الإجابة عن السؤال الثالث.

كيف تنظر إلى جوهر العلاقة القائمة بين الكتابة والقراءة في مجالي الفكر والأدب؟

للعلاقة بين الكتابة والقراءة في الفكر والأدب وجوه. ليس الكُتاب مصدر العطاء الفكري والأدبي فقط، ولكن القرّاء يسهمون، عن طريق تفاعلهم مع المادة الموضوعة، في هذا العطاء.

والعنصر الذاتي في الفكر أقل نسبيا والعنصر الموضوعي فيه أكبر نسبيا (أقول ذلك تجاوزا لأن من المستحيل الفصل التام بين العنصر الذاتي والعنصر الموضوعي في الفكر).

وفي الأدب يكون العنصر الذاتي أكبر نسبيا والعنصر الموضوعي أقل نسبيا. وهذا الاختلاف نابع من جوهر الأدب. فالأدب عبارة عن الحياة؛ إنه تصوير للحياة ومرآة لها. إنه تفاعل الأديب مع نفسه (التي هي جزء من الحياة)، وتفاعل الأديب ونفسه مع الحياة ومع الوجود بتفاصيلهما وشمولهما. وقد لا يكون هذا التفاعل فكريا، ولكن قد يكون عاطفيا أو وجدانيا أو مزيجا من هذه العناصر. وبالتالي فإن العنصر الذاتي في الأدب أكبر نسبيا والعنصر الموضوعي فيه أقل نسبيا.

ولهذا الاختلاف بين الفكر والأدب في نسبة العنصر الذاتي والعنصر الموضوعي أثر في كيفية تحاوُر القارئ والكاتب مع الفكر والأدب. بسبب العنصر الموضوعي الأكبر في الفكر يكون للقارئ حق أكبر في التدخل في المعنى. ويمكمن لهذا التدخل أن يأتي على صورة التصويب.

وبسبب العنصر الذاتي الأكبر في الأدب فيمكن للقارئ أن يتحاور مع الأديب وأن يتفاعل مع كتاباته الأدبية، ولكن في هذا السياق لا يدخل عنصر التصويب، لأن فيض الذات على الوجود وتفاعل الذات مع الحياة وتصوير الذات للحياة -- هذه كلها لا تقبل التصويب. لا حق لقارئ أن ينتقد أديبا لأنه وصف الدوحة بأنها "ظل مطل على الماضي والحاضر"، مثلا. ويمكن لأديب آخر أن يصف الدوحة ب"أنها الأم الحنون المرضعة لأحلامنا عند ابتسامة الفجر وحزن الغسق".

ومن هنا من ترجمة الأدب أصعب كثيرا من ترجمة الكتابات الفكرية إلى لعة أخرى، وذلك لأن من الأيسر أن نجد أن المصطلحات الفكرية تتشاطرها مختلف اللغات التي قطعت شوطا معينا في التطور، ولكن من الصعوبة البالغة أن نجد تشاطر مختلف اللغات لعبارة أدبية معينة. كلمة "عِلْم" نجد لها مقابلا في اللغات. ولكن لا يمكن أن نجد في اللغات مقابلا لمعنى "طلل" و"أطلال" و"يا صاح" بمعنى "يا صاجبي". وذلك، كما أسلفنا، لأن الأدب نابع إلى حد بعيد من الذات التي لها خصائصها في تحاورها وتفاعلها مع الحياة، بينما ينبع الفكر من العقل الذي يتشاطره البشر كلهم.