ. مطلوب النظر في الإبداع العالمي وتقنياته".. وانتقد هؤلاء الذين يتبنون أفكارا انتهى عهدها.. "لابد من الإفادة من التقنيات المعاصرة. أنا فرح بكم وفرح بحسني لبيب".
    ووصف الباحث الناقد أحمد حسين الطماوي الرواية بأنها رواية أجيال، وأن كاتبها أنجز منها الجزء الأول. وقد برزت فيه سيرته الذاتية وتوقف عند نكسة 67. وكان النفق ساكنا على أسرار كثيرة. تبدو الرواية استرجاعية، فقد تدفقت ذكريات المؤلف. أبرز ما في الرواية حديثه عن المكان، ولا يمكن أن يكون مكانا ما. فنفق المنيرة خاص بالمنطقة التي أنشئ بها، لأن المكان هنا يحكي المكان والإنسان. لذا يصعب نقل الأحداث إلى مكان آخر. فعنوان "نفق المنيرة" هو المكان أو مفتاح للمكان. خذ مثلا حمزة بن رمضان، الذي يحلم بتصدع النفق، فينزعج. يتكرر الحلم عدة مرات وفي كل مرة يتأكد من سلامة النفق. ويوسّع المؤلف مفهومه في الحلم على أنه فانتازيا. أمضى حمزة عمره في الغرزة بجوار النفق، وهذا يدل على أن النفق يعيش في وجدانه فإذا نام حلم به.
    قد يأخذ القارئ على المؤلف أن هذه الكوابيس جاءت واضحة متماسكة وكأنها حكاية واقعية. قد تنمّ الأحلام عن الواقع، لكنها لا تأتي في العمل الفني بطريقة واقعية، لأن الحالم يتذكرها وفيها غبش أو يراها مضببة، إذا استعادها لنفسه. والرد على هذا أن راوي الحلم لا يلتزم الصدق وإنما نراه يحبب له أشياء تجعل الحلم صورا متلاصقة.
    النص الروائي الذي بين أيدينا يحفظ للمؤلف هويته الدينية، مثل خطيب المسجد الذي اعتقل والذي شنق. كذلك يحفظ النص هوية المكان الشعبية، حيث يتضامن الناس وقت الشدائد كحادث التروللي. يعايش الكاتب هؤلاء ، لذلك فإن المؤلف لم يؤلف روايته وإنما الرواية هي التي تؤلف نفسها. وشخوص الرواية يتداخلون وهذا لا يحدث تماسكا فحسب وإنما يحدث تشوقا وتوشجا في النسيج الروائي.
    وأعد الناقد إبراهيم سعفان دراسة مطولة بعنوان "قراءة في رواية نفق المنيرة"، نجتزئ منها حديث الناقد عن الجوانب الفنية في هذه الرواية، وحددها في النقاط التالية:
    1. بدأ الكاتب ببيان جغرافية المكان ووصفه وصفا دقيقا. الأماكن الجديدة والقديمة، ذاكرا كل الأماكن المشهورة، التي لها ذكريات في حياته، وفي حياة سكان إمبابة، التي تحرك أشجان الإنسان وتعيده إلى مراتع الصبا.
    2. بيّن الأزمات والمعاناة من الآثار النفسية المتراكمة نتيجة الحروب في الماضي، ونتيجة الأزمات الاقتصادية التي يعيشونها دون أمل في حل الحزام الذي ربطوه منذ سنين.
    3. من يقرأ الرواية قراءة سريعة يعتقد أنها رواية تعالج مشاكل اجتماعية ومشاكل الشباب فقط، ولكنها رواية تعالج قضايا سياسية، لم يشأ أن يعرضها بالتفصيل، ولكنه عرضها كأسماء شخصيات، أو أماكن، أو مواقف سياسية مثل الحديث عن عبد الناصر، واعتقال الشيخ محمود خطيب المسجد، غير الإشارات والتلميحات التي استخدمها.
    4. وفق الكاتب في توزيع الأسماء في فصول حتى لا يقع الإنسان في لبس لكثرة ذكر الأسماء.
    5. كما أنه وفق أيضا في تقسيم الفصول فهي تتتابع حينا وتتبادل حينا آخر.
    6. لم يذكر الكاتب بعض أسماء الشخصيات في بداية الفصول لإحداث شئ من الإبهام ليستثير القارئ ليتابع أحداث الرواية.
    7. الرواية واقعية اجتماعية سياسية، أي أن أحداثها مستمدة من الواقع المعيش لسكان الحي. والواقعية التي استخدمها الكاتب واقعية نظيفة ليس فيها هبوط أو استخدام ألفاظ رديئة تجرح مشاعر المتلقي، كما نرى في إبداع بعض الأدباء من إسفاف وخروج عن الذوق مما يفسد الجانب الفني والخلقي. أما حسني لبيب، فقد استخدم الواقعية النظيفة التي تفيد المتلقي فنيا وخلقيا.
    8. نلاحظ أن الكاتب حسني لبيب يضع نصب عينيه المتلقي، فهو ملتزم، فلا نجد في الرواية وصفا خارجا جارحا، ويبدو ذلك في التالي: "يدخل فتحي المسرح، ويرى الراقصة العارية، عندما وصل إلى بيته، ماذا فعل؟ هل سلك سلوك الشباب الطائش؟ لم يفعل ذلك، بل تصرف تصرفا عاديا.. "حضن المخدة كما فعل عبد الحليم حافظ في فيلم "الوسادة الخالية". كما أن الكاتب لم يستغل هذا الموقف في وصف جنسي يداعب به غرائز الشباب، ويرجع ذلك إلى رفضه هذا حماية للشباب واحتراما لأمانة الكلمة، والتزاما بالخط الخلقي الذي التزم به..
    9. لم يحقق أهل الحي أحلامهم أو بعضا منها، ولكن لم يسدّ الطريق عليهم، فهو كعادته يؤمن بالمستقبل الذي سيحمل تفاؤلا وأملا جديدا يضئ الأفق.
    وتساءل محمد حجاج حول نقطتين: هل هي رواية تسجيلية؟ هناك وقائع تاريخية تم تسجيلها، جغرافيا وتاريخ إمبابة، وحادثة وقوع التروللي في النيل.. وتفاني العالم الأثري محمد نافع في عمله، وحادث عزل الشيخ الباقوري، وإعدام سيد قطب، وإنشاء مدينة العمال بإمبابة، وعودة سعد زغلول من أوربا.
    وألقى عبد الناصر العطيفي دراسة حول الرواية. وألقيت بعض المداخلات من مديحة السعداوي وفايز جعفر وزينب عويس، وغيرهم.
    وختم حسني سيد لبيب اللقاء بكلمة شكر للجميع، فقال: "أولا أشكركم على حضوركم الندوة وعلى الكلمات الجميلة والناقدة التي استمعت إليها. نحن نكتب وليست هناك كلمة نهائية في الفن. هناك وجهات نظر وهناك تضاد واتفاق، ولكني هذه الليلة سمعت الكثير من الإطراء على الرواية.
    وفي الختام سأل محمد علي عبد العال: ما الذي جعلك تكتب هذه الرواية؟
    أجاب حسني: كتبتها بحكم انتمائي للمكان.
    * * *
    أما الندوة الثانية المنعقدة في 18 فبراير 2008 بجمعية رابطة الأدب الإسلامي، فقد أدارها الناقد الأستاذ إبراهيم سعفان. وشارك فيها: د. عبد المنعم يونس "رئيس الرابطة"، محمد علي عبد العال " رئيس رابطة الأدب الحديث"، نوال مهنى، عماد الدين عيسى، الشاعر محمد حافظ، إسماعيل بخيت، حسين عبد العظيم، جمعة محمد جمعة، وقد أثنى رئيس الرابطة على الرواية، لا سيما ما تتضمنه من معان وقيم، وهنأ مؤلفها على ما بذله من جهد.
    وألقى الشاعر الكبير إسماعيل بخيت قصيدته "ثريات مذابة" يثني فيها على فن القص عند حسني لبيب. نجتزئ منها هذه الأبيات:
    لبيبُ القصِّ .. مشهودُ المَثَابـهْ .:. روائعُ قَصِّهِ تُعْلِـي انتسابَـــهْ
    لفنِّ القَصِّ..حيثُ القصُّ يَحْلُو .:. وحيثُ الفَنُّ يمنحنــا لُبَابَــهْ
    صفا أسلوبُهُ .. وسَمَــا يراعًـــا .:. تَجَلَّتْ فيه معجـزةُ الكِتَابَــهْ
    وكم من مُعْجِزَاتٍ كُــنَّ غَرْسًــا .:. لأَفْذَاذِ البيـان ذَوِي النَّجَابَــهْ
    وفي كلمة الشاعرة نوال مهنى، تحدثت عن المسيرة الإبداعية لحسني سيد لبيب،وإنتاجه الغزير في مجال الإبداع والنقد. وركزت في كلمتها الضافية على تسليطه الأضواء على كتابتها الشعرية، وله في هذا دراسات عديدة.
    وفي كلمة الشاعر محمد حافظ قال عن السرد بصفته مقوما من مقومات الرواية: "سرد حسني سيد لبيب أحداث روايته في سهولة ويسر بلغة سهلة تشي بالشئ ولا تفضحه، اعتمد فيها على الجمل القصيرة التي هي أشبه بتلغرافات سريعة أسقط من بينها في مرات عديدة حروف العطف مما أضاف نوعا من الإثارة والتشويق، وإن كنا في كثير من الأحيان نتوقف لمعرفة عودة الضمائر والشخصية المتحدث عنها، فمثلا في المشهد 23 ص 129، نجد السرد يتجه إلى وصف الأثاث الذي يحتويه بيت الحاج فريد والد نرجس، وتلك طبيعة في أي صاحب مهنة يلفته كل ما يتعلق بمهنته، ولأن مصطفى عمل في ورشة أبيه، وأحب النجارة فجاء السرد منصبا على الأثاث. ولقد كان بارعا حيث استطاع أولا أن يضع اللمسات الأولى لمسرح الأحداث ثم يستدرجنا مع شخصياته في خلق نوع من الصدام الهادئ يقدم خلاله كل واحد مشكلته في الحياة، وتدريجيا تتلاقى الشخصيات وتتصارع وتتشابك مصائرها. كل هذا يعطينا انطباعا بوشك اندلاع كارثة قاصمة فجاءت نكسة يونيو 67، ثم يستمر بنفس الحبكة تدريجيا للوصول بنا إلى لحظة الأمل والنور التي تعيد البسمة من جديد".
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 22/03/2009, 02:44 PM
  2. ليشهد العالم..
    بواسطة ابو مريم في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 30/12/2008, 05:09 PM
  3. نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 50
    آخر مشاركة: 06/08/2008, 04:31 AM
  4. الأميرة دعاء
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى الواحة
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 03/01/2008, 03:53 PM
ضوابط المشاركة
  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •