(11)
أحاطنى الصمت بهالة من الغموض والهيبة . والحق أننى لم أكن لأنطق بشئ مما يدور فى خلدى من ضيق بالحياة .. بما أنا فيه ، بينما شغلهم الشاغل بل هم الليل والنهار لديهم دائر حول كيفية بعث هذا الجسد .. جسد أمتنا بحيث تصبح قادرة على أداء رسالتها العظمى . إن الناس لا تقبل – كما كان يقول عادل النمل – على الضعيف مهما تكن لديه من حكمة .. والإسلام – كما قال محمود سعيد – يريد من معتنقيه بل يوجب عليهم إعداد القوة ، لتذب عنهم سخف السخفاء ، وتدعو إليهم شوارد الطير ، فالقوة المادية تحمى العقيدة وتدفعها فى آن واحد .. ذلك كان جل شغلهم مما استصغرت معه نفسى وشعرت بالخجل .فى معتقلى الأول ، كان الحديث دائراً عن البيت والأصحاب والأحباب وقد فرت أسباب المظاهرات إلى هامش النفس ، وكان الألم بادياً على الوجوه والأجساد ، وكنت أصب حقدى صباً على القانون ومن يمثله . نعم .. خرجت كارهاً كل شئ حتى التراب الذى أدب عليه إذ كيف أحب بلداً لاكتنى فيه الكلاب , وحولت حياتى إلى جحيم لا يطاق .. أما هنا فالعقل يعمل وينظر إلى المقدمات التى أدت إلى تلك الهاوية وهذا المستنقع القذر . كانوا يشعرون بأهميتى ، فأنا زوج أرملة الشيخ عبد السلام النمل , وهذا لابد أن يعنى شيئاً – كما تصوروا هم – وقال عادل :
- لم أرك فى حياة شيخنا عبد السلام النمل ..
- نعم ..
- هل كانت هناك صلة تربطك به ؟
قلت :
- الإسلام.
وتهلل وجه الفتى . كانت تلك أول مرة أراه فيها متهلل الوجه . وقال وكأنما فتحت إجابتى العفوية طاقة فى ذاكرته، فأطل منها على مشهد وراح يصفه :
- دخلت على شيخنا عبد السلام ذات يوم وكان الهم بادياً على وجهه ، فسألته عما به ؟ .. كنت أحسب أن خالتى قد توفاها الله وكانت فى مرضها الأخير ، وكنا ننتظر موتها بين ساعة وأخرى ، أو أن مرضه هو زاد عليه ..غير أن ما قاله كان عجيباً بالنسبة لى .. لقد كان مهموماً بحال المسلمين فى الاتحاد السوفيتى حتى أن العبرات كانت تنسال على خديه وهو يحدثنى عما يلاقيه هؤلاء فى بلاد لا تعرف الله .. وقال : إن العالم لا يأبه بنا ، لأننا بلا صوت .. لأننا كغثاء السيل . وقال – كذلك – والهم يعصر فؤاده : بمن يستنجد هؤلاء ؟ .. بنا ! .. نحن نحارب الإسلام حرب العالم له , ونأكل بحربنا هذى عليه . قد يستنجدون بالغرب ويذكرونه برحمة المسيح .. لكن الغرب لا يحمل غير وجه المسيح وفى جوفه قلب يهوذا . إنه الشلل يا بنى اجتاح أمتنا كإعصار ، ولم يعد أحد يشعر بأحد , لأن العصارة التى تسرى فى عروق أمتنا سرى فيها السم وشابتها الشوائب . وجعل يبكى .. يا له من رجل ! .سل مدحت عنه .. كان يقابله بكل حب ويربت على كتفه قائلاً له : لقد وصانا سيدنا بكم .
وقال مدحت يغالب دمعه :
- نعم .. كان رجلاً عظيماً .. تعلمت منه الكثير . إنه من أخرج من عقلى الشيهات وقاد روحى إلى النور .. إلى نور الحق ، وجعلنى أطلبه وحده .. تراث الغرب الاستشراقى مكتظ بالشبهات والترهات التى تناولت الإسلام ونبى الإسلام و ..
قلت أقاطعه :
- هذا يعنى أنك أسلمت ..
- لم أقل هذا
ويبدو أنه لاحظ أننى لم أفهم شيئاً فتابع يقول :
- ما يشغلنى كفرد : أن أعيش فى ظل نظام يحافظ على عقيدتى ويصون كرامتى ، ويحترم عقلى .. ذلك النظام لم أجده فى غير الإسلام . نعم .. فالاشتراكية لم تسعد إنسانها بل قتلت فيه روح الإبداع وحولت البشر إلى قوالب جامدة ، ونبذت الدين .. إن الإنسان بلا دين جثة هامدة وجيفة حقيرة . وعلى الجانب الآخر تقف الرأسمالية لتطلقها غابة يأكل القوى فيها الضعيف ، وقد نحَّت هى الأخرى الدين جانباً حاصرة إياه فى الكنيسة دون أن يخرج من أسوارها ، وسارت البشرية شوطاً قصيراً بهاته الروح تدفعها عاطفة الكره لرجال الكنيسة لما فعلوه إبان العصور المظلمة غير أن الإنسان الغربى انتكس بعد هذا الشوط القصير وصار شبحاً لا أكثر .. إنه أشبه بطائر يرف بجناح واحد ، فما يكاد يرتفع إلا ويسقط ثانية وكأنه سيزيف ذلك الذى تحدثنا عنه الأساطير .. أما الإسلام فدولته تختلف بنظامها الفريد . لقد بعثر الشيخ عبد السلام النمل ما كان معقوداً فى قلبى من شبهات حول دولة الإسلام وحكومة الإسلام , وهل هى مدنية أم دينية ؟ ..
كنت أنظر إليه بإعجاب .. وفرحت حين كشف الحجاب عما شغلنى حينا من الوقت . نعم .. فقد شُغلت بمسألة سجنه معنا وها هو ذا يكشف عن السر .. إنه يؤمن بدولة الإسلام تلك التى يرى فيها رحابة الأرض بحيث تتسع لكافة الأديان دون أن يُكره أحدٌ أحدا .. غير أنى وددت لو كان مسلما . نعم .. فأكثر من رأيت من المسلمين كغثاء السيل .. حتى أنا .