بقلم: الدكتور علي جواد الطاهر



محمد البياتي شاعرٌ ولاشك، لم أعرفه في حياتهِ، ولم أعرف شعره لضعفٍ في وسائل الاتصال، ويأسٍ من الظفر بجيد.
وكان الجهل بمحمد البياتي عيباً في الجاهل، أما هو فقد أدى الذي عليه شعراً ليبلغ فيه مبلغ الروعة والأصالة متخذاً لهذه الأصالة مادة من العصر نفسه ملتقية ابتداءها بما في نفس الشاعر من همّ يحتوي الإنسان كياناً ومصيراً.
وما فات الجاهل به حيّاً، قد يعوّض عنه بمتابعة ما تركه وراءه ميتاً..


***


كان الراحل الشاب قد نسّق ثماني قصائد من شعرهِ وكأنه يعدها لديوان يصدره حينما يتكامل، وحينما تتهيأ فرصة للنشر.
نقرأ هذه القصائد. فتوحي إلينا بالكثير الكثير مادةً وجوّاً.
وأول ما يطالعك منها الدليل القاطع على أن الفتى قد جهّز نفسه قبل الإقدام على النظم- بالمهم مما يلزم فتى يطمح إلى أن يكون شاعراً من قراءة التراث قراءةً إعجاب وتأثر وحفظ للروائع فيه، ومن ثروة لغوية ومعرفة كافية بنحو اللغة وصرفها- في تواضع وحب للتعلم وتشرب للمادة.
خطوة لابد منها، خطاها بتوفيق..
خطوة المحاولة والتدرب على مسك القلم ونظم ما يمكن في وزن يجب أن يكون سليماً، وقوافي يجب أن ترد متمكنة.. تطلعاً نحو الأحسن حين تكون في النفس بذرة للأحسن.
وتكمن هذه الخطوة في ضربٍ من المعارضة من نظر مستديم في قصائد سائرة، وعمل على الاتيان بالمثل من دون ادعاء إلى التفوق أو الإتيان بالمثل.



ومن هنا كان "الطلل" اللاميه:




نامت كأفعى رياح الدهر عن طللي



ونام ملكي كأجفان بلا مُقَلِ





وهي معارضة تشي بنفسها للاميه الطغرائي:





أصالة الرأي صانتني لدى الخطل



وحلية الحلم زانتني لدى العطل





المعارضة تتضح بالبحر البسيط والقافية اللاميه المجرورة وبكلمات بعينها: المقل، الزلل، الأمل، الأجل، رجل، البلل، الأول.
ويجمع بين اللاميتين- كذلك- الروح الطاغي والتألم والغربة.. أما الفارق ففي روح العصر، والحزن الشخصي الذي استحال تشاؤماً، وصور واستعارات من نوع "نوم الرياح" و"أجفان بلا مقل" و"العمر بعض سرابات من البلل" و"الطلل" وكأن فيها تأثراً بأبي تمام.
وإذا كانت "لاميه الطغرائي"- وكما هو طبيعي- أساس انقياداً لصاحبها فإن في لاميه محمد البياتي إشارة إلى مشاعر، وهذا كافٍ لصاحبها في محاولته.
لمحمد البياتي من الطغرائي لاميته فقط، وله من المتنبي قصائد معينة تترك في قصائده نبرة منه، وله منه ديوانه كله في روحه الطامحه وأساه على أنه لم يبلغ ما يريد، والدهر العاثر بشخص يريد أن يكون ذا أثر، وتنساق خلال الشعر أشعة من هذا الشاعر العظيم. ويبقى فارق العصر، وفارق بين رجل طامح لنفسه أولاً، نثر بدائعه على فلان وفلان في سبيل الحصول على الجاه و"الصيت" وانصياعاً لتقاليد سائدة.. ورجل طامح لمجتمعه أولاً ووطنه وأمته وإنسانيته، طالب السعادة لبشر كلهم، ناقم على الشر كله بسبب من ذلك المطمح والمطلب.
(إن الشاعر الفتى يحمل همّ الإنسان ويفلسف الهم من هذا المنطلق- ومن هنا يأتي الطابع العام بشعره والطابع الخاص بالشاعر.
فأي فتى فرد هذا الذي يعالج بؤس البشر مجتمعين. ويألم أشد الألم لما هم عليه، ويستحيل الألم شعراً حزيناً يتمنى في قوته أن يستحيل فرحا فلا يستطع وأنى له ذلك وسبل الخير مسدودة بوجه الخير، واعلام الظلام منشورة فوق الظلام، ولا تكاد النظرات تنفذ من خلال تلك الحلْكه لترى ما تستريح إليه من شعاع الضوء فيهش المرء له ويبشر به ويجد فرصة للفخر).
يبقى المتنبي الشاعر الأكبر والشاعر المؤثر وليس قليلاً أن يستكبر، وليس كثيراً أن يُهتدى بشعره. وإذا رأينا وزناً وقافية من قصيدة للمتنبي. ولتكن



بم التعلل لا أهلٌ ولا وطن



ولا نديمٌ، ولا كأس ولا سكن





في نونية لمحمد البياتي سمّاها "معلقة القادم" وافتتحها بقوله:




لا ينتهي زمني لو ينتهي الزمن



مهما تقادم في حلق الردى كفنُ






فإن نونيه محمد البياتي وحدة في التشاؤم من أجل التفاؤل.
وإذا رأينا وزناً وقافية من لاميه المتنبي هي:





لياليٌ بعد الظاعنين شكولُ



طوالٌ وليل العاشقين طويلُ





في لامية لمحمد البياتي سمّاها "ما قاله زرادشت قبل أن يتكلم" ومطلعها:




أنا بينما أنت القتيل قتيلُ



ورداك بعضٌ من رداي قليلُ





فإن لامية البياتي وحدة في أقصى التشاؤم الذي يمليه الإنسان على الإنسان "فالبقاء رحيلُ" والزمن صورة رهيبة "لموتٍ يروي ظامئاً" و"تعطش الدماء".




زمني كأفواه الجراح معطشٌ



وعلى الخناجر ماؤها محمولُ






تُسقى، فيشرق موتها ونصولُهُ



تروى فتظمأ في الجراح نصولُ






ولامية محمد البياتي هذه أحكم نسجاً من نونيته وأرسخ قلماً وأكثر انسياباً، إنها قصيدة محمد البياتي موحدة الشعور، فالهم همه، والجراح جراحه، والزمان زمانه، والناس ناسه، وكل ما فيها عميق في نفس الشاعر، واسع يتسع للإنسان أنّى كان تألماً على ما هو فيه، ويأساً بسبب من سبب هذا الألم الذي لا أمل وراءه فهو يأسُ متصوّف قعد به "الوصول":





من ألف عامٍ والنياق على المدى



تسري وليس إلى الوصول سبيلُ





ومع هذا، ولهذا، فإن المصدر الأساس لعمق اليأس هو الطمع بأن يكون للإنسان أمل، والطموح به إلى أن يجتاز المحنه، وإلى أن يكون هذا الإنسان على ما يليق به.
وإذ تعين الشاعر موهبة صادقة يبدأ بتخفيف التأثر- على إعجاب وتقدير لمن يتأثر بهم، ويقل في نسجه ما يُشعرك بالتلكؤ أو التلبّث، ويطول النفس وتقترب الصورة العصية.
وهذه نونية أخرى سماها "آخر معلقة للغفران" يبدؤها بالخطاب:




وقفٌ عليك من الرحيل شجونُها



ومن الطلول الدراسات حنينها





على أنه لا يقدم الخطاب ساذجاً، فهو خطاب وغيبه في آن واحد، يمتزج منه النفس بالآخر والآخرين ممن يجمعهم مصير مؤلم واحد؛ ويستمر- على ذلك- من دون إملال. وإذا يقترب من النهاية يعرب عن ضمير المتكلم، ولكنه ضمير ليس ساذجاً فهو المتكلم والغائب ليعود إلى ما بدأ به من ضمير المتكلم المركب.
وتعبيراته كلها خاصة به، وخاصة بالحال التي هو عليها في موقفه من الإنسان وموقف الإنسان من القضاء والقدر.. ويتساوى لديه فيه الحي والميت.
وتتوالى المجازات التي تغلب عليها الاستعارة المكنية من "لحم الغيم" و"اليمين التي تكذب " و"التين الذي يمتص حياتهُ الزيتون" و"الأرض التي تقيء بطونها موتاها" و"الزوبعة التي تفتض بكر القبور" و"السنين المتشبثات بالثرى" و"العيون التي تتصخّر".
وتتوالى الألفاظ التي يناظر بعضها بعضاً حتى لو جاءت متضادة: الرحيل والطلول، الأسد والعرين، موسى وفرعون، اليسرى واليمين، نوح والسفينة، القافلة والظعن السيف والجراح، الميت والجنين.
ويمكن للإنسان أن يجد كثيراً من مواد "البلاغة".. وكثيراً من مفردات اللغة غريبة مرة ومألوفةً مرة. قادمة من عصور سحيقة حيناً ومعاصرة جداً حيناً- وقد يلحظ القارىء في هذه اللغة وتلك البلاغة إعجاباً بأبي تمام.
ولكن هذه الأمور كلها لا تكون في حال إفرادها بلاغه الشعر ما لم تنسجم مع بعضها مشحونة بمشاعر صاحبها- كما هو الأمر هنا- حيث ألم الشاعر الطاغي الذي لا يدعه يفلت ليستحيل خطابة أو بكاء رخيصاً دون ضغط واستصفاء.
إن "معلقة الغفران" هذه قصيدة من نسج محمد البياتي لعواطفه الحزينة ممتزجة بمصير محيطه وبمصير البشر. وربما شامَ خلال اليأس شعاعاً من أمل بعيد يلمح إلى أمل قد يكون ضئيلاً، وقد يكون محط غموض، ولكنه يمكن أن يكون أملاً:





ما أنت إلا غزوةٌ مسبيّةُ



فكن التي يوماً أرَدْتَ تكونُها





ثم يتجلى أكثر:




كنْ فسحةً صُغرى يمرُّ خلالها



ومضُ الشعاع لتستبين ظنونُها






لقد تقدَّم الشاعر خطوة مُهمّة في الاستقلال، ولكن القارىء، بعد انسجامه مع المشاعر المعروضة بما يدعوه إلى الانسجام، يمكن أن يلاحظ أن الشاعر ما زال يرتضخ شيئاً من عنت التعبير، وكأن المشاعر والأفكار لديه تسابق أحياناً الحروف (كما يحدث لأبي تمام):





كم جربتْ فيك المنيّةُ سيفَها



ونعى بنعيكَ فقدها تأبينُها






حانت بك الآمال لما اخترتها



وهي التي ما حان يوماً حينها






ولكن لابد من اجتياز هذه المرحلة.. ولابأس من توقف بين قصيدة وقصيدة تمثلاً بتجربة جديدة وتخميراً لتجربة- سابقة وتهيئة لجوٍّ مناسب بعيداً عن العجلة والارتجال والركاكة، فالشعر هنا شعر جو، ووحدة في الجو، وطبيعة تستلزم انتظار "درجة الاتقاد".. وها هي ذي الساعة تدنو، وها هو ذا الوحي الذي يوحي.. ذوباً للأحداث والشخوص في بوتقة الفكر المتأمل المشبّع بالمشاعر.
وها هي ذي بائية عنوانها "معلقة الفارس" وهي كما الشأن فيما سواها من القصائد: حزن وأسى ولوعة.. وسيادة للرعب من مصير البشر الحاضر والمقبل ولكنها تشديد خاص على "الموت"- والموت موضوع سائد منبث في البائية وغيرها لأنه داخل في معنى المصير- ومنذ المطلع:




على مثلها الأيام وقفُ ركابها



وغصَّة حاديها ونوحُ غرابها






كأن الطلول الشائخاتِ عوانسٌ



ينحن على مرِّ العصور ببابها





وتختلط الأيام بالطلول العوانس، ورابطها المستحكم: الموت في صور مختلفة. وينتقل من الغيبة إلى الحضور، فتتنوع النبرة، ويسد الباب بوجه الرتابة.
قلتُ ينتقل، ولكن إرادة الانتقال خفية، وصور الموت هي التي تنتقل، شأن الصور الأخرى التي تؤلف عالماً واحداً يوحي ويستثير دون أن يحدد. وها هي ذي الطفولة تتقدم، وطفولة الشاعر قصيرة جداً فما أسرع ما يُذبح الأمل وما أسرع ما يتضح الوهم.
ويمضي في خطاب للذات طالباً عودة للحظات خلت من الهموم:





وياكلَّ أزمان مضت دون رجعة



أعيدي إليه رشفة من رُضابها






أعيدي إليه ساعة كان ينزوي



بنفسه خلواً من هموم أصحابها






كأي مليك غرّه الدهر فانبرى



يشيد جبالاً من فتات هضابها





وأمنيته في ذلك عابرة، يعجّل "فارس الموت" بطيِّها.. وتُسرع "أفعى الظلام لخنقها. ويظل الشاعر- أقصد الشعر- يمازج بين الغائب والمخاطب، وهما واحدٌ موحَّد في ذاته. وذاته موحدة في الإنسان.. ليصل في ذلك إلى أقصى ما يصل شاعر إليه:





ويوم يُريبُ اللّهَ ما كان خالقاً



وتكتشف الأخطاءُ كِذْبَ صوابها





سَمِّها "سياحة" بين "القبور" الناطقة، وبين المصائر المرعبة، و"السائح" يرى نفسه على الغاية من الهوان، ويرىعمره على الغاية من القِصَرْ، ولا يعدو تمنيه العودة إلى الطفولة تمني اليائسين- قلتُ "سياحة" وما هي بسياحة، وقلتُ "سائح" وما هو بسائح..

إنها توحد في مصير أسود، وإنه حيٌّ ميت..


***


إنَّ "معلقة الفارس" عمل شاعر كبير.. يتلاعب في "مهارة" بالموت والحياة ما لم يسبق لشاعر أن يبلغ هذا المبلغ.. إما لضآلة في شاعريته وإما لضآلة في عمق فكره وشغل نفسه بالأحداث والأشخاص وإما لقِصرٍ في نَفسَه الفكري فتأتي الأبيات عابرة ضمن معلقة أو قصيدة..
أما هذه- معلقة الفارس- ففي ثمانين بيتاً، أجل، هي في ثمانين بيتاً في وحدة تُقرأ فَتُسْتَحْسن وتُستطاب وتؤثر بسبب ما يبثه فيها صاحبها من تأثر، وما يُشيّده من صور غريبة على القارىء مألوفة لدى الشاعر، فهو يعالج الصعب في تمكّن حتى يسهل وكأن الصعب يعالج نفسه، ويدير الأمر على قطبه في براعة تبدو طوعية فتوحي أكثر مما تباشر..
.. هذا بعض من "مناقب" "معلقة الفارس"...
ويكاد "الديوان" أن يكون قصيدة واحدة، حتى ما كان منه معارضة صريحة أو ما يشي بالمعارضة، وما قاله قبل أن تصل دواعي القول فيه إلى "درجة الاتقاد" فجاء على قدر ملحوظ من الركاكة أو التكلف "مرثية لجنداري، الحسين، أبو تمام).
الديوان يكاد أن يكون قصيدة واحدة في معنى الغيرة على الإنسان، وتصوير الضلال المحيط به معاصرةً وماضياً حرصاً على أن يكون كما يجب له من الرقي، وكما يجب عليه من السعادة العامة. لأن تشاؤم الشاعر لم يكن من أجل التشاؤم، بل من أجل أن يتشبث بخيط من التفاؤل حتى لو غاب هذا الخيط بين ركام الأسى والمصائب..
إن تشاؤمه ليس فردياً أو أنانياً، وإنما هو للإنسان فيما هو عليه من بؤس وفيما يجب أن يكون- بعد الخلاص- عليه مما يليق به.
وهذا كله أكبر من أن يُنسب إلى شاب في مقتبل العمر يفترض فيه الإقبال على مباهج الحياة، هو أكبر، ولكنه ليس أكبر من نابغة يعرب صادقاً عن حال ترفع من شأن صاحبها حين يكون عليها وحين تكون فيه، فتمنحه- على ما له من موهبة- قدراً صالحاً من الأصالة، تهيئةً لقدرٍ أكبر حين يُذيب القتامة شعراً ويحيل الأحداث وحياً؛ فإذا به ينبض عن فلسفةً شاملة..
"الديوان" قصيدة واحدة، وإذا كانت "ما قاله زرداشت قبل أن يتكلم" و"آخر معلقة للغفران" و"معلقة القادم" متميزة في الإعراب فنياً عن الروح السائدة، فإن "معلقة الفارس" تعلو تميزاً، وتزيد فناً، وتدل دلالة قاطعة على أن مبعثها موهبة صادقة.
فهي نادرة في أدبنا العربي.. لاستغراق في نفسها وانسجام في تكوينها ينسيك أنها مؤلفة من أبيات، ويُسر في إخراج المعقد سلسلاً، فهي مؤهلة للدخول في مجموع المختار من الشعر.
إنها مما يصعب تلقيه على هذه الهيئة من شيخ مارس الشعر طويلاً، فكيف وقد "أتت تجرر أذيالها" من شاب لم يتعد الثالثة والثلاثين.
وربما كان ورود مثلها عن مثله سبباً من أسباب الرحيل المبكر، ففارق الشاعر دنياه فتىً مثقلاً بحزنه العام الذي استحال حزناً خاصاً بما تقتضي نفس مرهقة يرهقها القيد أنّى تحركت ويكربها الجور أنّى توجهتْ ويقلقها الإنسان واقعاً ومصيراً.
مضى.. ونحن بانتظار ما يشفع "معلقة الفارس" بأختها..
مضى، ويكفيه أنه صاحب "معلقة الفارس"..




د. علي جواد الطاهر
((بغداد في 1/2/1996))