النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل
.................................................. ............

صدرت هذه المجموعة مؤخراً عن سلسلة «أصوات أدبية»،
الثقافة الجماهيرية ـ مصر،
وتضم المجموعة ثماني عشرة قصة قصيرة:



***

الإهداء:

إلى يحيى حقى


(1)
لماذا يتحدون ضدى ؟

مات الجد عبد الرحيم ..
قال لى حفيده شوقى بائع أدوات الصيد بوكالة الليمون ، أن مرعى خادم جامع أبو العباس ، جاء بنسخة القرآن ليكتب عليها اسماً جديداً ، بتاريخ ميلاد جديد . لم يكد يقلب الصفحات ، فى مراجعة للأسماء والتواريخ ، حتى تملكه الغضب . تقلصت ملامحه ، واحمرت عيناه ، وأخذت الرعشة أطرافه . ثم شهق ، ومات .
لم يدر ببال أحد أن الجد عبد الرحيم يموت . بدا جزءاً من تواصل الحياة ، أزلياً مثل الدهر . أجمل أوقاته حين يحيط به الحفدة فى أوقات العصر . يستعيد ما نسيه ، يتحدث عن الأصول ، والبدايات ، والمعارك ، والحروب ، وامتلاك ما دفع أبناء العائلة حياتهم من أجله .
حدث ما كنت توقعته ..
اتهم أحفاد للجد عبد الرحيم إخوتهم بأنهم تآمروا لقتله . اختلفوا ، وتشاجروا ، وتواجهوا بالاتهامات . كثر ترددهم على نقطة الأنفوشى ، وعلى النيابات ، والمحاكم .
طال ترقبى للثغرة التى أتسلل منها ، فأبدّل كل شئ ..
لم أدبر نفسى ، ولا تصورت ، أن الدعاوى ستجرنى إليها ..
رفض أحفاد الجد عبد الرحيم قرابتى لهم . طرق المحضرون باب بيتى بحقائبهم المنتفخة ، وسحنهم المتلبدة بالعرق ، فى أيديهم دعاوى برفض قرابتى لعائلات حصلت على حق نظارة أوقافها ، أو الإشراف عليها . عانيت الاتهامات بالخداع والتزوير ، وادعاء ملكية ما ليس من حقى . من كانوا يتقبلون ما أدسه فى أيديهم ، علت أصواتهم بالرفض والغضب والتمرد . حوصرت ـ بلا توقع ـ فى موقف الدفاع ..
أما لماذا أصررت على التقاضى فيما كنت أعرف أنى ـ ربما ـ لن أفوز فيه بشىء ، فلأن ما أرجوه يتجاوز مصلحتى الشخصية إلى مصلحة العائلة .
هى ليست عائلة واحدة ، لكنها مجموعة عائلات ، عائلات كثيرة ، تجد فى الحصول على عائد الوقف ما يحقق لها الثراء ، ويبدل حياتها .
المستحقون فى قضايا الأوقاف ـ منذ صدر قرار حل الأوقاف ، وتوزيع الأصول على مستحقيها ـ يبلغون الآلاف ، وقيمة أملاكهم تبلغ مليارات الجنيهات .
الوقف ـ كما تعلم ـ صدقة جارية من أموال الواقف . يستمر بقاؤها بعد مماته . تنفق فى وجوه البر والخير ، وتظل مستمرة ، ثوابتها لا تنتهى ، ويقتصر الإنفاق من العائد المادى . قد يهب الواقف أملاكه لمن يراه من ذريته ، أو نسله ، أو زوجاته ، أو جواريه ، بموجب حجة يحدد فيها حدود الوقف والمنتفعين به ممن يراهم هو . ثمة عائلات تصر على أن يقتصر الوقف عليها ، لا تفيد منه عائلات أخرى ربما تكون أشد احتياجاً .
مسئولية ديوان الأوقاف رعاية شئون الأوقاف المختلفة ، ورعاية مصالح المستفيدين منها . ينظم استغلال الأوقاف بنوعياتها المختلفة ، وينظم قواعد المحافظة عليها ، وإصلاحها ، بما يحقق المنفعة ، ويمنع الضرر .
حرصت على أن يؤدى وظيفته تحت رعايتى ، وبمتابعة منى . يهمنى مستقبل هذه العائلات التى لا تعرف صالحها ، ويهمنى صالح عائلتى أيضاً ، وتأمين المستقبل من عائد لا يفاجئنا بنضوبه . حتى ما أحتفظ به هو لصالح الآتى من الأيام .
كان لابد ـ لتعدد الأوقاف ـ من تنظيمها ..
كثرت المنشئات الموقوفة ، والموقوف عليها ، زادت المصاريف ، وصعب الحصر ، بما يحتاج إلى إعادة نظر . لا يشغلنى الحصول على ما يمتلكه غيرى .
أنا الأقوى ـ كما يعلم الجميع ـ والأكثر ثراء . تهمنى المسئولية فى تحقيق العدالة . رؤساء العائلات الذين يحتفظون بمعظم ما تدره من ريع ، والعائلات التى لا تحسن الإنفاق ، وتبدده فيما لا جدوى منه ، كالنزيف الذى يجب إيقافه .
يثيرنى أن يمتلك الشخص ملايين الجنيهات ، ويعانى فقراً حقيقياً .
أوكلت إلى أعوانى حراسة الأوقاف ، حتى لا يبددها أصحابها . أهملت الاتهامات بأنى أرفع الدعاوى لسلب وارثى الأوقاف أملاكهم . هددت بأن يعاد النظر فى قوانين الملكية والمواريث .
تابعت أصول الأوقاف ، ومنابعها ، وتصنيف أنواعها ، وتحديد ما تحمله من شروط . تمليك الوقف بالبيع ، أو بالإرث عن الأجداد ، فالآباء .
من يدعى ملكية أرض أو عقار ، عليه أن يثبت تملكه لها بالبيع ، أو بالإرث . أكشف ـ فى سجلات المحاكم الشرعية ـ عن العقارات والأراضى . أطالب بأن يثبت الورثة قيد ميراثهم فى السجلات . إذا لم يكن الوارث يمتلك حجة ، أو يشوب حجته ما يقلل من صحتها ، فإنه يدفع رسوماً للحصول على حجة جديدة ، أو تصحيح الحجة القائمة ، أو يتنازل عن الدعوى فلا يطالب بما ليس من حقه .
يجيد أعوانى قسمة المواريث ، وقروض القسمة الشرعية ، وحصص الورثة ، وما يتصل بذلك من الهبة والبيع والشهادة والمنازعات والتسميات التى لا حصر لها . أحرص على إطالة أوقات الدعاوى . أزيد من تشابكاتها حتى يحل اليأس .
اعتدت كلمات المستندات والحجة وعقود الزواج والطلاق ، وشهادات الميلاد وشهادات الوفاة والمجلس الحسبى وقوائم التركات والوصاية وشجرة العائلة والفتاوى .
وضعت يدى ـ بموافقة أصحاب الأوقاف ، ولكى يقربوا مواعيد تسلم حصصهم ـ على ما يصعب حصره من البنايات والأراضى المزروعة والصحراوية ، تتخللها القصور والوكالات والرباع والخانات والوحدات السكنية والمقصورات والفنادق والحوانيت والخانقاوات والزوايا والأسبلة وأحواض الدواب ..
صار لى حق النظارة على الكثير من أراضى الأوقاف الخيرية والأهلية . لجنة قسمة أملاك الوقف بلا حول ولا قوة ، خف وقع الأقدام المتجهة إلى الطابق الثالث فى البناية المجاورة لمحلات صيدناوى بالعتبة . أبطلت الكثير من المرتبات ، ومن إنفاق ريع الأوقاف المخصصة للصدقات والخيرات . باب ينفذ منه الصواب والخطأ ، ما يصح وما لا يصح ، أصحاب الحقوق ، والمتبطلون ، ومن يشغلهم أن يأخذوا ما ليس من حقهم .
لاحظت أن وقف عائلة الوسيمى ، ما أوقف على أفرادها من عقارات وأراض زراعية وأموال سائلة ، يزيد كثيراً عن حاجة العائلة ، ويقل كثيراً عن حاجة عائلات أخرى .
قلت للشيخ السمرة فى لهجة مستنكرة :
ـ لماذا تقتصر الأوقاف على المنشئات الدينية من جوامع ومساجد وزوايا ومدارس وأسبلة وغيرها ؟
قال الشيخ السمرة :
ـ هذا شأننا ..
تحول إشرافه على الوقف إلى وظيفة ، هو يتوجس ، ويكره النصيحة ، ويخشى تدخلى . لم يعد فى حياتنا شأن منغلق على أصحابه . شأنى شأن الآخرين ، والعكس صحيح ..
قلت :
ـ هو شأنى أيضاً ..
وربت كتفه بيدى :
ـ الصغار مسئولية الكبير ..
أظهر تمازج الدهشة والضيق :
ـ لماذا لا يكون كل امرئ فى نفسه ..
ـ أنت لا تعيش بمفردك ، وعائلتك لا تعيش وحدها ..
وأدنيت قبضتى من وجهه :
ـ هذه مسئوليتى .
لا معنى لوقف البنايات والأراضى دون استثمارها . العائلة ذات الألف فرد تكبر فى مدى سنوات ، وتتضاعف ..
أقف أمام لجنة قسمة أملاك الوقف . جلساتها كل أحد ، من التاسعة حتى العاشرة والنصف صباحاً .
أحاول أن أضع يدى على الأوقاف . أعيد التوزيع ، فينالها من يستحقها ..
أظهرت اللامبالاة عندما طلب الموظف أن أظهر المستندات التى تدل على حقى فى الوقف ..
قال الموظف :
ـ هل أصبحت أموال الأوقاف سائبة ؟
رمقته بنظرة لوم :
ـ لماذا تخصنى بهذه الكلمات ؟.. أنا أطلب حقى ..
ـ لقبك يختلف عن لقب الورثة ، واسمك ليس مدرجاً فى شجرة العائلة .. ولا ذكر لك فى سجلات أو أوراق ..
ـ هذا ما تراه ، لكننى أملك الوثائق التى تثبت حقى ..
ـ أين هى ؟
ـ إذا لم أحصل على حقى بالود ، فسأحصل عليه بوسائل أخرى ..
وضعت يدى على وقف الريعاوى . مساحات واسعة مترامية ، وفى مناطق مختلفة . أراض زراعية وعقارات وميادين وشوارع وأسواق .
يدعى الورثة أنهم من السادة الأشراف ، ويمتد نسلهم إلى الإمام الحسين رضى الله عنه .
لجأت إلى رفع دعوى بأحقيتى فى الميراث . تراكمت الأوراق ، والوثائق ، والملاحظات ، والمستندات ، وإثباتات الملكية ، والسجلات والأحكام ، والأحكام المؤقتة ، والتى تنقضها دعاوى مقابلة ، والحجج ، وبيانات شجرة العائلة ..
الوقف لا يباع ولا يوهب أو يرهن ، ولا يجوز التصرف فيه . مهمتى أن أضع يدى على كل الأوقاف . يتعدد التأجيل والإلغاء ، وإعادة رفع الدعاوى ، وتقديم المذكرات ، ودفع الرسوم . يتنازل أصحاب كل وقف على جزء منه ، فأسقط دعواى ، وألتفت إلى أوقاف أخرى . يعنى المستفيدين أن يحصلوا على العائد ، كل ما يخصه ، بعيداً عن التقاضى والتأجيل وتقديم الأوراق والطعن فيها . يدركون أنه إذا طال عرض قضية الوقف ، فسيزيد عدد المتقاضين بطلب الوراثة ، أو من يجدون لأنفسهم حقوقاً فى الميراث ، وتتكاثر الدعاوى . تتضاءل قيمة الأموال بحيث لا تشجع على طلبها .
نفض أكبر الحفدة زيتون التاجر بشارع الباب الأخضر يديه كمن ينهى أمراً ، وقال :
ـ هذا حلم نمت فيه ليلة طويلة ، وكان لابد أن أصحو منه ..
وزفر :
ـ لا أريد وقفاً . أكتفى براتبى أول كل شهر !
أدان الدعاوى والقضايا والخصومات التى لا تنتهى . قال إن الإنسان لا يحمل شيئاً عند رحيله من الدنيا ، فهو إذن ليس فى حاجة إلى أموال تزيد عن حاجة دنياه .
فطنت إلى الربا وسيلة للاستيلاء على الأوقاف التى يعانى أصحابها ظروفاً قاسية . أعطيتهم ما يطلبون . أومئ بالزيادة . أدرك أن السهل يغرى بتناسى النتائج . تبلغ الديون ما يساويه الوقف ، أو أكثر . أبعث إلى البنك ما بحوزتى من إيصالات وشيكات ، وأنتظر .
بدا لى وقف الجد عبد الرحيم مشكلة من الصعب حلها ..
الرجل يعرف شجرة عائلته . هو الجذر ، يتفرع منها الأوراق ، الأحفاد ، من عاش ومن مات . حرص على تداخل القرابة ، فلا يتيح للغرباء أن يرثوا من الوقف . من يتحدث عن العاطفة ، يزجره بنظرة غاضبة ، يلزمه أن يتزوج من داخل العائلة .
لم يزعجه ما أعد للحصول على إيرادات الوقف ، قدر انزعاجه من محاولة انتسابى إلى العائلة . يؤول إلى ورثته ما يمتلكه من الأراضى والعقارات والأموال . المخالفة تعنى ذوبان الجسد المعلوم فى الأجسام الغريبة .
كان الجد عبد الرحيم ـ لإدراكه أن العمر سيطول به ، ربما أكثر مما ينبغى ـ قد أزمع البقاء فى سريره ، بالقرب من النافذة المطلة على شاطئ الأنفوشى . يوزع أراضيه وعقاراته على أحفاده الكثيرين ، ويلاحظ تصرفاتهم المعلنة والمستترة . يقرر ما إذا ظل فى موضعه ، أم يرفع عنه الغطاء ، ويعيد توزيع أملاكه على من يستحقها .
أملاكه موزعة بين صحراء المتراس وأحياء القاهرة القديمة والأراضى الزراعية فى الغربية والشرقية والصحراء المتاخمة للحدود مع ليبيا والعريش .
أثبتت السجلات وجود قطع أرض فضاء فى جبل ناعسة ، وأرض بور ـ بتأثير الملوحة ـ فى الطريق بين دمياط وبور سعيد ، وحدائق برتقال فى أنشاص ، ووابور طحين بالقرب من بلبيس ، ومساحات دكاكين فى كوم الدكة ، وخمسة وعشرين بناية مخصصة للتأجير فى منطقة الرمل ، وفرن فى شارع الميدان ، ودكان لبيع الكتب القديمة فى العطارين ، ومصبغة للملابس فى غربال ، ووكالة ذو الفقار كتخدا بالجمالية ، ووكالات أخرى فى أسوان ورشيد والسويس . حتى الدائرة الجمركية ، كان للعائلة مستودعات ومخازن وأرصفة ، يقتصر استخدامها على أبناء الجد عبد الرحيم وأحفاده .
لو أنى تنازلت عما هو حق لى فى وقف عبد الرحيم ، فسيصبح التنازل هو المبدأ . ما عداه استثناءات قليلة ، ما تلبث أن تذوى وتتلاشى ..
أشرفت بنفسى على وقوف القلابات فى نهاية مساحة اختلاط قطع الحجارة والتراب والرمال . تمتد المسافة إلى داخل البحر ، فوق المياه ، ثلاثة أو أربعة أمتار ، كل يوم . تذوب الفواصل بين أرض الدولة وأرض الوقف . يصعب على الجد عبد الرحيم إثبات ما تملكه عائلته ، وما هو ملكية الدولة . يضمنى إلى الورثة ، فأفصل بين ما للدولة وما لورثة وقف عبد الرحيم ..
عرفت أن الجد عبد الرحيم يكتب أسماء المواليد وتواريخ الميلاد فى هوامش مصحف ، يحتفظ به أسفل جامع أبو العباس . يضعه ـ بأمر منه ـ مرعى خادم الجامع ، فى المسافة الفاصلة بين ضريح أبو العباس وأضرحة أبنائه . يعيده إلى الجد عبد الرحيم صباح ولادة كل طفل . يكتب الجد عبد الرحيم الاسم والتاريخ . عشرات الأسماء امتلأت بها هوامش المصحف . يستعيد الجد عبد الرحيم ـ بقراءتها ـ ما قد يكون نسيه من اسم حفيد . تظل الأسماء كلها حية فى الذاكرة .
استندت بكتفى إلى منبر الجامع . تناثر فى الصحن الواسع رجال يتلون القرآن والأوراد ، تحت الأعمدة الجرانيتية ، ولصق الجدران . فى المواجهة نساء يطفن حول المقام المضوع بالبخور ، يلمسن المقصورة النحاسية بالأيدى ، ويطلبن الشفاعة والنصفة والمدد .
أظهرت للخادم من النقود ما يزكّى طلبى بأن أهبط الدرجات المفضية إلى الضريح . ما يهمنى قوله ، يصعب أن أهمس به من خلال القضبان المحيطة بالمقام . عرضت أمنيتى أن أنزل إلى قرب الضريح . دسست فى يد الخادم نقوداً أخرى ، تزكية لطلبى .
لم تطل وقفتى ، ولا انحناءتى السريعة ، فى الفاصل بين ضريح أبى العباس وأضرحة الأبناء . تأكدت من غياب النظرات ، ثم سجلت اسمى وتاريخ ميلادى . لم أزيف ، ولا ادعيت اسماً ، ولا تاريخاً يخالفان الحقيقة .
هؤلاء الناس .. لماذا يتحدون ضدى ؟