في قرية نائية من مضارب حوران تسمى بصر الحرير كانت أسرة تعيش بين أسر الضياع تشكلت من أوهام التراث وأساطير الخرافة كخيوط مقدسة تبعث الطمأنينة الزائفة بين أوصالها المثخنة بجراح الفقر النازفة ألما وملح أسى، في هذه الأسرة انطلقت زغرودة البشرى يوم صيف حار يرسم ملامح المستقبل بهجير الأماني الذكورية ،تنطلق عنادل الفرح فوق حجرة ضيقة تتسع لفراشين متلاصقين من عدم ، ترفرف السعادة على شفة المخاض بلبل حرية من قيد تهديد الذكورة المسلط على عنق الحامل لتجد نفسها ترفل بثياب الاهتمام المفاجئ ، صبي يا إبراهيم صبي مبروك ، لم تكن الدنيا تتسع لأجنحة البشرى التي طافت بخيال إبراهيم، فقد أصبح أبا لأسرة اكتملت بآخر العنقود ، صبي جديد ، العاطفة تجيش بنفس الوالد فيذرع على غير هدى أرض الدار ، ينادي فاطمة ( القابلة ) صبي يا فاطمة ومن خلف الباب يسمع ضحكة استغراب من ثغر الداية فاطمة (قلنا لك صبي ) وتشير بأصبع البرهان إلى إثبات الذكورة ،صبي ولا بنت ؟ يمد يده إلى خرقة ملفوفة بقوة كأنها مشنقة الحرص يعصرها لتلين عقدتها يأخذ ليرة سورية وحيدة تتباكى عليها خيوط النوى يلقيها بين يدي الداية ، هذه بشارتك يا فاطمة أنت فأل خير ، تحيط أصابع النهم بشره الجوع صفيحة الهريسة المتعفنة وكأنها صنعت نذرا لأهل سفينة نوح ، لتصبح بعد منخفض الأيادي المتلاحقة بالتهام قطرها قاعا صفصفا ، تلعق الأصابع بسرعة لتتخلص من بقية الدبق ، وتمسح بأطراف الثياب ، مبروك يا إبراهيم جعله الله من (طويلي الأعمار ) ماذا سيكون اسمه ؟ يجيب إبراهيم :محمد ذيب .
الحمد لله أصبح لدي صالح وذياب ومحمد ذيب ، وينكر أسماء بناته خجل تورية ،لأن المجتمع ذكوري ، ينسحب إبراهيم وأجنحة التفاؤل والتشاؤم تحيط به من كوة التجربة ، لأنه فــَقـَدَ ثلاثة ذكور قبلي ، فتطفر من عبراته دمعة تجرف أخدودا على صفحة خده وتؤه مرفق بزفرة خشوع ودعاء خفي لا يسمع إلا أنينا : يارب يارب ، أنت أعلم بحالي احفظه لي ،.. يدخل الأزقة ليصل دكان البلدة يشتري بجنون الضياع الهريسة والراحة الممسكة يوزعها على كل من رأى ، يصيح به صاحب الدكان أبا خليل شوي شوي ، يتصور أبو خليل أن الدنيا كلها سمعت زغرودة فاطمة (الداية ) وأنها سعدت واستهمت معه سفينة الفرح ....، وبادلته زغاريد السعادة يدا بيد ، يعود والخطى تستبق الرؤى، ينشر الصياح إشعارا بقدومه :يالله يالله ، ادخل يا إبراهيم هذا محمد ذيب ،تتمنى أمونة سماع همسة مباركة لري أغصان مخاضها لكنه تشرع بآهات تمسح نهير ملوحتها بلسان عفتها ،
عزاؤها الوحيد أصبح محمد ا لم تفارق نظراتها المرتجفة سهادا على سرير خلا قبلي من طفولة درجت عليها أقدام القدر قضاء...... تمسح بدمعها السري صفحة خد المولود ، روحي يا محمد ذيب ، وكانت من عادة الأسر التي تفقد كثيرا من أبنائها الذكور تسمية الذكر الجديد باسم وحش أو حيوان ليكون تميمة تمنع الموت من الاقتراب منه لذا كان اسمي يحالفه حظ الذيب بناب التميمة .
كان ذلك اليوم هو وكما عرفته بيقين التخمين في أوائل شهر آب من عام 1957 ، وللمفارقة عـُقـَدٌ ، تبدأ بعد صبيحة الولادة بسبعة أيام حيث تتهدم غرفة الأبقار وتنجو بأعجوبة كلها ، وكأنهن سبع بقرات سمان احترس الزمن من طيف الوحش ليبقى بعيدا عن النكبة .
وبعد يومين من عدة أيام المصيبة الأولى يغطي سماء القرية دخان كثيف يعبر الأنوف بحميم يشوي الجوف ، ويبكي حرقة على مصيبة جديدة أطلت برأسها لتكمل ثكل أيام النفاس بحريق شب وارتفع أواره سعيرا من بيدر إبراهيم ، وكأن القدر بدأ يرسم ملامح حياة جديدة لمولود لم يع ما تناقلته الألسن من مؤامرة لتجب سعادة إبراهيم وزوجه ويتسارع الذكور والنساء فضولا ونخوة لإطفاء حريق متعمد ، لكن ........... لن ترى سنبلة الحياة أفواه الصبية المتباكين على ناصية التيه تعاطفا بريئا مع الوالد .
يخمد الحريق بعد أن أتى على قلب الوالد ومهاد النفساء بلا رحمة .....
يدرج محمد على أرض دار تكاد تضج ضجرا من ضيق ذات سعتها ، فتبدو عليه ملامح التميز باكرا ، ينتقل من ذراع لذراع إما حبا به أو تضامنا مع عاطفة إبراهيم ، وبعد خمسة أشهر يبدأ محمد الذي غاب عن اسمه الذيب ، بالحبو نشاطا ، ثم يختصر الزمن أيامه ليصبح حديثَ الأسرة حدث ٌ لم تعهده الأسرة من قبل، لقد مشى محمد وهو في شهره الثامن ، ليعقد راية البشرى على شفاه الوالد، بل أصبح حديثا يُسَرُّ بين الأمهات ، كنميمة لا تصلح للاستعمال النسوي ، تعلق على سرير محمد تمائم من عجين وخرز غجرية اشترتها أمونة خلسة بقروش بخسة .....، ( وقد رأيت التميمة بعد أن اقترن العقل بطيف الماضي) .
وبعد سنوات لم أشعر بها لأن ابن القصة ينمو بسرعة دخلت بيت جار لنا اسمه محمد حسن السعدية وكان يعلم الصبية مقابل أرغفة تتكسع الشقاوة على دوائرها المسننة ، وبدأ الدرس الأول ( بسم الله الرحمن الرحيم ....سورة الفاتحة .... والصبية يتمايلون على ترانيم الحروف ، وقد كنت معلق البصر بدهشة استغراب مما رأيت بانبهار ، زوجة الشيخ تطبخ وهي جالسة تحرك بملعقة خشبية قدر الطعام وكنت أرشف لعابي من شهية جوع ألم بي ....... ومن خيوط الانبهار ثوبها الذي لم أر مثله في خيال فطري بريء ..... فقد ارتدت خمارا على غير عادة نساء القرية وجلبابا أبيض منقط بزهور فوضوية .....قدمت رغيف الخبز للمعلم وهو أجرة درسه ..
وانطلقت كأني على عجلة عفريت سليمان عاقدا عزمي بحروف سرية : لن تراني ثانية يا شيخ محمد ....سأذهب للمدرسة ....أقف أمام عدسة المصور وكانت فرحة خجلة أملت رأسي على كتف الحياء والدلال، ألست من صنع لباس الفرح لوالدي ، ورسمت بفنون الشقاوة بسمة الرضا على شفة التفاؤل ؟ .
دخلت غرفة المدرسة للتسجيل في مرحلة تسمى الابتدائية ، رأيت عود قصب على مقاعد الدراسة وكأني صرت دليلا للصبية المتجمهرين فضولا حولي : هذا للضرب ..... هي صورة كانت تنقش بذاكرة فطرتنا مشروعية الضرب ...لأن الوالد كان يردد الجلد للمعلم والعظم للبيت .
ارتسمت في ذاكرتي صورة قبيحة للمعلمة (جورية ) وكنت على مقاعد الأيام الأولى للدراسة .... أردد سرا الحمد لله أنا مازلت في الصف الأول ..وجورية معلمة يشكو الظلم من قسوتها ....
فجأة تدوي بين جدران البيت المتحجرة ....زغاريد عرفت من خلالها أن أخي الأكبر صالح قد ربح ورقة يا نصيب بقيمة 3500 ليرة لبنانية ، وكان هذا المبلغ لو سمع به كنز قارون لاستهجنت مفاتحه ثقل حمله ، .. وبدأ بنوبة صفير حامل اسراره .... تضخيما للقيمة التي يحملها النبأ ...
يقترن النبأ السعيد بخطبة الرابح لبنت عمه ويتم الزواج بعد سهرات سبع ليال جريا على عادة أهل القرية ......
وهنا سمعت مباركة لي ولأخي ذياب عقدة أمرها أننا سنختن في هذه المناسبة ويزف العريس على حصان ..... وفي اليوم الثاني يحملني والدي ويضمني ضمة لن أنساها ما عشت حيا ...... مخالفا فطرته القاسية ، لقد ملكت عاطفة والدي ...... وألبس على عجل ثوبا مخططا ومثلي أخي ونساق كخراف تبتهج البطون لذبحها ، وتتم عملية الختان بجرأة صبر مني وقوة تحمل ما زلت أعيش زمنها ......
يأتي إلينا الزوار .... وما علق بذاكرتي هو زيارة معلمات المدرسة .. وقد جلسن بأناقة لم أفارق نظري عن محيا الآنسة نادية وكأن سهم الذكورة قد رمى مشاعري لأنوثة طاغية .......
وتنعقد ألسنة السَّمـَر ِ ، تصرخ نادية ، (وليْ ولي .....يا إ ِمْيْ ...) لقد كانت القطة الشيرازية تحوم حول الحمى فلعقت جوارب نادية ....... بغفلة عن عيون العفة ......
ومما علق بأغصان ذاكرتي حديثٌ نسوي سمعت من خلاله حروفا جديدة حفظتها في صندوق فكري هو لفظ إنسان ، استعجم اللفظ علي بداية ولكن وضعته في خانة التقديس ، يا للبراعة نسوة غير نساء حارتنا ، يتكلمن بصراحة وثقافة غريبة .....إنسان .....وبشر ......
وتتفتح مدارك الطفولة في يقيني ، أصبحت مميزا بالمدرسة وحدث الأهل وتشجيعهم ... بكلمات ....... كنت أطير مع قرع جرس نهاية الحصة الأخيرة سابقا جميع الأولاد لأصل محملا بالبشر ...... أرى والدي ....فأبادره ..لكن يسبقني بسؤاله الروتيني كم أخذت ؟ عشرة ...(.برابو ) وتعني (برافو) لكن جرى عليها قلم التغيير لضرورة القرية قاعدة اجتماعية لا تليق بألسنة أهلها برافو ... وليثبت لجارنا النجار وهو تقريبا الوحيد الذي يقرأ في القرية يضع أمامه ورقة الإملاء .
يقرأ جارنا حمود الورقة البائسة إلا من خطوط حمراء وكلمة ممتاز ... يبتسم لي ويبارك للوالد تميزي .....
كنت أحمل كتبي متناثرة أفقد بعضا منها فكان الحل هو تفصيل حقيبة لتضمن الأم ما أحمله من دفاتر وأقلام ...... ولكن لم أرض بهذه الحقيبة لأنها صنعت من بقية ثوب أبلاه الدهر ..... فتستعير قطعة قماش من نوع المخمل الأزرق وتخيط لي جارتنا الماهرة حقيبة تليق بي ......
كنت على مقاعد الدراسة مع أخي ذياب الذي يكبرني بعامين تقريبا لكن سجل بنفس تاريخ ولادتي المزيف هوية وهو 31/10/1957
وخلال الأعوام الأولى للدراسة اشترى الوالد لنا حقيبتة من كرتون مقوى
،تطفلت على أخي بحملها وحجتي أني لا أستطيع حملها ، وكنت وللحقيقة أنشرها في مرحلة الذكاء بعد أخي هو يقوم بحل الأسئلة وأقوم باختلاس تعبه ، وفي أول دقائق الحصة لا يسأل المعلم سؤالا إلا وأصبعي تكون أمام وجهه .... فيكف أخي أصبعه ...... بحقد علي تكون ضريبته تهديد بعقابي .. ولكن أنى له هذا فما ينطلق لسان الجرس حتى أكون على بساط الريح .. لكنه ينقل ما جرى لوالدي بداية الأمر وقد تهيأت لي فرصة أصبحت لي سلاح تهديد وقوس تحد بوجهه فقد اكتشفت له عادة سيئة وهي عادة التدخين وكانت القشة التي قصمت ظهر وعيده فأصبح ينقاد لي بطواعية ...
ونمر على محظة جديدة من مراحل سفر الطفولة وكما أسلفت فنحن من أسرة فلاحين تعتمد على الزراعة فقط ... وخلال العام كله وتحديدا في نهاية الموسم الزراعي يقوم الوالد بشراء لفة قماش كاملة للأسرة لتكون لباس كل الأولاد بلون موحد ......... ولكن في عام يبدو أنه جدب لم يشتر الوالد ما اعتدنا عليه .....وبقينا في قمصان العام الفائت ، استغربت الأمر فطرحت السؤال على أخي لكن الجواب كان عقيما ..........فما الحل ؟
سأل أخي كيف نتصرف ؟ قلت له : نقوم بإضراب كانت مفاجأة لي وله هذه الفكرة ، ماذا ؟ ما ذا تعني ؟ قلت له عندما يأتي والدنا نقوم بخلع ملابسنا ، ونتظاهر بالبكاء المتعمد فيرق قلبه لنا وتكون النتيجة قمصانا جديدة ، ابتسمت شفتا أخي موافقا . فتح باب الدار رأيت الوالد فأشرت لأخي أن ابدأ
فخلعت قميصي وجلست عليه وفعل أخي ما اتفقنا عليه ، وبصرخة واحدة بدأت نوبة هستريا المكر ، أسرع والدي خطاه ... ماذا جرى لبست القميص بسرعة ، قبل أن أتهم بتمرد على سطوته وتلكأ أخي بارتداء سماله وتوقف عن البكاء ، لكن هيهات له أن يفلت من عقاب مازلت أشعر بقسوة أكفه على ظهر أخي الطري وهو يقول له ممسكا بأذنه : كل هذا منك .... أخوك محمد صغير لكن أنت شيطان تريد قميصا ها ؟؟؟؟
وانسحبت من أرض الهزيمة منتصرا .....
أما مذكراتي في المدرسة فاذكر منها : كنت في الصف الرابع الابتدائي ومعلمنا يحب التعبير كثيرا فطلب منا موضوعا هو ماذا تحب أن تكون في المستقبل ؟ رسمت بريشة خيالي معركة وجنودا وطيارات ، ونصرا ونخوة ورجولة مبكرة تفتحت على أغصان فجري .
كتبت وخلاصة حروفي سأصبح طيارا حربيا قدوة بابن خالتي ذياب الحريري الطيار الذي وسم التاريخ برجولته وجولاته التي كنا نجعل منها خرافات فطرة ، امتلك نصيب الإطراء وحديث المضافات بين النسوة والرجال ، وكان الموضوع كلما كتبت منه كلمة تصطبغ شفتا فكري بتمرد على الورقة ............وقشعريرة رجولة ....
في اليوم التالي طلب منا المعلم فتح الدفاتر وكانت قليلا ما أكتب لأني أسرق تعب أخي ذياب .... وأشار إلي المعلم أن أقرأ ، بدأت واقفا قراءة الموضوع لكنه قال لي : أخرج إلى السبورة واقرأ بصوت عال .
وما بدأت حتى بدأ العرق يتصبب على قذالة خجلي ، تجاوزت ذلك بتحد ، حيث رفعت من صوتي ..... وبعد لحظات رأيت أولاد صفي وكأن على رؤوسهم مقرعة الظلم خنوعا ............. ودموع يكفكفها معلمي بأطراف أصابعه ، فلا يستحب للذكر أن يسيل دموعا لكن ........الحرف أسبل منه دموع الرجولة .... وكذا أخذ العنفوان البريء مني فرفعت الصوت متحديا ، سأزيل عار العدو بدمي ........إلى أن وصلت لنهاية تمنيت أن تكون حقيقة ............ فكانت لحظات من مرارة الماضي ..ممزوجة بمعان بكر لم يسمع بها معلمي من قبل ......... والأولاد تسابقوا ببكاء يسمع صوت زفيره وكأنهم في حالة هستيريا
وما أن وصلت نهاية الموضوع إلا والأكف تسحق الأكف بتصفيق جعل بقية الصفوف تسمع غرابته .......وحماسته .
نقلني المعلم من صف لصف وأنا اقرأ الموضوع كما أسلفت فعشت ساعات اليوم منتصرا على الحرف ......وقد وصل الخبر لوالدي وكانت الهدية ربع ليرة سورية ............
لم أر قصاصة كتاب في منزلنا إلا كتب المنهج ولكن أتذكر وجود كتاب قديم يوصى به دوما ...لا تفتح الكتاب هذا يامحمد ,, ياذياب ,, احذروا ...إياكم ، ولكن سأسمح لنفسي بفتحه تناولته وقرأت منه ولم أفهم شيئا منها كأنه كتاب سحر وطلاسم ...........(وللكتاب قصة )
وصلنا لنهاية المرحلة الابتدائية وقرر أخي ذياب ترك المدرسة لمساعدة الأسرة ماديا ، ودعناه .... وكانت قبلة العمل هي لبنان ... وبقيت أندب حظي فقد قطع سبيل التواكل ولابد من شق طريق لي متحديا بثقة النفس من يتهمني بسرقة تعب أخي .
حملت من ذكريات الطفولة كثيرا من الخرافات وجليا من جرأة على نقد الواقع ، ومن فتات المذكرة أقتطف بعض هنات حياتي لأضعها على طاولة الأسى ، من تلك الفترة أتذكر أني لم أعش طفولة كباقي أقراني ، وإنما كانت الحياة بالنسبة لي شيئا تافها تستحق الوأد بلا ذنب ، تعطشت لحضن أم قيدت ذراعا حنتنها بقسوة الحياة فلم تكن تمتلك الوقت لتسكب رحيق حنانها في أفواه جفت فيها قطرات الشوق لحجر يدفئ حنايا صب عليها الزمن ثلج القطيعة .
لم يكن الوالد يسمح لنا بتعلم السباحة في برك القرية خوفا علينا من الغرق ، حجة بدأت أعي سببها وهي تبرير عن ماض عاشه بدون ذكور فكان يحرص على بقائنا ولكن بقسوة ، وكان يبث في نفوسنا الطرية خرافة وفادها : إن جمل الحديد سيأكلنا لو نزلنا الماء ، فتشكلت في خرائب خيالي صورة مقيتة لجمل الحديد ........ كنت أراه بعين التصور ...
وزرع في سهول نفوسنا بذور الإيمان مبكرا لذا بدأ الصيام عندي في سن الخامسة تقريبا بأيام معدودات مقابل إغراء مادي قيمته خمسة قروش عن كل يوم صوم ، كنت أتلوى كساق خطيئة أمام منسأة العدل ، عودي يذوي عطشا وجوعا فتشير والدتي إلى بأصابعها وهي على تخوم نيران التنور فأتناول رغيفا من حنان ، أمضغه ببقية من رمق ، وأتظاهر بعدها بتتمة الصوم إلى الليل .
ومن قطوف ذاكرتي حبات ضنى أعيد مضغها أحيانا لأجد طعم المرارة تعقد فمي ، من تلك الحبات المرة قسوة الأب وظلمه المتعمد على امرأة وجدت ببيداء الوأد لا جناح لها ولا فضاء . وتلك سمة ذكور القرية .
ومن نافلة الظرف تبتلت في محراب الماضي فارتقت ذاكرتي بوهج الشقاء الذي كنت أتميز به ، من ذلك قصة طريفة وإنما تحمل في رحمها تمردا وغيرة ، كان لي ابن أخت ولد قبلي بتسعة أشهر وأبوه غنيا من رؤية نفسي حيث كنت أقارن قميصي المنسوج من خيوط البؤس بجدة قمصانه المتعددة الألوان والتصاميم ، فكنت أكره الأرض التي يمر فوقها غيرة ، وفي يوم جاءنا مرتديا قميصا أبيض تشع الأنوار من بهائه ، وقد حلق شعر رأسه بنعومة فائقة ، وبدأت بإثارة غيرتي ، يشد كم قميصه ، وأنا أكاد أتميز من الغيظ ن رأيت رقبته المنتوفة قبل قليل بأنامل الغنى ، وقد تثنت كآخاديد عرف الديكة ، قررت الانتقام منه فلا بد من تحطيم نفسيته المتعجرفة .....
تذكرت ، وجدت الحل .... نزعت مسمارا من قنطرة البيت كان يئن من ثقل طرة ألبسة تبللت من عفونة النسيان أنزلت الصرة وأتيت بالمسمار لأضعه على نار الموقد المستعر جمرا ، أمي تسأل وبقية أفراد الأسرة تستغرب حركة جنونية ،ماذا ستفعل ؟ وابن أختي يغط بكرى التعالي ، سأريكم ما أنا فعل بابن الـ....... حتى اشتد أورار قلبي ، وقفت فوق رأس ابن أختي وبدأت بكيه بلا رحمة بين أخاديد رقبته الحمراء حتى أني مازلت أشتم رائحة الغل تزكم أنفي ..............انفرجت أساريري وصاح جميع الحضور أمسكوه فحملت الريح ساقي ، ومن درج يتعثر عليه من لاحقني قفزت وإذا بي في حارة تفصلنا عنها قنطرة ضيقة جدا وكنت الوحيد الذي يجرؤ على تجاوزها ، أما أخي ووالدتي وابن أختي ، فقد سلوا ألسنة التهديد والوعيد ............فأجيبهم إن كنتم رجالا تعالوا .......مستندا على دعم الممر الضيق والذي أسميه مضيق النجاة .....
أحاطت طفولتي الظروف بمعالم لن تنسى ففي الصف السادس الابتدائي معلمنا كان يحمل عصا وهي رجل كرسي خيزران دخل الصف وكان الموضوع أدوات جزم الفعل المضارع .
بدأ يهز عصاه ويترنم : العلم يرفعكم والعصا تنفعكم
يسأل ومن لا يجيب .........
وجاء دوري مع تلميذ آخر أجبت بصعوبة عن الأسئلة وعرفت الإجابات بشق الأنفس خوفا ورهبة من عصا ..موسى
وكان نصيب التلميذ الآخر بلل على بنطاله .........
جلال فترة الدراسة هذه جاء ضيف لصفنا وكان لدينا حصة إملاء وأعرف نتيجتي سلفا ، ساعد معلمنا بتصحيح الدفاتر ، فكان يضع كلمة أحسنت ثابر على اجتهادك على كل دفتر ينال درجة كاملة
أخذت دفتري فإذا كلمة أحسنت ثابر على اجتهادك ، لم تعجبني الكلمة لأني لم أسمع بها حاولت معترضا ولكن دون آذان تسمع حيرتي ...حملت الدفتر بائس الخطا ، تائه الرؤى ، قرأ والدي من سطور جبيني ما حل بي ، ما بك يا محمد .. أجهشت بالبكاء ...المعلم الـ أعطاني درجة أحسنت ....
والدي لم تعجبه الكلمة بدأ يتوعد ويزيد تهديده ثم وجد جارنا ملاذا من المصيبة ناداه أبو عفيف تعال يعطيه الوالد الدفتر فترتسم على محياه بسمة التشجيع ممتاز اليوم كعادتك أحسنت .
أنا ما طأطأت رأسي لها .. ماذا تعني أحسنت ؟
يعني أنت ............ومئة لفظ حتى قبلت ووالدي نتيجة المعلم .
خلال تلك الفترة الزمنية كنا نعيش على طبول صوت إذاعة صوت العرب
تهيج النفوس على نصر قادم لا محالة فإسرائيل بعد أيام سيبتلع البحر شعبها ، وستعود فلسطين عربية .... سمعنا الأخبار فكنا في تلك القرية التي تبعد كثيرا عن الجبهة أول النازحين عن قريتنا خوفا من عرب الهيب ، من هم عرب الهيب ؟ هم جنود عرب في جيش موشي دايان .
لملم والدي خيوط الأسى وبدأ يعيد تصوَّر النكسة بحسب ذهنية الانكسار فيعلن نبأ وفاة عبد الناصر
كانت أياما مملوءة بخرافات حيكت بمكر وسذاجة
عبد الناصر لم يمت ، جعلوا له جنازة في كل قرية
وهكذا تطوى صفحة مرحلة بموت بعد أن بدأت بصرخة طفل .
في بداية الصف السابع أو الأول الإعدادي تبدأ مسيرة الطفولة بتشييد صرح آخر من بناء النفسية وتحديد هوية الشخصية .
أخي يذهب إلى لبنان ، أما أنا فقد اخترت المدرسة
لا مدرسة إعدادية في قريتنا والحل هو الانتقال إلى مدينة إزرع وتبعد مسافة عشرة كيلو متر عن قريتنا ..
بدأ العام الدراسي ولم يستطع والدي تحمل نفقات بخسة لشراء كتب السنة
فنسجت قصة استطعت من خلالها أخذ بعض كتب السنة مجانا من المدرسة
وبقي الوضع الأسوأ ، كيف يؤمن لي والدي أجرة الطريق يوميا ؟
كان يعطيني كل أسبوع ليرة سورية تكفي لمدة ثلاثة أيام فقط ، وبقية الأسبوع أضطر للذهاب مشيا على أقدام لم تتحمل مشقة المسير كثيرا من الأيام فأعود قبيل الليل إلا قليلا إلى بيت فرغ إلا من دموع انتظار الأم ، التي وجدت حلا آنيا لمشكلتي وهو توفير نصف ليرة لي أسبوعيا من بيع بيض الدجاج سرا .
ومن ذلك العام لم أحضر يوما توزيع شهادات السنة الدراسية لأني أكون قد شددت على راحلة الغربة إلى لبنان لأستطيع شراء بنطال وقميص ، وبعض متطلبات حياة لم أشعر بها إلا علقم ضيم .
خلال تلك الفترة لم أسمع بكلمة أدب أوتشجيع على كلمة شعر
خواء روحي ، وطلاق للكتب والثقافة .

الأدب كلمة غيلت وهي في رحم النسيان ، في مجتمعنا القروي لا حاجة للثقافة أو الأدب ،بعض أبيات من الشعر الشعبي تسد رمق المعرفة ، حفظ آيات من الذكر الحكيم تماشي إيمان الفطرة ، لم اقرأ كتابا قبل ذهابي للبنان فهناك كنت أرى الصحف والمجلات والكتب على قارعة الظهور ، صامتة تتنهد حروفها لنظر قارئ ، اشتريت أول جريدة وكأني ملكت الدنيا وكانت تصدر مساء في مدينة صيدا واسمها لسان الحال ، قرأت كل حرف منها ، حفظتها تقريبا ، هي بفلوسي أليس من حقي أن أستغل كل حرف منها ...
بدأت أتردد على أرصفة بيع الجرائد والمجلات ، أسترق البصر لأعرف أخبار اليوم ، والفنانين ، وتعلقت بدور السينما ، فلم أترك فيلما إلا وكنت أول الحاضرين بصالة عرضه ، وقيمة الدخول كانت في سينما الحمراء خمسة عشر قرشا لبنانيا .
عملت حمالا مع أخوتي مدة طويلة ، ويبدأ دوامي في كل سنة دراسية متأخرا أربعة عشر يوما ..
لم أعرف يوما رسوبا ولله الحمد بأي سنة وأنا على مقاعد التعلم ،
كانت السياسة زاد الوالد ، يسمعنا كل ساعة نبأ جديدا من إذاعة صوت العرب ، كنت أنتظر ساعة بق بن لتدق معلنة نشرة الأخبار المسائية ، وبعدها أسبوعيا على ما أذكر برنامج بين السائل والمجيب .
عاشت فيتنام في ضمائرنا وحرب العصابات وثورة كوريا ، ومازلت أحتفظ بذكريات عن دموع والدي عندما يسمع بقصف مدن فيتنام وكان يظن أنها تقع تلك المدن على طرف قريتنا ، حتى الاسم فيتنام لم ينطقه بسلامة الحروف بل يقول (بيت نام ) ، والتصق بذاكرتي اسم (قونار يارنق) وهو اسم الأمين العام للأمم المتحدة ، وكان لوالدي صديق يقول عنه (جارنك).

مرت فترة الطفولة وبسطة من المراهقة ولم أحفظ بيت شعر إلا ما كان يفرض منهجيا علينا ، ولكن أتذكر أني كنت أردد أغنيات كثيرة لمطربي عصرنا ، وأحاول استكشاف ما بين الكلمات من تغير في نمط الموسيقا .
وأحاول تغيير أماكن الكلمات لأجد أن الموسيقا اختلت .

ربما توضحت صورة طفولتي التي لم أعشها كمرحلة مستقلة
فهي بؤس وشقاء ، وفقر ، وعمل
لم أكن يسمح لي برحلة خارج القرية كما كان يفعل غيري من الأطفال .
فأين أنا والطفولة ؟

كنت أميل حبا وأنا صغير نحو قريبة نسبا وجارة لنا ، وكان ينافسني عليها ابن اختي الذي مــر ذكره ، وسبب تفتح مشاعري مبكرا هو استعجال والدي لرجولتنا ، فقد زوج أخي الأكبر في سن السابعة عشر . فكنت أعد الأيام لأتزوج وأنا صغير ،
كنت أهيم حبا بكل فتاة من طرف خفي ، ارسم بريشة مشاعري صورتها ، وأنام وهي تحت وسادة الكرى لأستمتع بحلم بريء معها ، يمر طيفها ، فلا تعرفني ، حالات عشتها كثيرا ، ثم بدأت مرحلة أكثر نضجا وهي تحديد ملامح جمال الأنثى التي يجب أن تحظى بقلبي ، حتى لم أجد ضالتي خلال زمن طويل حتى وجدتها أخيرا تنام على حشية الغربة مثلي ..........


لم أحاول مرة ولم أجرؤ كتابة حرف إلا نتفا ،حتى وصلت للمرحلة الثانوية كنت أقلد بعض الشعراء بأبيات شعرية هزيلة سقيمة المعنى تحمل معنى الشوق والحب والهيام ، ولكن كنت أمزقها بعد تفريغ شحنة العاطفة التي تحرق حنايا وجدي .
فالمجتمع عندنا لا يسمح بالحب لأنه عيب .
وأول مرة كتبت بروح الشاعر وبحضور عبقر شاهدا وموحيا لي بعد الانتهاء من دراسة دار المعلمين عام 1976 (صف خاص ) ، ولم أعرض ما كتبت على أحد .


يبدو أن الأحلام شقت طريقها بعيدا عن مشاعري ، وبعد رحلة استطراد الهموم يئست مني ، ويئست في أعادتها إلى ذمة الخيال ، فعدت أدراج القلم إلى واقع أحياه ، ولكن من خلف جدران الكآبة .
مرت بي تجارب كثيرة رسمت بمحبرة الحقيقة مستقبلي ، فبدت بين قوسي تفاؤل وتشاؤم ، ويمر بينهما قطر العمر مقوسا ، حتى وصلت الأربعين وزيادة عليها ثلاث سنوات ، هنا أيقنت أن للشعر غير الموثق رياح النسيان ، فبدأت بلملمة قصائد كانت على أجنحة الرياح تتناثر ، وما هي إلا أشهر معدودات حتى أخرجت للملأ دواوين منها :
علــِّمـُوني ، محكمة ، صدى الرجاء ، حديث الفجر ، شاخصة سياحية ، وهي خمسة دواوين صدرت عن دار نينوى للطباعة والنشر
ثم تبعا ديوانين هما : أيها الراحل فالقلب هنا ، في زمن الجنون .
إصدار دار الإسلام للطباعة والنشر ، مصر ، المنصورة .وقد رافق رحلة الطباعة شاعر مميز الأدب والقلم والخلق اسمه أحمد محمد حسن ، فله باقة ود ، وهوية أب .
وبقي من الدواوين يفوق السابق عددا ويزيد ، منثورة بين طيات النسيان حاليا .
هي رحلة قلم بدأ لاجئا أدبيا ، ثم مهاجرا أدبيا
محمد إبراهيم الحريري
يحمل هوية الإنسان
ـــــــــــ
أيها الأحبة حملة أقلام الأدب في مربد البيان لكم تحية ، وقلب