رسائل أدبية
حوار لغوي حول القديم من العربية والعصري

حوار اقتبس من مجموعة من الرسائل المتبادلة على مدى خمسة عشر عامًا 1912ميلادية – 1927ميلادية بين العلامة العراقي المسيحي الأب أناستاس ماري الكرملي والعلامة المصري المسلم أحمد تيمور باشا، وسنقتصر في الاقتباس على بعض القضايا المتتعلقة باللغة العربية، واستخداماتها القديمة والحديثة.
الكرملي: أود معرفة سبب إهمالكم تنقيط الياء إذا وقعت في آخر الكلمة، نعم قد ذهب الأئمة إلى جواز استعمال الوجهين غير أني لا أرى هذا الرأي، فإن في ذلك ضياعًا للوقت، فلو أراد قائل أن يقول أرى أن رأي فلان غير ما رأى الآخر فإن التنقيط هنا يبعد كل إبهام أو إيهام، ويحول دون إضاعة الوقت في تقليب أوجه القراءة.
تيمور: رأيكم هو الصواب جزاكم الله خيرًا على تنبيهي إليه، وسأتبعه بعد ذلك وإن كان مخالفًا لما هو عليه أهل ديارنا مصر، فقد درجوا على عدم نقطها وأظن أصله من التساهل.
الكرملي: ما قولكم في كلمة برضو المصرية العامية بمعنى أيضًا؟ قيل هي تحريف بأرضه وعندي أنها تحريف بعرضه فما رأيكم؟
تيمور: الأقرب أن تكون كلمة برضو أو (بردو العامية محرفة عن بأرضه والبعض يرى أن الأقرب أن تكون محرفة عن الكلمة التركية بردَه المستعملة بمعنى أيضًا والمختصرة من كلمة بردَخي).
الكرملي: استحسن كتابتكم للأعلام الإفرنجية المؤنثة بهاء في الآخر، كأوروبه ومرسليه ولندره مثلاً وهذا يؤيده ما فعلته العرب عند نقلها الأعلام الإفرنجية مباشرة لا عن طريق السريان فإنهم كتبوا صقلية وانطاكية ورومة وإنكلترا وارلندة. وأما الإعلام المنقولة عن لغة السريان فإن العرب كتبوها كما يكتبها السريان، أي بالألف، كحيفا ويافا وبكيفا، ومع ذلك أجازوا كتابتها بالهاء فيقولون: يافه وحيفة؛ لكنهم لم يجيزوا الوجه المخالف لذلك، فلم يقولوا سوريا وإن أولع بها كتاب مصر والشام، ولم يقولوا صقليا و(أنطاقيا لا أعلم معنى هذا التمسك من جانب العرب العصريين بأوضاع السريان ومخالفتهم لأوضاع السلف الصالح.
وصلني كتاب وميض الروح من تأليف ابنكم المرحوم محمد تيمور كنت أحب أن أرى فيه (درام مترجمة بفاجعة، ودراماتيك بفاجع، وكوميدي بأضحوكة، وكوميك بمضحك، وتراجيدي بمأساة)، إلى غير هذه الأوضاع، حتى ننزه أقلامنا عن الرطانة والعجمة هذا رأيي وإن كان يكرهه المتفرنجون الذين ينعون على اللغة العدنانية فقرها وقصورَها عن تأدية حاجيات العصر وحاشا أن تكون كما ينعتونها ظلمًا وجهلاً.
تيمور: ما أشرتم إليه من ضرورة وضع مرادفات فصيحة لما هو أعجمي فهذا رأيي ومذهبي الذي عليه درجت وعليه أبقى وعليه أموت، وقد كان سببًا للمشاحنات التي وقعت بيني وبين أعضاء المجمع اللغوي المصري الأخير لما كان موجودًا لأن أغلب الأعضاء كانوا من المنتصرين للعامي والأعجمي، ولم يكن على هذا الرأي غيري وغير حنفي ناصف وأحمد الأسكندري، فكنا نلاقي الأمرين من البقية (... )كأن الناس لا ينقصهم سوى طبع هذه الألفاظ بطابع المجمع.
الكرملي: كثيرًا ما تكتب إلي مثل هذه العبارة إنني كتبت للأستاذ فلان فهل ورد عند الفصحاء كتب له وفي أي كتاب؟
كذلك تقول أرسلتها وقد سرح السلف أنه يقال أرسل رجلاً لأنه ذو عقل ويذهب بنفسه وقالوا أرسل بكتاب فهل وجدت في مؤلف فصيح ما يخالف هذا الاستعمال؟ وتقول اذهب لقبَّة الغوري بمعنى إلى قُبَّة الغوري، فهل وجدت له شبيهًا في كلام بلغائهم؟
وقلت: وعسى أن نوفق فيها والذي أعلمه أنه يقال: يوفق لها. وكتبت تحتاج لذلك فهل وردت تحتاج مصحوبة باللام أم بإلى؟ أرجوك الإفادة.
تيمور: أشكرك يا سيدي كثيرًا على ما نبهتني إليه من السقطات، لكني أرى أن لبعضها وجهًا ولولا ما أنا فيه من الحل والترحال لذكرته لك.
الكرملي: (...) وكيف يحاول هؤلاء الناس النهوض من كبوتهم وهم يعادون لغتهم ولغة آبائهم، (...) وكيف يجرؤون على الانتساب إلى عدنان وهم يكرهون لغته؟ (...) سبق لي أن بينت وهم وغلط الذين ترجموا كلمة انسكلو: بيدية بدائرة المعارف، أو بموسوعة العلوم، وإني أوافقك على تفضيل كلمة المعلمة لما يتدفق فيها من خفة اللفظ وشروط التعريب. كذلك أفضل عبارة مجمع اللغويين على المجمع اللغوي، فالمجمع اللغوي يفيد أن هذا المجمع يبحث في الأمور اللغوية وقد لا يكون أصحابه لغويين، فربما كانوا علماء في العلوم والفنون من دون أن يتفرغوا للغة. وأما مجمع اللغويين فيفيد أن المجمع مؤلف من علماء لغويين ويتباحثون في اللغة وبين المعنيين بون بين.
إن قتل المصطلحات والمسميات العلمية والفنية المقتبسة من اللغات الأوروبية والانسكلوبيدية من جملة هذه الكلمات في مهدها خير من قتلها بعد أن تتمكن من كتابنا وكتبنا وهذا ما فعله الأدباء في عصر العباسيين فإن الاسطرنوميا والارثماطيقي والجومطريا والميخانيقي والبيوطيقي ونحوها، كلها ماتت في عصر العباسيين، وكانت قد نشأت في أول عهد العرب بالتعريب فقتلتها ألفاظ علم الفلك والحساب والهندسة إلى آخره، وهذا ما فعله أيضًا المعاصرون الذين قتلوا الجرنال والغزِطة والبالون والآروبلان والاتومبيل، واليوم يعرف الناس كلهم الجريدة والصحيفة والمجلة والمنطاد والطيارة والسيارة إلى غيرها من المخترعات العصرية. إن الغيور على لغته كالغيور على ماله لا يجب أن يتصرف فيه كل رائح وغاد.
وأما وضع ثلاثة ألفاظ للكلمات الإنكليزية Diplomacy, Satesmanship, Policy فقد وضعت لها منذ نحو عشرين سنة ما يقابلها كل المقابلة فالسياسة مشهورة في القديم للكلمة Policy وأما Statesmanship أي السياسة العليا للمملكة أو البراعة في إدراتها، فالعرب قد وضعت لهذا المعنى العياسة من عاس يعوس، وهي في المعنى كالأولى وكأنهم أبدلوا السين بالعين للدلالة على التفوق؛ لأنهم لاحظوا أن العين في أول الكلمة كثيرًا ما تفيد هذا المعنى، فقد قالوا العلوّ والعقل والعرفان والعلم والعُباب ارتفاع الموج والعتوّ الكبرياء والعُجْب، إلى غيرها، فكأنهم لما قالوا العياسة بدلاً من السياسة أرادوا السياسة العليا للمملكة.
نعم إن الكلمة غريبة لأول مرة نسمعها، لكن هذه الغربة تزول إذا ما زاولها الكتَّاب، والعياسة تفيدنا الفائدة التي يريدها الإنكليزي بكلمته الطويلة العريضة الغريبة في صيغتها ستيتسمنشب التي إذا لفظت بحضور الشياطين فروا خوفًا من سماعها!
وأما Diplomacy فإنها مشتقة من Diploma وهي تعني يومئذ الكتاب الذي يكتبه أحد أولياء الأمير ليخول به امتيازًا للمكتوب إليه أو لحامله، وهو الذي سماه العرب بالعهد، فقد جاء من الخلفاء الراشدين أنهم كتبوا عهودًا لبعض الأديرة لبعض النصارى يخولون لهم بها بعض الامتيازات ومن ذلك العهد الهمايوني في التركية، وهو الذي سموه اليوم بالامتيازات الأجنبية. أما الدبلوماسي فإن الاسم اللائق به بالعربية هو العاهد أي صاحب العهد، وتجيء المهنة على فعِالة بالكسر فيقال العهِادة للدبلوماسية كقولك الحدادة، فهي مشتقة من الحداد. أما إذا أريد بالدبلوماتيك المعنى المجازي فيحسن أن يقال محنك، وهو الذي أحكمته التجارب ومن هذا يرى كل عربي أن لغته في غنى عن اتخاذ الألفاظ الأعجمية لاسيما إذا كانت صيغتها قد أفرغت في قوالب لا توافق قوالب العربية ويشمئز منها العرب وعندي أنه ما من لفظة إفرنجية إلا ويمكن أن يوضع لها في لغتنا الواسعة ما يسد مسدها خلافًا لما يراه المتهوسون من الشعوبية.
الشبكة الإسلامية
حياكم الله


د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com