د. وليد الصراف‏ ...


شاعر عراقي ...












كان ذلك منذ خمسة عشر عاماً، لا أدري كيف تبينتك أو تبينتني في متاهة الدهر المظلمة، كنا ما نزال طالبين في الإعدادية لا نرى غير الشعر، وكنا التقينا قبلها بسنوات لقاء عابراً، ودارت الأرض، وقلنا إنها دولاب يدور بأطفال في يوم عيد، وسرينا، لا نرى غير الشعر ولا يرانا غير الشعر، ودارت الأرض، وقلنا إنها درويش يدور في حلقة ذكر منتشياً بما قال وسمع، واستمر السرى، وأسلمك- ونحن معاً- إلى كلية الهندسة وأسلمني إلى كلية الطب، وأحببت وفشلت، ها أنا على أديم هذه اللحظة ألتفت لأراك وأنت في تلك اللحظة، لأرى مرارتك تزداد وشاعريتك تعمق، كانت جراحك أكبر من جراحي مذ اضطرك الفقر المدقع للعمل وأنت طفل في السابعة، وها أنت تدرس الهندسة مستمراً في العمل ذاته، فاشلاً في الحب تكتب الشعر، ودارت الأرض وتخرجت من كلية الهندسة وأنت من العشرة الأوائل، وبقينا نسري لا نرى غير الشعر ولا يرانا غير الشعر، وكنت تحس بالمزيد من المرارة وأنت الشاعر الشاعر حين ترى صغار الشعراء ملء السمع والبصر، وكلما ازدادت المرارة ازدادت الكبرياء وكلما اشتد الظلام اتضحت الرؤيا، ودارت الأرض ولم نعد أطفالاً فقلنا إنها غانية تدور في مبغى الفضاء، سكرى بما احتست من دماء، وبقينا نسري، وضربتنا العواصف من كل اتجاه فجعلتني أوغل في الشعر ووجدت المرأة الوفية التي ستتزوج، تزوجت وتركت الشعر لتعيل امرأة وطفلين، وما إن فزتُ بإحدى المسابقات القطرية حتى كان ذلك حافزاً لك للعودة إلى الشعر وفي فترة قصيرة أراك تفوز بلقب شاعر شباب نينوى الأول، والتفت لأقارن بين محمد البياتي الطالب ومحمد البياتي المهندس الذي يعمل الآن بقالاً ثم سائق تكسي لأرى جراحاته أكبر من أن يحتملها جسد بشري، والتفت- وأنا رجل كثير الالتفات إلى شعرك فأراه تطور كثيراً. لقد بدأت شاعراً عمودياً ثم اتجهت إلى التفعيلة، ثم قصيدة النثر وها أنت الآن تعود إلى العمودي وقد أخذت من التفعيلة والنثر ما ستعطيه للعمودي، وبقينا نسري، نلتقي بأناس يشبهوننا: عبد الرزاق عبد الواحد، معد الجبوري، عبد الوهاب إسماعيل، نجمان ياسين، رعد بندر، فضل فاضل، إسماعيل حقي، مضر الألوسي، جاسم الدليمي، محمد البغدادي.. وبقينا نسري، وحصدت معي قلادة الإبداع في مهرجان أبي تمام القطري ولفتَّ أنظار شيوخ وشباب الأدب في العراق، وقرأت في المربد ولفت أنظار الأدباء العرب وأعجب بك الأدباء الجزائريون والأردنيون والمغاربة إعجاباً لا يمكن أن يحيط به وصف، وتطلب مني أن أقدّمك إلى د. علي جواد الطاهر فأتمهل وتلتقي أسبوعياً في لقاء مع عدد محدود من الشعراء الشباب، مع الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في الوزارة ومع الشاعر رعد بندر في بيته، وتتمخض الندوات عن تنظير لا يقلّ شأناً عن شعرك، وتعلن في لقاء تلفزيوني على هامش مهرجان المربد مع الأستاذ حسن عبد الحميد في برنامج الثقافة والصحافة انحيازك التام إلى الشعر العمودي وتفكر في الاستقرار ببغداد وتدعوني بإلحاح وأستجيب لولا.. ونبقى نسري غريبين- رغم كل ذلك- في تيه مظلم أضاعت الشمس عنوانه إلى الأبد ومسخ الانتظار الطويل ديوكه إلى غربان، لم نصل المال، لأننا لم نركض باتجاهه، كنا نركض باتجاه الطلول وعقارب الساعات العاطلة، والأنهار التي جفّت، ودارت الأرض، دارت ودوّختنا معها، وفجأة أتلفت فلا أراك وأطيل الالتفات وأنادي وأطيل المناداة، أين أنت يا أبا عمر، كتب علي أن أكمل الدرب كما بدأته وحيداً منفرداً، دامعاً كعقرب ساعة يسير ضد الزمن، أجهل من أكون وأين أنا وفي أي عصر، أأجهل أأنا في ظلمة رحم أم ظلمة قبر في ميلادك أم تأبينك؟.. إنّ الندم يقتلني يا محمد وأنا أقدم ديوانك إلى د. علي جواد الطاهر الذي طلبت أن أقدمك إليه حيّاً، وها هو يكتب عنك ما لم يكتب عن شاعر، لقد تساءلتُ في بداية حفلك التأبيني أنحن في ميلادك أم تأبينك؟ وبعد أن قدمت أصدقاءك ومحبيك من الشعراء والنقاد إلى المنصة أجبتُ على السؤال.‏


- إنني لابد في ميلادك يا محمد وإن لم تصدق اسأل د. علي جواد الطاهر وعبد الرزاق عبد الواحد حسين آل ياسين.‏



اسأل كل من قرأ وكل من أصغى يجيبوا أنه يوم ميلادك أيها الشاعر العظيم وبمجرد أن أغادر المنصة سيكون قلبك قد دقّ دقته الأولى فلنصفق جميعاً لهذا القلب الذي سيبقى يدقّ حتى الأبد.‏