"الهجمة الشرسة على اللغة العربية والثقافة القومية عرفت أوجّها بعد الانفتاح السياسي"


الجزائر - مكتب "الرياض"، فتيحة بوروينة:
كان من الرعيل الطلائعي الذي وضع اللبنات الأولى لعدد من الإنجازات الثقافية والفكرية في الجزائر، كان وما يزال وسيظل واحدا من القامات الفكرية التي عاشت بامتياز محن الوطن على تعددها. عاش محنة الوطن وهو يرزح تحت ربقة استعمار استيطاني شرس مسخ فكر الأمة ولغتها وقطع أوصال امتدادها العربي الإسلامي، وعاش محنة الوطن وهو يرمم الذات وينهض من جديد بعد طول ليل استعماري ظالم، قبل أن ترمي الأقدار ذات الوطن على محن أخرى أكثر وجعا، محنة العنف المسلح.
عاش كل هذه المحن والفواجع كتابة وتأليفا ونشرا وحضوراً متقداً، وها هو اليوم يمسك بعمر تجربة قلّ نظيرها، تغمرك تفاصيلها حتى الثمالة، فتغترف منها ما تشاء، وتجد فيها ما تشاء، فيما يشبه الكتاب التاريخي والتراثي والأدبي والسياسي المفتوح على ذاتنا الجزائرية بآمالها وآلامها، بانكساراتها وانتصاراتها.
وضع الدكتور عبد الله الركيبي، الذي يكابد لوحده اليوم محنة الصحة حين تخون صاحبها... اللبنات الأولى للدراسات الأدبية والنقدية في الجزائر، وهو من النواة الأولى التي أسست اتحاد الكتاب الجزائريين الغارق في مشاكله اليوم، كأول أمين عام مساعد لرئيسه الروائي الراحل مالك حداد عندما تم تأسيسه العام 1974.كان أول المثقفين الذين اعتقلتهم السلطات الاستعمارية بعد عام من اندلاع الثورة التحريرية (1954) بعد عودته من تونس، وأول الذين أرغمتهم على الإقامة الجبرية بولاية بسكرة (جنوب البلاد) قبل أن ينجح في الفرار من السجن الاستعماري باتجاه جبال الأوراس الأشم، فيعاد إرساله إلى تونس ومنها إلى القاهرة. كان أول المثقفين الذين تولوا لجنة الفكر والثقافة في أول وأقدم وأكبر حزب سياسي في البلاد منذ الاستقلال، حزب جبهة التحرير الوطني، وأول برلماني جزائري ينجز دراسة غير مسبوقة بعنوان "حاجتنا إلى ثقافة سياسية وهل لمجلس الأمة دور فيها". وكان أول من تناول ظاهرة الفرنكفونية بمنهج واضح وتحليل موضوعي في مصنفّه القيم "الفرنكفونية مشرقاً ومغرباً" الذي أثار ضده خصوم الحرف العربي في الجزائر ودوائرهم النافذة.
"الرياض" التقت الدكتور عبد الله الركيبي صاحب أكثر من 30دراسة نقدية أدبية، ومعه كانت العودة للبدايات، لمختلف جوانب تجربته الأدبية والنقدية والسياسية والدبلوماسية. فكان نص اللقاء التالي:
رحيل ابنتي الأولى بمنطقة الهرم هزّ كياني.. ولم أنظر إلى صورتها منذ ذلك الوقت
@ ربما يكون هذا السؤال صالحا للنهاية، لكنني أراه مهما لرسم صورة أولية توجز للقارئ مختلف جوانب القامة الفكرية التي نجلس إليها اليوم، فما الذي يعلق في ذهن الأديب والباحث والسيناتور والسفير والناقد والأستاذ الجامعي الدكتور عبد الله الركيبي وهو يمسك اليوم برأس بل بعمر تجربة أدبية وفكرية تخطت نصف قرن من الزمن. ما الذي يستوقفه فيها، ما الذي تحقق وما الذي تعثر؟
- تمتد تجربتي في الحقيقة إلى أكثر من أربعين عاما، فأول مانشرت كان في سنة 1953ثم توالت الكتابات في الصحف الوطنية وصحف البلدان العربية الأخرى. كتبت القصة القصيرة ونشرت مجموعة "نفوس ثائرة" بالقاهرة حيث كنت طالبا بجامعتها.
على أن تجربتي في جامعة الجزائر كانت غنية بالتدريس فيها وفي البحث الأكاديمي المتعدد الجوانب وأنا أعتز بما قدمته للمكتبة الوطنية والعربية من أبحاث في المجالات الأدبية ويزيد من اعتزازي أن لي طلبة كثيرين تخرجوا على يدي في الدراسات العليا، كما أتيح لي أن أحتك بالأدباء الشباب حيث أسسنا "اتحاد الكتاب الجزائريين" عام 1974، وكذلك عندما قدمت حوالي ثلاثين أديبا في التلفزة الوطنية وكانوا وقتها شبانا صغار السن وهم اليوم كتاب كبار وأساتذة لامعون وكم تمنيت لو أن تجربة "أقلام على الطريق" تواصلت لنكتشف المواهب التي تحتاج إلى من يتعهدها اليوم ويأخذ بيدها نحو الإبداع والتطور الفني والأدبي.
ولا أنسى بالطبع تجربتي في "حزب جبهة التحرير الوطني" يوم أن كنت رئيسا "للجنة الفكر والثقافة" فقد كانت تجربة رائدة ولكن لسوء الحظ لم تستمر. وهناك تجربة أعتز بها وقد حققتها عام 1979حيث تفرغت للدراسة والبحث في "لندن" وكانت ثمرتها الكتاب الذي صدر في العام الماضي بعنوان "الجزائر في عيون الرحالة الإنجليز" وهذه هي الدراسة الأولى من نوعها لما كتبه الإنجليز عن بلادنا طوال قرنين من الزمن.
في الحقيقة يطول الحديث عن تجاربي في الحياة الأدبية والعامة وعن مشاركتي في واقع الحياة الوطنية وفي خارجها،
ولكن هناك تجربة حفرت في نفسي جرحا عميقا غائر وحزنا لا حدود له ولم يفارقني ظلها حتى الآن رغم مرور أكثر من ثلاثين عاما، كان ذلك حين كنت في مصر أعدّ رسالة الدكتوراه في جامعة القاهرة تحت إشراف أستاذتي الدكتورة سهير القلماوي - رحمها الله - التي لا أنسى أبدا فضلها عليّ وأثناء ذلك راحت ابنتي الأولى "حنان" ضحيّة حادث سيّارة في منطقة الهرم، لقد أحدثت لي هذه الصدمة زلزالا عنيفا هزّ كياني كلّه إذ كان حبّها يملأ عليّ أقطار نفسي حتّى أنني لم أنظر إلى صورتها منذ ذلك الوقت، ولكنّني قد احتسبتها عند الله سبحانه وتعالى أحمده وأشكر فضله إذ رزقني بسهام وزياد وخليفة الذين عوّضوني كثيرا، بما حقّقوه من نجاح في دراستهم وسمعة طيبة في حياتهم الأمر الذي أعتزّ به باستمرار، إنّني أعرف أنّ الحياة فيها الحلو وفيها المرّ وبضدّها تتميّز الأشياء كما يقولون.
تعيدينني خمسين عاما للوراء.. وتثيرين في نفسي الحنين إلى ايام لن تعود!!
@ عاش الدكتور عبد الله الركيبي، وهو يناهز اليوم الثمانين عاما، إرهاصات النضال السياسي في الجزائر، ومن بعده إرهاصات الثورة، واعتقل وتعرض للإقامة الجبرية، وحاول توثيق هذه المحطات الحميمية الموجع بعضها والمفرح بعضها الآخر في كتب تعتز بها المكتبة الجزائرية لعل أهمها "مصرع الطغاة" و"ذكريات من الثورة" وقبلهما "نفوس ثائرة" التي كتبت بعض أجزائها في المعتقل والجبل. هل تعود بنا إلى هذه الأيام..
ها أنت تعيدينني إلى أيام المجد، أيام العز، أيام الثورة المجيدة، أيام الفتوة والشباب. كنّا نحلم باليوم الذي تتفجر فيه هذه الثورة العظيمة وحين اندلعت في نوفمبر 1954، تحررت الإرادة، وتفجرت القرائح، وظهر الجوهر الأصيل للشعب الجزائري. إنّك فعلا تعيدينني خمسين عاما للوراء وتثرين في نفسي الحنين إلى أيام لن تعود. فالثورات لا تتكرر، ولو حدثت مرّة أخرى، فلن تكون بالطبع هي نفسها برجالها ونسائها وأطفالها وقصصها، كما أنّها لن تكون بمستوى الأولى وعيا وأحلاما، وهذا الأمر ينطبق على كلّ الثورات العالميّة.
لقد كنت طالبا في تونس عندنا رددت الإذاعات والصّحف صوت الثورة، ولا أنسى ذلك الحماس الذي سيطر على نفوسنا وملأ وجداننا، وعدت إلى الجزائر من الأسبوع الأوّل من الثّورة وبعد أكثر من عام اعتقلت ثمّ أرغمت على الإقامة الجبرية ببسكرة ولكنّني فررت وصعدت إلى جبل الأوراس حيث قضيت فترة التقيت فيها لحسن حظّي برجال عظام أمثال "على النمر" و"سيدي حنّى" و"الشّيخ الحسين بن عبد الباقي" وغيرهم من المجاهدين الأشاوس.
بعد ذلك أرسلت إلى تونس ومنها إلى القاهرة لمواصلة الدراسة الجامعية ثم المالية، على أن حياتي بتونس قبل القاهرة مرت بظروف منها المفرح ومنها المحزن، فقد رفض المسؤول عن الطلبة آنذاك إرسالي في بعثة للدراسة بالخارج، ولم يتحقق ذلك إلاّ في عهد الصديق الودود الأخ عبد الحميد مهدي، حين أصبح وزيرا للشؤون الاجتماعية، فإليه يعود الفضل في ذلك ولن أنسى له هذا الموقف النبيل ماحييت.
وسبّب لي رفض بعثتي من طرف السيد المشار إليه ألما دفينا مازال يحزّ في نفسي حتّى الآن، يضاف إلى ذلك أنّني مكثت عاما بدون عمل ولكنّني بعدها عملت في المدرسة "الصادقية" بتونس كمراقب للتلاميذ في هذه الثانوية العريقة التي درس فيها زعماء تونس وقادتها، ثم جاءت البعثة وسافرت طلبا للعلم.
ويمكن اعتبار المؤلّفات التي ذكرتها تعبيرا عن تجربتي التي عشتها في الجزائر أثناء الثورة ف "مصرع الطغاة" كتبتها وأنا في تونس أمّا "نفوس ثائرة" فبعض قصصها كتبت في المعتقل والبعض الآخر في الجبل أو تونس، أمّا "ذكريات من الثورة" فبعض فصوله كتب في القاهرة والباقي في الجزائر بعد الاستقلال، وأذكر بهذه المناسبة أنّني قدّمتها للدار الرسمية للدولة للطباعة والنشر آنذاك، وبعد مدّة طويلة جاءني الرد بأنّ الكتاب مرفوض دون سبب منطقي (!) ولما تغيّر المدير المسؤول وتغيّرت الظّروف نشر الكتاب في حلّة جميلة وإخراج جيّد.
هذه بعض الملابسات التي أحاطت بتأليف هذه الكتب في سنّ مبكّرة، ومازال ينازعني الشّعور بالعودة إلى كتابة القصّة وكذا إتمام الجزء الثّاني "من ذكريات من الثورة" ولكنّ العمل بالجامعة لم يتح لي هذه الفرصة إذ أنّه من الصّعب التوفيق بين الإبداع الذاتي والدراسات الأكاديمية خاصة إذا عرفنا أن البحث العلمي في بداية الستينات كان نادرا إن لم نقل معدوما باستثناء القلّة القليلة التي نالت شهادة الماجستير، وقد كنت الثّاني بعد صالح خرفي رحمه الله، بينما كان الدكتور سعد الله هو الوحيد آنذاك الذي نال شهادة الدكتوراه.
الجامعة حافظت على لقبي الأكاديمي، والسفارة أضاعته وأعطتني لقبا أشبه ما يكون بالرقم
@ خاض عبد الله الركيبي العمل الأكاديمي كأستاذ وباحث في الجامعة، والعمل السياسي كبرلماني في مجلس الأمة ضمن الثلث الرئاسي، وكمستشار ثقافي أولا ثم سفير للجزائر في سوريا، أي هذه المجالات حافظت على الركيبي المبدع والناقد، أم تراها فتحت له آفاقا استنزفت منه الوقت والصحة أكثر مما استفاد منها.
- ممّا لاشك فيه أنّ تجربتي في الدبلوماسية وفي مجلس الأمة بعدها، قد فتحت لي آفاقا ما كان أن أدخلها لو لم أعشها، ففي السفارة دخلت عالما جديدا يختلف تماما عن عالم الجامعة وعالم الكتابة، سواء في المحتوى أم في الأساليب أم في الوظيفة، عالم يحتاج المرء فيه إلى أن يستخدم ذكاءه حديثا وسلوكا ومراقبة لنفسه وللآخرين من حوله، ويتابع ما يحدث في وطنه وفي البلد المضيف.
لقد سألني أحد الشعراء عندما زرته للمجاملة عن الفرق بين هذين العالمين فأجبته بأنّ الجامعة حافظت على لقبي الأكاديمي في حين أن السفارة أضاعت هذا اللقب وأعطتني لقبا أشبه ما يكون بالرّقم وأعني به دبلوماسي (!) فضحك طويلا من هذه المقارنة. على أنّ الأهمّ هو أنّني ربحت صداقات كثيرة أعتزّ بها كلّ الاعتزاز، كما أنّني عاودت علاقاتي في سوريا الشّقيقة بالكتاب والمثقّفين ورجال الجامعة حين كنت مستشارا ثقافيّا في سفارتنا بدمشق في الثمانينات، كذلك ربطت علاقات مع دبلوماسيين لامعين قضوا سنوات طويلة في هذه المهمّة فضلا عن علاقاتي بالمسؤولين السامين ورجال الإعلام وكذلك بالنخبة المؤثّرة في المجتمع.
وقد أتيح لي أيضا أن أوطد ارتباطي بجاليتنا الجزائرية في سوريا وأنّ أقدّم لها ما استطعت في مجالات عديدة، كما دعمت علاقة وطني بسوريا في ميادين متنوّعة. ومازلت أذكر أصداء نجاح الأسبوع الثّقافي الجزائري هناك الّذي احتفلوا به كثيرا ونقل على كافّة القنوات المرئيّة والمسموعة والمكتوبة إلى جانب الوفود العديدة رغم أنّ الفترة لم تزد عن سنتين لا أكثر.
أمّا تجربتي في "مجلس الأمّة" فهي تجربة غنيّة أيضا بعلاقات طيّبة ربطتها مع الأعضاء وبمشاركتي في المناقشات التي تمّت على مدار ثلاث سنوات وكان اهتمامي بالطّبع ينصب على الشّؤون الثّقافيّة بالدّرجة الأولى مما أثمر دراسة لي تعتبر الأولى من نوعها بعنوان "حاجتنا إلى ثقافة سياسية وهل لمجلس الأمّة دور فيها؟" وقد أشاد بها الجميع لأنّ الموضوع هامّ وجدير بالدّراسة والمناقشة، وقد آليت على نفسي منذ اليوم الأول بالمجلس ألاّ أدخل في الصراعات التي لا نجني فيها سوى المرارة، وقد جنّبني هذا الموقف كثيرا من الأخطاء وجعلني احتفظ بصداقاتي التي نسجتها منذ البداية حتّى مغادرتي حسب القرعة المقرّرة في الدّستور، ولذا فأنا راض كلّ الرضا عن أيّامي في المجلس وبجهودي المتواضعة في هذه المؤسّسة العتيدة.
والواقع أنّه بالإمكان أن يقوم المثقفون بالغرفتين التشريعيتين بدور بارز يخدم الثّقافة إلى جانب التشريع، ولكن هذا يتطلّب تنسيقا بين المعنيين من جهة وبين المسؤولين من ناحية أخرى حتّى يصبح لدينا تقليد يمكن أن يسهم في الحركة الثّقافيّة إنتاجا ونشرا، وقد ظهرت مؤلّفات قيمة لزملاء بمجلس الأمّة ولكنّها تحتاج إلى التعريف بها وهذا يحتاج بالطّبع إلى خطّة تعدّها الغرفتان بواسطة مجموعة من المثقّفين، كما يمكن أيضا وضع خطّة أخرى لتشجيع المواهب والإبداعات لدى الشّباب لما للغرفتين من الإمكانات المادية والبشرية ولما للشباب من دور في المستقبل وبذلك لا تنفصل المؤسّسات عن الواقع وتنحصر مهمّتها في الجانب التشريعي وحده، وربّما تسمح الظروف بتحقيق هذه الآمال التي تحتاج فقط إلى الخطوة الأولى والبقية تأتي.
كان مالك حداد لا يعرف العربية ولكنّه استحقّ أمانة اتحاد الكتاب لأنه كان يدافع عن العربية والعروبة بإخلاص وتفان
@ كنتم من الرعيل الأول من الأدباء والكتاب الذين أسسوا اتحاد الكتاب الجزائريين، الذي كان خلال السبعينيات الواجهة الثقافية بامتياز لجزائر ما بعد الاستقلال، قبل أن تنقلب أوضاعه ويعرف تململا لم يختلف عن تململ البلاد وهي تدخل عهدا جديدا لم تترب عليه من قبل هو عهد التعددية السياسية والحزبية والإعلامية. وضع اتحاد الكتاب الجزائريين اليوم لا يحسد عليه، ولعل ما يهمنا، أجواء التعايش التي كانت سائدة آنذاك داخل زواياه، وهو الذي كان يؤوي آنذاك اليساري والشيوعي والإسلامي والقومي والبعثي والملحد والفرنكفوني والعروبي..
- كنت أمينا عاما مساعدا لإتحاد الكتاب الجزائريين طيلة ثلاث سنوات، وكنت أشرف على تسييره لأن المرحوم الصديق مالك حداد كان لا يعرف العربية ولكنّه استحقّ أمانة الإتحاد لأنه كان يدافع عن العربية والعروبة بإخلاص وتفان بل كان يعتبر نفسه - كما تعلمين - منفيا في الفرنسية ولذا فقد رفض الكتابة بها بعد الاستقلال واعتبر أن مهمة الكتاب الجزائريين بالفرنسية قد انتهت.
وقد أسسنا الاتحاد في العام المشار إليه في السّؤال وقام بمهمته على أحسن وجه ممكن توحّدت فيه جهود الأدباء الشباب مع الرعيل الأول وأسند النشاط الثقافي وقتها إلى مجموعة من الشباب هم اليوم كتاب بارزون وأصحاب أقلام لامعة وأساتذة أكفاء، كما أسسنا فروعا له في مدن جزائريّة عديدة وحققناها ما استطعنا من نشاطات ثقافية متنوعة وأعطينا وجها حقيقيا للكاتب الجزائري فضلا عن تحقيق الديمقراطية قولا وفعلا.
ومن الانجازات الهامة تمثيل الجزائر على النطاق العربي والعالمي وإبراز القدرات الإبداعية للمجتمع وإعطاء صورة مشرقة عن الشعب وعن مبدعيه، وقد حاول الزّملاء - مشكورين - أن أبقى أمينا عاما بالتزكية ولكني صممت على تسليم الشعلة للغير وكنت أؤمن ومازلت بالتداول على المسؤولية لا الاحتكار الذي هو مفروض في الفكر والثقافة، لذلك تركت الاتحاد لمن واصلوا الخط حتى اليوم.
والواقع أنني لا أستطيع أن أقوّم أعماله ونشاطه منذ تلك الفترة حتى اليوم لأنني غبت سنوات عن الوطن في الثمانينات وبعدها في التسعينات كما ذكرت ثم كان انشغالي بمجلس الأمة.
أمّا عن الصراعات - كما ورد في السؤال - فأنا ممن يؤمنون بالصراع الفكري لا من أجل منصب أو منفعة شخصيّة، ومهمّة الإتحاد هي تجميع الملكات وتشجيع المواهب والدفاع عن هوية الشعب وثوابته والإسهام في الإبداع وفي حركية المجتمع وتطلّعه إلى مستقبل زاهر.
نادي الفكر العربي أجهض لأسباب ما زالت مجهولة رغم أن مسؤولين في الدولة شجعوا التجربة معنويا
@ تجربة "نادي الفكر العربي" من التجارب التي يعتز بها الدكتور الركيبي، بالقدر نفسه الذي يتألم من الأسباب التي أدت إلى إجهاض هذه التجربة، في وقت كانت البلاد تحتاج إلى من يرسخ في شبابها وهي تتحرر من استعمار استيطاني مستلب، قيم الإنتماء ويكرس فيهم مقومات الهوية واللغة والدين.
- أشكرك على هذا السؤال الذي تعيدني إلى أكثر من ثلاثين عاما مضت. وقليلا بل نادرا، ما سئلت عن "نادي الفكر العربي" في عشرات الأحاديث التي أجريت معي داخل الوطن وخارجه. ربّما لا تعرف الأجيال الجديدة شيئا عن هذه التجربة الرائدة فعلا، فقد كان هذا النّادي أوّل منبر يلتقي فيه المثقفون العروبيون بعد الاستقلال، إذ أنه تأسّس في عهد الرّئيس أحمد بن بلة، وقد كان حرّا مستقلا، نشيط في المجال الثقافي الوطني وباشتراكات أعضائه ومحبّيه والمتعاطفين معه ومع أهدافه النبيلة. بل إن مقرّ النادي بساحة بورسعيد تبرع به لنا أحد أصدقائي، وقد كان معي في معتقل آفلو، وهو الأخ محمّد هنئ المعروف بداقي. وبقيت أشرف عليه سنة كاملة ثم استقلت منه لأسباب صحيّة وغيرها، ولم يطل الحال بعدها حتى تفرقت الهيئة التي تمّ انتخابها بعدنا، إذ كان نظامه يعتمد على الانتخاب تماما فحققنا بذلك الدّيمقراطيّة مبكّرا كما ترين.
وأحب هنا أن أسوق فذلكة مضحكة، فحين قدمنا ملف تسجيل النادي إلى الولاية للموافقة على إنشائه، وقرأ الموظف ترجمة العنوان، نظر باندهاش حقيقي وتساءل: ماهذا النادي الذي لا يعمل فيه الناس سوى التفكير "البونسيه" فكان الجواب أنّ هؤلاء الشّباب ليس لهم ما يفعلون سوى أن يجتمعوا معا ويفكروا. وهذا يعطي صورة عن النظرة للفكر في تلك الحقبة!!
ولقد تمّ انتخابي لرئاسة "نادي الفكر العربي" وأنا بعيد عن أرض الوطن، إذ كنت أمثل الجزائر مع الشاعرين الراحلين المرحوم صالح خرفي والمرحوم محمد بوزيدي في مؤتمر الأدباء العرب ببغداد في فيفري / شباط 1965، وبعد عودتي تحملت المسؤولية في حدود طاقتي وظروف النادي ولكنّي تركته بعد عام - وقد شاءت الظروف أن تجهض هذه التجربة الرائدة لأسباب مازالت مجهولة حتى الآن، ولو استمرت هذه التجربة، التي و الحق يقال - كانت محل تشجيع معنوي من بعض المسؤولين في الدولة، لأن الحديث عن العروبة في تلك المرحلة كان يقابل بازدراء من كثيرين (!)، أقول لو استمرّت لأصبحت تقليدا ربما يقتدي به الآخرون.
وفي النّهاية أقول: ما أحوجنا اليوم - أكثر من أيّ وقت مضى - إلى نادٍ للفكر العربي بعد أن أصبح هذا الفكر محاصرا مطاردا على جبهات متعددة!!.
هناك من غازل السلطة ومنهم من انتقدها وبعضهم تعرض للمساءلة
@ تجربتكم ثرية لا شك في ذلك، لكن أهم ما يعاب على الأدباء الذين جايلتهم، في الستينيات والسبعينيات، غلوّهم في الجانب الإيديولوجي الذي كان يخدم توجها اشتراكيا شربتم من منهله وانعكس في القصة والرواية والمقالة والشعر، إلى درجة وجد جيلكم فيما بعد صعوبة في التخلص من سطوة هذا التوجه فيما راح البعض الآخر يغازل السلطة صراحة ويتودد لها.
- إذا كان لابدّ من الانتماء إلى جيل فأنا بدأت الإنتاج بصورة متنوّعة في السّتّينات لا في السّبعينات، بل نشرت كما ذكرت آنفا كتابين في القاهرة وأنا أدرس بجامعتها، وفي السّبعينات ظهرت لي دراسات كثيرة، وقد كانت تجربة الشباب جدّ خصبة في تلك الفترة سواء في الشّعر أم في القصّة أم الرواية أم الدراسات النقدية، ويمكن أن نعتبر هذه الشبيبة طليعة الأدب الذي تطوّر شكلا ومحتوى بصرف النّظر عن الأحكام التي صدرت بشأنه.
ولعلّ النقد الّذي وجه إلى تلك التجارب الفنيّة انصبّ على المضمون بالدّرجة الأولى حيث مال إلى "المذهبيّة" كما قيل عنه واتهمّ أصحابه بأنّهم يراعون الجانب "الأيديولوجي" على حساب الجانب الفنّي. وإذا كان هذا الحكم صحيحا إلى حدّ كبير، فإنّ هذه الأعمال الأدبية لم تهمل الجانب الفنّي فقد رأينا كيف عني الشعراء بالشعر الحر أو شعر التفعيلة - كما يطلق عليه - كذلك ظهرت تجارب جديدة في القصّة القصيرة تنوّعت فيها الاجتهادات وأسهمت في تطوّر الأدب الجزائريّ المعاصر.
و بطبيعة الحال فإن الأديب لا يستطيع أن ينفصل عن واقعه وعن مجتمعه، سياسيّا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، ثمّ إنّ المرحلة كانت تعجّ بالأفكار ولاسيما الفكر الاشتراكي الذي طغى على الحياة السيّاسيّة وطنيّا وعربيّا وعالميّا، وكان من الصّعب أن ينفصل الأديب الجزائريّ الشّابّ عن واقعه وعصره والأفكار التي تروج من حوله فضلا على أنّ السيّاسة في الجزائر ركّزت على هذه الناحية.
المصدر