الحج بين الماضـي والحاضـر
بقلم الأستاذ الدكتور : بكري شيخ أمين
حدثنا أبي قال :
إن أنس لا أنس تلك الاحتفالات الفخمة والعجيبة التي أقيمت لخالي يوم عاد من الحج ، إذ لم تكن السن قد بلغت بي آنذاك السابعة من عمري ، يوم أزمعت أسرتي قاطبة الخروج إلى ظاهر المدينة لتستقبل خالي العائد من الديار المقدسة ، ولم أعرف معنى ذلك الاهتمام الكبير بعودته إلا بعد أن قص علينا بعد رجوعه ما لاقاه من أهوال في أداء هذه الفريضة ، ويومها فقط عرفت معنى قولهم عن الذاهب إلى الحج : (الذاهب مفقود والعائد مولود ) .
الذي بقي في ذاكرتي أننا عند خروجنا لاستقباله اصطحبنا الطبال ( أبو علوان ) وفريقاً من الشباب الذين يلعبون بالسيف والترس ، وفريقاً آخر خرج معنا وبأيديهم البنادق المحشوة بالرصاص .
انتظرنا خارج المدينة ، وكلما مرت عربة ، أو قافلة ، سألناهم عن الحجاج القادمين من طريق الشام ، هل صادفوهم أو رأوهم ، وأين مكانهم ، وإلى أين وصل موكبهم ؟ ومر أكثر النهار ونحن مشرئبو الأعين على كل قادم من جهة الجنوب .
وأخيراً ، أطل موكب القافلة الحبيب ، وهرع الجميع نحوها ، يفتش كل منهم عن حاجّه ، وأطل خالي
نبهان محمد خشفة - رحمه الله-
بابتسامته العريضة ، واندفع أبي وأعمامي ، وأخوالي ، وجميع أقاربي ، يقبلونه ، ويسلمون عليه ، ولعلع الرصاص في الجو ، كما اندفع أبو علوان بطبله الكبير في قرع متوال ، وتقدمت الشباب السيافة أمام الناس جميعاً ، وشهروا السيوف والتروس ، وراحوا يلعبون لعباً ، لا أحلى منه ولا أمتع .
ثم انطلق الموكب الحافل الهوينا نحو المدينة ، وخالي يتصدر الناس جميعاً ، على رأسه طاقية بيضاء وفوقها غترة ناصعة البياض ، وثوبه الأبيض الجميل يتلألأ نقاء ، ووسط الجمع الحاشد كان أبو علوان بطبله يكاد يصم الآذان ، ولاعبو السيوف مستمرين بألعابهم الجميلة الممتعة .
وعلى طول الطريق إلى المنزل كان أصحاب الحوانيت يخرجون من حوانيتهم نحو خالي يعانقونه ، ويرددون كلمة ( حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً ) ويضيفون كلمة ( عقبال العودة ياحج نبهان . ) .كما كانت النساء يسترقن النظر إلى الموكب من كوى البيوت ، أو من على الأسطحة ، وكثيراً ما كانت الحماسة تبلغ ببعضهن إلى أن ترفع صوتها بالزغاريد . ولا عجب فخالي الحاج نبهان تحبه النساء كما يحبه الرجال وأهل الحارة على العموم .
وابتهج خالي لما وصل إلى الحارة ، فرآها قد بيضت جدرانها بالكلس الأبيض من أولها حتى حدود بيته كما دهن باب داره بألوان زاهية ، ورسم فوقه صورة الكعبة المشرفة ، وكتب عليه من الأعلى عبارة (حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً ) ، كما خط على جدران الحارة بخط عريض : أهلاً وسهلاً بحجاج بيت الله الحرام .
وأشرق وجهه أكثر حين دخل الدار فرأى الزينة تملأها من أوراق زاهية ملونة ، ومن سجاجيد معلقة على الجدران ، ومن كرسي عال يشبه الكرسي الذي ينصب للعروس في صدر الإيوان ، أعد ليجلس عليه ، ومن شــباب هم أولاده وأولاد إخوته ، يحملون الصــواني مملوءة بالراحة المحشوة بالفستق الحلبي ، يقدمونها للمسلّمين ، والزائرين . ومرت سـبعة أيام وبيت خالي لم يخل من المسلّمين عليه ، والمرحبين بقدومه ، والداعين له بالعودة والطاعمين والشاربين .
وما إن انقضى الأسبوع ، وانصرف كل إلى عمله ، وتوقفت حركة القادمين المسلّمين حتى طلبنا من خالنا الحبيب أن يحكي لنا قصة حجه ، من أولها إلى يوم عودته بالسلامة ، أو كما يقول العامة عندنا : ( من طقطق للسلام عليكم ) . ورحنا في كل ليلة نتحلق حوله ، وهو يحكي لنا العجائب والغرائب ، وينقلنا من عالم مرعب إلى عالم آخر كله حزن وأسى ، وكنا نطلب المزيد ، وكان يقف عند نقطة حرجة ، ويعدنا باستكمال الحديث في الليلة القادمة ، كأنما هو قصاص ألف ليلة وليلة ، أو حكواتي سيرة عنترة بن شداد أو الزير سالم .
وأردف أبي قائلاً : الذي بقي في ذاكرتي قوله : استأجرت كما يستأجر كل راغب في الحج شُـقْدُفاً عند جَـمّـال والشقدف ـ يا أولادي ـ نوع من العلب الكبيرة أو الصناديق المغلقة من جميع جوانبها إلا من الأعلى . فالجمّال يضع شقدفين على ظهر الجمل ، كل حاج في شقدف ، ليكون بينهما توازن ، ويركب هو على الظهر ، وقد يكون للجمّال الواحد عشرات الجمال ، وحينئذ يمكنه أن يأخذ كثيراً من الحجاج ، وقد يفضل الحاج الأغنى السفر على ظهر الجمل ، وحينئذ يدفع أجراً أكبر ..ولا تنسوا أن بعض الجمال يخصص لأمتعة الحجاج ، وطعامهم وشرابهم .
وفي اليوم الموعود حضر جميع الراغبين في الحج ، وسار الموكب المهيب ، نحو الشام ، ولا أنسى كثيراً ممن ودعونا كانوا يشرقون بالدموع ، لأنهم لا يستطيعون إلى الحج سبيلاً ، ويرددون : ياليتني معكم فأفوز فوزاً عظيماً
المهم أننا بقينا نمشي حوالي عشرة أيام حتى وصلنا إلى دمشق . وفي دمشق انضمت قافلتنا إلى بقية قوافل المدن السورية . وتجمعنا في مكان معين ، وكانت الجمال تزيد على الألف عدداً .
لا أريد أن أطيل عليكم ، يا أحبائي ، ففي دمشق ركب أمير الحج على ناقة ، واصطحب عدداً كبيراً من العساكر المدججين بالسلاح ، وعدداً لا يحصـى من الجمال المحملة بالمؤن ، والأسلحة ، والأموال ، والهدايا لتكون عوناً لنا جميعاً على أداء الفريضة .
وودعت دمشق بقضـها وقضـيضـها موكب الحجاج ، وانطلقنا نحو الديار المقدسة .. نستظل ونحن في شقادفنا بالمظلات التي بأيدينا ، ونأكل أو نشرب من الماء الذي وضعناه معنا . حتى إذا أمر أمير الحج بالوقوف توقف الجميع ، وأناخوا الجمال ، ونزلنا فأكلنا وشربنا وصلينا ، واسترحنا ، وقد نأخذ جزءاً يسيراً من الوقت فننام على الأرض ، وما فوقنا ، أو تحتنا إلا قطعة من قماش رقيقة ، لا تسمن ولا تغني ، ولا تريح .
كان معنا حداؤون للإبل ، وكان معنا من يرفع عقيرته بغناء شجي ، فيه شوق إلى الأماكن المقدسة ، والمعالم الطاهرة ، وكانت تلك الأناشيد تأخذ منا الدموع الغزار ، وتعبر عن أشواقنا ومواجدنا ، وتزيد الخفقان في قلوبنا ، رغبة في سرعة الوصول والتملي بطلعة البيت الحبيب ، والنبي الحبيب ، والأرض الحبيبة ، وكل ذرة تراب في تلك الديار هي حبيبة .
ماذا أحدثكم يا أحبابي ؟ أأقول لكم : إن تلك المواجد والأشواق شـابَـها كثير من الدمع على موت بعض إخوتنا المرافقين ، فلقد اعترضتنا عدداً من المرات جماعات مسلحة من قطاع الطرق ، أرادوا أن يسلبونا ، ودافعت العساكر التي معنا عـنا ، وضـربتهم بالرصاص ، وضربونا ، فقتلوا منا البعض ، وقتلنا منهم الكثير . ومرة اعترضتنا قبيلة مسلحة طلبوا منا (خوة )لنمضي في طريقنا بأمان وسلام ، ودفع أمير الحج ما طلبوا ، ومررنا بسلام في أرضهم ، دون أن يهرق دم واحد منا .. وهكذا كنا على طول الطريق نلاقي الصعاب ، وأمير حجنا يتعامل معها بما يرى ، سلاماً أو حرباً .
وحين وصلت قافلتنا المدينة المنورة ـ على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ـ تسارعنا إلى المسجد النبوي نبل صدى قلوبنا العطشى ، ونبل بدموعنا ثراه المعطر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونصلي في المسجد النبوي أو في الروضة المشرفة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً ، وبعد كل صلاة نأتي إلى مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنسلم عليه ، ونسأل الله خير الدعاء لنا ، ولأولادنا ، وذرياتنا ، وأحبابنا ، والمسلمين أجمعين . ولم ننس أن نؤدي أمانة من سألنا أن نسلم له على الحبيب صلوات الله وسلامه عليه
وزرنا البقيع ، مثوى عشرة آلاف صحابي ، وكثير من آل محمد عليه الصلاة والسلام ، كما زرنا المساجد السبعة ، وجبل أحد ، وسيدنا حمزة سيد الشهداء ، ومسجد قباء ، وصلينا فيه ، ودعونا الله تعالى بكل دعوة صالحة ، كما زرنا مسجد القبلتين ، ومسجد الجمعة ، وصلينا فيهما ، ودعونا الله واستغفرناه . وكان ذلك في عشرة أيام . صلينا جميع فروضنا في المسجد النبوي ، وعدداً لا يحصى من النوافل فيه وفي المساجد المدنية الأخرى كمسجد بلال ومسجد الغمامة وسواها .
ثم انطلقنا إلى مكة المكرمة ، وأحرمنا عند أبيار علي الواقعة على حدود المدينة المنورة ، وبلغنا البلد الحرام
فيما يقرب من عشرة أيام ، وحين وصلنا استقبلنا أهله بالترحاب ، وأعدوا لنا مساكن تتناسب مع قدرة كل واحـد منا المالية . ورحنا نطوف ونسعى ، ونعتمر المرة بعد المرة ، ونتحلل بعد كل عمرة ، حتى إذا ما آذن وقت الحج أحرمنا بنية الحج ، يوم الثامن من ذي الحجة ، وانطلقنا إلى منى ، فبتنا فيها ليلة ، وفي صباح التاسـع من ذي الحجة سرنا إلى عرفات ، وظللنا إلى ما بعد غروب شمسه ، ثم ازدلفنا ، وبتنا في المزدلفة ، وصلينا الفجر في المشعر الحرام ، وفي صباح أول يوم من أيام التشريق جئنا إلى منى ، فرمينا جمرة العقبة ، وذبحنا وحلقنا ، وتحللنا التحلل الأصغر ، ثم توجهنا إلى الكعبة المشرفة ، فسعينا سعي الحج ، وطفنا طواف الإفاضة ، وعدنا في المساء إلى منى لنقضي فيها ليلتين ، ونرمي ما علينا من واجبات الرمي .
وأضاف أبي نقلاً عن لسان خاله فقال : من الأمانة أن أقول لكم : لم تكن الحكومة الحجازية الهاشمية المسؤولة عن شؤون الحج والحجاج بالحكومة التي يرضى عنها الله ورسوله . فلقد عانينا في مكة والمشاعر المقدسة أكثر مما عانينا من وعثاء الطريق ، ولفح الحر والشمس .
كانت مكة المكرمة أشبه بالقرية الخالية من كل وسائل الراحة والنظافة ، لقد رأينا من الذباب والهوام والحشرات ما لم نلقه في كل حياتنا ، فلا يكاد أحدنا يطرد فوجاً من الذباب وقف على طعامه أو شرابه إلا وجاء فوج آخر يقف مكان الأول ، ولا نكاد ننتهي من الذباب حتى نحس بلسعات الناموس والبعوض تشوينا وتقلينا ، كأن الحكومة لا تدري أن في الدنيا أدوية تقضي على هذه الحشرات ، وتحفظ على الناس صحتهم ، ناهيك عن أن المدينة المنورة ومكة المكرمة ما فيهما طريق واحد معبد أو ممهد لســير الناس أوضيوف الرحمن حتى الماء ، فإنه شحيح قليل ، نشتريه بأعلى الأسعار ، ومحظوظ من فاز بدلو من ماء زمزم .
وأرض الحرم الشريف نصفها من حصى ملتهب من حرارة الشمس ، وله رؤوس كالإبر لا نستطيع المشي عليه ، ولا الجلوس فوقه ، والنصف الآخر من حجر الصوان تطلع عليه الشمس فيمص حرارتها ، فيصبح أشد حرارة من جمر النار . ونخجل من الله أن نبقى بأحذيتنا في الحرم الشريف ، فذلك من قلة الأدب والدين ، ونحن في الوقت ذاته لا نستطيع الطواف والمشي على أرض الحرم براحة وخشوع واطمئنان مع هذه الحرارة القاتلة .
زد على ذلك أن المسعى من الصفا إلى المروة واقع في سوق ، كله دكاكين ، خارج الحرم ، هذا يبيع القماش في دكانه ، وذاك يبيع العطر ، وآخر يبيع المسابح ، والناس من رجال ونساء يمشون في هذا السوق ، ويزاحمون الساعين ، وكثير من الحمير والبغال ، والخيل تروح وتغدو بأحمالها في المسعى ، تزاحم الحجاج ، وتسد عليهم سبيل السعي بأمان وخشوع وهدوء بال .
وكم سقط ميتاً على أرض عرفات من الحجاج عطشاً أو من ضربات الشمس ، وكذلك الأمر في منى ، ففيها كان من المعاناة ما يزيد على ما لقيناه في مكة أو عرفة . كانت روائح الذبائح المتفسخة تملأ الدنيا ، وكنا نهرب من الروائح الكريهة من مكان إلى مكان ، ويلاحقنا الذباب ، ونغوص في أرض مملوءة بأمعاء الحيوانات الذبيحة ، فتتسخ ملابسنا ، أو قل : تمتلئ بالنجاسات ، ولا ماء عندنا لنغسلها ، أو لنطهر ثيابنا .
وقال أبي : ختم خالي حديثه لنا بقولـه : أفليس حقاً ما يقول الناس ( الذاهب إلى الحج مفقود ، والعائد منه مولود ) وهل تعجبون من هذه الاحتفالات الكبيرة لعودة الحجاج بعد أن حكيت لكم بعض ما يلاقون من أهوال وشدائد ؟ .
والذي يهوِّن علينا احتمال ذلك كله : أن الثواب على قدر المشقة ، وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة . اللهم تقبل منا حجنا ، وارزقنا الجنة ، وأدخلنا في عبادك الصالحين .
ومرت الأيام ، وانتقل أبي وخالي إلى رحمة الله ، وبدلت الدنيا غير الدنيا ، وراحت حكومة الحجاز الهاشمية ، وحل محلها حكومة جديدة ، تنتمي إلى آل سعود النجديين ، ولم يعد في تلك البقاع مملكة هاشمية وأخرى نجدية ، وإنما توحدت أرض الجزيرة كلها تحت لواء واحد ، وصـــارت دولة واحدة ، وأصبح اسمها الجديد : المملكة العربية السعودية ، واتخذت علماً جديداً كتبت عليه كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . وكان الذي وحد أجزاءها ـ بعون الله وقدرته ـ المغفور له الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود .
ألا ليت أبي وخالي بقيا حيين ، وحجا مرة ثانية ليريا الفرق الشاسع بين حج الأمس وحج اليوم .
لقد قضى الملك عبد العزيز على أولئك اللصوص قطاع الطريق ، وشن عليهم حرب إبادة ، وخلَّص الديار المقدسة ، بل الجزيرة العربية كلها من شرورهم ، وصار الرجل يمشي في أرض الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه .
وبعهده الميمون ، ثم بعهد أبنائه البررة من بعده عبدت الطرقات في أرض المملكة ، وغدت مسفلتة وعريضة وحديثة ، وأنشئت المطارات العالمية في جدة والرياض والظهران وغدا الأسطول الجوي السعودي من أضخم أساطيل الطيران في منطقة الشرق الأوسط ، كما غدت الطائرات التي تحمل شعار ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) تنقل آلاف الحجاج من بلدانهم إلى أرض القداسات بساعات معدودات ، فلا يكاد الحاج يخرج من بيته ، ويركب الطائرة ، وتطير به حيناً من زمن حتى يعلن المذيع فيها : أن شدوا الأحزمة ، فنحن على وشك الهبوط في مطار جدة الدولي .
ومن جدة إلى مكة المكرمة يرى الحاج ما يبهج القلب ، ويسـر الفؤاد ، فالطريق من المطار إلى مكة المكرمة ، ومن المطار إلى المدينة المنورة مقسوم قسمين ، واحد للذهاب ، وآخر للإياب ، وكل منهما يتسع لأربع سيارات على مستوى واحد ، وطريق مكة المكرمة مضاء بالأنوار في الليل ، ومثله قسم لا بأس به طريق المدينة المنورة .
فإذا ما اقترب القادم الحاج أو الزائر من العاصمة المقدسة ، بهرته الأنوار الساطعة التي تلف المدينة من أقصـاها إلى أقصاها ، فبالإضافة إلى الأنوار الإلهية التي تنبعث من البيت العتيق ، فتغمر الدنيا بلألائها ، تتـألق ملايين المصابيح الكهربائية من كل جهة ، حتى ليمكن أن ينسى الإنسان أن في الدنيا ظلاماً ، أو أن الليل قدم إلى هذه الربوع .
ومن العجب ألا يكون في مكة المكرمة ، في موسم الحج ، وفي غير موسم الحج أثر لذبابة ، أو بعوضة ، فلقد قضت عليهما الدولة قضاء مبرماً ، وأراحت الحجاج والناس جميعاً من أذاهما ، وصرت تمشي في الحرمين الشريفين فتعجب من هذه النظافة الرائعـة ، وتشعر أن كلا الحرمين يضيئان ويشعان أناقة ونظافة ، فليس أرقى بيت في دول الإسلام أشد نظافة من الحرمين الشريفين .
والرائع المدهش الذي يتحدث عنه كل حاج ومعتمر أنه في أشد ساعات النهار قيظاً يمشي على أرض الحرمين الشريفين ، فلا يحس بأثر لحرارة ، ولا وجود لحصـاة ، بل يحس ببرودة الرخام الأبيض ونعومته كأن برادات كبيرة وضعت أسفل منه لتمنحه هذه البرودة التي يحس بها كل من سار عليه طائفاً ، أو وقف داعياً ، أو مصلياً ، أو قارئاً في كتاب الله ، أو قعد متأملاً .
إن الحرمين الشريفين ، حرم مكة المكرمة ثم حرم المدينة المنورة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، يغريانك بالبقاء فيهما ليل نهار ، ويدفعانك أن تنسى الدنيا وما فيها ، بل يذكرانك بنعيم الجنة ، ورضى الله عليك . فالأنوار التي تسطع في كل مكان ، والقناديل الرائعة التي طبع عليها لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، والسجاجيد المترفـة التي بسطت في كل مكان ، والهواء البارد العليل الذي يلطف الأجواء ، ويشمل أرض الحرم من أقصاه إلى أقصاه ، كل هذا وسواه من النعم يغريك بالبقاء ، وينسيك نفسك ، ويصلك بعالم التقوى ، ويتركك تعبد الله وأنت في أرفع حالات الاطمئنان .
زد على ذلك أن المسعى الذي كانت الدكاكين تملأه أيام خال أبي ، والحيوانات التي كانت تذهب وتجيء فيه ، والناس في الأسواق يزاحمون الساعين ، وأصوات الباعة التي تذهب الخشوع ، أصبح اليوم جزءاً من الحرم المكي ، وفرغت الساحات حوله من كل بناء ، ومدت أرضه بالرخام البديع النفيس ، ورسمت عليه خطوط تشير إلى اتجاه القبلة للساعي إذا دهمه وقت صلاة الجماعة وهو يسعى ، ثم سلطت عليه من كل المنافذ تيارات هواء بارد منعش ، تلطف الجو ، وتدفع كل ساع إلى العبادة الخالصة لله تعالى ، ثم إلى شكر هذه الدولة التي أعانته على أن يؤدي عبادته كما يحب الله ورسوله .
أما ماء زمزم ففد جاء إليك بدلاً من أن تذهب إليه ، لقد وزع في براميل صغيرة ملونة ، ووضع في جميع أرجاء الكعبة بل قل وضع في كل جوانب المسجد النبوي كذلك ، إن الحكومة السعودية لم تشأ أن يتنعم حجاج بيت الله الحرام بماء زمزم وحدهم ، بل جعلوا زوار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنعمون بهذه النعمة كذلك ، فلقد نقلوا لهم على ظهر الصهاريج الكبيرة مياه زمزم ، ثم بردوها للجميع في كلا الحرمين ، ليشربها ضيوف الرحمن هنيئاً مريئاً . ثم هوَّنوا على الضيوف أن يحملوها معهم إلى أوطانهم ، وييسقوا بها كل عطشان متلهف إلى هذه النعمة المباركة في ديارهم النائية .
وعرفات ، تلك البقعة التي حدثنا خال أبـي أن الحجاج فيها كانوا يتهاوون صرعى عطشاً أو من ضربات الشمس فقد غدت كأنها عرفات أخرى . فالأشجار الباسقة ملأت أرجاءها ، والنوافير تضخ رذاذ الماء طوال يوم عرفات ، وصنابير المياه المبردة موزعة في مكان ، اشرب منها مقدار ما تشاء ، وغسل وجهك ، أو اغسل جسمك وقتما تريد ولا حرج ، ثم حاول أن تحصي السيارات الكبيرة التي تملأ عرفات ، توزع بالمجان الماء المبرد في قوارير ، وزجاجات اللبن ، والحليب ، والفواكه الطازجة ، والأطعمة المطبوخة الطيبة ، وقوالب الثلج ، فلن تستطيع إحصاءها لأنك لن تستطيع أن تتحرك في عرفات من كثرة السيارات ، والحجاج ، والخيام . ثم ارفع رأسك إلى السماء فسترى الطائرات تحوم على عرفات طوال اليوم ، تراقب الطرقات ، وترصد كل ما يعترض راحة هؤلاء الضيوف في هذا الموقف العظيم ، وتنقل ذلك إلى المسؤولين الساهرين على راحة الناس جميعاً كما تنقل صورة هذا المشهد المفرح العظيم إلى أهلك الأقربين ، وإلى كل بيت في الدنيا ، عبر الأقمار الفضائية بل ليس من الغريب أن يشاهد هندي أو أندنوسي أو سوري أو أوربي قاعد في بيته أمه أو أباه أو صديقه على شاشة التلفزيون واقفاً في عرفات ، يدعو الله ، ويستغفره ، ويتضرع إليه .
وماذا أحدثك عن منى في هذه الأيام ؟ لقد غدت جنة من الجنان في الدنيا ، الخيام التي كانت تشوي وتقلي الساكنين فيها ونصبت فيها الخيام الجديدة التي تقاوم النار والحريق الذي طالما شب في الخيام القديمة فأحرق كل شيء حتى الكثير الكثير من الحجاج . ودخلها التبريد المنظم المدروس ، والكهرباء الساطعة ، وعلى أطراف منى مدت الجسور ، وفتحت الطرقات ، وتلألأت الأنوار ، فكأنك في عرس ، وصار المبيت فيها محبباً وشهياً .
وقد تسأل عن الروائح الكريهة ، والذبائح المتفسخة ، والذباب الذي كان يسد المنافذ على الناس ، لقد صار الجميع في خبر كان ، فلا ذبابة اليوم ، ولا بعوضة ، ولا حشرة ، فلقد أبيدت جميعاً ، وانتقلت الذبائح إلى مذبحين كبيرين شيدا على أحدث الطرق العالمية والصحية على أطـــراف منى ، وجلب للذبح فيهما آلاف الجزارين ، ولم تعد الذبائح ترمى على التراب وتتفسـخ ، وإنما صارت تبرَّد ثم تجلَّد بدقائق ، وتغلف بأغلفة صحية ، وتنقل بالطائرات إلى مختلف بقاع العالم الإسلامي المحتاجة إليها .
يرحم الله الملك عبد العزيز ، فلولا فضل الله عليه أولاً ، ثم توحيده المملكة تحت لواء واحد ، ولولا جهاده ، وحبه الخير للناس جميعاً .. ثم سير خلفائه من بعده على سنته ، لما نعم المسلمون بهذه الأجواء الناعمة ، ولما حجوا واعتمروا براحة ويسر وخشوع .. ولكان وضع الحرمين كسابق عهده ، أيام حج خال أبـي ، وحدثنا عن تلك المآسي .
يا ليت أبــي وخــالي كانا على قيد الحياة ليريا بأم أعينهما هذه الروائع ، وهذه الأعمال التي تشبه المعجزات .
ليرحم الله الملك الباني عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ، وليحفظ أبناءه الذين ســاروا من بعده على هديه وسنته ، وليرحم خالي وأبي وهؤلاء الذين حجوا ، ولم يدركوا هذه النعم ، ولعل الله تعالى يثيبهم وافر الأجر على عظيم مشقتهم وتحملهم . حلب المحروسة :
20ذو القعدة 1424 هـ أ. د: بكري شيخ أمين