الرد على الموضوع
صفحة 2 من 6 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 6 الأخيرةالأخيرة
النتائج 13 إلى 24 من 71

الموضوع: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

  1. #13 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    * 11 فبراير *

    .................



    اعتدت ـ فى تلك الأيام من كل سنة ـ رفع الأعلام والزينات والأضواء على واجهات البيوت ، وفى شوارع الإسكندرية وميادينها ، وحول البلانسات والفلايك فى المينا الشرقية ، وانطلاق الصواريخ الملونة فى منطقة السلسلة ، وتعالى صفافير البواخر فى المينا الغربية ..
    قال لى أبى إن ما يحدث هو احتفال بميلاد كل مواليد فبراير .. وأنا واحد منهم !
    صدقت ما قاله أبى . ووجدت فى الاحتفال بعيد ميلادى ـ ولو مع مواليد الشهر نفسه ! ـ دافعاً للتباهى بين زملائى فى مدرسة البوصيرى الأولية ..
    تأملت أغنية يقول مطلعها : أهو جانا حداشر فبراير . سألت أبى عن التاريخ .. لماذا حدد فى يوم بالذات دون بقية أيام الشهر ؟
    لم يجب أبى . اكتفى بابتسامة صامتة ..
    أعدت السؤال على جميل أفندى مدرس اللغة العربية . قال :
    ـ 11 فبراير هو عيد ميلاد الملك .. والأغنية والاحتفالات من أجله !
    كتمت فى داخلى إحساساً بالخذلان ، وأزمعت ألا أصدق أبى فى كل ما يقوله لى !
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  2. #14 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    * أغنيات الفطرة *

    .......................



    كنا نصحب أبى ـ بعد ظهر كل خميس ـ إلى دمنهور . نستقل الأوتوبيس من ميدان المنشية ، أو القطار ، من ميدان المحطة إلى شارع الصاغة ، ومنه إلى أبو الريش . نقضى الليلة فى بيت جدى . الباب الخشبى ذو الضلفتين ، يفضى إلى طرقة مبلطة ، وعلى اليمين حجرة تطل نافذتها الحديدية على الطريق . يصعد السلم الحجرى إلى طابقين . يضمان أخوالى وأبناءهم . تخلى لنا جدتى شقة الطابق الثانى ، فوقها السطح . الفرن وعشش الطيور . ننط الحبل ، أو نلعب السيجة ، فى مساحة الأرض المبلطة المتبقية ..
    نسأل عن اللبن ، تبعث به إلينا خالتى نبوية ـ أخت جدتى ! ـ من بيتها فى الشارع الخلفى . بيت ريفى ، طابقه الأسفل للماشية ، والعلوى للبشر . يطالعك ـ بمجرد دخوله ـ امتزاج روائح أنفاس البشر والحيوان وروث البهائم والحطب ..
    نترقب خيرى ، ابن خالتى نبوية ـ ابن خالة أمى ـ يسبقنا إلى الغيطان ، خلف وابور النور . نتمشى فى ضوء القمر ، أو يأخذنا إلى أحد الأفراح التى كانت تقام ـ فى العادة ـ ليلة الخميس . نشاهد رقصات الغوازى ، نستمع إلى أغنيات الفطرة ، أى تلك التى ألّف كلماتها ، ولحنها ، مجهول ، فهى تنتسب إلى الفن الشعبى . أذكر ـ مازلت ـ أغنيات : ياللى ع الترعة حود ع المالح .. و : ادلع يا رشيدى على وش الميه .. أو : رمان التوب يا ليلى .. وغيرها ..
    كان اهتزاز القطار أو الأوتوبيس يدفع بالقىء إلى معدتى الحساسة . لكننى كنت أترقب الرحلة إلى الحياة المغايرة ، وأعانى حزناً معلناً حين يقرر أبى ـ لظرف ما ـ إرجاء السفر إلى الأسبوع التالى ..
    صحوت ـ ذات ليلة ـ على وقع أقدام ، ونداءات ، وعبارات محذرة ومشفقة ..
    كانت أمى تميل على طست أوسط الحجرة ، تفرغ ما فى جوفها ..
    ظللت مستيقظاً حتى بعد أن صعدت أمى على السرير المقابل ، وجرعت ما وضعه أبى فى يدها من أقراص أدوية ..
    تناهى صوت أبى بالقلق وهو يقول فى تأثر :
    ـ لم يكن من المفروض أن تتناول عشاء دسماً ..
    أضاف فى قلقه :
    ـ مرض القلب يتطلب عشاء خفيفاً ..
    عدنا إلى الإسكندرية قبل ظهر اليوم التالى . اشتد المرض على أمى ، فلم تعد تتحرك من سريرها ..
    توالت الأشهر دون أن نسافر إلى دمنهور . ومضت ـ بعد رحيل أمى ـ أعوام كثيرة . لكن تظل فى ذاكرتى تلك الأيام البعيدة : شرب الحليب ، المشى فى الغيطان ، سماع أغنيات الأفراح . أستعيدها ، وأتمنى أن أعيشها ثانية ..
    تملكتنى نشوة وأنا أضمن روايتى " ياقوت العرش " ـ الجزء الثانى من " رباعية بحرى " ـ أغنية : ياللى ع الترعة حود ع المالح .. قلبى مستنى من ليلة امبارح .
    رد مع اقتباس  
     

  3. #15 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    * تعديـدة *

    ................



    خديجة توفيت ..
    كتب أبى البرقية ذات الكلمتين . بعثت بها من مكتب التليفونات بشارع فرنسا ، إلى جدتى وأخوالى فى دمنهور ..
    سبق صوات جدتى صعودها ـ فى مساء اليوم نفسه ـ على سلم البيت . وصل أخوالى فى اليوم التالى . أصر أبى أن نذهب إلى مدارسنا ، فلا نقعد فى البيت . لم تكن الجنازة ـ بعد عودتنا من المدارس ـ قد شيعت بعد . استضافنا عم عبد السلام الحلاق ، فى دكانه أسفل بيتنا ، حتى مضت الجنازة إلى مقابر العامود ..
    العادة أن يقتصر العزاء على ثلاثة أيام ، ثم تذهب الأسرة ـ فى الخميس الأول ، وفى أيام الخميس التالية ـ إلى العامود لزيارة الميت . حتى ذكرى الأربعين ، ثم الذكرى السنوية . ذلك هو الطقس الذى تحياه الأسر المصرية فى أعقاب وفاة أحبائها ..
    حين عرضت جدتى أن تودع المعددات أمى بكلماتهن الباكية ، امتزجت ـ على وجه أبى ـ مشاعر الضيق والرفض والغضب . كيف يقبل إنسان مثقف ذلك التصرف السخيف ؟
    طال اللجاج ، والأخذ والرد .. لكن رأى السيدة الريفية انتصر لتقاليدها ..
    افترشت المعددات ـ لا أدرى من أحضرهن ! ـ غرفة القعاد المطلة على المينا الشرقية ، والتصقت أردية السواد بالجدران ، وبين الأثاث . اختلط النحيب والصوات ودقات الدفوف . لا أتابع الكلمات ، ولا أعى معانيها ، لكنها تفرض فكرة الموت ـ فى داخلى ـ بتصورات قاسية .
    رد مع اقتباس  
     

  4. #16 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    * هات القزازة *
    ................

    لم يكن مضى سوى دقائق على تلاقى أذان الفجر فى أبو العباس والبوصيرى وعلى تمراز . حذرنا أبى من فتح الباب . ظللنا فى حجرتنا نغالب النوم والمفاجأة . تبينت صوت شوقى عويس . توقعت نفحة مادية : عشرة قروش ، أو خمسة وعشرين قرشاً ، يقدمها لنا ـ من وراء أبى ـ فى زياراته المتباعدة ..
    بدت العصبية فى صوت أبى :
    ـ أى خدمة يا شوقى أفندى ؟!
    سبقنا أخى فى النزول من السرير . فتحنا باب الحجرة الموارب . كان شوقى عويس يقف بقامته الطويلة ، الممتلئة ، على باب الشقة ، وأبى فى منتصف الصالة . وثمة ضوء شحيح من اللمبة السهارى فى مدخل الطرقة إلى الحمام ، احتوى الرجلين والكتب والأوراق التى ينشغل بها أبى حتى مطلع الفجر ..
    كان أبى يحرص على القميص والبنطلون إلى انتهائه من الترجمة . ثم يستبدل بها البيجامة ، ويتهيأ للنوم ..
    لم يكن شوقى عويس فى الهيئة التى اعتدت رؤيته فيها . نزع الجاكت وألقى به على كتفه ، وفك رباط العنق ، واتسخت ياقة القميص المفتوحة بلون كالدم ، بينما أطل الزر من مقدمة الطربوش ، وما يشبه القىء على بوز الحذاء . وكان يضع على صدره أكياساً مغلقة ..
    تقدم ناحية الترابيزة ، ووضع الأكياس المغلقة ـ أصلح بيئياً من بلاستيكات هذه الأيام ـ وقال فى صوت مترنح :
    ـ صحى العيال علشان نعمل زمبليطة !..
    سحب كرسياً وجلس . وجلس أبى فى الناحية المقابلة . تكلما عن دمنهور وأسعار القطن وأحوال الزراعة وأخبار أهل أمى فى أبو الريش وزيارات الرجل المتكررة إلى الإسكندرية . كان شوقى عويس يطلق ضحكات متقطعة ، ويتجشأ . وكان الاستياء ، وربما الغضب ، واضحاً على ملامح أبى ، فهو يعانى فى مجرد الرد على أسئلة الرجل ، مجرد الدردشة الكلامية ..
    كان أبى يحدثنا ـ عقب كل زيارة للرجل ـ عن قرابته لأهل أمى ، وأنه يحيا على ميراث من الأموال والعقارات والأرض الزراعية ، ينفقه على إقامته وسهراته فى الإسكندرية ، فلا يتردد على مدينته دمنهور إلا ليحاسب مستأجرى الأرض الزراعية والعقارات وأثمان بيع المحاصيل .. وكان أبى يشدد علينا ، فلا نأخذ منه أو نعطى ، ولا نقبل منحه المادية ..
    وعلا صوت شوقى عويس مدندناً :
    هات القزازة واقعد لاعبنى ..
    وأعاد الدندنة وهو يلون صوته ..
    طلب أبى من أختى أن تعد حجرة الضيوف ، وأمرنا ـ بنظرة من عينيه ـ أن ندخل حجرتنا ..
    صحوت على صوت اصطفاق الباب . حدست لرؤية حجرة الضيوف المفتوحة ، وانهماك أبى فى كتابة كلمات على ورقة كراسة ، أن الرجل ترك البيت ..
    همس أبى :
    ـ انت صحيت ؟
    ونزع الورقة من الكراسة :
    ـ ابعت التلغراف ده قبل ما تروح المدرسة ..
    أعاد لى موظف التلغراف ورقة الكراسة :
    ـ قول لابوك عم سليمان ما يقدرش يبعت تلغراف زى ده .. أبوك بيقول لواحد ماتزرناش وانت سكران ..
    وعلا صوت عم سليمان محذراً :
    ـ لما اشوف أبوك حاطلب منه يقول للراجل الكلام ده بينه وبينه !
    رد مع اقتباس  
     

  5. #17 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    * عروسة وعريس *
    .....................

    العريس كانت هى تسمية جار الطابق الثانى فى البيت المقابل ، والعروسة كانت هى تسمية زوجته .
    سهرنا إلى قرب الصباح نطل على الأضواء والزينات والأغنيات والزفة السكندرية الشهيرة : صلاة النبى .. صلاة النبى .. مالحة فى عين اللى ما يصلى على النبى ..
    لم تتبدل تسمية العروسة والعريس منذ صبحية الزفاف ، حتى أنجبا البنين والبنات . لم نكن نعرف اسمها أو اسمه . عرف التقاليد بأن ينتسب الأب إلى أكبر أبنائه فيسمى " أبو فلان " ، وتنتسب الأم إلى أكبر الأبناء فتسمى " أم فلان " ، حتى ذلك العرف نسيناه .
    ظلت تسمية العريس والعروسة ـ رغم تقضى الأعوام ـ هى التى ترددها أفواهنا !
    رد مع اقتباس  
     

  6. #18 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    * الحياة *

    .............



    أول أيام العيد ..
    أشعة الشمس تغيب ـ فى ذلك الصباح الباكر ـ وراء البنايات المحيطة بالمكان ، وتغيب الملامح الحقيقية . فى مواجهة محطة الترام مستشفى دار إسماعيل للولادة ، تلاصقها مقابر العامود . الحياة تجاور الموت . جهاز الراديو فى دكان بائع العصير ، على ناصية الميدان ، يضعنا ـ بالأغنيات التى يعلو بها ـ فى قلب المناسبة . ليست أغنيات بذاتها ، لكنها عن العيد ، وللعيد : القرنفل لعبد الحليم حافظ وفاطمة على .. الحلوة دى قامت تعجن م البدرية لشافية أحمد .. الورد جميل لأم كلثوم .. يا صباح الخير ياللى معانا لأم كلثوم أيضاً .. أغنيات اعتادت الإذاعة تقديمها فى صباح ذلك اليوم ، وألفتها ـ فى ترددى على مقابر العامود ـ على مدى ثلاثة أعوام أو أربعة ..
    يمسك أبى برسغينا ـ أخى وأنا ـ ويمضى إلى داخل المقابر . رائحة التراب تتصاعد بحركة أقدامنا ، وعلى الجانبين أحواش مفتوحة ومغلقة ، وشواهد رخامية ، ونبات صبار ، ومتسولون ..
    يقف أبى أمام باب منزوع المصراعين ، عليه لافتة : مدفن حسن جبريل . يلقى أبى السلام على الصمت ، ويدخل . الفناء الصغير أشبه بصالة مكشوفة ، والجدران تساقط طلاؤها ، وتآكلت بتأثير ملوحة البحر القريب ، وموضع النافذة خلا إلا من الحلق الخشبى . المستطيل الحجرى ـ أعرف أن أمى ترقد تحته ـ يتوسط الفناء . يدور أبى من حوله وهو يردد الفاتحة وقصار السور ، ونحن نكتفى بالتطلع الساكن ..
    يتجه أبى ناحية الباب . يطيل الوقوف فى المساحة الصغيرة على يمين المدخل . يعيد ترتيب قطع الحجارة التى سجى جثمان أخى الأصغر تحتها . ثم يقرأ الفاتحة وقصار السور ..
    تبحث يدا أبى عن رسغينا ، ويمضى نحو الباب الخارجى ..
    يطالعنا الميدان بزحامه ، وصخبه ، والأغنيات التى يذيعها الراديو ، تنقلنا إلى فرحة العيد .
    رد مع اقتباس  
     

  7. #19 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    * سباق القوارب *

    .......................



    أشار أبى إلى الطاولة التى كان يجلس إليها عم حسونة غباشى ، وقال :
    ـ أين الرجل ؟
    قال الجرسون عطية :
    ـ هزيمة قوارب السيالة أمام قوارب رأس التين ألزمته البقاء فى القزق ( ورش المراكب ) ليصنع قارباً يصعب تجاوزه !
    نشأت الصداقة بين أبى وعم حسونة فى توالى اللقاءات ـ صباح كل جمعة ـ أمام مقهى المهدى ، أسفل بيتنا . ينتظران خطبة الشيخ عبد الحفيظ إمام جامع سيدى على تمراز ، تجتذبهما كلمات الرجل ضد الإنجليز والسراى وأحزاب الأقلية . لا تشغله تحذيرات وزارة الأوقاف ، ولا تهديدات السلطة القائمة . آلاف المصلين يملأون صحن الجامع وخارجه . جموع من البشر يفترشون ميدان " الخمس فوانيس " وأجزاء من شوارع رأس التين وسراى محسن باشا وإسماعيل صبرى وفرنسا .
    من يضمن رد الفعل لو أن الأوامر صدرت بنقله أو إسكاته ؟
    كان عم حسونة غباشى فى حوالى الخامسة والأربعين . أميل إلى البدانة . فى وجهه استدارة تهبه طفولة واضحة . مشط شعره الخفيف بامتداد الرأس ليدارى صلعته . تدلى طارفا شاربه على جانبى فمه . له طريقة مميزة فى نطق الكلمات . يغلب التلعثم على نطقه ، فيصعب عليه التعبير عن نفسه . تتداخل الكلمات فى غمغمات غير مترابطة ..
    كان معظم حديث عم حسونة عن سباق القوارب . يجيد الانتقال من أحاديث خطب الشيخ عبد الحفيظ والسياسة والانتخابات والحرب الكورية إلى سباق القوارب . يعد له أبناء رأس التين والسيالة فى امتداد العام ، يبذلون كل قدراتهم لصنع قوارب تخوض السباق فى أول أيام عيد الفطر . يفوز أحدها بالمركز الأول ، فيحمله الرجال على رءوسهم ، وتعلو أصواتهم بالغناء . إذا كان القارب للسيالة ، ردد الرجال :
    قفة ملح وقفة طين على دماغ راس التين
    وإذا كان القارب لرأس التين ، ردد الرجال :
    سيالة يا سيالة ياللى ما فيكى رجاله
    صحبنى أبى ـ ذات عصر ـ إلى ورش القزق ، ما بين سينما السواحل وقبالة شارع الحجارى . بلانسات ولوتسات ولانشات وقوارب وفلايك . جديدة ، وقديمة يجرى إصلاحها ، وهياكل خشبية ، وروافع ، ومناشير هائلة ، وأدوات نجارة ..
    لم يخف عم حسونة ـ فى ترحيبه بأبى ـ تأثير المفاجأة ..
    رنا أبى إليه بنظرة مودة :
    ـ هل خاصمتنا ؟
    ـ أنت أعز الأصدقاء ..
    ـ إذن خاصمت الشيخ عبد الحفيظ ؟
    ـ لو كنت صوفياً لاعتبرته قطبى ..
    ـ فلماذا انقطعت عن صلاة الجمعة فى على تمراز ؟
    ـ أصلّى فى جامع طاهر بك بالحجارى . قريب من القزق ..
    ثم بلهجة أسيفة:
    ـ لابد أنك عرفت ما حدث . لن أضيع دقيقة حتى أصنع القارب الذى تعجز عن ملاحقته كل قوارب رأس التين !
    رد مع اقتباس  
     

  8. #20 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    * الفتـوات *

    ...............



    عرفت ـ من أحاديث أبى ـ أسماء فتوات الإسكندرية : حميدو الفارس وأبو خطوة والسكران والنجرو وغيرهم ..
    أفدت ـ فى روايتى " الأسوار " ـ من حكاية أبى عن حميدو الفارس لما كبس طربوش محافظ المدينة على رأسه ، وأفدت ـ فى " رباعية بحرى " ـ من حكايات الفتوات : الإتاوات ، قيادة مواكب الزفاف ، المعارك الدامية ..
    فى ذاكرتى أصداء من بقايا عصر الفتوات ، فى الموالد ، وسباق البنز ، وسباق القوارب ، ورقصة النقرزان ، ورقصة سيد حلال عليه ـ هذا هو اسمه ـ التى يتلاعب فيها بالعصا ..
    فى ذاكرتى مواكب الزفاف : يتقدم الفتوة زفة العريس . يهتف : يا ما انت صغيّر ..
    يستطرد الرجال الملتفون حول العريس : حلو يا عريس ..
    وتتعالى الأصوات منغّمة : الحارس الله والصلاة على النبى .. العروسة بنت حارتنا وعريسها فنجرى ..
    شاهدت ـ من شرفة بيتنا المطلة على ميدان الخمس فوانيس ـ آخر معارك الفتوات . حل الصمت إلا من تناثر الدماء ، وأصوات ارتطام الشوم بالرءوس والأجساد ، والصرخات ، والنشيج ، والأنات المكتومة ..
    أسفرت المعركة عن قتلى وجرحى ، حملتهم سيارات الإسعاف إلى المشرحة ، أو إلى المستشفى ، ونقلت سيارات البوليس من تصادف وجوده بالقرب من المكان إلى قسم الجمرك ..
    وانتهى عصر الفتوات .
    رد مع اقتباس  
     

  9. #21 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    * عفريت الليل *

    .......................



    كنا ـ بمجرد ظهور الرجل فى أول الشارع ـ نترك ما بأيدينا من لعب ـ كرة شراب ، بلى ، استغماية ، طائرات ورقية ـ ونتجه ناحيته ..
    تعلو أصواتنا : عفريت الليل بسبع رجلين ..
    نكرر الكلمات منغمة ، والرجل ذو الأفرول المتسخ يرمقنا بنظرة صامتة ، لا تشى بتعبير محدد . يحمل العصا الطويلة ، الرفيعة ، فى نهايتها ما يشبه السلك النحاسى ، يصله بالمصباح المطفأ من خلال فتحة الحاجز الزجاجى ، فيضاء . تأخذ العملية ثوان قليلة ، ثم يواصل الرجل سيره فى خطوات مهرولة نحو عمود إنارة آخر ، وهكذا ..
    كانت تسمية العفريت ظالمة ، فالرجل ضامر الجسد ، أسمر البشرة ، له عينان تداخلت فيهما الصفرة بالبياض ، وفم مفتوح تساقط معظم أسنانه . ولعل اتساخ أفروله ، أو لأننا لم نكن نراه إلا ليلاً ـ كان هو مبعث التسمية التى نضمنها كلماتنا المتعبة ..
    استطالت ظلال الغروب ـ ذات يوم ـ ثم حلت العتمة . تنبهنا إلى عدم قدوم الرجل فى موعده
    فى اليوم التالى ، ظلت المصابيح مطفأة . ثم طالعنا ـ فى اليوم الثالث ـ بشاب يمسك العصا الرفيعة ، ذات النهاية السلكية ..
    تجرأت فسألته :
    ـ أين ذهب الرجل ؟
    ـ ربنا افتكره ..
    وجرى فى اتجاه بقية المصابيح ..
    كتمنا الكلمات التى اعتدنا غناءها . ربما لمفاجأة وفاة الرجل ، وربما لأننا خشينا رد الفعل فى ملامح الشاب الجامدة !
    رد مع اقتباس  
     

  10. #22 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    * الربيع *

    .............



    قال لى صديقى ممدوح الطوبجى :
    ـ هل استمعت إلى أغنية فريد الأطرش الجديدة ؟
    هززت رأسى بالنفى ..
    قال :
    ـ احرص على سماعها .. أغنية جميلة عن الربيع ..
    ممدوح الطوبجى زميلى فى المدرسة الفرنسية الابتدائية بمحرم بك . والدته المطربة نجاة على ووالده ضابط كبير بالقوات المسلحة . كانت زمالتنا فى مستوى الصداقة . وكنت ألجأ إليه فى قراءة الإصدارات الجديدة . أعارنى عودة الروح للحكيم ، وعمرون شاه لفريد أبو حديد ، ومن النافذة للمازنى ، وقصائد صلاح جاهين الأولى ، وأعمالاً أخرى كثيرة . نتناقش فى الكتب التى أستعيرها . نتفق ونختلف . تبدأ مناقشاتنا فلا تنتهى ..
    الكرة التى صوبها ولد اصطدمت بأنفى كقذيفة ، فى وقفتنا ـ الطوبجى وأنا ـ تحت شجرة فى فناء المدرسة . أظهرت الغضب ، وحاولت أن أحتفظ بالكرة . أومأ الطوبجى برأسه كى أعيد الكرة فأتقى شر الولد ..
    قال الولد وهو يأخذ الكرة :
    ـ هات كده وانت وشك زى الديب !
    صدمتنى العبارة بأشد مما صدمتنى الكرة . تسللت إلى دورة المياه . أطلت تأمل ملامحى فى المرآة : هل أشبه الذئب ؟
    تركت مقعدى فى الترام ـ وأنا أعود إلى بحرى ـ للسيدة ذات الملاءة اللف . جلست وهى تمتدحنى :
    ـ يا حبيبى .. ابن ناس بصحيح !
    اتجهت إلى الناحية المقابلة ، كى لا ترى ملامح الذئب فى وجهى !
    رد مع اقتباس  
     

  11. #23 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    * هذا ما حدث *

    ....................



    قال عم جعفرى :
    ـ عند عودتك إلى المدرسة صباح السبت ، سأكون قد قرأت المجلة ، فأعيدها لك ..
    كان عم جعفرى هو حارس مدرستى الفرنسية الابتدائية الأميرية . فى شارع جانبى قبل نهاية شارع المأمون . تختلف عن بنايات المدارس الابتدائية ـ ربما لأنها أولى المدارس الابتدائية التى جعلت من الفرنسية لغة أولى ـ بطابع القصر ، وبالفناء الواسع ، والفيلات الملاصقة ، والهدوء الذى يحيط بها ، ووجبة الغداء الساخنة ، نهبط إليها فى مطعم البدروم ..
    كان عم جعفرى فى حوالى الخمسين . تشى لهجته بأصله الجنوبى . كنا نخطب وده بمناقشته فى الغناء الذى يحبه ، والأغنيات التى يستمع إليها فى الراديو الخشبى الصغير ، داخل غرفته المطلة على فناء المدرسة ..
    لمح فى مجلة " المصور " ـ وأنا أتصفحها وقت الفسحة ـ إشارة إلى حفل فريد الأطرش ، فى تلك الليلة ..
    قال :
    ـ اعطنى هذه المجلة ..
    اعتذرت بأنى اشتريت " المصور " لأبى ، وأنى ربما لا أجدها فى طريق العودة إلى بحرى ..
    ارتسمت فى ملامح الرجل خيبة أمل واضحة . حدثنى عن الحفل الذى ينتظره ، والأغنية التى أعلنت الإذاعة أن الأطرش سيقدمها فى الحفل ..
    لاحظ الرجل ترددى ، فقال :
    ـ مجرد أن أقرأ استعدادات الحفل ونص الأغنية ..
    قبل أن يسألنى أبى عن المجلة ، ادعيت أنى نسيتها فى المدرسة ..
    قال أبى :
    ـ المهم ألا تضيع !
    طالعتنى ـ صباح السبت ـ حركة لم أعتدها فى المدرسة ، وزحام أمام غرفة عم جعفرى ..
    فاجأنى الولد مرعى عبد المجيد بالقول :
    ـ عم جعفرى مات ..
    أضاف للذهول فى ملامحى :
    ـ أغلق على نفسه من البرد . خنقه فحم المدفأة وهو يقرأ ويستمع إلى الراديو !
    حين عدت إلى البيت ، سألنى أبى :
    ـ هل أحضرت المجلة ؟
    أدركت أن كرة الكذب الثلجية ستواصل التدحرج . قلت وأنا أتهيأ للبكاء :
    ـ عم جعفرى مات ..
    امتزج فى نظرة أبى عدم الفهم ، والإشفاق على ما بدا أنى أعانيه .
    رد مع اقتباس  
     

  12. #24 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    * زمـان *
    ........

    لما أصر جيران الطابق العلوى على أن تغنى شقيقتى الكبرى فى السرادق المقام فوق السطح ، ووافق أبى ، أدركت أن هذه هى الفرصة التى طال ترقب شقيقتى لها . كانت تحب الغناء . تكتفى بالدندنة الهامسة . إن علا صوتها بالانسجام ، نهرها أبى : بس يا بنت !. بعد رحيل أمنا ، وجدت نفسها مسئولة عن البيت قبل أن تبلغ الرابعة عشرة . تنازلت عن الكثير من طموحاتها ، ومنها أن تمضى فى خطا ليلى مراد ، فتصبح مطربة مشهورة ..
    كان أبى مثقفاً ليس بمجرد الحصيلة المعرفية ، وإنما باستنارة آرائه ، وإلحاحه الدائب على المثل الأعلى ، والأكثر جدوى لجماعة الناس . ولم يكن يخفى إشفاقه من المسئولية التى بدلت حياة شقيقتى فى سن باكرة .. لكن السير فى حقل الألغام المسمى " الفن " ـ هذا هو التعبير الذى يحضرنى ـ كان يزعجه . ألمح الإعجاب فى تعبيرات وجهه بدندناتها الآتية من المطبخ . فإذا تحولت الدندنة إلى غناء حقيقى ، أسكتها ـ من موضعه ـ بنبرة حاسمة ..
    فاجأت أختى ـ وفاجأتنى ـ موافقة أبى على أن تغنى فى حفل الجيران . تصورت الحفل مناسبة لتقديم الصوت الجميل . ينصت إليه من يعجب به ، فيقتنع أبى بأن تسير فى الطريق إلى نهايتها ، وتصبح ـ كما كنت أتمنى ـ فى مكانة مطربتنا المفضلة ليلى مراد ..
    وقفت فى آخر السرادق ، أنصت إلى غناء أختى : اتمخطرى واتمايلى يا خيل . أعتبر استعادة الحضور اعترافاً بجمال صوتها ، وإن لم يجاوز ما حدث حفلاً حضره بضع عشرات ، غالبيتهم من ربات البيوت والأطفال ..
    تزوجت شقيقتى ، وأنجبت ، وعملت مدرسة فى ليبيا مع زوجها مهندس البترول . تزور الإسكندرية فى إجازة الصيف . نتذكر ما كان .
    أقول لها مداعباً :
    ـ لا أستغرب أن تكون ليلى مراد تآمرت عليك ، حتى لا تأخذى مكانتها !
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للروائي الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 20
    آخر مشاركة: 04/08/2008, 02:12 PM
  2. النص الكامل لرواية «ذاكرة الأشجار» للروائي الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 24
    آخر مشاركة: 13/07/2008, 08:24 AM
  3. النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 25/01/2008, 07:26 AM
  4. النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 18
    آخر مشاركة: 23/12/2007, 10:20 AM
  5. النص الكامل لكتاب (شيخ القراء:محمد تميم الزعبي ...المقرئ والمكتبه)
    بواسطة عبدالله خليفه في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08/12/2007, 05:09 PM
ضوابط المشاركة
  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •