النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: عم جمعة

  1. #1 عم جمعة 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Mar 2005
    الدولة
    جنوب المتوسط
    المشاركات
    58
    معدل تقييم المستوى
    20
    عم جمعة

    بقلم : سمير الفيل

    وجدت عم جمعة يجلس كعادته أمام باب الجامع من الناحية المواجهة للسوق ، حيث المحلات قد بدأت فتح أبوابها مبكرا ، بينما البيوت تغط فى نوم عميق ،بعد أن أمتص الليل جهد الرجال .
    عرفت كل ذلك مبكرا فى السوق ، فتحت عينى على الخفى والمبهم ،ورأيت أن أمارس فعل الستر لأن الله قد أمر به ، ولأن هناك أسرارا لابد أن تبقى فى الكتمان ، ، ففضح العبد مكروه .
    بغض النظر عن أن الحاج خليل البطاحى ،كانت له شلة بين النسوان ، يأتين إليه فرادى ،لإراحة أقدامهن من المشى لساعات طويلة فى السوق جيئة وذهابا ،وحتى لو لم أر بعين رأسى أكثرهن يتلاعبن بعقل ذلك الرجل الذى يشكم زوجته الصالحة ، ويشخط فيها عمال على بطال ، ويؤنبها لأنها لم تأت له سوى بولد واحد أخرج عينيه من محجريهما ، وكومة البنات اللائى لاينفع معهن وقوف المحل ، فقد كنت أميل إلى السكوت عما كشفته لى الأيام من علاقات مريبة ،وتصرفات عجيبة .
    عم جمعة ينصب عدة الشغل أمام الجامع ، وترمى عينيه نظرة أفهم معناها تماما ، فعلى أن أساعده فى فرش الملاءة على الأرض ، وتثبيتها من الحواف بعدة قوالب من الطوب ، وأترك له مهمة توسيط السندان ، أمام الرصيف بخطوتين لاغير ، هو الإسكافى الوحيد المعتمد فى هذه الناحية ، وابنته فوزية لن تأتى بطعام الغذاء فى العمود قبل العصر بقليل .
    لم يكن الإسكافى الذى يصلح للناس أحذيتهم القديمة فقط ، بل هو أكثر من هذا . إنه منقذهم الأبدى من المذلة وكسر النفس ، فقد تذهب إلى عملك بقميص قديم أو بنطلون انتهى عمره الافتراضى ، لكن من المحال أن تذهب ، والحذاء الذى تنتعله فاتح فكيه ، ليرى الناس أصابعك وقد برزت من الجورب الذى لابد أن يكون مثقوبا هو الآخر .
    وعلى هذا فقد كان عم جمعة سترا وغطاء لسكان السوق ،والأحياء القريبة من الجامع ، وهو علاوة على ذلك إنسان طيب ، بغض النظر عن كونه يطلب لى معه واحد شاى صباح كل جمعة، ويحاسب عليه ممتنا .
    فى الوسعاية ، يركن ظهره فى جلوسه القرفصاء إلى الحائط ،حتى يأتى أول زبون ،ثم يفعل الأعاجيب كى يحفظ " الجوز " من التبدد والاندثار ، وإلى جواره كيس من القماش القديم يحوى قطعا مختلفة المقاسات من الجلد الذى تقوم عليه دعائم صنعته .
    جاءت امرأة من الريف ، مدت يدها بالفردة اليمين ، لمت الملاءة على جسدها ، وانخرطت فى البكاء. لم يكن الشغل قد حمى وطيسه بعد ، إذ علا صوته ينادينى، خشيت أن يأتى الحاج فيجد المحل خاليا من الصبيان ، فيطردنى ،أشرت له من بعيد أن لا أحد هنا .
    رأيت المرأة تجلس على مبعدة عنه ، معطية إياه ظهرها ، لكننى كنت ألمح اهتزاز جسدها من النشيج الذى يصل إلى، وأميزه فى هدوء السابعة صباحا .
    جاءنى ، وسأل:" هل بعت شيئا ؟ " أفهمته أننى على فيض الكريم ؛ فزبائن الجمعة لا يتكاثرون إلا فى فترة عصيبة قبل صلاة الجمعة بساعة أو اثنين ثم يختفون كما جاءوا فجاة ، لنقضى اليوم كله نهش الذباب والهواء الراكد ، فأهل المدينة لايشترون الجمعة أبدا حتى لو قطعت رقابهم على النقيض منهم أهل الريف الذين يتكاثرون هذا اليوم. هز رأسه ، وأنا أدير هذه الأفكار فى رأسى .
    بنصف ابتسامة منكسرة : " سأقف مكانك . لا يوجد معي غير جنيه واحد ، حاول أن تفكه من المقهى ، وبسرعة " .
    لم أعقب، ونفذت ما طلبه منى ، عدت ، فأخذ الفكة ، ولف الحذاء بعد أن أصلحه فى كيس ورقى ، ومد يده للمرأة التى كانت قد كفت عن البكاء . رفضت أن تأخذ شيئا بالمرة ، لكنه اقسم أن تقاسمه ما معه ، وما تبقى يكفى ؛ فسوف يفطر ، ويشترى سجائره ، ويحاسب على الشاى . " ربنا الرزاق ".
    لم أشاهد وجهها فقد كان مختفيا وراء " البيشة "، فقط شعرت من طريقة مشيها أنها قد صارت أخف ، وألطف .
    حين جاء المعلم ، أرسلنى فى طلب فنجان القهوة ، عرجت فى طريقى إليه ، استفهم منه عما دفعه لذلك، هز رأسه ، وهو يقدم لى نصف ساندويتش الفول :" ربك يرزق الطير فى الحجر ، فما بالك بالأدمى يا ولد يافلفل " .
    جاء صبي بطاسة بخور نحاسية ، دخل المحل بدون إحم ولا دستور ، أطلق البخور فى المحل. وقعت عين الحاج عليه، انتفض فى غضب ، وصرخ فيه :" إبعد يا زفت ".
    بعد ربع ساعة لاغير دخل المقرىء ،وعدل القفطان ، استوى على المقعد واهتز جسده الملظلظ قبل أن يقرأ ما تيسر من سور القرآن الكريم ، وحين انتهى ، حملق فيه الحاج، وزغرله بعينين فيهما أثر الحشيش :" غدا ندفع . لم نستفتح بعد بأبيض ولا بأسود " .
    أطلت عينى على الساحة. كانت الدائرة توشك على الاكتمال ،ورأس العم الطيب لاتكاد تظهر .
    قلت للحاج ، وعقلى يلق فى رأسى كالبيضة الفاسدة :" سأذهب للمخزن كي أحضر البضاعة الناقصة " . هز دماغه موافقا . لم يعترض ؛ سلمنى المفاتيح .
    بعد شارعين جانبيين قابلت فوزية ، سألتها : " إلى اين ؟".
    كانت تعرفنى ، صمتت لبرهة :" أريد نقودا من أبي لأشتري للبيت فولا وطعمية ".
    كانت تمسك طبقا، وتنظر نحو المآذن العالية فى رهبة ، سألتها :" انتظريني هنا سأذهب معك " .هزت رأسها موافقة ،ونظرت نحوى بابتسامة صغيرة كالشمس أول طلوعها .
    أبقيتها أسفل البيت الذى يوجد المخزن فى طابقه الأول ، أحضرت البضاعة الناقصة ، وجدتها فى انتظارى، سألتها ::" كم الساعة ؟ " ضحكت فى براءة :" لا ساعة معي ."
    قلت لها، وأنا أتمعن فى طابع ست الحسن على ذقنها :" ما رأيك ان نحوش من نقودنا ونشتري ساعة . يوم تلبسينها في يدك.. ويوم ألبسها أنا ؟ "
    سرت للفكرة ، حتى أنها وضعت يدها فى يدى اليمنى الخالية . شعرت بالسعادة ، ورأيت البؤبؤ يلمع فى حبور. فط قلبى ، وقفز من بين الضلوع ، فقد كانت فوزية حلوة التقاطيع ، ولها عينان سوداويتان فى غاية الرقة .
    كادت علب الأحذية تقع. بدون أن تنطق بكلمة واحدة مالت على ، حملت نصفها، واتجهنا إلى المحل ، كنت أسبقها بخطوات قليلة . رآنا الحاج ، تركها حتى وضعت العلب الكرتون على المقعد المجاور للفترينة الزجاجية . بعد أن انصرفت سألني وهو يلومني : " أين كنت ياولد؟ " . رددت على الفور: " فى المخزن " .قال بنبرة سخرية : " بمفردك ؟" هززت رأسى : " نعم " .
    أجلسنى أمامه ، وحدق فى عينى :" ولد . إياك أن تغرر بي . أفهم حركات الصبيان الأشقياء مثلك ".
    تركت المحل غاضبا ، ذهبت إلى عم جمعة ، جلست على الرصيف أتأمل الأحذية المهترئة التى تخيلتها وقد أصبحت بكثرة تكاد تسد عين الشمس، رأيتها تتحرك فى الفضاء لتتجه نحو المعلم . وددت أن أعمل مع عم جمعة ، وكنت أعرف أن أمى سترفض لا محالة، ولقد حزنت لذلك كثيرا .


    * من مجموعة قصصية تحت النشر بعنوان" صندل أحمر "
    .
    سمير الفيل
    كاتب مصري
    Samir_feel@yahoo.com
    مدونتي :
    http://samir-feel.maktoobblog.com/
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2  
    كاتب مسجل الصورة الرمزية عبق اللؤلؤ
    تاريخ التسجيل
    Feb 2011
    المشاركات
    19
    معدل تقييم المستوى
    0
    قصة ممتعة وأسلوب بديع
    عسى أن تنتهي مجموعتك القصصية
    لترى النور عن قريب
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 16/09/2011, 09:23 PM
  2. دمعة
    بواسطة زهرةالايام في المنتدى الرسائل الأدبية
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 27/02/2011, 01:22 PM
  3. دمعة
    بواسطة إيمان المازري في المنتدى أدب الجملة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 17/04/2009, 05:40 PM
  4. دمعة ندم
    بواسطة خالد الشاعر في المنتدى الشعر
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 27/07/2008, 12:01 PM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •