النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: حين أدرك../ د. إبراهيم ياسين

  1. #1 حين أدرك../ د. إبراهيم ياسين 
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10

    حين أدرك... قصة قصيرة

    منذ أن سمع من أمه تلك العبارات القاسية التي سممت حياته : إنك ولد زائد عن الحاجة ، لقد حاولت مرات عدة وأنت في بطني أن أتخلص منك بكل الطرق والوسائل ، لقد تناولت من الأعشاب والأدوية ما يكفي للقضاء على أمة من الأمم إلا أنك كنت ولدا منحوسا ولم يؤثر فيك كل ما تناولته من أدوية ، كأنك كنت مصرا على أن تعيش عالة على نفسك وعلى الآخرين ، لم يكن بد من أن تولد ، لكنك لم تشأ أن تترك الفراغ لإخوتك ، لقد اقتسمت معهم الطعام والشراب وزاحمتهم في الهواء وفي المكان الضيق الذي ما فتئنا ندفع بعضنا بعضا فيه ... كلما تذكر هذه الكلمات اسودت الدنيا في عينيه ... كان في أحيان كثيرة يلجأ إلى التساؤل ، يسأل نفسه ... وهل كان في إمكانه أن يسأل غير نفسه ، لكن أسئلته كانت عقيما ، بحيث إنها لم تكن تلد أجوبة ... أسئلة تشبه الاستنساخ ، كما قرأ عنه وكما فهمه ، أسئلة تلد أخرى ... الاختلاف أمر مهم وضروري ... توالد الأسئلة وتكاثرها ينسخ بعضها بعضا يزيد من ألمه ومعاناته ، يشعره بالعجز ... هذا العجز الذي زاده المرض قسوة وشدة ، كانت الحيرة تملأ عليه كل كيانه ، كيف يمكن لأم أن تكون بهذه القسوة ؟ قلب الأم مركز الحنان والعطف ورمز الدفء ، كيف يصير حجرا ؟ ما ذنبي ؟ تساءل في قرارة نفسه ، ماذا صنعت حتى تكون حياتي بهذه الدرجة من التفاهة ؟ هل لوجودي معنى ؟ هل من حق أمه أن تمنعه من الحياة ؟ هل من حقها أن تقرر إن كان زائدا عن الحاجة أو كان وجوده ضروريا ؟ ما جدوى أن تخبره بذلك بعد أن ولدته ؟ لقد قست عليه أمه وقسا عليه الفقيه والمعلم والشرطي ... قسا عليه قبل ذلك وبعده الفقر الذي عاش فيه ، الفقر الذي حرمه من متعة الحياة ؛ حرمه من طعام يشبعه ولباس يستره ... الفقر ذلك اللئيم الذي تربص به صغيرا وآلمه كبيرا ... الموت آخر ما في اللائحة وليس الأخير ... هذا القاسي الذي أدماه حين تربص به خفية ، آخذا منه جدته التي كانت له سندا يحتمي به ، يسند ظهره إلى ظهرها فتدفئه ويضع رأسه في حجرها فتهدئه ... هاهي رحلت وتركته للقلوب القاسية العاتية تفتك به بكل برودة ... تتربص بجسده الهزيل ...لم يجد من ينتقم منه غير نفسه ، كانت الأمور تنمو وتكبر ، نظرة احتقار لهذا الجسد المهترئ كلما نظر في المرآة ، كانت بداية العقاب الجهنمي الذي ألحقه بنفسه ، وبعد وقت قد طال أو قصر أصبح ما عاد يحب رؤية وجهه ، وتدرج فأصبح لوما وتعنيفا وتساؤلا : ما جدوى ... وما جدوى ...
    وهو صغير كان قد تمنى ... وما أكثر ما تمنى ... حلولا سحرية ؛ خاتم سليمان ... قمقم سندباد ... أي حل يخرجه من هذه الأزمة ، إلا أن وجود جدته إلى جانبه جعل هذه التمنيات وهذه الأحلام ، أحلام اليقظة متنفسا يخفف عنه وهو يستظل بظل جدته ، أما الآن وقد رحلت وتركته وحيدا فلم يعد ثمة أي مبرر للتمني ، إلا أن الأسئلة لم تتوقف وما كان لها أن تتوقف . الأمر ليس بيده ، الفيلسوف هو من يقرر أن يسأل أو أن يمتنع عن السؤال ، يصوغ السؤال ثم يعيده ، يجعله مفردا أو مركبا ، بسيطا أو إشكاليا ... هو لم يكن يملك الخيار في أي شيء ، فهو بقدر ما كان يدرك ألم السؤال بقدر ما كان يدرك عجزه عن التوقف وتغيير المسار... بعد سنين من المعاناة والمكابدة أدرك ، كما أدرك من قبل ، أن الوقت قد فات على التغيير ، وحين عزم على أخذ الأمور بجدية قرر أن يسلم نفسه وحياته ... للعبث وذلك بأن يترك الأمور كما يتركها الكثيرون ... للصدف ، ولا يتبقى له إلا ينتظر الموت حتى يتخلص من ... الإدراك .
    د. إبراهيم ياسين
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد: حين أدرك../ د. إبراهيم ياسين 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Nov 2007
    المشاركات
    1,901
    مقالات المدونة
    40
    معدل تقييم المستوى
    18
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة طارق شفيق حقي مشاهدة المشاركة

    حين أدرك... قصة قصيرة

    منذ أن سمع من أمه تلك العبارات القاسية التي سممت حياته : إنك ولد زائد عن الحاجة ، لقد حاولت مرات عدة وأنت في بطني أن أتخلص منك بكل الطرق والوسائل ، لقد تناولت من الأعشاب والأدوية ما يكفي للقضاء على أمة من الأمم إلا أنك كنت ولدا منحوسا ولم يؤثر فيك كل ما تناولته من أدوية ، كأنك كنت مصرا على أن تعيش عالة على نفسك وعلى الآخرين ، لم يكن بد من أن تولد ، لكنك لم تشأ أن تترك الفراغ لإخوتك ، لقد اقتسمت معهم الطعام والشراب وزاحمتهم في الهواء وفي المكان الضيق الذي ما فتئنا ندفع بعضنا بعضا فيه ... كلما تذكر هذه الكلمات اسودت الدنيا في عينيه ... كان في أحيان كثيرة يلجأ إلى التساؤل ، يسأل نفسه ... وهل كان في إمكانه أن يسأل غير نفسه ، لكن أسئلته كانت عقيما ، بحيث إنها لم تكن تلد أجوبة ... أسئلة تشبه الاستنساخ ، كما قرأ عنه وكما فهمه ، أسئلة تلد أخرى ... الاختلاف أمر مهم وضروري ... توالد الأسئلة وتكاثرها ينسخ بعضها بعضا يزيد من ألمه ومعاناته ، يشعره بالعجز ... هذا العجز الذي زاده المرض قسوة وشدة ، كانت الحيرة تملأ عليه كل كيانه ، كيف يمكن لأم أن تكون بهذه القسوة ؟ قلب الأم مركز الحنان والعطف ورمز الدفء ، كيف يصير حجرا ؟ ما ذنبي ؟ تساءل في قرارة نفسه ، ماذا صنعت حتى تكون حياتي بهذه الدرجة من التفاهة ؟ هل لوجودي معنى ؟ هل من حق أمه أن تمنعه من الحياة ؟ هل من حقها أن تقرر إن كان زائدا عن الحاجة أو كان وجوده ضروريا ؟ ما جدوى أن تخبره بذلك بعد أن ولدته ؟ لقد قست عليه أمه وقسا عليه الفقيه والمعلم والشرطي ... قسا عليه قبل ذلك وبعده الفقر الذي عاش فيه ، الفقر الذي حرمه من متعة الحياة ؛ حرمه من طعام يشبعه ولباس يستره ... الفقر ذلك اللئيم الذي تربص به صغيرا وآلمه كبيرا ... الموت آخر ما في اللائحة وليس الأخير ... هذا القاسي الذي أدماه حين تربص به خفية ، آخذا منه جدته التي كانت له سندا يحتمي به ، يسند ظهره إلى ظهرها فتدفئه ويضع رأسه في حجرها فتهدئه ... هاهي رحلت وتركته للقلوب القاسية العاتية تفتك به بكل برودة ... تتربص بجسده الهزيل ...لم يجد من ينتقم منه غير نفسه ، كانت الأمور تنمو وتكبر ، نظرة احتقار لهذا الجسد المهترئ كلما نظر في المرآة ، كانت بداية العقاب الجهنمي الذي ألحقه بنفسه ، وبعد وقت قد طال أو قصر أصبح ما عاد يحب رؤية وجهه ، وتدرج فأصبح لوما وتعنيفا وتساؤلا : ما جدوى ... وما جدوى ...
    وهو صغير كان قد تمنى ... وما أكثر ما تمنى ... حلولا سحرية ؛ خاتم سليمان ... قمقم سندباد ... أي حل يخرجه من هذه الأزمة ، إلا أن وجود جدته إلى جانبه جعل هذه التمنيات وهذه الأحلام ، أحلام اليقظة متنفسا يخفف عنه وهو يستظل بظل جدته ، أما الآن وقد رحلت وتركته وحيدا فلم يعد ثمة أي مبرر للتمني ، إلا أن الأسئلة لم تتوقف وما كان لها أن تتوقف . الأمر ليس بيده ، الفيلسوف هو من يقرر أن يسأل أو أن يمتنع عن السؤال ، يصوغ السؤال ثم يعيده ، يجعله مفردا أو مركبا ، بسيطا أو إشكاليا ... هو لم يكن يملك الخيار في أي شيء ، فهو بقدر ما كان يدرك ألم السؤال بقدر ما كان يدرك عجزه عن التوقف وتغيير المسار... بعد سنين من المعاناة والمكابدة أدرك ، كما أدرك من قبل ، أن الوقت قد فات على التغيير ، وحين عزم على أخذ الأمور بجدية قرر أن يسلم نفسه وحياته ... للعبث وذلك بأن يترك الأمور كما يتركها الكثيرون ... للصدف ، ولا يتبقى له إلا ينتظر الموت حتى يتخلص من ... الإدراك .
    د. إبراهيم ياسين

    و بعدما أدرك ، هل كان سيندفع نحو نهاية صخرية و ينادي الصدى ، أو الأخاديد ، أو الفراغ الممتد بينه و بين الأخاديد:
    عودي إليَّ حبيبتي العجوز
    أو
    خُذْنِي إليكَ إلهِيَ الحبيب


    /////////////////////////
    أم لا بدّ له أن يقسو بعض الشيء كي يستمرّ
    /////////////////////////
    و قد لا يحسن قلبه التوصّف و لو ببعض القسوة
    و بذلك يعيش الصراع داخليا و خارجيا

    و في الأخير قد لا يدرك أي شيء من الدنيا
    لكن قد يدرك أمور أخرى...من يدري
    معقدٌ جدا هذا الإنسان

    و مع ذلك عليه تجاوز تعقيده إن أراد أن يكون بنّاءا
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3 رد: حين أدرك../ د. إبراهيم ياسين 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية عاشت بلادي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2007
    المشاركات
    871
    معدل تقييم المستوى
    17


    قصة معبرة ومشوقة
    أشكرك على أسلوبك الجميل في السرد
    فأنت تملك أسلوب روائي جميل
    سلمت يداك



    ( حملة إنسانية لفك الحصار )
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. هل جربت محرك بحث المربد ؟
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى اليوم الكبير للمربد
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 05/06/2014, 11:45 PM
  2. في الذكرى ال 62 لمذبحة دير ياسين / الحاج لطفي الياسيني
    بواسطة الشاعر لطفي الياسيني في المنتدى الشعر
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 17/04/2010, 12:05 AM
  3. لائحة اللوائح قصة قصيرة - د . إبراهيم ياسين .
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 16/02/2008, 11:31 PM
  4. طه ياسين رمضان يعدم ويدفن الى جوار صدام
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى قبة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 22/03/2007, 12:27 AM
  5. محرك بحث ق . ق.ج
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 29/03/2005, 10:57 PM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •