*اغتيـــــــــال*
......................

(إلى المناضلة الفلسطينية مروة جبر)
لكزه الواقف إلى جانبه وهو يشير بامتداد ذراعه إلى المدينة فى أسفل :
ـ أطلق الرصاص على أى شئ يتحرك ، ولا تشغلك النتائج ..
وحدجه بنظرة محرضة :
ـ هذه فرصة ممتازة للتدرب على الجسد الحى ..
سأل فى دهشة :
ـ أقتل ؟
ـ من تتردد فى قتله سيقتلك ..
ثم وهو يهز قبضته :
ـ لا مجال للتردد فى مواجهة الموت !
أسند البندقية على الساتر الرملى ، وتأمل المدينة فى أسفل . الشارع الواسع ، المسفلت ، تتفرع منه شوارع جانبية . البيت على اليمين ـ يفصله عن الساتر ساحة دائرية ، صغيرة ، على ناصيتها طابقين ، شيد من الطوب الأبيض ، وسقفه من القرميد الأحمر ، تسلقت لبلابة حافة النوافذ الخشبية ، العالية ، وكست الجدران ، وصعدت إلى السطح . تحت البيت دكان بقال يقف أمامه شاب فى حوالى الخامسة والعشرين ، يرتدى قميصاً طوى كميه ، وبنطلوناً من الجينز . فى طرف الرصيف شجرة تين تساقط معظم أوراقها . لم يعد إلا الفروع الجرداء ، المتشابكة . يترامى ـ من بعيد ـ صوت سرينة إسعاف ..
معظم النوافذ وأبواب البيوت والدكاكين على جانبى الشارع المواجه ـ مغلقة ، أو تطايرت ، البنايات مشيدة من الحجارة و الطوب الرملى المتداخل بتكوينات من الخشب .
ثلاثة دكاكين فقط ظلت مفتوحة . البقال ، ومخبز ، وصيدلية ، ومقهى تجاورت فى داخله كراسى ذات قيعان مجدولة من الخوص ، حول طاولات قديمة مختلفة الأحجام . رواده ثلاثة ، ثبتت عيونهم ـ من وراء النافذة الزجاجية المفتوحة ـ على بقايا البيت المتهدم ، وولدان أمسكا بخيط طائرة ورقية ، يتابعان ارتفاعها فوق البنايات . وإلى جوار الرصيف كومة زبالة ، تعبث فيها قطة ، والسماء ملبدة بالسحب ..
ظل المعركة التى دارت ـ قبل ساعات ـ بين الجنود والفلسطينيين المسلحين ، امتص حركة الطريق . المارة قليلون ، خلت الشوارع . تناثرت آثار المواجهة : دماء متخثرة على الجدران والأرصفة وفوق أسفلت الطريق ، طلقات رصاص فارغة ، مزق ورقية متطايرة ، زجاجات ، علب صفيح وكرتون ، غيمات التراب ـ بفعل القصف ـ غطت واجهات البيوت ، كومات الحجارة تناثرت أمامها ، تشى بأنها سقطت من فترة قريبة .
لم يشاهد المعركة ، وإن تابع تعليقات زملائه . رفض الفلسطينى أن يسلم نفسه . رآه الجنود وهو يقتحم الباب ، ويتركه ـ باللهفة ـ مفتوحاً . وقف الجنود والبولدوزر أمام البيت ذى الطوابق الثلاثة . علا صوت الميكروفون يدعو السكان إلى إخلائه . انطلق الرصاص من النافذة العلوية . دارت المعركة فى دقائق ، ثم تهاوت الطوابق الثلاثة . لم تذكر التعليقات إن كان من فى المنزل قد فازوا بحياتهم ، أم ماتوا بين الأنقاض .
طالت مناقشات الضباط .. الأخذ والرد ، الأسئلة والأجوبة . هل من الأجدى فرض حظر التجول ؟.
حسم القائد الأمر بالقناصة ، وتسيير الدوريات . وقفته ـ وراء الساتر ـ لإطلاق الرصاص على من يلمح ، ولو مجرد سيره أمام البناية . إطلاق الرصاص بلا تردد . اصطياد من تلتقطه الشبهات سهل ، إن أغلقت المدينة أبوابها على الفارين ، وظلت الأبواب مفتوحة ، وأطل الناس من النوافذ والشرفات ، وجلسوا على المقاهى ، وأمام الدكاكين ، وداخل البيوت ..
أمر نقله من صحراء النقب إلى مدن الضفة الغربية ، فرض توقعاً طيباً . تصور فى الحياة بين الناس ما يطرد الملل . يطل ـ فى وقفته ـ على صحراء ممتدة ، اختلطت فيها الرمال ومساحات الخضرة والبنايات الصغيرة المتباعدة والمعسكرات . أربكته نظرات السكان العرب ، التقط منها ما لم يستطع تحديده ، وإن غاب عنها الود والألفة . لم يكن يستطيع أن يرد النظرات المتطلعة ناحيته ، تحدق فيه ، تحاصره . حرص على ما ألزمته به الأوامر . كن قريباً من القوة لتحتمى بها . يشكل ـ داخل المدن ـ مجموعة مع جنديين أو ثلاثة ، يحتفظون بكامل الأسلحة ، يقيسون المسافة مع نقاط التفتيش والحواجز والعربات المصفحة والدبابات ..
تركت له الأوامر تحديد الهدف . يضغط زناد البندقية على ما يثير الريبة . يقتل قبل أن يستوضح ، أو يسأل ، أو يتأكد . الأوامر الصريحة تساعده . لا تحدق فى ملامح من تصوب إليه . الشك يكفى للضغط على الزناد . هذا هو الهدف ، فاطلق رصاصاتك عليه ، لا تتردد ، إذا ترددت فى قتل عدوك ، فسيبادر هو بقتلك . إما أن تتركه حياً ، أو تفقد حياتك . ظل إسقاط المسئولية فى القتل الخطأ بلا معنى . قانون الحرب لا يعرف المشاعر الطيبة ..
ترامى هدير سيارة . بدت مقدمتها فى انحناءة الشارع الجانبى . توقفت فى موضع محطة الباصات . خلفت عجوزاً يرتدى العباءة والعقال والكوفية الفلسطينية . أسند راحته على قبضة العصا . جال بعينيه فيما حوله ، كأنه يتوقع أحداً فى انتظاره . تأكد من إمساكه بالعصا جيداً ، وعبر الطريق إلى الشارع المقابل ..
أحس برغبة فى أن يسدد بندقيته إلى موضع ما ، أحد ما ، يضغط على الزناد . لا يرفع إصبعه . أصدر صوتاً من بين شفتيه : تك ، تك ، تك . تظاهر بالضغط على الزناد . ثم أرخى ساعده ..
هز رأسه يطرد النوم ، فرك عينيه . أغمضهما ، وفتحهما . ثم أعاد النظر إلى الواقف بجانبه ، وإلى الطريق والبنايات أمامه ..
تحسس البندقية وهو يرمق مسلحاً يعبر المسافة بين تقاطعات شارعين . قبل أن يلتقط البندقية من فوق الساتر ، كان المسلح قد اختفى ..
قرب جهاز اللاسلكى من أذنه ، يستمع إلى اختلاط المكالمات والملاحظات والأوامر ، ربما يكون بينها ما يأمره بفعل شئ . يحدد له الهدف الذى ينبغى أن يصوب إليه رصاص بندقيته ..
أغلق الجهاز ..
ركز نظرته على الجسد الأنثوى ، يبين عن قسماته فى العباءة السوداء . قدمت من شارع جانبى ناحية دكان البقال ..
خمن من تلويحة يد الشاب أنه ينتظرها ..
اطمأن ـ بنظرة جانبية ـ إلى زميله خلف الساتر الرملى ، قرفص فى إغفاءة بين جوالين . أسند البندقية على الساتر أمامه . ثبت النظارة المكبرة على مدخل الدكان . وقف أمامه الشاب والفتاة . الحاجز الخشبى فوقه رخامة تحتل معظم مساحة الواجهة ، ماعدا مساحة صغيرة سدت بباب ذى مفصلات ، ينفذ منها إلى الداخل ..
مد يده لها بالمصافحة . استبقى يدها فى يده ، وضغط عليها بكفه . لما ربتت صدره بيدها ، حدس أنهما يعرفان بعضهما . ما يراه ليس أول لقاءاتهما ..
تابع إشارة الشاب ناحية البناية المتهدمة . قال كلاماً كثيراً ، أضاف إليه تعبيرات يديه . مرر جانب يده على رقبته دلالة الموت ..
أزاحت العباءة عن مقدمة الرأس ، فبرزت خصلة من شعرها . أظهرت التأثر فى إسناد ذقنها على قبضة يدها ، وإعادة النظر إلى المكان بعينين متأملتين ..
رفع الشاب رأسه وذراعيه إلى السماء ، وقال ما لم يتبينه ، ثم مسح براحتيه على وجهه ..
قال الشاب ما فطن إلى معناه فى اتجاه نظرة الفتاة إلى الناحية المقابلة ..
التفت ـ بتلقائية ـ إلى مصدر ترامى هدير سيارة . مد عنقه ، وزوى عينيه . تبين عربة مصفحة ، بداخلها ضابط وثلاثة جنود . مالت إلى الشارع الجانبى أسفل الساتر الرملى ، واختفت ..
قرن الشاب كلماته بإيماءة إلى الدكان : هل يدعوها إلى الدخول ؟
كان الدكان من الداخل معتماً ، لم يستطع تبين ما إذا كان خالياً ..
تحركت شفتا الشاب كمن يهم بالكلام ، ثم سكت . لزم صمتاً ، واكتفى بالنظر إلى قدميه ..
نبهته إلى أنه وضع زرار القميص العلوى فى العروة الثانية . اتجه إلى الناحية المقابلة . تأكد من وجود الأزرار فى مواضعها ، وعاد إليها بابتسامة معتذرة ..
ظل صامتاً ، وإن استحثته بنظرة مشجعة على الكلام ..
شوحت بيدها ، وابتعدت خطوات . لحقها . مد ذراعيه . أعادها إلى وقفتها أمام الدكان ..
أزاحت خصلة الشعر المتهدلة على جبينها ، وواجهته بنظرة متسائلة . انتفضت لسقوط ورقة يابسة من فوق الشجرة . طفرتها بطرف إصبعها . تأمل نثارها على الأرض ، وداست عليه ..
خبط جبهته علامة التذكر . اتسعت ابتسامتها ـ رد فعل لما قاله ـ فتوضحت الغمازتان فى وجنتيها ، والتمعت أسنانها البيضاء . قربت فمها من أذنه . قالت ما أضحكه حتى ضرب ركبته ..
أخفضت عينيها ، فحدس أنه قال ما أربكها . أشاحت بوجهها حتى لا يفطن إلى ما قد تعبر عنه عيناها ..
لو يعرف ماذا يقولان ؟ ماذا يقول لها ؟ ماذا تقول له ؟ . التخمين صعب ، وإن حرك الشاب يده بما يشى أنه قال ما لديه ..
ظلت أصابعها على ظهر يده ، كأنها استراحت إلى هذا الوضع . داعبت ظهر كفه بظفرها . عاد إلى احتواء أصابع يدها بين راحته ، يضغط عليها بآخر ما عنده ، وهى تضحك . وضعت سبابتها على شفتيه ، دلالة أن يصمت . تظاهر بأنه سيعض إصبعها . احتضن الإصبع ، ورفع إلى شفتيه ، وقبله . تراجعت بأعلى كتفيها ، وأعادت خصلة الشعر المتهدلة بهبة هواء مفاجئة ..
أحس بتوتر يتولد داخل نفسه ، لا يدرك بواعثه ، وتملكه إحساس بالمحاصرة . لم يستطع السيطرة على انفعاله . اختلطت المشاعر فى داخله . تداخلت ، وتشابكت . غاب حتى إحساسه بالزمان والمكان . حاول أن يتجه بنظراته إلى أعلى ، حتى يعود إلى نفسه ..
كانت الشمس قد مالت نحو الغروب . انحسرت عن الأسطح وأعلى البيوت ، وتقلصت الظلال . تناثرت سحب كثيفة تشى بمطر وشيك ، ودارت أوراق الشجرة المتساقطة فى دوامة بتأثير الهواء المندفع من تلاقى الشوارع الجانبية .
تأكد من وجود رأس الشاب فى دائرة التلسكوب ..
ضغط على الزناد .