الرد على الموضوع
صفحة 2 من 4 الأولىالأولى 1 2 3 4 الأخيرةالأخيرة
النتائج 13 إلى 24 من 37

الموضوع: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

  1. #13 رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    (11)

    أحاطنى الصمت بهالة من الغموض والهيبة . والحق أننى لم أكن لأنطق بشئ مما يدور فى خلدى من ضيق بالحياة .. بما أنا فيه ، بينما شغلهم الشاغل بل هم الليل والنهار لديهم دائر حول كيفية بعث هذا الجسد .. جسد أمتنا بحيث تصبح قادرة على أداء رسالتها العظمى . إن الناس لا تقبل – كما كان يقول عادل النمل – على الضعيف مهما تكن لديه من حكمة .. والإسلام – كما قال محمود سعيد – يريد من معتنقيه بل يوجب عليهم إعداد القوة ، لتذب عنهم سخف السخفاء ، وتدعو إليهم شوارد الطير ، فالقوة المادية تحمى العقيدة وتدفعها فى آن واحد .. ذلك كان جل شغلهم مما استصغرت معه نفسى وشعرت بالخجل .فى معتقلى الأول ، كان الحديث دائراً عن البيت والأصحاب والأحباب وقد فرت أسباب المظاهرات إلى هامش النفس ، وكان الألم بادياً على الوجوه والأجساد ، وكنت أصب حقدى صباً على القانون ومن يمثله . نعم .. خرجت كارهاً كل شئ حتى التراب الذى أدب عليه إذ كيف أحب بلداً لاكتنى فيه الكلاب , وحولت حياتى إلى جحيم لا يطاق .. أما هنا فالعقل يعمل وينظر إلى المقدمات التى أدت إلى تلك الهاوية وهذا المستنقع القذر . كانوا يشعرون بأهميتى ، فأنا زوج أرملة الشيخ عبد السلام النمل , وهذا لابد أن يعنى شيئاً – كما تصوروا هم – وقال عادل :
    - لم أرك فى حياة شيخنا عبد السلام النمل ..
    - نعم ..
    - هل كانت هناك صلة تربطك به ؟
    قلت :
    - الإسلام.
    وتهلل وجه الفتى . كانت تلك أول مرة أراه فيها متهلل الوجه . وقال وكأنما فتحت إجابتى العفوية طاقة فى ذاكرته، فأطل منها على مشهد وراح يصفه :
    - دخلت على شيخنا عبد السلام ذات يوم وكان الهم بادياً على وجهه ، فسألته عما به ؟ .. كنت أحسب أن خالتى قد توفاها الله وكانت فى مرضها الأخير ، وكنا ننتظر موتها بين ساعة وأخرى ، أو أن مرضه هو زاد عليه ..غير أن ما قاله كان عجيباً بالنسبة لى .. لقد كان مهموماً بحال المسلمين فى الاتحاد السوفيتى حتى أن العبرات كانت تنسال على خديه وهو يحدثنى عما يلاقيه هؤلاء فى بلاد لا تعرف الله .. وقال : إن العالم لا يأبه بنا ، لأننا بلا صوت .. لأننا كغثاء السيل . وقال – كذلك – والهم يعصر فؤاده : بمن يستنجد هؤلاء ؟ .. بنا ! .. نحن نحارب الإسلام حرب العالم له , ونأكل بحربنا هذى عليه . قد يستنجدون بالغرب ويذكرونه برحمة المسيح .. لكن الغرب لا يحمل غير وجه المسيح وفى جوفه قلب يهوذا . إنه الشلل يا بنى اجتاح أمتنا كإعصار ، ولم يعد أحد يشعر بأحد , لأن العصارة التى تسرى فى عروق أمتنا سرى فيها السم وشابتها الشوائب . وجعل يبكى .. يا له من رجل ! .سل مدحت عنه .. كان يقابله بكل حب ويربت على كتفه قائلاً له : لقد وصانا سيدنا بكم .
    وقال مدحت يغالب دمعه :
    - نعم .. كان رجلاً عظيماً .. تعلمت منه الكثير . إنه من أخرج من عقلى الشيهات وقاد روحى إلى النور .. إلى نور الحق ، وجعلنى أطلبه وحده .. تراث الغرب الاستشراقى مكتظ بالشبهات والترهات التى تناولت الإسلام ونبى الإسلام و ..
    قلت أقاطعه :
    - هذا يعنى أنك أسلمت ..
    - لم أقل هذا
    ويبدو أنه لاحظ أننى لم أفهم شيئاً فتابع يقول :
    - ما يشغلنى كفرد : أن أعيش فى ظل نظام يحافظ على عقيدتى ويصون كرامتى ، ويحترم عقلى .. ذلك النظام لم أجده فى غير الإسلام . نعم .. فالاشتراكية لم تسعد إنسانها بل قتلت فيه روح الإبداع وحولت البشر إلى قوالب جامدة ، ونبذت الدين .. إن الإنسان بلا دين جثة هامدة وجيفة حقيرة . وعلى الجانب الآخر تقف الرأسمالية لتطلقها غابة يأكل القوى فيها الضعيف ، وقد نحَّت هى الأخرى الدين جانباً حاصرة إياه فى الكنيسة دون أن يخرج من أسوارها ، وسارت البشرية شوطاً قصيراً بهاته الروح تدفعها عاطفة الكره لرجال الكنيسة لما فعلوه إبان العصور المظلمة غير أن الإنسان الغربى انتكس بعد هذا الشوط القصير وصار شبحاً لا أكثر .. إنه أشبه بطائر يرف بجناح واحد ، فما يكاد يرتفع إلا ويسقط ثانية وكأنه سيزيف ذلك الذى تحدثنا عنه الأساطير .. أما الإسلام فدولته تختلف بنظامها الفريد . لقد بعثر الشيخ عبد السلام النمل ما كان معقوداً فى قلبى من شبهات حول دولة الإسلام وحكومة الإسلام , وهل هى مدنية أم دينية ؟ ..
    كنت أنظر إليه بإعجاب .. وفرحت حين كشف الحجاب عما شغلنى حينا من الوقت . نعم .. فقد شُغلت بمسألة سجنه معنا وها هو ذا يكشف عن السر .. إنه يؤمن بدولة الإسلام تلك التى يرى فيها رحابة الأرض بحيث تتسع لكافة الأديان دون أن يُكره أحدٌ أحدا .. غير أنى وددت لو كان مسلما . نعم .. فأكثر من رأيت من المسلمين كغثاء السيل .. حتى أنا .
    رد مع اقتباس  
     

  2. #14 رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    (12)

    لا أدرى لِم خطرت زوجتى على ذهني عندما نادى الحارس علىَّ وهو يفتح باب الزنزانة .. ربما ظننت أنهم سيفرجون عنى بعد أن ثبت لديهم أننى لم أشترك فى جماعة قط , ولم يكن لى أى نشاط يذكر مذ خرجت من معتقلى الأول . وتساقطت من عينى الدموع ، فانتهرنى الحارس وهو يلكن ظهرى بقبضته , وقال :
    - كان شيخك النمل لا يأبه بهذا المعتقل , ولا بنا ..
    قلت :لم يكن شيخى .
    - عبيط أم داهية ؟
    وعاد يلكمنى فى ظهرى وهو يقول :
    - أسرع يا بن اللئيمة . فالباشا ينتظرك ..
    وقع سبه لأمى فى قلبى ، فنزف . جمدت فى مكانى للحظة , فدفعنى الجندى بعنف . أردت أن أستدير وأبصق فى وجهه , لكننى لم أستطع , ووجدتنى مرة أخرى أمام المكتب البيضاوى والوجه الضخم .. وقال :
    - أنا أعرف أنك برىء .
    - حمداً لله يا سيدى ..
    وتابع يقول وقد تغير وجهه :
    - لا تقاطعنى .. من يقاطعنى أجلده .. هِه .. زوجتك حامل ..
    - أعرف ذلك يا سيدى .
    - كانوا يريدون أن يأتوا بها إلى هنا ..
    - من ؟
    - زوجتك ..
    - لِمه !!
    - أمن الوطن فوق كل اعتبار .
    - لكنها لم تفعل شيئاً !
    - أنت فعلت كل شىء ..
    - لكنك قلت أننى بر ....
    قاطعنى وقد تناثر لعابه على وجهى :
    - لا تتحدث إلا بإذن يا حقير ..
    - أمرك ..
    - والآن ؟
    ولم أرد مما زاد من سعاره , وعاد يبصق فى وجهى صارخاً :
    - هل أحدث نفسى يا بن الكلب !
    - قلت لى لا تتحدث إلا بإذن ..
    - أنا أسألك يا بن الحمار ..
    - نعم ..
    - والآن ؟
    - لا أفهم شيئاً يا سيدى ..
    - هل نأتى بها إلى هنا ؟
    - لا أفهم شيئاً يا سيدى ..
    - الأمر يتوقف عليك .
    - كيف !
    رد وهو ينقر على المكتب بإصبعه :
    - قررنا أن نستعين بك فى بعض الأمور ..
    - بى أنا !
    - عليك أن ترصد حركة الكلاب فى زنزانتك .
    قلت والعجب قد استولى علىَّ :
    - لا توجد كلاب فى زنزانتى يا سيادة الر......
    قاطعنى باصقاً على وجهى للمرة الثالثة :
    - كلاب مثلك يا غبى ..
    - كيف أرصد حركتهم وهم فى قاع الزنزانة وعليهم حراسك !
    - انقل لنا كل ما يتفوهون به وخاصة مدحت شكرى ..
    - المسيحى ؟
    - هل أسلم ؟
    - لا أدرى ..
    - نريدك أن تكون عيننا عليه ..
    - أنا !
    - تذكر أن امرأتك حامل ، وأنت لا تتحمل المكث فى غرفة الإنعاش .
    - ياللـ...
    قاطعنى :الكُرة الآن فى ملعبك أنت ..
    وأمر الجندى أن يجرنى إلى الزنزانة ، لأمارس مهمتى التى كلفنى بها .
    رد مع اقتباس  
     

  3. #15 رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    (13)

    أن جيشاً من هم يجثم فوق صدرى ويخنق أنفاسى . وتزايد عرقى مما نفرنى منى .. أنا أكره تلك الرائحة العطنة . تكورت فى ركن الزنزانة كقنفذ دافناً وجهى بين ركبتى ، وبدا قلبى أعلى صوتا مما كان عليه قبل أن .. أحقاً أنقل إليه كل ما يدور هنا !.
    إنهم من خيرة شباب هذا البلد . ثم ماذا يفعل بما فى رؤوسهم ؟ .. وهل من مزيد من العذاب يذوقونه وهم .. كاتب وعالم وقانونى سيكون فذاً لو .. لو لم يكن فى هذا البلد الذى يأكل أهله ويغمد فى عباقرته السهام حتى الموت . ليتنى أصم .. وماذا فعل طفلى الذى فى رحمها مازال ، وما فعلت هى ! . إذا كان رب الناس لا يأخذ أحداً بجناية أحد ، فما بالهم !! . لو فعلوها لأكونن أشد ضراوة من الذئاب وأكثر مكرا من الثعالب و .. وهم يريدون هذا . لقد ذبحت حلمى مذ اعتقلونى أول مرة , وخرجت شبحاً وعشت ذلك الشبح , فلِم يعيدون الكرة من جديد ! , ولِم يصرون على بعث الصرخات من قبرها ! .. من صدرى النابض كالناقوس . لكن .. ماذا سأفعل ؟ .. ما يملك مثلى شيئا , والقوة فى يد الطغاة عمياء لا تعرف لمن تتوجه ولا من تصيب .. أووه .. زوجتى .. أيمكن أن يحدث هذا ؟ ! . أأكون سبباً فى قتلها كما كنت سبباً فى قتل أمى على يد الكلاب القذرة !! .آه .. وكنت تنبح أمام الكلاب وهم يضحكون ، أتنبح هى الآخرى وهم ... لعناتك يا سماء على بلد لا كرامة فيها لحامل .. ولى .. أليس مبرر وجود – كما قال مدحت شكرى – أى حكومة فى الدنيا إنه حفظ كرامة الإنسان وتوفير أمنه ؟ .. فإذا كانت هى أول من يذبح هاته الكرامة , ويشرد ذلك الأمن ، فعلى الدنيا السلام .. بل الويلات والثبور والألم المقيم . لا .. لن أفعل ولو .. ولو ماذا ؟ .. ولو أخذوها وفعلوا بها ألفـ....أووووه .. لو فعلوا لأثورن ثورة لن تقف أمامها الجبال الشم الرواسى ، ولأكونن من الفاسقين . وأنت سجين ؟ .. ولِم لا أنقل لهم كل شىء وأى شىء .. ومن يسجن مرة حين تتخلف الأمم وتنهار الشعوب يظل إلى أن يدخل قبره مسجوناً وإن خرج من القضبان . لن يضرهم شيئاً أن أكون عيناً عليهم وإنما ينفعنى أنا أن أكون . وكأنما مقدر لى أن أكون سبباً فى عذاب الآخرين .. أمى وزوجى و .. هؤلاء .. يا لكم من أوغاد فجرة ! . اقترب منى عادل النمل وتمتم هامساً :
    - عليك بالصبر والصلاة ..
    هززت رأسى ولم أنبس بينما أردف هو :
    - نعم .. سوف أكتب يوماً ما كتاباً عن فقه الصلاة .. لا يتناول سننها ومبطلاتها , وإنما يتناول حقيقتها وكيف تكون صانعة حضارتنا , وكيف تكون صلاتنا هى الطريق لحريتنا ومن ثم لانطلاقنا فى الآفاق وفى الأنفس بحثاً فى آيات الله المنبثة فيهما .
    وقال محمود سعيد :
    - لقد فكر شيخنا عبد السلام النمل يوماً فى كتابة كتاب يتناول فيه فقه اليقظة . وكان يقول فى مجلسه الخاص : إنه الفقه الذى تحتاجه أمتنا كى تصحو من سباتها , وتنهض من كبوتها التى طالت أمداً غير قصير .. ولا أنكر أنه من دفعنى لدراسة الحشرات والتعمق فيها , وقد بث فينا هذا الفقه الذى ينقص أبواب الفقه فى مدونات الفقه عندنا ..
    وغرقت فى حزنى ثانية , ولم أسمع لما قاله محمود سعيد . وتساءلت : أأقول لهم : إن محمود سعيد يفكر فى مورد يستطيع به استكمال دراسته فى عالم العناكب , وأن عادل النمل يود لو يخرج للناس كتاباً يذكر فيه من فقه الصلاة ما يصنع رجالاً , إذ الأمم تحتاج إلىالرجال كى تنهض وتزاحم دول العالم وتتفوق عليهم لا ذكوراً كل همهم الجرى وراء الأهواء والنزوات ؟ .. أأنقل لهم قول النمل : إن الرجل كلمة والذكر شهوة ؟ .. أهذه هى الجرائم التى نعاقب عليها فى بلدنا المحروسة !! . كنت أتمنى أن أكون مثلهم .. نعم .. هذا الإنسان الذى لا تهزه الأحداث وإنما تثبت دعائمه وتعلى قدره و..
    وقال محمود يهزنى :
    - يا شيخنا أين أنت ؟
    - هنا ..
    - ربما حملك طائر الشوق إلى الجنة .
    نظرت إليه مشدوها . إن كل تفكيرهم فى الجنة , وفى الحياة وما يجب عليهم وما يقع على عاتقهم من مسئولية تجاه الدنيا .. أى لون من الناس هؤلاء ! رباه .. أفى مدرسة للحياة أم فى قعر زنزانة أكون ؟! .
    رد مع اقتباس  
     

  4. #16 رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    (14)

    فُتح باب الزنزانة عن سحنة ترهقها عبرة وإن بدا عليه الخيلاء والعجب . جرنى من رقبتى بزهو وقذفنى خارجها .. إن نشوة تطفح من عيونهم وهم يقومون بعذابنا . وأمرنى بصوت غليظ بالزحف خلال الردهة الطويلة إلى أن أصل إلى غرفة التحقيق حيث المكتب البيضاوى ومن ورائه الجسد الضخم .. وقال ضابط التحقيق :
    - ما فعله بك مجرد تمويه لا أكثر ..
    - جسدى خرقة بالية .
    وارتعش جسدى كله , واصطكت أسنانى . جمد وجهه وجعل ينقر فوق مكتبه بإصبعه وشعرت بدوار .. تباعد الضابط حتى صار كبقعة سوداء فى فلاة .. وقال :
    - ماذا عندك ؟
    ولما لم أرد ، عاد ينقر على مكتبه , وتلقيت على ظهرى لكمة خلعت قلبى ، وتناثر الدم من فمى . كنت أعرف ماذا يقصد ..بل كنت أريد أن أقول له كل شئ مما جرى فى الزنزانة غير أنى لم أنبس ، ولا أدرى لِمه ! ..وأردف يقول :
    - هذا أخر إنذار لك . ولسوف تفعل ما نأمرك به . زوجتك فى الطريق إلينا , وجنودنا جوعى .
    - لله الأمر من قبل ومن بعد .
    - ليس لله شىء هنا ..
    واهتز جسدى ثانية حتى كدت أن أسقط لولا أن جنديا جذبنى من رقبتى , وتابع الضابط يقول :
    - كن فى جانبنا .. أنا أعرف أنك لست متهماً .. لست منهم .. نعم .. أستطيع أن أثبت هذا . لكن القرائن كلها ضدك .. وعليك أن تثبت للجميع أنك رجلنا .. أليس كذلك ؟
    وتباعد صوته كما تباعدت صورته ، واتسعت الحجرة من حولى , ولم أعد أرى شيئاً .. ولم أشعر بمن حولى إلا وأنا فى الزنزانة . كان مدحت ينضح قلقا , ومحمود سعيد يزفر غيظا بينما قال النمل :
    - يا له من مستنقع قذر نعيش فيه !
    - كرامة فى الحضيض ..
    قالها مدحت وأردف :
    - أعجب كيف يعيش الناس خارج هذه الزنزانة ونحن هنا !
    رد محمود :
    - إنه الشلل كما قال شيخنا عبد السلام النمل ..
    وتساءَل عادل :
    - وهل يعرفون الشيخ عبد السلام ؟
    - ماذا تقصد ؟
    - أرى أننا قد عُزلنا عن المجتمع كله ..
    - أبن ؟
    - عزلة جسدية وعزلة فكرية ..
    - ماذا تقصد ؟
    - إنهم يأخذون إلى المعتقل كل من تظهر عليه بوادر الالتزام وإن لم يكن منا .. وهنا يُمسح عقله , ولا يخرج من هنا إلا أحد رجلين : إما معتوه لا يصلح لشىء أو نسخة منهم بعد عمليات غسيل المخ وما يراه من صنوف العذاب ، لأن عقيدته لم تتمكن فى قلبه ..
    كان مدحت صامتاً يسمع لهما دون أن ينبس , وكان ينظر إلىَّ بين لحظة وأخرى والدموع تطفر من عينيه . وخطر فى ذهنى السوس وكيف ينخر فى العروق حتى تتهاوى وتسقط .. وعاودنى الدوار فتقيأت ورحت فى غيبوبة أهذى .
    رد مع اقتباس  
     

  5. #17 رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    (15)

    عاودتنى ذكرى لطيفة إبراهيم , وانتابتنى خواطر جنسية أزعجتنى . أردت أن أصرخ أو أن أضرب برأسى فى حائط الزنزانة الصلب المظلم بل تمنيت لو أخذونى إلى غرفة الإنعاش .. وقالت :
    - تحدثت عنك مع زوجى ..
    - كيف حدث هذا !!
    - قال : إنك شخص رائع ..
    - أوقد عاد ؟
    - وبارك حبنا ..
    - باركه !
    - نعم ..
    - وعرف أننا ..
    - عرف كل شئ وقد سُر بهذا ..
    - لكن ..
    - لا تخف ..
    - كيف حدث هذا !
    - أقسم لك ..
    وأردفت بدلال وهى تضحك :
    - حسبتك فى بداية الأمر من أصحاب النمل ..
    - ومن النمل ؟
    - شيخ تحاربه الحكومة وقد مات , لكنه حى ..
    - كيف !
    - تلاميذه فى كل مكان .
    - حقاً ؟
    - عموماً .. ما دام الإنسان يصلى فقد حاز كل شىء ..
    - ربما ..
    - وأعجبنى فيك هذا ..
    - هيا بنا .
    - ليس الآن ..
    - متى إذاً ؟
    - لا زالت فى العنابر حركة ..
    وخلعت ملابسها , وقذفت بها فى ركن المكتب المغلق وأنا ألثم ما بدا منها . صرخت بأعلى صوتى .. وقال محمود سعيد :
    - ماذا بك ؟
    - لا شئ ..
    - تحمل ولا تدع الشيطان يلعب بك .
    نظرت إليهم مشدوهاً . وترامى إلىّ صوتها وهى تضحك . وقال عادل النمل :
    - تكلم ..
    - قد ضقت ..
    - الإنسان يسجن نفسه بما فى رأسه .
    - لم أعد أحتمل .
    كدت أن أضحك لولا أن نظرت إليه فوجدته الجد كل الجد . وكأنهم على يقين بأن الفرج آتٍ ، والمستقبل لهم ، وما نحن فيه ماهو إلا مقدمة طبيعية لذلك الفرج المنتظر. إن ما يعذبنى أكثر من غيره أنهم يحسبوننى مثلهم ، ولو رأى أحدهم مافى خاطرى من سوء ، لبصق علىّ .. وقلتُ :
    - الإنسان فى بلدنا بلا كرامة وإن بدا منه رأى سُجن ..
    وكأنما وضعت على الحطب زيتاً ، وإذا بمدحت يقول بحماس :
    - هو ماقلت ..
    وأردف :
    - العجب أننا ندعى أن " نهضتنا " بنيت على أسس علمانية وأننا نسير بخطى ثابتة نحو العلا ويصدق الناس تلك الدعوى رغم أنهم فى الحضيض يعيشون ويتنفسون الضنك !
    وقال محمود سعيد :
    - لا بد من عمل منظم وجاد لإعادة الحياة إلينا ..
    وقال النمل :
    - كنت فيما مضى أعجب من لعن الإمام محمد عبده لساس وسائس ويسوس .. لكنى الآن أفهم لِم لعنها الإمام .. إن السياسة والشغل بها أخرتنا خاصة فى زمن جهل الناس فيه معنى الإسلام .
    - لكن الإسلام كل كامل شامل .. والسياسة فرع من فروع شجرته الباسقة كالاقتصاد الإسلامى والاجتماع الإسلامى والشعائر ..
    قالها محمود سعيد وهو ينظر إلى مدحت شكرى يستطلع رأيه ، فقال مدحت :
    - أنا يهمنى الإسلام السياسي ، لكونه يحدد دورى فى وطنى ، ويحافظ على مقومات وجودى .
    أما عادل النمل فقال :
    - إنسان هذا العصر لا يدرك معنى الدين اللهم إلا على أنه طقوس تؤدى وشعائر يقيمها من يقيمها بجده دون أن يدرك لها مغزى ودون أن يكون لها أثر فاعل فى شئون حياته . لقد شغلنا أنفسنا وشغلنا الناس بالسياسة فى حين أنهم لا يدركون معنى الدين ولا حقيقة هذا الوجود . والنتيجة أن الناس لم تنشغل بما أردناه لهم بل نظروا إلينا نظرتهم إلى المتكالب على كرسى الحكم وصولجان السلطان . السياسة من الفروع .. أنا لا أنكر أهميتها فى حياتنا ولكن هذه الأهمية لن تتأتى إلا بعد تقعيد القواعد وبناء الأساس .
    رد محمود سعيد
    - لم يكن هذا رأيك من قبل ، ولم يكن رأى الشيخ عبد السلام النمل ..
    قال عادل :
    - يجب أن نعترف بالفشل ..
    - لم نفشل !
    - هانحن فى السجون .. وإن خرجنا فلا أثر لنا وقد حولنا الإعلام والجهل بالدين إلى مجموعة من الإرهابيين الذين يريدون الاستيلاء على السلطة بأى ثمن ومن ثم يعذبون الناس ويقطعون رقابهم ..
    - أخارت قواك !
    - بل أريد تصحيحاً للمسار ..
    - كيف ؟
    - لست أدرى .. كل ما أدريه أن الشغل بالسياسة لن يؤدى بنا إلى شىء ، وإنما سنظل هنا فى المعتقلات , وسيأتون بكل من تسول له نفسه بالحديث فى السياسة إلى المعتقل إلى أن يقضى عليه أو يخرج معتوهاً من كثرة ما يلاقيه من صنوف العذاب .. ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إنهم سيضعون من يلتزم بتعاليم الدين دون شغل بالسياسة مع المشتغل بها فى خندق واحد ويضربون الجميع ..
    - إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ..
    قالها محمود سعيد وأردف بعد صمت لم يطل :
    - أنا معك فى أن السياسة من الفروع .. لكنها مما لا يتم الواجب إلا به . إن تاريخ الأمم والجماعات ما هو إلا تاريخ ملوكهم وزعمائهم .. والفارق بين زمن الفاروق وزمن الحاكم بأمر الله هو نفس الفارق بين الفاروق نفسه والحاكم بأمر الله .
    وحل صمت عاودتنى فيه لطيفة إبراهيم بقميص شفاف نم عن مفاتنها , مما زاد من سخطى على نفسى , غير أنها لم تلبث غير قليل .. وقال عادل النمل :
    - المسألة ليست فى سوء أخلاق غيرنا , وليست فى فساد النظام العالمى الذى يحدثنا بلسان يسوع بينما يحمل فى جوفه قلب يهوذا , وإنما المشكلة الكبرى كامنة فى ضعفنا نحن .. كامنة فى سوء فهمنا لطبيعة العصر الذى نحيا فيه . نحن لا نعرف أى روح تُسَير هذا العصر ! , فكيف نواجه ما لا نعرف , وكيف نسود !! كل ما يشغلنا هو محاولة إحياء فرع فى شجرة شُل جذرها .. ذلك ضرب من الحمق , لن يؤدى إلا إلى ضياع الوقت وبذل الجهد فيما لا طائل من ورائه . والحق أننا ما لم نقعد القواعد ونخرج جيلاً قادراً على تحمل أعباء الرسالة والسير بها فى الآفاق ، فلن نصل إلى شىء أبدا ..
    - لكن من يتركك لتربى ذلك الجيل المنشود والذى هو بمثابة القاعدة !
    قلتها دون وعى منى , غير أنها وجدت صدى لدى محمود سعيد الذى قال مؤكداً كلامى :
    - هذا صحيح والمثل الحى على ذلك إنه أنا .. لقد كنت أعد دراسات عن عالم العناكب واعتقلت ثم خرجت لأعد دراسة عن حشرة " الكولمبولا " بعد أن أكمل زميل لى ما بدأته فى عالم العناكب .. وليس لحشرة "الكولمبولا" انتماءات حزبية أو اتجاهات سياسية , ومع هذا فأنا هنا بينكم !
    - لأنك كنت صديقاً للشيخ عبد السلام ..
    رد محمود :
    - لم يكن الشيخ مشغولاً بالسياسة وكفى بل كان طاقة جبارة , وكان يعرف أين يضع رجاله .. وقد وجهنى للعلم , ورأيته ـ وكان يحدثنى وحدى ـ وهو يتحدث عن عالم الحشرات وما به من إبداع يجعل العقل يسجد لله خالق كل شىء .. وقال لى : " إننا لا نفهم معنى قول الحق : " والذى قدر فهدى "، ونحن لا ندرى عن عالم الأحياء من حولنا شيئاً . العلم يزيد من إيماننا . أنظر إلى البيضة تتنفس من سطحها فى حالة وجود قشرة رقيقة لها , ولكن فى الحشرات التى تكون فيها القشرة سميكة فإنه توجد بهذه القشور تحورات خاصة تسهل لها عملية التنفس , فمن صنع هذا ؟ .. ألم تدرس أن فى بعض أنواع الذباب توجد بالقشرة قنوات أو أعمدة رأسية صغيرة بينها فراغات مملوءة بالسوائل التى يحل محلها الهواء أو سائل هوائى فيما بعد , كما يوجد فى حشرات كثيرة أخرى فيلم هواء تحت القشرة ويحيط هذا الفيلم بمحتويات البيضة إحاطة تامة ويعمل على تبادل الغازات بين جميع الأجزاء الداخلية وبين الهواء الخارجى .. فمن صنع هذا ؟" . صدقنى .. كنت أدرس هذا العلم دراسة روتينية .. مجرد معلومات أحفظها وقد أنبهر أو لا أنبهر .. لكن المسلم له نظرة خاصة للأشياء . وأرى أن المستقبل لهذا الدين خاصة بعد التقدم العلمى المذهل الذى يجتاح العالم . ما ينقص الغرب ؟ إنه هاته النظرة الخاصة .. نظرة المسلم . العقل وحده لا يكفى للهداية وإنما يحتاج إلى الوحى .. وبهذا التزاوج تنشأ الحضارات العظمى . لم يكن الشيخ يقصر نشاطه على السياسة وحدها وإنما كانت له نظرة كلية شاملة وكان يضع كل شئ فى موضعه الصحيح . السياسة تنظيم للجهود وفتح للطريق المسدود ، ونظرة أعمق للواقع ..
    وغبت لحظة .. لا أدرى فيما كنت أفكر .. ربما كنت أحاول استرجاع ما قاله .. ربما . وعندما عدت إليهم كان لا يزال يتحدث قائلاً :
    - لقد شوه الآباء والقسس صورة الإسلام عند الغرب خوفا من انتشاره , وكان ذلك إبان نهضتنا العظمى فى الأندلس ، ورأوا أن الدين الجديد يفتح لمعتنقيه آفاقاً رحبة وعوالم غنية , فأرادوا سد هذا الطريق كيلا ينصرف الناس عنهم ، فشوهوا صورة الإسلام ونبى الإسلام وربوا الغرب على الحقد والكيد لهذا الدين .. ولن نستطيع تغيير هذا إلا عن طريق جهود جبارة .. جهود دولة لتطهير الأنفس والآفاق من الترهات والشبهات والأحقاد المزروعة فى النفوس كالألغام المتفجرة . إنه ما إن يُذكر الإسلام حتى تضيق النفوس وتضجر وتكاد أن تنفجر ، فهل يستطيع تغيير هذه الأوضاع أفراد ؟ .. لا يا صاحبى .. الأمر يحتاج إلى دولة .. إلى نظام قوى يستطيع أن يغير هذا كله ..
    - علينا أن نبدأ بأنفسنا ...
    قالها عادل النمل , وقبل أن يكمل تابع محمود سعيد يقول :
    - نعم .. لكن الجهد الأكبر أو قل بعض الجهد يجب أن يوجه للغرب , لأنه تربة صالحة لديننا .. وربما كان أكثر صلاحية من تربتنا العفنة , لأنها تربة علمية يحكمها العقل . وأنا أنظر إلى المراجع التى أستقى منها وجدت جلها – إن لم تكن كلها – مراجع غربية . إنهم بعلمهم يدركون عظمة الله غير أنهم لا يعرفونه .. من يدرس علم الحشرات – وأتحدث عن تخصصى – يجد أنه بينما أكثر الحشرات الآكلة للأوراق أوفروع النباتات تترك السليلوز يخرج مع البراز بدون هضم وبدون الاستفادة منه ! نجد أن البعض الآخر الذى يتغذى على مثل هذه المواد السليلوزية يمكنها أن تستفيد بالسليلوز وهو المكون الأساسى لهذه الأوراق والأفرع إذ أن هذه الحشرات يمكنها إفراز السليليز الذى يهضم مادة السليلوز .. سبحان الله .. لا تملك إلا أن تقولها وأنت تدرس عالم الحشرات فى دنيا الله , ولا تملك أن تدرس إلا فى ظل سياسة ترفع لواء " لا إله إلا الله " وتريد نشر دعوة الحق فى الآفاق ..
    وقال عادل :
    - تلك خطوة تالية .. إننا لم نبدأ بعد .. ورسولنا لم يتحدث عن الدولة ومعالمها وشئون الحكم وهو فى مكة , وإنما كانت المرحلة المكية لبناء الرجال الذين تقوم على أكتافهم الدولة المنشودة . لن تستطيع بناء دولة دون رجال , ولن تستطيع بسط سلطان الشرع على أناس لا يفقهون الشرع ولا يعرفون مغزى الدين وضرورته فى دنيا الناس , وندرك ما يصلح لكل مرحلة من مراحله , وبدون هذا لا أقول نضل الطريق وإنما نتعثر ..
    - لم يهادن رسولنا كفار قريش . ولو طاوعهم وبحث عن الطريق الأكثر أمنا , لوافقهم على عبادة الله عاماً , وعبادة آلهتهم عاماً آخر ..
    - لم أقل أننا سنهادن من حاد الله ورسوله , وإنما نربى جيلاً أو جماعة على قيم الدين بحيث تتشربه وتتنفسه حتى إذا دعت الله استجاب لدعوتها , وإذا دعت إلى الله كانت دعوتها فيضاً لا تكلفا , وبهذا يقبل العالم على دين الله ..
    قلت :
    - كيف يتأتى لنا هذا ؟
    رد عادل :
    - ذلك هو السؤال الذى يجب أن نهتم به أولاً .
    وحل صمت قطعه محمود سعيد وهو ينظر إلى سقف الزنزانة :
    - إن الإسلام ضرورة حيوية للعالِم والمتعلم .. وللمسلم والكتابى , والعاقل وغير العاقل ..
    وقال مدحت مؤكداً ما ذهب إليه محمود سعيد :
    - هذا حق .. ويوم فتح الإسلام مصر ، أخذ القبطى المصرى حقه من الأكرمين ، لأن العدل لا يفرق بين أحمد وأسعد . ويوم حكم الإسلام الدنيا أمنت الدابة وهى ترتع فى الطريق لأن الحاكم فقه أن الحكم مسئولية وليس مغنما .. إن نظاما تأمن فيه الدواب على حياتها لخليق أن يرتفع ويعلو فوق أى نظام و وهو بعد غاية الحرية ومنتهى أمل الأحرار .
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  6. #18 رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد 
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    سلام الله عليك د حسين

    هل يريد الكاتب نسخة الكترونية ؟؟
    رد مع اقتباس  
     

  7. #19 رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    نعم، ولك الشكر.
    رد مع اقتباس  
     

  8. #20 رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    (16)

    " فى الحشرات التى تمتص الدم كبعض أنواع الذباب والبعوض تفرز الغدد اللعابية مادة تمنع تجلط الدم ، ولا تفرز أنزيمات هاضمة إلا داخلها ، لهضم البروتين فى ذلك الدم الممتص . وفى معدة الفراشات وأبى دقيق نجد أن الإنزيم الوحيد فى لعابها وفى معدتها إنه إنزيم الإنفرتيز الذى يحلل السكر الموجود فى الرحيق لكونه الغذاء الوحيد للفراشات وأبى دقيق , لذا كانت دعوة القرآن للنظر فى الكون والتدبر فى كائناته العجيبة , لكون تلك النظرة هى وقود الإيمان بخالق هذا الوجود البديع" .. جال ذلك فى خاطرى وأنا أنظر إلى محمود سعيد .. إنه كتلة من الشعور النابض بالحياة .. كان يؤمن بضرورة أخذ الدين كله عقيدة وشريعة بوصفه منهج حياة شامل , وأى محاولة لعزل أى جانب من جوانب الإسلام عن واقع الحياة – تحت أى ظروف – لن يؤدى بنا إلى شئ ,لأن من صام – كما كان يقول – من النهار بعضه لا يعد من الصائمين ,ولا يقبل رب العزة من عمله ذاك شيئاً .. وقال :
    - إن دراسة جزء من الدين والأخذ به بمعزل عن بقية أجزائه يزرع فى نفس المتلقى شعوراً بأن هذا الجزء المدروس هو كل الدين .. وهذا لا ينفعنا خاصة ونحن نريد تربية جيل يحمل لواء الدعوة فى عالم نبذ الدين ولم يفقه له معنى غير أنه علاقة بين الإنسان وربه ..
    وقال عادل النمل :
    - إنما أردت مراعاة الوضع الراهن , والاستفادة من المتاح وإلا خسرنا كل شىء.. ثم تذكر أنه لم يكن للإسلام السياسى وجود فى العهد المكى .
    - لكنه ضرورة لازمة لإقامة هذا الدين وإلا لهاجر سيدنا إلى الحبشة وبها ملك لا يظلم عنده أحد ..وكان النجاشى سيرحب بهذه الهجرة ولا شك لكن الرسول كان يبحث عن مكان يقيم عليه دولة تنطلق منها الدعوة إلى أرجاء الدنيا .. الدولة بمثابة القوة .. إن قلة قليلة من البشر يزعها القرآن , ولن تسلم تلك القلة من جهل الطغاة ومن يسير فى ركابهم لو لم تكن القوة فى يد الفئة المؤمنة .. ثم إن الأمر باتخاذ القوة كما جاء فى دستورنا ليس للطغيان , وإنما هو لإرهاب أعداء الحق .
    وافق مدحت شكرى على حديث محمود وإن رأى أن إعادة درس التاريخ قبل اتخاذ أى قرار لا بد منه ، والإنسان إن لم يستوعب عبر الماضى تاه منه حاضره ومن ثم مستقبله . تذكرت ما طلبوه منى , فتغضن وجهى واكتسحنى هم وظلام , مما جعل عادل يقترب منى ويقول :
    - وجهك مرآة لما فى نفسك ..
    - حقاً !
    وبدا لى أكثر ملاحة مما كنت أظن ، وقلت وأنا أتفرس فى وجهه :
    - ما صلتك بالشيخ عبد السلام ؟
    لا أدرى لم سألته هذا السؤال ! .لكنه وقع فى نفسى فى نفس اللحظة التى نظرت فيها إليه وهو يقترب منى أنه كان على علاقة بزوج الشيخ .. بزوجتى . حاولت أن أطرد هذا الخاطر بكل قوة .. إن هؤلاء الشباب تشغلهم الجنة . الجنة فى ظل الإسلام فى الدنيا وفى ظل الرحمن فى الآخرة . وهى تحبنى ولست فيها أشك وبدت لى لطيفة ، فلعنت كل نساء الدنيا حتى زوجتى .. وقال عادل النمل :
    - أنت تسأل عن أشياء ..
    وصمت لحظة ثم أردف :
    - لقد واجهونى بهذا السؤال فى أول اعتقالى , ولم أفهم ساعتئذ مرادهم , فقلت : إنه قريب لى ثم هو زوج خالتى عليها رحمة الله ، فضحك الضابط ، وأمرهم بأخذى إلى غرفة الإنعاش .. فماذا تقصد أنت بسؤالك هذا ؟
    لم أنبس . بدا لى سخف ما جال فى خاطرى . وقلت لنفسى : لو كان هذا الشاب منحلاً ما جاء به العسكر إلى هنا . غير أننى تذكرت حالى , فعاد الخاطر ينبح فى صدرى .. وقلت فى نفسى : " إن كان ما يدور فى رأسك حقاً ، فلِم لمْ يتزوجها !" .. وعاد الكلب إلى السكون .. وقال عادل النمل :
    - دعنا من هذا .. والآن ما رأيك فى المسألة المطروحة على مائدة البحث ؟
    - أى مسألة !
    قال دهشًا :
    - أنتخذ الإسلام جملة أم نترك ما نُحاربُ لأجله ونكتفى بالمتاح منه ؟
    قلت :
    - إن متاح اليوم ربما كان محظورا فى الغد .
    - أفصح عن غرضك ..
    - لا أعرف بالضبط .. لكن .. المسألة ..
    ولم أنبس . كانوا ينظرون إلىّ نظرة حائرة .. غير أن زواجى من أرملة الشيخ عبد السلام كان يدفع كل خاطر سوء يدفعه الشيطان إليهم .. وقلت مندفعاً :
    - الحقيقة أننى فى مأزق ..
    أعارونى انتباههم . ضغطت رأسى بكفين أنهكهما الألم والقلق , وأردفت :
    - طلبوا منى التجسس عليكم وإلا أخذوا زوجتى وعذبوها أمامى ..
    - كلاب ..
    قالوها فى نفس واحد وقلتها معهم .. وقلت بتصميم عجبت من أين أتانى :
    - لن أحقق لهم هذا ..
    - وزوجك !
    تناثرت نفسى , وانشطرت آهات تتلوى , وتراءت لى عريانة والكلاب من حوله , ولا يسمع لصراخها إنس ولا جان .. ورحت أدمدم بلا وعى ، وقال مدحت شكرى :
    - انقل لهم ما يريدون .
    وقال عادل :
    - هم يعلمون عنا كل شىء ، ولن يحدث شىء لو نقلت لهم ما يريدون .
    - لكن ..
    - لا تتردد من أجلها ..
    - هذا رأيك .
    - لن يمنعهم أى شىء لو رفضت ماطلبوه منك ..
    وعاد الكلب ينبح فى صدرى ، وأردف عادل :
    - إنهم بلا قلوب .
    وقال محمود سعيد :
    - لن يغير فى الأمر شىء نقلك لما يدور هنا ..
    - لكن ..
    - لا تتردد .
    رد مع اقتباس  
     

  9. #21 رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    (17)

    قال الضابط :
    - كنت أعرف أنك أغفل من أن تنجرف فى التيار ..
    - حقاً ؟
    - وتأكدتَ أنه ليس على دين الإسلام ؟
    - نعم ..
    - لكن ..
    - ماذا يا سيدى ؟
    - كيف تأكدت من هذا ؟!
    - علامة الصليب المنقو...
    وقاطعنى :
    - ربما كان ذلك خدعة , فهؤلاء يفعلون أى شىء ..
    - لن يدعى أحدهم أنه على غير دين الإسلام من أجل أن يخدعكم !
    - معك حق .
    - والآن يا سيدى ..
    - استمر ..
    - فى السجن ؟
    - إلى حين .. إلى أن نعرف عنهم كل شىء .. كيف يفكرون , وفيم يفكرون .. ولِمه ..
    - لكن هذا يتطلب وقتاً ..
    رد :
    - وليكن ..أنت من الآن فى مأمورية وسنقدر لك هذا .
    - أريد أن أرى زوجتى ..
    - ليس الآن ..
    - لكن ..
    - كى لا تكون موضع شك .
    وعاد بى الحارس إلى الزنزانة . كان الهم يأكل كبدى . ترى ماذا يقولون الآن عنى ؟ .. وشعرت بالهوان . نعم .. شعرت بالهوان والضعة . نظرت إلى عادل النمل , فتذكرتها , ورأيتها فى حضنه , ترتع عيناها فى عينيه فتلاحقت أنفاسى ، واقترب منى ، وافترسته عيناى .. وقلت :
    - أكنت تزور الشيخ فى بيته ؟
    ارتسمت على وجهه دهشة ، وقال :
    - ماذا تريد بالضبط ؟!
    - مجرد سؤال ..
    - نعم .. كنت أزوره فى بيته ، كما كان الآخرون يزورنه فى بيته .
    - وهى ؟
    - من ؟
    - زوجتى ..
    - وما علاقة زوجتك بحديثنا ؟
    - أكانت تشارككم فى الحديث ؟
    - لا أذكر أنها شاركتنا فى حديث ..
    وجعل ينظر إلىّ نظرة حائرة ، وأردف :
    - أفصح عن غرضك لأريحك .. أطلبوا منك ذلك ؟
    - من !
    - الضابط و..
    قاطعته :
    - لم . نعم .. نعم .. بالضبط .. هم طلبوا .. حتى .. لا أدرى .. أكاد أجن ..
    - يالها من نفوس خربة !
    - من ؟
    - من غيرهم ..
    وغصت فى الوراء . عاودتنى بقع الدماء المتناثرة فوق الحصيرة المغضنة الوجه ، أما لطيفة فبدرت رائقة الوجه ، وتبدت فى قميص وردى أبرز ثدييها .. تمتمتُ :
    - لا يمكن أن يحدث هذا ..
    وقال محمود سعيد :
    - يجب أن تنام قليلا ، لتهدأ .
    رد مع اقتباس  
     

  10. #22 رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    (18)

    أتى الصبح وتبعثرت أوهامى . لم يعد وجود لذلك الخاطر الخبيث فى قلبى بعد أن وقف عقلى بالمرصاد لكل شبهة وردها بيسر , إذ ليس وجود ساقطة دليلاً على تهاوى كل نساء الدنيا فى الرزيلة . وقلت : إن أعظم القيم لا قيمة لها إن لم تكن واقعاً فى دنيا الناس ملموساً ، ولن تكون واقعاً مالم تكن هنالك قوة ترهب أصحاب النفوس الخربة والضمائر الميتة . هذا ما نادى به محمود سعيد .. لكن : لِم يلاقى أصحاب الدعوات كل هذا العنت وتلك المشقة وكأنهم يسيرون على الجمر ! , وكأنهم يدعون الناس إلى الجحيم وليس إلى الحياة الحرة والعدل والمساواة ؟! .
    نعم .. شغلت تلك المسألة نفسى فترة ليست بالقصيرة , وطرحتها أمامهم وكان عادل النمل قد دخل لتوه قادماً من غرفة الإنعاش .. كان يبتسم والدموع تسيل على خديه .. قلت له :
    - إن من يراك يحسب أن خللاً أصاب عقلك ..
    رد وقد تهلل وجهه :
    - رأيت بلالاً وأنا أُعذب وصبرنى ، وقال لى : أنظر إلى الجنة تهون عليك الدنيا .
    قلت أجتر فكرتى :
    - لكن .. لِم يُعذب هؤلاء .. أنتم .. لِمه ّ!
    رد عادل :
    - كأنما قدر للدنيا أن تنوء بأصحاب القامات الشامخة , فتروح تعذبهم وهم على ظهرها .. وقد يستمر العداء للعظمة حتى بعد أن يوارى أصحابها فى الثرى . إنه كلما زاد نصيب الإنسان من العظمة زاد حظه من عداء السوقة وجهل الجهلاء ..
    وقال أيضاً :
    - إن نوحاً رغم طول عمر رسالته لم يظفر إلا بالقليل من الأتباع ، ولاقى الكثير الكثير من العذاب والسخرية والاستهزاء . والناظر إلى الحياة فى القرآن يرى هذا النصيب الذى يلاقيه أصحاب الرسالات العظمى وهم من هم ، فما بالك بمن هم دونهم ؟
    وقال محمود سعيد :
    - ولك أن تنظر إلى الهجوم الشرس على صاحب الرسالة الخاتمة ..
    وحل صمت . كان وجه عادل النمل رغم تهلله ينزف . وتقاطر الدمع من عين مدحت . وتابع محمود سعيد بعد تلك الفترة من الصمت وكأنه فى لحظة من لحظات الكشف تلك التى تهب على المرء فى أوقات الصفاء ، وتلك الأوقات – هى الأخرى – تهب على المرء ولو كان فى زنزانة كتلك التى نعيش فيها , أوقل نموت فيها :
    - لا تهاجم الميكروبات إلا الجسد الضعيف , أما الجسد القوى فيستمر فى الحياة رغم وجود الميكروبات .. بل إنها لتوجد فى جسده نفسه .. فى حالة كمون .. منتظرة تلك الفرصة التى تنعشها .إنها تنتظر ضعف قواه ، وانحلال عزمه . وما تجده من هجوم شرس فى كل أنحاء الدنيا على الإسلام ومعتنقيه لدليل صارخ على ضعف أمتنا وهوانها الذى وصل لدرجة أن يهاجم الدين فى معقله .. وينكر من ينكر السنة ويتهم صاحبها .. لقد نشطت الجراثيم ، واستأسدت الفئران ، فراحت تسب الدين ، وتلعن أهله ، وتتهم كل من تلمح فيه بعض التزام ، بالتزمت والتخلف والرجعية ، لأن الضعف استفحل ، وضرب فى كل مكان .. غير أن المستقبل لنا .. أنا أؤمن بهذا .. بل أراه .. أرى المستقبل باهراً . إن الهجوم الشرس على الدين مع كونه علامة ضعف ، فإنه دليل على رعب العالم الطائش من ذلك الدين القيم . نعم .. فاللص تأخذه رعدةٌ حين يلمح شرطياً ..إنه نفس الرعب الذى اجتاح العالم , فراح الطغاة يضربون فى جنبات أمتنا ضربات مجنونة , لأنهم فى حالة رعب .. رعب من ذلك الدين القيم الذى سيقبض على ناصية الوجود يوماً ما .. أراه قريبا ..
    واهتز جسدى كله . حلت به رعشة زادت مع الوقت , وتلاشى صوت محمود فى زحمة انفعالى . ورأيتنى فى المكتب البيضاوى أبصق أخبارهم .. نعم .. لست قوياً وإنما أنا خائر القوى , جبان النفس .. وتمتمت بلا وعى :
    - كم أنا ضعيف أيها السادة !
    وكأنما اخترق عادل النمل صدرى , وفهم قصدى , فربت على كتفى وقال :
    - لست ضعيفاً وقد استشرتنا .
    - لن يغير هذا من الأمر شيئاً .
    - بل يغير كل شئ ..
    - ما أنا إلا جيفة حقيرة .
    وغبت عنهم . غرقت فى موج هادر يتقاذفني . صرخت بأعلى صوتى مما استرعى انتباه السجان , ففتح الزنزانة ورمى بى خارجها .. وسرت على أربع إلى الغرفة ذات المكتب البيضاوى .
    رد مع اقتباس  
     

  11. #23 رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    (19)

    انتابتنى هلاوس شتى وأنا أمام الضابط . رأيت الممرضة عريانة تماماً وزوجتى تبكى وهى تنظر إلى جنينها معلقاً من قدميه فى غرفة الإنعاش ، أما عادل فمازال الطرب سارحاً فى وجهه وهو ينظر للأفق البعيد , ومحمود سعيد يرى فى العلم سلاحاً ندخل به عالم المستقبل , أما مدحت شكرى فمبهور بالإسلام السياسى فماذا يفعل لو رأى الإسلام كله فى رسالته الخالدة ؟ .. إن فطرته لتسعى ، لتلحق بركب المتوضئين , وهى تخلع عنها كل رداء .. وقال الضابط :
    - أنت تنهار !
    - ربما ..
    - ماذا حدث ؟
    - إنهم ..
    - ماذا ؟
    - رجال ..
    رد ساخراً :
    - هل فعلوا بك شيئاً !
    - ليسوا مثلنا ..
    - ماذا يقصد المغفل ؟!
    - إنهم ؟؟
    وهاج . ثار فى وجهى ، وعوى :
    - تكلم أيها الكلب الحقير بصراحة , ووضوح ..
    - إنهم طاقة جبارة لا يزلزلهم عذاب , بل يزيدهم العذاب صموداً ويقيناً بالنصر .. ولا يسكتهم السجن , وإنما هم يتباحثون فى طريق يخرج منه النور إلى الدنيا , فيبدد ظلمات الجهل , ويمحو صنوف الطغيان .. لقد فهمت منهم أن الإسلام معنى كبير .. أكبر من الوهم الذى يعيش به الناس خارج الزنزانة .. أو قل : إن ما يعيش فيه ، وما عشت فيه قبل أن أرى هؤلاء الفتية ما هو إلا سجن.. سجن يكبل أشواق الروح وإبداع العقل .
    تناثر لعابه فى وجهى , وصرخ :
    - كفى هراءً ..
    - لِم قبضتم علىّ !
    - سجلك حافل ب ...
    قاطعته :
    - حافل بالسقوط والخزى واللامبالاة .
    وأمر السجان بحبسى حبساً انفرادياً . ذلك أهون علىَّ من وجودى بينهم .. صرت أكره ذلك الصنف من البشر . إنهم ليعذبونني بصمودهم وبعقولهم ونفوسهم المشرقة .. وكرهت عبد السلام النمل , وكل عائلة النمل حتى هى , لأنها يوماً عرفته .. حتى مدحت شكرى كرهته . وتراءى لى عادل النمل , فأغمضت عينى ودرت فى الزنزانة كما تدور دجاجة مذبوحة , وصرخت فيه : "كفى ما بى .. أنا لا أريدكم .. لا أريدكم .. لا أريدكم " .. وجعلت أبكى بحرقة , وقال عادل : " مادامت الدنيا ستنتهى فهى قصيرة قصيرة جداً .. وما نلاقيه هنا هو الآخر قليل .. قليل جداً .. قليل ما دام سينتهى .. ثم ما يفعلونه بنا ما هو إلا تكفير عن خطايانا , وزيادة فى درجاتنا عند ربنا .. صدقنى .. أنا لا أبغضهم .. بل أشفق عليهم , وأنظر إليهم كما أنظر إلى طفل صغير بل إلى معتوه لا يدرك ما يفعله "..وأمسكت برأسى وكأنما أردت أن أمنع سيل هاته الخواطر عنها . نعم .. أريد أن أبتعد .. أبتعد عن هنا .. لكنهم معى ! .. فى نفسى .. وقال محمود سعيد : "ينبغى ألا تزعجنا غربتنا عن الناس , لأنهم يروننا نعمل غير ما يعملون , ونتكلم بغير ما يتكلمون , فيظنوننا غرباء عنهم .. إن تلك الغربة هى التى تحدث عنها سيدنا حين قال : بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ . أى غير معروف السنن والقواعد . وسنن الإسلام وقواعده انطمست معالمها أو كادت فى أذهان الناس , وحلت محلها فى نفوسهم سنن وقواعد أخرى ليست من الإسلام فى شئ , وإنما صورها لهم الشيطان على أنها من الإسلام .. وعندما يرون ما نقوم به يرموننا بالأقذاء , ونشعر نحن بتلك الغربة .. لكن الإسلام انتشر وقد كان غريباً حين بدأ . انتشر لأنهم تمسكوا به واعتصموا , واستصغروا بجانبه الدنيا وما فيها من نعيم , وما لا قوة من عنت وعذاب دون أن يفت ذلك كله فى عضدهم أو يوهن من عزمهم .." . أردت أن أدق رأسى فى جدران الزنزانة , وصرخت بأعلى صوتى :
    - أخرجونى من هنا ..
    أخذنى السجان إلى غرفة الإنعاش لكننى لم أشعر بألم السياط . كانت صورهم تتراءى لى , وسمعت عادل يقول : " إن العبادة وقت الهرج والفتن كالهجرة إلى سيدنا" ..وصرخت . صرخت من كلمته تلك . وتردد فى خاطرى اسم "النمل" .. عبد السلام النمل .. عادل النمل .. وزوجتى .. حتى ابنى الذى هو فى رحمها . ووجدتنى فى الزنزانة . لم أشعر بهم وهم يسحبوننى إليها غير أنى وجدت الدماء تنزف منى , وجعلت أنظر إلى دمى وأطيل إليه النظر , ولا أدرى لِمه ! .. كل شئ حالك الظلمة هنا . وعاد النمل إلى خاطرى من جديد , وقال عادل وكأنما يخرج صوته من أعماق نفسى أنا : " إن العبادة وقت الهرج والفتن كالهجرة إلى سيدنا "
    رد مع اقتباس  
     

  12. #24 رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    (20)

    لم أبق فى سجن الانفرادي كثيراً ,فقد قرر المسئولون خروجى من المعتقل , لأواجه الحياة بنظرة جديدة غير تلك التى كنت أنظر بها إليها , كما أنها غير تلك النظرة التى كنت أنظر بها للدنيا قبل أن أدخل المعتقل أول مرة . خرجت محملاً بأفكار تمثلت فى شخوص حية رأيتهم . أفكار وقيم لم تغير الصعاب والشدائد منها شيئاً . وإنما زادتها ثباتاً فى تلك النفوس الشامخة ، بينما رحت أترنح ,وأيقنت بضيق الساحة التى كنت أتحرك فيها من قبل . لاحظت زوجتى هذا التغير وقالت :
    - لشد ما تغيرت !
    - لا شئ ثابت فى هذه الدنيا .
    وقالت بامتعاض :
    - مصيبة المصائب أنك لم تعد تصلى ..
    - أنا !
    - لم تكن تترك فرضاً !
    - لكنى لم أكن أصلى ..
    - ماذا تقول !
    - إنها الحقيقة .
    - وذهابك إلى المسجد ..
    - محض هراء ..
    - أنت ترعـ...
    قاطعتها بعصبية قائلاً :
    - من يكون الشيخ عبد السلام النمل ؟
    - إنه ..
    - من ؟
    - زوجى السابق ..
    - أعرف أنه زوجك السابق , وأن اسمه عبد السلام , وولد فى محلة مرحوم , وله أبناء ليسو منك , وأشقاء وقد تزوجك بعد وفاة زوجته .. كل هذا لا يمثل عندى أى شىء.. أريد أن أعرفه هو .. ولماذا تزوجك ؟ .. ولِم قبلت الاقتران بى أنا وأنت شابة جميلة والكل هنا يحب الشيخ ؟!
    ردت وقد تملكها العجب :
    - ماذا بك !!
    - من يكون ذلك الشيخ ؟
    - قلت لك أنه زوجى السابق ..
    - لِم تزوجك ؟
    - كان أبى من أتباعه , وعندما ماتت زوجه عرض عليه أبى أن يتزوج منى ..
    - هل كان يحبك ؟
    - كان يحترمنى ..
    - وأنتِ ؟
    - لِم كل هذه الأسئلة ؟؟
    - أريد أن أعرف كل شئ ..
    - لِمه !
    - ولِم لا أعرف ؟
    - لا أرى مبرراً لـ....
    قاطعتها :
    - لكنه هام بالنسبة لى ..نعم .. ذلك أمر هام بالنسبة لى .. لا بد أن أعرف كل شىء .. كل شىء مهما كان تافهاً ..
    - لشد ما تغيرت !
    - دعينا من الجمل المحفوظة ..
    - لم تكن تهتم بأى شئ !
    - هذا حق ..
    - والآن ؟!
    قلت شارداً :
    - لقد وجدتهم هناك فى الزنزانة يضجون حياة , وأنا هنا جيفة نتنة ..
    - من تقصد ؟
    - السجناء ..
    - لا أفهم شيئاً !
    - ولا أنا ..
    وحل صمت كريه ثقيل . شعرت بسخافة ما كنت أقوله لها .. أتكون اللوثة أصابتنى أنا الآخر كما أصابت زوج لطيفة إبراهيم ؟ .. لكنه دائر فى الطرقات يدعو , وأنا لم أعد أذهب إلى المسجد كما كنت أذهب من قبل .. وقلت :
    - أين الكتب ؟
    - أى كتب ..
    - كتب الشيخ عبد السلام ..
    - تحت السرير .
    - ألم يأخذوها ؟
    - فتشوا فيها وتركوها ..
    - ألم يؤلف كتبا هو الآخر ؟
    - لا أدرى ..
    - كان زوجك !
    - فترة قصيرة قضيناها معا وكان دائم التـ...
    وقاطعتها :
    - وفى هذه الفترة القصيرة ألم يقص عليكِ شيئاً ؟
    - إنه فى شغل عن كل ما يدور فى رأسك ..
    - وما يدور فى رأسى ؟
    - لا أدرى ...
    حتى أنا لا أدرى ما يدور فى رأسى ! . وقلت فى نفسى : " كل الناس تعرف كل شئ عن الشيخ عبد السلام النمل إلا أنا ! .. أنا العائش فى بيته, والراقد على سريره , والمتزوج من أرملته ! ." .. وقلتُ :
    - الناس هنا تعشق الشيخ .
    - نعم ..
    - وأنتِ ؟
    - وأنا ...
    - تعشقينه ؟
    - أحترمه وأجله .
    وكأنما ضاقت بسخافتى , فلوت عنقها , وأردفت بامتعاض :
    - يبدو أن السجن لوث عقلك ..
    - ربما ..
    - يجب أن تستريح , لتسترد صحتك .
    - أنا فى قوة بغل .
    وأجهشت فى بكاءٍ حار . وفى لحظة غبت عنها وعن كل شىء ورأيتنى هناك وسطهم , وقال عادل النمل : " بينما نجد مهمة المؤرخ نقل الواقع كما هو فإن مهمة الأديب أن يبرز ما يجب أن يكون وليس ما هو كائن وكفى .. إنه بمثابة كتيبة الاستطلاع تلك التى تمهد للجيش الطريق .. وهكذا الأديب فإنه يمهد للحياة التى يريدنا أن نحياها فى المستقبل ويجعلها قريبة للنفوس " .. وقال مدحت : " هذا حق .. غير أنك لا تجد بين أدبائنا من يحمل هما حقيقيا . إننا كبلد متخلف يجب ألا يشغلنا غير هم واحد إنه التقدم والنهوض كى نلحق بركب دول العالم الأول ." .. أما محمود سعيد فابتسم وقال معلقاً على ما سمعه : " يجب أن نضع فى تفكيرنا ما نتميز به حضاريا إننا لن نعطى الدنيا علما . العلم فى الغرب قطع أشواطاً بعيدة , ونحن نلهث للحاق به .. وهذا لا يعنى بحال أن نترك العلم وإلا أصبحنا جثة هامدة . المسألة أننا لن نعطى الآخر ما نتميز به وما ينقصه إلا إذا كنا محل تقدير واحترام .. ولن يكون هذا بغير العلم . ساعتها سيسمع لنا ويفكر ويقبل على ما عندنا نحن .. يقبل على رسالة السماء الخالدة : .. وأمسكت برأسى . أردت أن أضربه فى الحائط , ونظرت إلى زوجتى . كانت تمسح عن خديها دمعات فرت من مقلتيها , ونظرت إلىّ نظرة تحمل من الشفقة والحزن ما كدت أصرخ منه .. وقالت :
    - هل عذبوك إلى هذه الدرجة ؟
    - من ؟!
    - هناك فى المعتقل ..
    - لقد عذبت بالحقيقة .
    - أى حقيقة !
    - كنت أعمى ..
    - يا لك من لغز !
    - ما أنا إلا أحمق كبير .
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. ماذا أصابك يا وطن ـ النص الكامل
    بواسطة أنس الساهر في المنتدى الشعر
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 02/12/2009, 07:12 PM
  2. النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للروائي الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 20
    آخر مشاركة: 04/08/2008, 03:12 PM
  3. النص الكامل لرواية «ذاكرة الأشجار» للروائي الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 24
    آخر مشاركة: 13/07/2008, 09:24 AM
  4. النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 25/01/2008, 08:26 AM
  5. النص الكامل لخطاب الدكتور بشار الأسد
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى قبة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 16/08/2006, 10:12 PM
ضوابط المشاركة
  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •