النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: يوم بكى خير الدين الزركلي

  1. #1 يوم بكى خير الدين الزركلي 
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    2,180
    معدل تقييم المستوى
    20
    يوم بكى خير الدين الزركلي
    بقلم


    أ.د: بكري شيخ أمين
    عضو اتحاد الكتاب العرب
    عضو اللجنة العالمية للغة العربية


    تمنيت في حياتي أن أجلس ساعة بين يدي خير الدين الزركلي الذي هو صورة عن السلف الصالح ، أقبس من فضله ، وأرشف من علمه !
    وكانت مني جرأة بالغة يوم أدرت قرص الهاتف في بيروت على رقمه في العشرين من رمضان سنة أربع وتسعين وثلاثمائة بعد الألف للهجرة ، والموافق للسادس من شهر تشرين الأول ( أوكتوبر ) سنة أربع وسـبعين وتسعمائة بعد الألف للميلاد .
    وما هي إلا لحظات حتى جاءني الصوت من الطرف الثاني يقـــول : أنا خير الدين .
    ولم أدر حينئذٍ ما أقول ، ولكني أذكر أني قلت : سيدي ! أنا بشوق أن أتطلع إليك ، وأسمع منك كلمة ، وأعترف لك بفضلك الكبير عليَّ وعلى أمثالي .
    وسمح لي بالمجيء .. وفتحت لي الباب امرأة ، وقادتني إلى غرفة المكتبة . وأذكر ـ يقيناً ـ أني لم أر للغرفة جدراناً ، لأن رفوف الكتب كانت تـحجز رؤيتها حتى السقف
    وزاغت عيوني بين الكتب ، فلم أر إلا كتب التراث ، والتراجم .
    وخطر لي في تلك اللحظة سؤال : هل يستطيع إنسـان فرد ، لم يـمتهن التجارة ، وليس له مورد إلا راتبه ، أو تقاعده من الراتب أن يقتني مثل هذه النفائس من الكتب والمخطوطات النادرة ، بل هل يمكن لدى صاحب هذه المكتبة قرش واحد مدخر لحاجات حياته اليومية ؟
    ودخل الأسـتاذ الكبير ، هاشاً ، باشاً ، مسلّماً ، مرحّباً ، كأنه يعرفني من زمن بعيد ، وأجلسني على كرسي ، وجلس على آخر ، دون أن يفصل بيننا حاجز ، اللهم إلا ما يكون بين كرسيين متجاورين .
    ذكرت له مقطوعته التي حفظناها في المدرسة الابتدائية والتي عنوانها
    ( عصفورة النَّيْرَبَيْن ) فطلـب مني إنشــادها.. فطرب ، وأشرق وجهه.. ثم أخرجت له مقطوعة ( يا زمان ) من كتاب حملته بيدي ، وكان عنوانه : ( من أحسن ماقرأت ) وهو مختارات لأكابر الأدباء العرب . وسألته : أتذكر هذه القصيدة ؟
    أخـذ الكتاب ، ونظر في القصيدة ملياً ، ورفع رأسه وقال: كيف لا أذكرها ، وهي جزء من حياتي ، وهل ينسى الإنسان حياته ونفسه ؟
    رجوته أن يقرأها بصوته ، ليكون لها لونان من الجمال : جمال الصوت ، وجمال القصيد . وراح ينشد :
    متى ترى ، تبسم لي ، يازمان ؟- ألا حنـان ؟
    أسلمتني ، لا أنس لي ، ولا أمان- للحـدثـان
    عيناي ـ لما تبرحا ـ تـجريان- نضّـاختـان
    أبكي ربوعاً ، لا تطيق الهـوان- رهن امتهان
    أبكي دياراً ، خلقت للجمـال- أبـهى مثال
    أبكي تراث العز ، والعز غـال- صعب المنـال
    أبكي نفوساً ، قعدت بالرجـال- عن النضـال
    وما إن انتهى الأستاذ من نشيدها حتى تـجرأت على سؤاله عن سبب تركه ساحة الشعر والقوافي ، مع أن قصائده الوطنية والعاطفية ما تزال تنضح بالمشاعر الدافئة ، والعواطف الصادقة ، والروعة ، وبديع الجمال ؟
    وبتواضع الإنسان الكبير قال : ما رأيك إذا قلت لك : أنا لم أترك الشعر ، بل لم يتركني هو ، فما زال بيننا وصال ، فأنا إلى اليوم أنظم ، وأترنم بالقول الجميل ، ولكني إلى الإعراض عنه أميل .
    هذا الإعراض ليس ابن الساعة ، ولكنه ذو عمر طويل ، يكاد يمتد إلى خمسين سنة إلى وراء … ولولاه ما خرجت إلى الناس بكتابي ( الأعلام ) ويـخيل لي أني خدمت به بلادي وأمتي بمثل ما خدمتها بالشعر .
    لكني أرى أن نظم قصيدة واحدة يستغرق زمناً ، ويحتاج إلى تفرغ ، وخيال ، وابتعاد عن المشاغل . والعمل في ( الأعلام ) يستحوذ عليَّ ليلي ونـهاري ، ويغرقني في بـحر من القراءة والكتابة والتأليف ، لا أجد بعده سانـحة أتفرغ فيها لعمل آخر .
    ثم إني أجد نفسي اليوم بعد أن أصدرت الطبعة الثانية للأعلام في عشرة أجزاء في مشكلة جديدة ، هي أنـي ما قمت بواجبي حق القيام … لقد كان عليّ أن أوفي ما استطعت حق الكتابة عن أشخاص ، لم أتعرض لهم في ( الأعلام ) في الطبعتين ، الأولى والثانية .
    والذي أثار المشكلة الحادة في نفسي ذهابـي إلى المغرب منذ خمسة عشر عاماً ، وتمثيلي حكومة صاحب الجلالة الملك فيصل ـ رحمه الله ـ .
    هذا الذهاب إلى المغرب أيقظ فـيَّ شيئاً غريباً .
    تساءلت : أين أنا ؟ أبـحث عن علماء المغرب ، فأراهم كثيرين ، ورجالات المغرب في التاريخ العربـي كثيرون ، وشخصيات المغرب العربـي كثيرون.. كل هؤلاء ليس لهم تراجم عندي ..
    هل أنا مقصر ؟ بالطبع : لا . لأني أخذت المصـادر التي حصلت عليها ، ونقلت منها . ومصادر المغرب العربـي ، وشخصياتـهم ، وكتبهم كانت غائبة عني حين كنت أعمل في مصر والحجاز والرياض وفي غيرها من البلاد .
    عندئذٍ .. قررت ـ وأنا في المغرب ـ أن أشتغل في ( الإعلام بـمن ليس في الأعلام ) ليكون ملحقاً للأعلام ، وجعلت وقتي كله في استدراك ما فاتني . ورأيت أخيراً أن أسميه بدلاً من الإعلام بمن ليس في الأعلام : ( التعريف والإعلام بـمن ليس في الأعلام ) دفعاً للالتباس من قراءة (الإعلام ) المكسورة الهمزة :
    ( الأعلام ) بفتح الهمزة . والمستدرك هذا هو ، تستطيع أن تراه الآن . إنه في هذه الدفاتر ، أو في هذه المجموعات .
    وقمت مع الأستاذ إلى زاوية الغرفة ، لأرى ثـماني وعشرين مجموعة ، كل مجموعة تـختص بـحرف من حروف الهجاء . فالأولى لمن يبدأ اسمه بالهمزة ، والثانية لمن يبدأ بـحرف الباء ، وهكذا .
    وفتحت أحد هذه الدفاتر ، فوقعت عيني على ( السمنودي ) في ورقة مستقلة ، وبـجانبه تاريخ ولادته ووفاته بالسنوات الهجرية ، وتـحتها تاريـخها بالسنوات الميلادية مطبوعة على الآلة الكاتبة بالحبر الأحمر . ولاحظت الترتيب نفسه الذي في الأعلام . وكذلك الحاشية في أسفل الصفحة كحاشية ( الأعلام ) .
    ونبهني الأستاذ الكبير إلى الحاشية ، وأنـها غير المصادر التي في الأعلام ، وأنـها من كتب المغاربة .
    وأضاف قائلاً : هذه المجموعات تشكل ـ حتى الآن ـ ست مجلدات أو سبعاً ، أربع منها إذا لم أعملها فإن أحداً غيري ـ وسامحني إذا قلت : ـ لا يستطيع عملها . إنـي لا أشكو ، وإنما أحكي وأصف ما ألاقي وأعانـي . ولقد تستغرب إذا قلت : إنـي أعمل فيها ليل نـهار ، قدر استطاعتي . وإذا كان كثير من الناس يشتكي من الأرق فأنا لا أشكو منه ، بل أنا على العكس ، أفرح به وأرحب .. فغرفتي التي أنام فيها بـجوار هذه الغرفة ، وحين أحس بعدم قدرتي على النوم ، لا أتقلب ، ولا أتململ ، وإنما أنـهض حالاً ، وأضع على كتفي شيئاً يقيني من البرد ، وأجلس وراء طاولتي ، وأبدأ بالمراجعة والتدوين .. فتنقضي ساعة أو ساعتان أو أكثر أو أقل ، ثم أشعر أنـي بـحاجة إلى راحة ونوم ، فأعود إلى فراشي فإذا أنا غارق في نوم عميق .
    حياتـي كلها وهبتها لهذا العمل . وكم أمني النفس أن يمد الله في أجلي أياماً ، أو شهوراً ، أو سنين ، كي أنـجز هذا العمل ، وأخرجه إلى الناس كاملاً .
    وكم فكرت طويلاً : لو أن الله اختارنـي إلى جواره .. فماذا يكون مصير هذا كله بعدي ؟؟ وأتـمنى أن أعرف أحداً من الناس اليوم يستطيع أن يتسلم مني هذا ويكمله . وأنا أقدمه إليه بكل طيبة خاطر وسرور قلب .
    ومع هذا ، فقد احتطت لطوارئ الأجل وساعة الموت ، ولا سيما أنـي تـجاوزت الثمانين ، إذ وضعت في أحد مصارف بيروت مبلغ خمسين ألف ليرة لبنانية وسجلت ، حسب الأصول القانونية والشرعية ، هذا المبلغ باسم
    ( مجمع اللغة العربية بدمشق ) لينفقه بعد وفاتـي على إنـجاز هذا المشروع ، واستكماله ، وإصداره إلى الناس ، لعلهم ينتفعون به ، ويدعون الله لصاحبه : خير الدين الزركلي .
    الأمر الآخر هو أن لي مكتبة عامرة بالمخطوطات والمطبوعات في مدينة القاهرة ، ولسوف أسافر بعد مدة قريبة إلى مصر لأجمع ما فيها في صناديق ، ثم أرسلها هدية مني إلى المكتبة العامة في جامعة الرياض ، اعترافاً بـجميل المملكة عليَّ ، وخدمة لطلاب العلم ، وأملاً في ثواب الله ونيل أجره . أما هذه المكتبة ، فلسوف أقرر مصيرها بعد إصدار الطبعة الجديدة
    ( التعريف والإعلام بمن ليس في الأعلام )، إن شاء الله .
    إنـي لأشعر شعوراً غريباً أنـي في سباق مع الزمن ، وأريد أن أنـجز عملي هذا على خير وجه ، قبل حلول الأجل . ولا أظنه إلا قريباً .. وأظنك توافقني على أن هذا خير من نظم قصيدة ، والوقت الذي أحتاجه لنظم قصيدة أوجهه إلى مراجعة أربعة أو خمسة كتب ، وكتابة ســيرة رجل لم يكتب أحـد عنه قبلي .
    زد على ذلك أن مطابعنا ـ والحمد لله ـ تقذف لنا في كل صباح عشرات المؤلفات ، والدراسات ، والتراجم ، والبحوث ، والتحقيقات الجديدة … وهذا الإنتاج الجليل يحتاج إلى مراجعة ، واطلاع ، وتدوين .
    والتقاليد الجامعية درجت على أن يكون عمل طالب شهادتـي الماجستير والدكتوراة ـ أحياناً ـ تـحقيق مخطوط ، أو جمع ديوان شاعر .. ولا بد من معرفة ما يـجـري في هذه الجامعات ، وما تنجز من أعمال ، ثم لا بد من تسجيل كل هذا في مواطنه المناسبة أولاً بأول ، كذلك الشأن في المجلات ، وما تقدمه من بـحوث ، أو إشارات .
    ولا أكتمك أن هذا العمل لا يكفيه أن تقعد في بيتك ، وتنتظر أن يأتيك ساعي البريد بالجرائد والمجلات وجديد المطبوعات ، بل لا بد لك من أن تتحرك أنت ، وتذهب إلى هنا وهناك ، لترى ما لا يمكن أن تراه وأنت في بيتك .
    ولهذه الغاية ، فأنا أسافر في كل عام ـ على الأقل ـ مرة إلى مصر ، ومنها إل أوربا ، وأعوج في طريق عودتـي على تركيا ، ثم أعود إلى بيروت .
    وحين أزور تركيا وأكون في استانبول أزور ( السليمانية ) وأقصد مكتبتها النفيسة العامرة بالمخطوطات ، وفي غالب الأحيان أنتقل من السليمانية إلى الجبال وإلى مناطق لا تزال مجهولة إلــى يومنا هذا ، وفيها مخطوطات عربية نادرة ، لا أظن أن لـها نظيراً في العالم . وكثير منها مكتوب بـخط مؤلفيها أنفسهم ، وموضوعاتـها في التاريخ والأدب والفلسفة والدين .
    حدث مرة أني كنت في استانبول أفـتـش عن كتاب خاص ، فلم أعثر عليه ، وفجأة رأيت صديقاً ، وسألته عن الكتاب ، فقال : إنه موجود في بلدة اسمها : ( مغنيسيا ) فركبت السيارة إلى مغنيسيا ، وقضيت إحدى عشرة ساعة في الطريق إليها ، ولما زرت مكتبتها رأيتها من أغنى المكتبات ، لكنها دون فهارس حديثة ، وإنما جذاذات في تصرف الباحثين ، وهي تملأ اثني عشر درجاً ، ورحت أستعرض الدرج الأول خلال صيف كامل ، وعدت في الصيف التالي لأستعرض مخطوطات الدرج الثاني ، وظللت أعاود الزيارة سنة بعد سنة إلى أن اطلعت عليها جميعاً .
    ومع هذا ، فلا يزال أمامي زيارة بلاد عـدة ، فيها كنوز لم يكشف النقاب عنها بعد ، ولم يكتب أحد عنها سطراً واحداً .
    وخطر في بالي سؤال يتصل بصور أصحاب التراجم الجديدة ، أو صور توقيعاتهم ، أو خطهم ، فلم أكتمه ، فقال ـ طيب الله ثراه ورضي عنه ـ: يـحزنني إذا قلت لك : إني بقدر ما كنت في الماضي متحمساً ومولعاً بـهذا الأمر غدوت اليوم زاهداً فيه إلى حد كبير .
    والذي زهدنـي ما ألقاه من عقوق الأبناء للآباء ، وانتشار هذا العقوق في مستويات كثيرة .. وقد أرحت الأبناء من طلبي لصور آبائهم ، وخطوطهم ، وتوقيعاتهم .
    وقد تتساءل عن سر هذا الزهد ، ولكنك لن تعجب إذا قصصت عليك بعض ما صرت ألقى .
    أنت تعرف أنـي لا أترجم للأحياء ، وطلبي لصورة رجل ميت لا يداخله شك ، أو يعتريه ريب في حسن نيتي وصدق عملي .
    اتفق لي مع عدد من الأشــخاص أن طلبت صورة لآبائهم ، أو قطعة من خطوطهم ، أو توقيعاتهم ، أو خطاباتهم … فما أجابوني بـجواب يرضيني .. وأيقنت أن هذا لون من العقوق .
    في إحدى المرات هتفت إلى أحد الأشخاص في مصر ، وطلبت منه صورة والده ، بعد أن عرفته شخصي وهدفي . فأجابني ، على الهاتف ، بلهجة فيها كثير من التأنيب : قال : يا أخي ! تطلب مني مثل هذا الطلب مباشرة ، وبلا استئذان ؟ لقد كان عليك في البدء أن تقدم لي طلباً وتعرفني شخصك ، وقصدك كتابة ، وتطلب موعداً لمقابلتي ، حتى إذا أذنت لك ، طلبـت مني ما تريد . أما أن تأخذ الهاتف ، وتديــر القرص ، وتتحدث معي مباشرة ، وتطلب مني طلبات ، فذلك …. فما كان مني إلا أن اعتذرت إليه ، وقلت له : استغنيت عن الطلب . أفليس هذا عقوقاً ؟
    في مرة أخرى ، أردت أن أترجم للشيخ مصطفى عبد الرازق في مصر ، بعد أن انتقل إلى جوار ربه ، وكنت أجهل اسم أبيه ، وأبيت أن أكتب الترجمة دون أن أذكر اسم والد هذا العالم . فلقد درجت على هذا في كل أعلامي .. كتبت إلى أخيه الشيخ علي عبد الرازق ، وهو رجل فاضل ، أســـأله عن اسم أبيه فقط ، وبينت له أني بصدد الكتابة عن أخيه المرحوم الشيخ مصطفى .
    أتعرف بم أجابني ؟ لقد أرسل إليَّ رسالة مطولة ، يقول في جملتها : إني آسف جداً لعدم تلبية طلبكم ، لأني الآن بعيد عـن كتبي ومكتبتي وأوراقي ، وأنا الآن موجود اليوم في ( العزبة ) ، ولا بد لي بعد العودة إلى القاهرة أن أتصل بكم ، وأفيدكم فيما طلبتم .
    وتساءلت : هل طلبت منه إلا اسم أبيه فقط ؟ وما معنى أنه الآن في العزبة ، وبعيد عن كتبه وأوراقه ؟ وهل يـجهل أحد اسم أبيه في العزبة ، ويعرفه في القاهرة ؟ ومع هذا ، فلسوف أترجم للشيخ علي عبد الرازق نفسه اليوم ، لأنه رجل فاضل ، رحمه الله ، وغفر له .
    
    ورأيت أن الأوان حان لننتقل إلى موضوعات أخرى ، هي أشد اتصالاً والتصاقاً بـحياته الخاصة ، ومشاعره الإنسانية ، فقلت :
    ألم تشتق ـ يا سيدي ـ إلى الشام التي طالما حننت إليها ، وغنيتها أعذب ألحانك ، وفديتها بأغلى ما يفدي الإنسان وطنه وبلده ؟
    قال ـ رحمه الله ورضي عنه ـ : وكيف لا أحن إليها ، وهي الأم والأب ، وهي الماضي والذكريات ، وهي الشباب والجمال ؟ وكلما حننت إليها جئتها ، وطفت في حـاراتـها ، وصليت في مساجدها ، وتأملت في جبالـها وأشــجارها ، وطفت بضواحيها .. ولكنني اليوم أزهد في زيارتـهـا ، وأستوحش بـها ، لأنـي صرت أرى الجمادات فيها ، وأفتقد الأحباب ، والأتراب ، والأصحاب .. أفتش عنهم ، فلا أراهم ، وأسأل عنهم ، فيقال لي : ماتوا
    لقد مات معظم أصحابي وأحبابـي ، وكلما سألت أحد الناس عن اسمه ، ذكره ، فعرفت أباه ، وجهلته . وأكثر من هذا : غاب عني الأب والابن اللذان كنت أعرفهما ، وواجهني الحفيد الجديد الذي أجهله .
    الأشخاص الذين كنت أسعى إليهم في دمشق ، أرشف من علمهم ، أقتبس من فضلهم ، أتملى بطلعتهم … غابوا عني ، أو غاب معظمهم عن عيني ، وسمعي .. فأصابني الزهد ، واعتراني الفتور للعودة إلى دمشق ، وللبقية الباقية الصالحة فضل كبير إذ تزورني بين حين وآخر هنا في بيروت ، فتوفر عليَّ الزيارة ، وتغنيني عن مشقة ما عدت قادراً على احتمالها دائماً . وخير مثال على ما أقول : زيارتك الكريمة لي في هذا النهار المبارك الطيب .
    وحانت مني التفاتة إلى النافذة ، فلحظت أن الشمس قاربت الغروب ، وأن الأدب يقضي أن أودع وأنصرف ، ولكن النفس كانت تأبـى أن أفارق هذا العالم الكبير ... وقبل أن أستأذن طلب مني إنشاد بعض ما أحفظ من قصيدته ( نجوى ) فلبيت طلبه وأنشدته :
    العين بعد فراقهـا الوطنا ** لا ساكناً أَلِفَتْ ولا سـَـكَنـا
    ريانـةٌ بالدمع ، أقلقهـا ** أن لا تحسَّ كرًى ولا وسَنـا
    كانت ترى في كل سانحة ** حُسناً فعادت لا ترى حَسَنـا
    ليت الذين أحبهم علمـوا ** وهُمُ هنالك ما لقيتُ هنــا
    ما كنت أحسبني مفارقهم ** حتى تفارق روحــيَ البدنا
    يا موطناً عبث الزمان به ** من ذا الذي أغرى بك الزمنا؟
    ما كنتَ إلا روضة أنُفـاً ** كرُمت وطابت مغرساً وجنى
    إن الغريب معذب أبــداً ** إن حل لم ينعم وإن ظعنــا
    لو مثلوا لي موطني وثناً ** لَهَمَمْتُ أعبُـــد ذلك الوثنا
    ولمحت عينيه تدمعان ، وصوته اختنق وهو يودعني.. وتمنيت أن أطلب منه صورة له موقعة بـخط يده .. إلا أن الحياء غلبني . وقلت في نفسي : حسبي أنه انطبع في قلبي ، وتمليت طلعته ، وقعدت بين يديه ، وسمعت صوته ، وكان لي وحدي ساعة من زمن ، كنت فيها جليسه الخاص .. فتلك خير صورة ، وأطيب ذكرى .

    حلب المحروسة
    20/7/2007م
    بكري شيخ أمين


    أمينة أحمد خشفة
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد: يوم بكى خير الدين الزركلي 
    ...... الصورة الرمزية د.ألق الماضي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    الدولة
    بين الكتب
    المشاركات
    10,196
    مقالات المدونة
    12
    معدل تقييم المستوى
    31

    ألقٌ من السِحرِ ..أم سِحرٌ بـهِ ألقُ
    وفي حروفِكِ يأتي البدرُ والشـفقُ
    وحِـسُ قلبِكِ أثْـرَىَ لحنَ أغنيتي
    فصـار قلبي على كفَّـيْكِ ينطلقُ
    أأكتبُ الشّـِعرَ أم أُهـديكِ قافلةً
    من الورودِ عليها القلبُ والحَـدَقُ
    ورمزُ اسمـِكِ مكتُوبٌ على شَفَتي
    من قبلِ أن يُولدَ القِرطاسُ والوَرَقُ
    ثروت سليم
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3 رد: يوم بكى خير الدين الزركلي 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    الدولة
    أستراليا
    المشاركات
    125
    مقالات المدونة
    2
    معدل تقييم المستوى
    17
    الحكايه شيـّقه ... ويحسّ القارئ بالاخلاص ، الحب و الوفاء
    للمعرفه ... كـثــّر الله سبحانه وتعالى من امثالك يــارجـــل .

    رد مع اقتباس  
     

  4. #4 رد: يوم بكى خير الدين الزركلي 
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    2,180
    معدل تقييم المستوى
    20
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ألق الماضي مشاهدة المشاركة

    ولك الشكر يا حبيبي ألق
    على مرورك الكريم الطيب
    ودمت بألف خير

    أمينة أحمد خشفة
    رد مع اقتباس  
     

  5. #5 رد: يوم بكى خير الدين الزركلي 
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    2,180
    معدل تقييم المستوى
    20
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد حسين مشاهدة المشاركة
    الحكايه شيـّقه ... ويحسّ القارئ بالاخلاص ، الحب و الوفاء

    للمعرفه ... كـثــّر الله سبحانه وتعالى من امثالك يــارجـــل .


    نعم يا أخي الكريم
    محمد حسين

    الحب والوفاء للمعرفة هو الهدف والغاية التي سار ويسير عليها كل من أراد أن يثبت وجوده
    وتخلد ذكراه , وتتناقل الأجيال سيرته , وتنهل من علومه وآدابه
    وما زال هذا الرجل وقد قارب الثمانين من عمره
    تجده بين كتبه ودراسته يحيا ويعيش
    حفظه الله , وبارك لنا في عمره
    أمينة أحمد خشفة
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. نقد نظرية دوركايم حول الدين
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى فسيفساء المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 18/03/2014, 11:51 PM
  2. التخلص من الخجل
    بواسطة بشير صابري في المنتدى الواحة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 15/05/2008, 07:08 PM
  3. رباط الخيل
    بواسطة sapry_2020 في المنتدى الواحة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 15/04/2008, 12:18 AM
  4. صناعة الجيل
    بواسطة صادق الشوق في المنتدى فسيفساء المربد
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 24/06/2007, 06:38 PM
  5. مصباح علاء الدين
    بواسطة شريف الدمناوى في المنتدى الشعر
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 02/12/2006, 07:48 AM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •