د. إبراهيم بن منصور التركي
اتخذت ممارسات بعض المنتسبين للتيار الديني حيزاً كبيراً من الاهتمام في السنوات الأخيرة، وصار الحديث عن ذلك أمراً يومياً بتنا نراه ونسمعه على مختلف قنوات التواصل الإعلامي المقروءة والمسموعة والمرئية، وقد أعطى النص السردي المحلي اهتماما بالغا في السنوات الأخيرة لهذا الموضوع، فتعرض بالنقد والتصويب لكثير من تلك الممارسات.
هذا الموضوع قد تناوله بعض كتاب الرواية بجرأة شديدة وبقوة أشد (أحياناً)، مثلما فعل عبدالله ثابت في رواية (الإرهابي) وعبده خال في رواية (فسوق)، الا انك برغم اختلافك قليلا او كثيرا مع طرحهما هناك، لا تملك الا أن ترفع لهما قبعات الإعجاب على الجودة الأدبية والتشكيل الفني اللذين عبّرا بهما عن قضية الرواية.

وثم رواية ثالثة تناولت ذات الموضوع بصورة مختلفة من الناحية الفنية والفكرية - سأخصها بالحديث في هذي السطور - وهي رواية (المطاوعة) لمبارك علي الدعيلج، الصادرة عن دار رياض الريس، في 2006م، فبرغم الحظر الشديد الذي وجدته هذه الرواية - والذي وصل بعض البلاد المجاورة، الا ان أحد الأصدقاء الأعزاء الذين استطاعوا الحصول اعارني نسخته لأطلع عليها، وبعد قراءتي للرواية حمدت الله على أن رواية كهذه بقيت في دائرة المنع والحظر، حمدت الله على ذلك لا لأمر يتعلق بالجرأة الأخلاقية أو الدينية او السياسية فالرواية لا تعرف شيئا من ذلك، وإنما لرداءتها الفنية وركاكتها الشديدة التي تجعلها مسخاً يشوه قامة الإبداع الروائي السعودي الذي بدأ يتسامق في السنوات الأخيرة.

وتبدأ الرواية قصتها في العام 2066م بعد أن جاء الحفيد يبشر جده (علياً) بالموافقة على أن يكون للمملكة حق استخدام الفيتو في مجلس الأمن، ويبدأ الجد (علي) عقب ذلك سرد حكايته لحفيده، هذا الجد هو بطل الرواية (علي) الذي سيحكي مسيرة عشرين عاما تقريبا عاشها تبدأ منذ ان كان طالبا في الثانوية (وهي السنوات التي نعيشها حاليا) حيث يتعرف البطل (علي) في الثانوية على صديقين هما (أيمن) و(عمر)، ويستاء هو وزميلاه من الفساد الأخلاقي المنتشر بين طلاب المدرسة الثانوية، فينخرط (علي) في جماعة الدعوة في الحي، فيجد الفساد الأخلاقي فيها لا يختلف عن فاسدي المدرسة، فينسحب منهم ويبقى صديقا لأيمن وعمر فترة طويلة، يدخل خلالها الجامعة ويتعرف على زميل شيعي يدعى (أباباقر) ويتخرج في الجامعة فيحصل لعلى منحة للدراسة العليا في لندن، يلتقي فيها (أباباقر) هناك وينضمان فيها للمعارضة، ثم يترقى ويصبح نائب رئيس المعارضة، وعندما يُطلب منه بمباركة دولية إعلان تشكيل حكومة المنفى في مؤتمر عام، تستيقظ وطنيته فيختار البقاء مواطنا في الحكومة الحالية، رافضاً أن يكون نائب رئيس الحكومة المدعومة دولياً، ويعود فتستقبله البلد بالترحاب، وتحتفي به كبرى شخصيات الوطن، ويجد صديقه أيمن شرطياً كبيرا في محاربة الإرهاب، وصديقه عمر عالما وداعية كبيرا، وفي ختام الرواية يموت صديقه أيمن برصاص الإرهابيين، وتنتهي الرواية والبطل يكتشف ان ابن صهره الشاب الصغير يحمل بذور الفكر الإرهابي.

أما قضية الرواية وفكرتها الرئيسة فتتلخص في انتقاد بعض الممارسات الخاطئة التي يقوم بها بعض المتدينين المتشددين، كالتخريب والتفجير، وتكفير الحكومات، والعنف في الإنكار.. الخ.. وتطرح الرواية في مقابل هذه النماذج السلبية الأنموذج الإيجابي للمسلم المتدين ممثلا في شخصية (عمر) الذي يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وفي هذا تسرد الرواية عددا من الأحداث المتفرقة تدور جميعها حول عرض سلوكيات بعض المتدينين الخاطئة، وذكر الأسلوب الصحيح أحيانا لمعالجتها - حسب رؤية الرواية - سواء أكان ذلك في المدرسة عند بعض المدرسين، أو الطلاب، أو داخل جماعات الدعوة بين الشباب، او عند بعض رجالات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو عند بعض المتدينين المتحمسين من العامة، او عند جماعات المعارضة المتسترة بشعار الدين، او عند الإرهابيين، .. الخ.

وتتخذ طريقة إنكار المنكر أهمية كبرى في نقد الكاتب لممارسات المتدينين، حيث شكل هذا الامر عددا كبيرا من أحداث الرواية، سواء ما وقع منها للبطل أو لغيره من الشخصيات، فهو يتكلم عن الإنكار في الشوارع على العمالة وقت الصلاة (ص 14) والإنكار على البطل عند إنشاده أغنية (ص 35)، وعلى زميله في الفصل لنفس السبب (45)، وإنكار الأستاذ على من كتب عبارات بذيئة على الجدار (ص 41)، وتسرّع الإنكار من متدين اتهم أحد الشباب ظلماً (ص 73)، وإنكار عمر بالحكمة على شاب تحرش بفتاة (ص 82)، وإنكار الهيئة في مخيمات الشباب (ص 116)، وانكار عمر على ذات الأمر (ص 120)، ومداهمة الهيئة له هو وزوجته بتهمة الخلوة (ص 206)، والنص في هذا يحاول ان ينتقد التسرع والقسوة اللذين قد يقودان بعض المنكرين إلى الوقوع في أخطاء فادحة، كما أنه يحاول أن ينتقد ايضا انحصار مفهوم الحسبة في (النهي عن المنكر) كما يفعل كثير من رجال الهيئة، مع أن الخير والدين موجودان في الناس، إذ يمكن كسبهم وإقناعهم عن طريق تفعيل جانب (الأمر بالمعروف)، وهو الذي كان يفعله الداعية (عمر) في الرواية فكان يلقى الاستجابة والتقدير في كل مرة.

والرواية في ذلك تتبع المنزع الاصلاحي التعليمي ولكن بشكل مختلف، فهي لا تسعى إلى الاصلاح بالديني، كما يفعل كتاب القصة الإسلامية، وانما تحاول الاصلاح في الديني، عبر نقد ممارساته الخاطئة وسلوكيات بعض منتسبيه، ان الرواية - حسبما تقول - ليست ضد الدين او التدين، وإنما ضد بعض أخطاء التدين، والنص يؤكد ذلك في أكثر من موضع، فالبطل (علي) مثلا يعلق على تسرع أحد رجال الهيئة باتهام أحد الشباب بقوله: (الإسلام دين سماوي متكامل، ولكن هناك فئة من المسلمين تشوه صورته لعدم ادراكهم تغييرات الزمان والمكان) (ص 74)، وأحد المخالفين الذي رفض اسلوب الهيئة في الإنكار بالقوة، واستجاب ل (عمر) عندما دعاه بالحسنى يقول عن الهيئة: (حنا معهم ونؤيدهم، بس يبغى لهم فن التعامل مع الغير) (ص 120)، وأيمن الشرطي الذي قتله الإرهابيون كان يقول قبل قتله عن المتدينين: (هالبلد ما عزه ربك الا بهم، ولكن فيه ناس يشوهون صورتهم الطيبة) (ص 231).

وبرغم ان هذا هو موضوع الرواية الرئيس وقضيتها الأساس - كما يدل العنوان - الا أن الرواية حاولت ان تجمع (تشكيلة) من القضايا المحلية المختلفة التي ناء بحملها النص، ان اي رواية يمكن ان تتكلم عن أي شيء، لكنها بالتأكيد لا يمكن ان تتكلم عن كل شيء، وهذه المقولة ربما غابت عن ذهن الرواية التي عرضت بشكل ساذج مسطح لقضايا مختلفة يحتاج كل منها فضاء مكانياً وزمانياً اوسع لتجلية كافة أبعادها، من مثل قضية التعددية الطائفية، وتعميق الانتماء الوطني، وقيادة المرأة للسيارة، وجماعات الدعوة، ومعاكسات الشباب للفتيات، والتشدد في التعليم.. الخ.

ومع أن الرواية لا تستحق الحديث عن مستواها الفني لأنها بلا مستوى، الا أن ما يلفت النظر بشدة هو اللغة التي كتبت بها الرواية، حيث اتبعت اسلوباً صارخاً في الإسفاف اللغوي الذي طال كل شيء، فهي - اولاً - كتبت بلهجة عامية نجدية موغلة (يجهل بعض كلماتها كثير من النجديين اليوم)، وقد ظهرت هذه اللغة في جميع حوارات الرواية، اي في قرابة 85% من صفحاتها لاعتماد الرواية الكبير على الحوار، وهو ما احتاج من المؤلف - وأرهق القارئ - الى تقديم معنى هذه العبارات في الهامش، كما تمظهر الإسفاف اللغوي - ثانياً - في لغة (شوارعية) تأنف الأذن من بعض عباراتها، ويخدش الذوق سماع كلماتها لو صادفت أمثالها في الشارع ودورات المياه.. فما بالك وأنت تقرأها في عمل أدبي إبداعي يفترض به الارتقاء بوعي القارئ وتنمية الذوق العام، ولولا خوفي من خدش ذوق القارئ لذكرت أمثلة لذلك.
وبغض النظر عمن كتب الرواية، أهو الكاتب كما تقول دار النشر، ام دار النشر هي التي حرّفت الرواية كما يقول المؤلف، فإن هذه الرواية تعد مثالا صارخا لمن ركب موجة الرواية دون أن يعرف أبجدياتها فأتى بالعجب العجاب على مستوى اللغة وتعبيره عن بعض الأفكار، رداءة في اللغة تجعل عبارات من مثل: (الله يلعن هالخشة) و(اقطع واخس) من ألطف العبارات التي استعملتها الرواية!! ورداءة في التعبير عن بعض الأفكار وصلت بالكاتب - قصد أو لم يقصد - الى الاستخفاف بثوابت الدين (كعذاب النار) والتطاول على بعض الجهات والهيئات، واتهام شخصيات اعتبارية معروفة محليا بالفحش والفجور!
وإن كان ثمة ما أختم به هنا، فهو عجبي الشديد من كاتب يتجرأ على نشر مثل هذه التفاهات قبل أن يعرضها على مختص يصوّب كثيرا من خللها، وعجبي الأكبر من دار نشر تقبل نشر مثل هذه السخافات على أنها عمل روائي، خاصة وانها إحدى دور النشر المعروفة في الوسط الثقافي العربي!!

المصدر