باب البلاغة
من كتاب العمدة للقيرواني
تكلم رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " كم دون لسانك من حجاب؟ فقال: شفتاي، وأسناني، فقال له:
إن الله يكره الانبعاق في الكلام، فنضر الله وجه رجل أوجز في كلامه واقتصر على حاجته " .

وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: فيم الجمال؟ فقال: " في اللسان " يريد البيان.

وقال أصحاب المنطق: حد الإنسان: الحي الناطق؛ فمن كان في المنطق أعلى رتبة كان بالإنسانية أولى.
وقالوا: الروح عماد الجسم، والعلم عماد الروح، والبيان عماد العلم.

وسئل بعض البلغاء: ما البلاغة؟ فقال: قليل يفهم، وكثير لا يسأم.
وقال آخر: البلاغة إجاعة اللفظ، وإشباع المعنى.
وسئل آخر فقال: معان كثيرة، في ألفاظ قليلة.
وقيل لأحدهم ما البلاغة؟ فقال: إصابة المعنى وحسن الإيجاز.
وسئل بعض الأعراب: من أبلغ الناس؟ فقال: أسهلهم لفظاً، وأحسنهم بديهيةً..
وسأل الحجاج ابن القبعثري: ما أوجز الكلام؟ فقال: ألا تبطئ، ولا تخطئ، وكذلك قال صحار العبدي لمعاوية بن أبي سفيان.
وقال خلف الأحمر: البلاغة كلمة تكشف عن البقية.
وقال المفضل الضبي: قلت لأعرابي: ما البلاغة عندكم؟ فقال: الإيجاز من غير عجز، والإطناب من غير خطل.
وكتب جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي إلى عمرو بن مسعدة: إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيراً، وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار عياً.
وأنشد المبرد في صفة خطيب:
طبيب بداء فنون الكلا ... م لم يعي يوماً ولم يهذر
فإن هو أطنب في خطبة ... قضى للمطيل على المنزر
وإن هو أوجز في خطبة ... قضى للمقل على المكثر
قال أبو الحسن علي بن عيسى الرماني: أصل البلاغة الطبع، ولها مع ذلك آلات تعين عليها، وتوصل للقوة فيها، وتكون ميزاناً لها، وفاصلة بينها وبين غيرها، وهي ثمانية أضرب: الإيجاز، والاستعارة، والتشبيه، والبيان، والنظم، والتصرف، والمشاكلة، والمثل، وسيرد كل واحد منها بمكانه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وقال معاوية لعمرو بن العاص: من أبلغ الناس؟ فقال: من اقتصر على الإيجاز، وتنكب الفضول.
وسئل ابن المقفع: ما البلاغة؟ فقال: اسم لمعان تجري في وجوه عدة كثيرة: فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون شعراً، ومنها ما يكون سجعاً، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون جواباً، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون خطباً، ومنها ما يكون رسائل؛ فعامة هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة.
قال صاحب الكتاب: فهذا ابن المقفع جعل من السكوت بلاغة رغبة في الإيجاز وقال بعض الكلبيين:
واعلم بأن من السكوت إبانة ... ومن التكلم ما يكون خبالا
وقلت أنا في مثل ذلك:
وأخرق أكال للحم صديقه ... وليس لجاري ريقه بمسيغ
سكت له ضناً بعرضي فلم أحب ... ورب جواب في السكوت بليغ
وقلت أيضاً ولم أذكر بلاغة:
أيها الموحي إلينا ... نفثة الصل الصموت
ما سكتنا عنك عياً ... رب نطق في السكوت
لك بيت في البيوت ... مثل بيت العنكبوت
إن يهن وهناً ففيه ... حيلتا سكنى وقوت
وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ فقال: إبلاغ المتكلم حاجته بحسن إفهام السامع، ولذلك سميت بلاغة.
وقال آخر: البلاغة أن تفهم المخاطب بقدر فهمه، من غير تعب عليك.
وقال آخر: البلاغة معرفة الفصل من الوصل.
وقيل: البلاغة حسن العبارة، مع صحة الدلالة.
وقيل: البلاغة أن يكون أول كلامك يدل على آخره، وآخره يرتبط بأوله.
وقيل: البلاغة القوة على البيان، مع حسن النظام.
ومن قول السيد أبي الحسن أدام الله عزه في صفة كاتب بالبلاغة وحسن الخط:
فضل الأنام بفضل علم واسعٍ ... وعلا مقالهم بفصل المنطق
وحكى لنا وشي الرياض وقد وشت ... أقلامه بالنقش بطن المهرق
فبلغ ما أراد من الوصف في اختصار وقلة تكلف. ونحو ذلك قوله أيضاً:
إذا مشقت يمناك في الطرس أسطراً ... حكيت بها وشي الملاء المعضد
يروق مجيد الخط حسن حروفها ... ويعجب منها بالمقال المسدد
هذا الشعر كالأول في الجزء وإصابة المفصل، وإن أبا الحسن لكما قال سميه أبو الطيب خاتم الشعراء:
عليم بأسرار الديانات واللغى ... له خطرات تفضح الناس والكتبا
بلى كما قال ولي نعمته، وشاكر منته:
إني لأعجب كيف يحسن عقده ... شعر من الأشعار مع إحسانه
ما ذاك إلا أنه در النهى ... يفد التجار به على دهقانه
أستغفر الله لا أجحد أبا الطيب حقه، ولا أنكر فضله، وقد قال:
ملك منشد القريض لديه ... يضع الثوب في يدي ************
ثم نرجع إلى وصف البلاغة، بعد ما أفضينا ووشحنا هذا الباب من ذكر السيد، فنقول: وقالوا: البلاغة ضد العي، والعي: العجز عن البيان.
وقيل: لا يكون الكلام يستوجب اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك.
وسأل عامر بن الظرب العدواني حمامة بن رافع الدوسي بين يدي بعض ملوك حمير فقال: من أبلغ الناس؟ قال: من حلى المعنى المزيز باللفظ الوجيز، وطبق المفصل قبل التحريز.
قيل لأرسطاطاليس: ما البلاغة؟ قال: حسن الاستعارة.
وقال الخليل: البلاغة ما قرب طرفاه، وبعد منتهاه.
وقيل لخالد بن صفوان: ما البلاغة؟ قال: إصابة المعنى، والقصد إلى الحجة وقيل لإبراهيم الإمام: ما البلاغة؟ قال: الجزالة، والإطالة، وهذا مذهب جماعة من الناس جلة، وبه كان ابن العميد يقول في منثوره.
وقيل لبعض الجلة: ما البلاغة؟ فقال: تقصير الطويل، وتطويل القصير، يعني بذلك القدرة على الكلام.
وقال أبو العيناء: من اجتزأ بالقليل عن الكثير، وقرب البعيد إذا شاء، وبعد القريب، وأخفى الظاهر، وأظهر الخفي.
وقال البحتري يمدح محمد بن عبد الملك الزيات حين استوزر، ويصف بلاغته:
ومعاون لو فضلتها القوافي ... هجنت شعر جرولٍ ولبيد
حزن مستعمل الكلام اختياراً ... ووتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدرك ... ن به غاية المراد البعيد
والبيت الأول من هذه القطعة يشهد بفضل الشعر على النثر.
وحكى الجاحظ عن الإمام إبراهيم بن محمد قوله: كفى من حظ البلاغة ألا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع. ثم قال الجاحظ: أما أنا فأستحسن هذا القول جداً.
ومن كلام ابن المعتز: البلاغة بلوغ المعنى، ولما يطل سفر الكلام.
وقال ابن الأعرابي: البلاغة التقرب من البغية، ودلالة قليل على كثير.
وقال بعض المحدثين: البلاغة إهداء المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.
ومن كلام أبي منصور عبد الملك بن إسماعيل الثعالبي، قال: قال بعضهم: البلاغة ما صعب على التعاطي وسهل على الفطنة. وقال: خير الكلام ما قل ودل، وجل ولم يمل. وقال: أبلغ الكلام ما حسن إيجازه، وقل مجازه، وكثر إعجازه، وتناسبت صدوره وأعجازه. قال: وقيل: البليغ من يجتني من الألفاظ نوارها، ومن المعاني ثمارهاً.
وهذا الذي حكاه الثعالبي مما يدلك على حذق أبي الطيب في قوله لابن العميد:
قطف الرجال القول قبل نباته ... وقطفت أنت القول لما نورا
وكان يمكنه أن يقول لما أثمر لكن ذهب إلى ما قدمت، وإن ما اقتدى بقول أبي تمام:
ويجف نوار الكلام، وقلما ... يلفى بقاء الغرس بعد الماء
وكان بعضهم يقول: تلخيص المعاني رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشادق في غير أهل البادية نقص، والخروج مما بنى عليه الكلام إسهاب.
وقال العتابي: قيم الكلام العقل، وزينته الصواب، وحليته الإعراب، ورائضة اللسان، وجسمه القريحة، وروحه المعاني..
وقال عبد الله بن محمد بن جميل المعروف بالباحث: البلاغة الفهم والإفهام وكشف المعاني بالكلام، ومعرفة الإعراب، والاتساع في اللفظ، والسداد في النظم، والمعرفة بالقصد، والبيان في الأداء وصواب الإشارة، وإيضاح الدلالة، والمعرفة بالقول، والاكتفاء بالاختصار عن الإكثار، وإمضاء العزم على حكومة الاختيار.
قال:
وكل هذه الأبواب محتاج بعضها إلى بعض، كحاجة بعض أعضاء البدن إلى بعض، لا غنى لفضيلة أحدها عن الآخر؛ فمن أحاط معرفة بهذه الخصال فقد كمل كل كمال، ومن شذ عنه بعضها لم يبعد من النقص بما اجتمع فيه منها.
قال: والبلاغة تخير اللفظ في حسن الإهام.
وسئل الكندي عن البلاغة، فقال: ركنها اللفظ، وهو على ثلاثة أنواع: فنوع لا تعرفه العامة ولا تتكلم به، ونوع تعرفة وتتكلم به، ونوع تعرفة ولا تتكلم به، وهو أحمدها.
ومن كتاب عبد الكريم قالوا: حسن البلاغة أن يصور الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق.
قال: ومنهم من يعيب ذلك المعنى، ويعده إسهابا، وآخره يعده نفاقاً.
قال: ومر غيلان بن خرشة الضبي مع عبد الله بن عامر بنهر أم عبد الله الذي يشق البصرة فقال عبد الله بن عامر: ما أصلح هذا النهر لأهل هذا المصر!! فقال غيلان: أجل والله أيها الأمير: يتعلم فيه العوم صبيانهم. ويكون لسقياهم، ومسيل مياههم، ويأتيهم بميرتهم.. قال: ثم مر غيلان يساير زياد على ذلك النهر وقد كان عادي ابن عامر. فقال له: ما أضر هذا النهر لأهل هذا المصر!! فقال غيلان: أجل والله أيها الأمير: تندى منه دورهم، ويغرق فيه صبيانهم، ومن أجله يكثر بعوضهم؛ فكره الناس من البيان مثل هذا، انقضى كلام عبد كريم.
والذي أراه أنا أن هذا النوع من البيان غير معيب بأنه نفاق؛ لأنه لم يجعل الباطل حقاً على الحقيقة، ولا الحق باطل، وإن ما وصف محاسن شيء مرة، ثم وصف مساويه مرة أخرى: كما فعل عمرو بن الأهتم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله عن الزبرقان بن بدر، فأثنى خيراً فقال: مانع بحوزته، مطاع في أنديته ويروى في أذينه فلم يرض الزبرقان بذلك، وقال: أما إنه قد علم أكثر مما قال، ولكن حسدني لشرفي وفي روايةٍ أخرى حسدني مكاني منك، يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه عمرو شراً، وقال: أما لئن قال ما قال لقد علمته ضيق الصدر، زمر المروة، أحمق الأب، لئيم الخال، حديث الغنى، ثم قال: والله يا رسول الله ما كذبت عليه في الأولى، وقد صدقت في الآخرة، ولكن أرضاني فقلت بالرضا، وأسخطني فقلت بالسخط، فقال رسول الله عليه وسلم: إن من البيان لسحراً قال أبو عبيد القاسم بن سلام: وكأن المعنى والله أعلم أنه يبلغ من بيانه أن يمدح الإنسان فيصدق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله، ثم يذمه فيصدق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله الآخر، فكأنه سحر السامعين بذلك.
وقال الجاحظ: العربي يعاف البذاء، ويهجو به غيره، فإذا ابتلى به فخر به، ولكنه لا يفخر به لنفسه من جهة ما هجا به صاحبه.
ودخل أبو العيناء على المتوكل، فقال له: بلغني عنك بذاء، قال: إن يكن البذاء صفة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فقد زكي الله وذم فقال: " نعم العبد إنه أواب " وقال: " هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم " فذمه حتى قذفه، وأما أن أكون كالعقرب التي تلسع النبي والذمى فقد أعاد الله عبدك من ذلك، وقد قال الشاعر:
إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقاً ... ولم أشتم الجبس اللئيم المذمما
ففيم عرفت الخير والشر باسمه ... وشق لي الله المسامع وألفما؟
قال الجاحظ: قال ثمامة بن أشرس: قلت لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ قال: أن يكون اللفظ يحيط بمعناك، ويخبر عن مغزاك، ويخرجه من الشركة، ولا يستعين عليه بالكثرة، والذي لا بد منه أن يكون سليماً من التكلف، بعيداً من الصنعة، برياً من التعقيد، غنياً عن التأويل قال الجاحظ: وهذا هو تأويل قول الأصمعي: البليغ من طبق المفصل، وأغناك عن المفسر.
قال أبو عبيدة: البليغ: البلغ، بفتح الباء، وقال غيره: البلغ: الذي يبلغ ما يريد من قول وفعل، والبلغ: الذي لا يبالي ما قال وما قيل فيه، كذلك قال أبو زيد، وحكى ابن دريد كلام بلغ وبليغ، وقال ابن الأعرابي: يقال بلغ وبلغ، ولا شك أن ابن الأعرابي قال: إنما هو في الأهوج الذي لا يبالي حيث وقع من القول.
وقد تكرر في هذا الباب من أقاويل العلماء مالم يخف عني، ولا غفلته، لكن اغتفرت ذلك لاختلاف العبارات، ومدار هذا الباب كله على أن بلاغة وضع الكلام موضعه من طول أو إيجاز، مع حسن العبارة، ومن جيد ما حفظته قول بعضهم:
لبلاغة شد الكلام معانيه وإن قصر، وحسن التأليف وإن طال.